منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 07 Apr 2019, 11:49 AM
أبو بكر يوسف قديري أبو بكر يوسف قديري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Aug 2018
المشاركات: 286
افتراضي منحة الباري في محنة البخاري

بسم الله الرحمن الرحيم

مِنحة الباري

في مِحنة البخاري


قال الإمامُ أبو عبد الله البخاري:
(حَرَكَاتُهُم وَأَصْوَاتُهُم وَاكتِسَابُهُم وَكِتَابَتُهُم مَخْلُوْقَةٌ. فَأَمَّا القُرْآنُ المَتْلُوُّ المُبَيَّنُ المُثْبَتُ فِي المَصَاحِفِ، المسطورُ المَكْتُوْبُ المُوعَى فِي القُلُوْبِ، فَهُوَ كَلاَمُ اللهِ لَيْسَ بِمَخْلُوْقٍ، قَالَ اللـه تَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُوْرِ الَّذِيْنَ أُوْتُوا العِلْمَ} [الْعَنْكَبُوت:49])
[سير أعلام النبلاء 455/12]

قال ابن تيمية: (وَلَكِنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِأَقْوَالِ أَحْمَدَ مَا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ بِهِ. وَأَعْظَمُ مَا وَقَعَتْ فِتْنَةُ " اللَّفْظِ " بِخُرَاسَانَ وَتُعُصِّبَ فِيهَا عَلَى الْبُخَارِيِّ - مَعَ جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ - وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ قَامُوا عَلَيْهِ أَيْضًا أَئِمَّةً أَجِلَّاءَ فَالْبُخَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَجَلِّ النَّاسِ. وَإِذَا حَسُنَ قَصْدُهُمْ وَاجْتَهَدَ هُوَ وَهْم أَثَابَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ عَلَى حُسْنِ الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ أَوْ مِنْهُمْ بَعْضُ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ كُلِّهِمْ؛ لَكِنَّ مِنْ الْجُهَّالِ مَنْ لَا يَدْرِي كَيْفَ وَقَعَتْ الْأُمُورُ. )
[مجموع الفتاوى 208/13]

قال الذهبي:
(كلام الأقران بعضِهم في بعضٍ لا يُعبأ به، لا سيّما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم اللـهُ، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردتُ من ذلك كراريسَ، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم.)
[ميزان الاعتدال 111/1]


مقدمة

سُئل العلامةُ ابنُ باز : هل قال البخاري - رحمه اللـه - (بأن القرآن ليس مخلوقًا وهو كلام اللـه، ولكن التلفظ به مخلوق)؟.
فأجاب: القرآن هو كلام اللـه، والبخاري وغيره يقولون: هو كلام اللـه منزّل غير مخلوق، ولكن إذا قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ هذا فيه احتمال، ولهذا رأى الأئمةُ تركَ ذلك، وإذا أراد صوتَه فصوتُه مخلوق، أما إذا أراد لفظي يعني ملفوظي والذي يتكلم به هو القرآن، هذا غلط، ولهذا كره بعض أهل العلم من يقول هذا الكلامَ؛ لأنه يوهم، إذا قال: صوتي مخلوق، أما القرآن فهو كلام اللـه، وأوضحَ الأمرَ فلا حرج، ولهذا كره إطلاقَ هذه الكلمة بعضُ أهل العلم لأنه يوهم، وبعضُهم أجاز ذلك على نية الصوت، أما المتلفَّظُ به وهو القرآنُ فهو كلام اللـه منزّل غير مخلوق، سواء في قلبك أو تلفظت به أو كتبته هو كلام اللـه غير مخلوق.)
قال الذهبي : (وَقَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي الهَيْثَمِ المُطَّوِّعِيُّ بِبُخَارَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ الفَِـرَبْرِيُّ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: أَمَّا أَفْعَالُ العِبَادِ فمَخْلُوْقَةٌ؛ فَقَدْ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللـهِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّـه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللـهَ يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ" . وَبِهِ قَالَ: وَسَمِعْتُ عُبَيْدَ اللـهِ بنَ سَعِيْدٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ سَعِيْدٍ يَقُوْلُ: مَا زِلْتُ أَسمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُوْلُوْنَ: إِن أَفْعَالَ العِبَادِ مَخْلُوْقَةٌ. قَالَ البُخَارِيُّ: حَرَكَاتُهُم وَأَصْوَاتُهُم وَاكتِسَابُهُم وَكِتَابَتُهُم مَخْلُوْقَةٌ، فَأَمَّا القُرْآنُ المَتْلُوُّ المُبَيَّنُ المُثْبَتُ فِي المَصَاحِفِ، المسطورُ المَكْتُوْبُ المُوعَى فِي القُلُوْبِ، فَهُوَ كَلاَمُ اللـهِ لَيْسَ بِمَخْلُوْقٍ ، قَالَ اللـهُ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُوْرِ الَّذِيْنَ أُوْتُوا العِلْمَ} [الْعَنْكَبُوت:49])


سياق محنة الإمام من دخوله نيسابورَ حتّى خروجه منها


1- دُخولُه نيسابورَ

دخل الإمام البخاريُّ مدينة نيسابورَ سنة خمسين ومائتين كما ذكر ذلك الحاكم في تاريخه وهي من المدن الكبيرة في خراسان، وكان رأسُ علماءِ نيسابور الإمامَ محمدَ بنَ يحيى الذهليَّ ، وكان رأسًا متبوعًا مطاعًا ليس في نيسابور وحدها بل في خراسان كلِّها.
وقد فرح به أهلها فرحًا عظيمًا على عادة الناس في تلك القرون الخيِّـرة؛
قال ابن حجر: (وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ حَاتِمُ بنُ أَحْمَدَ [الكِنْدِيُّ] : سَمِعْتُ مُسْلِمَ بنَ الحَجَّاجِ يَقُولُ: لَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ نَيسَابُورَ مَا رَأَيتُ وَالِيًا وَلَا عَالِمًا فَعