وهذا بحث ماتع نفيس لمحدث العصر في سنية الخطبة قبل صلاة الاستسقاء والرد على من قال عكس ذلك.
قال الالباني رحمه الله كما في السلسلة الضعيفة عند حديث :
( خرج َ نبي الله صلى الله عليه و سلم يوماً يستسقي ، فصلى بنا ركعتين
بغير أذان ٍ و لا إقامة ٍ ، ثم خَطَبَنَا ، و دعا الله ، و حوّل وجهَه نحو القبلةِ
رافعا ً يَدَهُ ، ثم قَلَبَ رداءَهُ ، فجعلَ الأيمنَ على الأيسرِ ، و الأيسرَ على الأيمنِ ِ ) .
منكر بذكر الخطبة بعد الصلاة .
رقم 5630
أخرجه أحمد ( 2 / 326 ) ، و ابن ماجه
( 1 / 384 ) ، و ابن خزيمة ( 1409 / 1422 ) ، و الطحاوي ( 1 / 192 ) ، و البيهقي
( 3 / 347 ) من طريق النعمان بن راشد عن الزهري عن حميد بن عبد
الرحمن عن أبي هريرة قال : . . . . . . . فذكره . و قال ابن خزيمة عقبه :
(( في القلب من النعمان بن راشد ؛ فإن في حديثه عن الزهري تخليطا ً كثيرا ً )) .
و قال البيهقي : (( تفرد به النعمان )) .
قلت : قال البخاري في (( التاريخ )) ( 4 / 2 / 80 ) :
(( في حديثه و هم كثير ، و صدوق في الأصل )) . و قال أحمد : (( مضطرب الحديث ، روى مناكير )) . و ضعفه آخرون و لذلك قال الحافظ في (( التقريب )) : (( صدوق سيئ الحفظ )) .قلت : فمن كان هذا حاله فأحسن أحواله أن يستشهد بحديثه و يتقوى بغيره ، و أما أن يحتج به فلا ، و لذلك ، قال ابن خزيمة بعد تضعيفه إياه فيما نقله عنه آنفا ً
( فإن ثبت هذا الخبر ؛ ففيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب و دعا و قلب رداءه مرتين : مرة قبل الصلاة و مرة بعدها )) .
و إنما قال هذا على فرض ثبوته ؛ توفيقا ًبينه و بين حديث عبد الله بن زيد الذي
ذكرته قبل هذا بألفاظ ، منها لفظ ابن خزيمة :
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في الاستسقاء ، فخطب ، و استقبل القبلة ، و دعا
و استسقى ، و حول رداءه ، و صلى بهم .
و الأََوْلََى أن يقال ـ إن ثبت ـ : إنه تجوز الصلاة قبل الخطبة و الدعاء و التحول و التحويل ، كما يجوز العكس ؛ لثبوت هذا في ثلاثة أحاديث صحيحة كما تقدم بيانه في الحديث السابق .
ومادام أنه لم يثبت هذا الحديث المخالف لها ؛ فلا يؤخذ به . هذا هو الذي يقتضيه قاعدة الجمع بين الأحاديث المقبولة التي ذكرها الحافظ في (( شرح النخبة )) ؛ فتنبه .
و لذلك ؛ فإني أقول : لقد تبين لي و أنا أعد لهذا البحث و التحقيق : أن بعض العلماء لم يكن
موقفهم تجاه هذا الحديث و نحوه الموقف الذي يوجبه التحقيق و التجرد و الإنصاف ،
لا من الناحية الحديثية و لا من الناحية الفقهية ، و إليك بعض الأمثلة بالقدر الذي
تحصل به العبرة .
أما الناحية الحديثية ؛ فقد مر بك قول البيهقي في هذا الحديث أنه تفرد به
النعمان بن راشد ، و ما قاله أحمد و البخاري و غيرهما فيه من الضعف ، و مع ذلك
فقد وجدت ما يأتي :
أولا ً : نقل الحافظ في (( التلخيص الحبير )) ( 2 / 98 ) عن البيهقي أنه قال
في كتابه (( الخلافيات )) : (( رواته ثقات )) .
كذا قال ! و ما أظن أنه خفي عليه الضعف المشار إليه آنفا ً ، و مع ذلك أقره عليه الحافظ !
و هو القائل في رواية ( النعمان )
( صدوق سيئ الحفظ )) كما تقدم .
ثم نقله عنه الشوكاني في (( نيل الأوطار )) ( 4 / 4 ) ، و الشيخ البنا الساعاتي في (( الفتح الرباني )) ( 6 / 233 )؛ دون أي تعقيب أو تعليق ! و كذلك فعل الشيخ أحمد الغماري في
(( مسالك الدلالة على مسائل متن الرسالة )) ( ص 89 ) و زاد عليهم أنه لم يعزه للحافظ ، فأوهم أنه نقله من (( الخلافيات )) مباشرة ! و كذلك فعل في تخريج سائر الأحاديث ، نقلها عن
(( تلخيص الحافظ )) دون أي عزو إليه أوذكر له ! !
ثانيا ً : لم يقف الأمر بالحافظ عند ما ذكرنا ؛ بل إنه زاد في الطين بِِلة ؛ فقال في
كتابه (( الدراية )) ( 1 / 226 ) : (( و إسناده حسن )) !
قال هذا ، و هو يرى أصله الذي بين يديه ( أعني : (( نصب الراية )) للزيلعي )
يتعقب قول البيهقي : (( تفرد به النعمان . . . . . . )) بقوله : (( قال البخاري : هو صدوق ؛ لكن في حديثه وهم كبير )) .
و هذا الحديث مما يؤكد هذا القول ؛ فإن النعمان قد رواه عن الزهري بسنده عن أبي هريرة .
و قد رواه الثقات من أصحاب الزهري عنه بسندٍ آخر له عن عبد الله بن يزيد الأنصاري نحوه ،
و فيه تقديم الخطبة على الصلاة ؛ كما تقدم بيانه و تحقيقه في الحديث الذي قبله .
فتفرد النعمان بهذا الإسناد و المتن عن الزهري دون أصحابه الثقات مما يجعل حديثه شاذا ً لو كان ثقة ، فكيف و هو سيء الحفظ بشهادة الحافظ نفسه ! فكيف يقول : (( إسناده حسن )) ؟ ! ليغتر به المعلق الفاضل على كتابه (( فتح الباري )) ( 2 / 500 - المطبعة السلفية ) ، فيجمع بينه و بين الأحاديث الصحيحة المعارضة له بجواز الأمرين !
ثالثا ً : و أنكر من ذلك كله : قول البوصيري في (( الزوائد )) ( ق 79 / 2 ) و ( 1 / 150 - طبعة دار العربية ) : (( هذا إسناد صحيح ، و رجاله ثقات . . . . و رواه الحاكم . . . . . )) .
و لم أره في (( مستدرك الحاكم )) و لا رأيت غيره عزاه إليه ! و كأنه لما رأى شيخَه
الحافظ َ سكت عن قول البيهقي : (( رواته ثقات )) ؛ استلزم منه صحة إسناده ! و ليس بلازم كما لا يخفى على أهل العلم .
و قد اغتر به أبو الحسن السندي في (( حاشية ابن ماجه )) ( 1 / 384 ) ، فنقل تصحيحه هذا ساكتا ً عليه أيضا ً !
و أما الناحية الفقهية ؛ فأغرب ، من حيث الابتعاد عن المنهج العلمي ، و هاك بعض الأمثلة :
الأول : عمل بهذا الحديث المنكر المالكية و الشافعية ، فذهبوا إلى تأخير الخطبة
عن الصلاة ، و نص على ذلك مالك في (( الموطأ )) ، و الشافعي في (( الأم )) ، و تبعهم
الإمام أبو يوسف كما نقله عنه أبو جعفر الطحاوي ، و احتج له بقياس صلاة الاستسقاء على صلاة العيدين ! مع كونه يعلم أنه خلاف الأحاديث الصحيحة المتقدمة ، و قد خرجها كلها ، و من بَدَهِيات الفقه : أنه لا اجتهاد و لا قياس في مخالفة النص .
و لقد كان أسعد الناس في هذه المسألة الإمام محمد بن الحسن ؛ فإنه وفق للسنة فيها ؛ فقد ذكر في كتابه (( الحجة على أهل المدينة )) مذهبهم فيها مثلما ذكرته عن مالك ، ثم قال ( 1 / 333 ) :
(( و قد كان أهل المدينة يقولون قبل هذا : يبدأ الإمام في الاستسقاء بالخطبة قبل الصلاة بمثل فعله في الجمعة )) . قال : (( و قول أهل المدينة الآخر أحب إلينا من قولهم الأول )) .
ثم ساق حديث ابن عباس ، و حديث عبد الله بن زيد المازني المتقدمين ، مع
شاهد لهما من فعل الصحابة يحسن أن أسوقه هنا إتماما للفائدة ، فقال : أخبرنا سفيان الثوري قال : حدثنا أبو إسحاق ( السبيعي ) عن عبد الله بن يزيد الأنصاري ( و هو الخَطمي ) قال :
خرج يستسقي بالكوفة ـ و قد كان رأى النبي صلى الله عليه و سلم ـ ، فقام قائما ً على رجليه
على غير منبر ، فاستسقى و استغفر ، فصلى ركعتين . قال : و وافقنا زيد بن أرقم في الاستسقاء .
و تابعه : عبد الرزاق في (( المصنف )) ( 3 / 86 ) عن الثوري به ؛ لكن وقع في متنه خطأ بينه الحافظ في (( الفتح )) ( 2 / 513 ) ، فراجعه إن شئت .
و تابعه : زهير ـ و هو ابن معاوية الجعفي ـ قال : ثنا أبو إسحاق به . و زاد في أوله : و خرج فيمن كان معه : البراء بن عازب ، و زيد بن أرقم . قال أبو إسحاق : و أنا
معه يومئذ ٍ . و في آخره :
(( و نحن خلفه ، فجهر فيهما بالقراءة ، و لم يؤذ?ن يومئذ ٍ و لم يُقِمْ )) .
أخرجه البخاري ( 2 / 513 / 1022 ) ، و الطحاوي ( 1 / 193 ) ، و البيهقي
( 3 / 349 ) و قال : (( رواه الثوري عن أبي إسحاق قال : فخطب ثم صلى ، و رواه شعبة عن أبي إسحاق قال : فصلى ركعتين ، ثم استسقى ، و رواية الثوري و زهير أشبه )) .
يعني أن شعبة انقلب عليه هذا الأثر ، فذكر الصلاة قبل الخطبة ، وهو خطأ منه على السبيعي ؛ كما أخطأ معمر على الزهري في قلبه لحديثه عن عباد عن عبد الله ابن زيد ؛ كما تقدم تحقيق ذلك في الحديث الذي قبله .ويشير برواية الثوري إلى رواية عبد الرزاق المتقدمة عنه ، ولفظه :
فخطب ، ثم صلى بغير أذان ولا إقامة . قال : وفي الناس يومئذٍ البراء بن عازب وزيد بن أرقم .
ورواها ابن أبي شيبة في " المصنف " مختصراً فقال ( 2 / 473 ) : حدثنا وكيع قال : ثنا سفيان عن أبي إسحاق قال : خرجنا مع عبد الله بن يزيد الأنصاري نستسقي ، فصلى ركعتين ، وخلفه زيد ابن أرقم .
ورواه الفسوي في " تاريخه " ( 2 / 630 ) : حدثنا قبيصة قال : ثنا سفيان به قال : بعث عبد الله بن الزبير إلى عبد الله بن يزيد الخطمي : أن استسق بالناس ، فخرج وخرج الناس معه ، وفيهم زيد بن أرقم والبراء بن عازب . ورواية شعبة التي أشار إليها البيهقي ؛ وصلها مسلم ( 5 / 199 ) من طريق محمد بن جعفرعنه . وقد خالفه سليمان بن حرب وأبو الوليد الطيالسي ومحمد بن كثير عن شعبة بلفظ : وصلى بالناس ركعتين . أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " ( 5 / 211 - 212 ) ؛ لكن سقط منه ذكر عبد الله بن يزيد ، ولعله من الناسخ أو الطابع .
قلت : فهذا اللفظ ليس صريحاً في مخالفة لفظ الثوري وزهير ، فليحمل عليه ، بخلاف لفظ محمد بن جعفر ؛ فإنه صريح في ذلك ؛ فلا بد من الترجيح ، ولا شك أن رواية الجماعة أرجح من رواية الفرد ، وبخاصة إذا كان فيه نوع كلام ؛ فقد قال الحافظ في ترجمته - أعني : ابن جعفر ، وهو المعروف بـ ( غُنْدَر ) - : " ثقة صحيح الكتاب ؛ إلا أن فيه غفلة " .
وبالجملة ؛ فالصحيح المحفوظ في هذا الأثر تقديم الخطبة على الصلاة وفق الرواية المحفوظة في حديث عبد الله بن زيد المازني وحديث عائشة وابن عباس . فلا جرم أن يكون الإمام محمد أسعد الناس بالسنة ؛ لإيثاره إياها على ما خالفها .
الثاني : استمرار الشافعية والحنفية - خلافاً للإمام محمد - على ترجيح وتفضيل تقديم الصلاة على الخطبة ، وهم يعلمون أن ما في " الصحيحين " وغيرهما عن عبد الله بن زيد وعائشة وابن عباس أصح وأكثر ؛ كما تقدم بيانه ، ولو أنهم عكسوا لأصابوا ؛
لأنه ليس لهم حجة إلا ذاك الحديث الشاذ وهذا الحديث المنكر ، حتى إن الامام الشيرازي لم . يحتج في " المهذب " إلا به ، ومع أنه ذكره في موضع آخر منه ؛ فقد مر عليه النووي في شرحه عليه : " المجموع " ( 5 / 66 ، 77 ) فلم
يخرجه مطلقاً ، ولا استدل بغيره على مذهبه ؛ بل إنه صرح ( 5 / 93 ) بأنه الأفضل ؛ قال :
" فلو خطب قبل الصلاة ؛ صحت الخطبة ، وكان تاركاً للأكمل " ! وتبعه العيني في " عمدة القاري " ( 4 / 34 ) .
فلا أدري - والله ! - كيف يتجرأون على مثل هذا القول المخالف للأحاديث الصحيحة وفعل الصحابة كما تقدم في أثر عبد الله بن يزيد الأنصاري ،
وليس بأيديهم ما يساويها ثبوتاً ، فضلاً عن أن تكون أقوى منها دلالة ؟ ! فلو أنها كانت ثابتة لما دلت على أكثر من الجواز ، فالأفضلية من أين ؟ !
ومن ذاك القبيل ؛ قول محدِّثهم الأكبر - بحق - في " فتح الباري " ( 2 / 500 ) :
" ويمكن الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك بأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدأ بالدعاء ، ثم
صلى ركعتين ثم خطب ، فاقتصر بعض الرواة على شيء ، وبعضهم على شيء ،وعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة ، فلذلك وقع الاختلاف " ! ونقله عنه الشوكاني ( 4 / 5 ) !
فأقول :
أولاً : الجمع فرع التصحيح ،
فما دام أنه لم تثبت خطبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الصلاة ؛
فلا جمع ؛ لأنه يشترط فيه أن تكون الروايتان المختلفتان من قسم ( المقبول ) ؛ كما ذكر ذلك الحافظ نفسه في " شرح النخبة " .
وثانياً : يدفع الجمع المذكور برواية ابن خزيمة المتقدمة في أول هذا التخريج ؛ فإنها صرحت بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما استسقى خطب ودعا . فسقط الجمع المذكور ،فوجب الاعتماد على الأحاديث الصحيحة فقط والأثر الموافق لها . ولعل هذا مذهبُ الحافظ ابن المنذر ؛ فقد قال النووي عقب ما سبق نقله عنه :
" وأشار ابن المنذر إلى استحباب تقديم الخطبة ، وحكاه عن عمر بن الخطاب وغيره ، وحكاه العبدري عن عبد الله بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، والليث بن سعد " .
الثالث - وهو أغرب وأعجب - : استمرار الحنفية في متونهم على إنكار شرعية
الجماعة في صلاة الاستسقاء ، كما في " شرح الكنز " للعيني ( 1 / 63 ) ، و " البحر
الرائق " لابن نجيم المصري ( 2 / 281 ) ، و " الدر المختار " ( 1 / 790 ) بشرحه " رد
المحتار " وغيرها !.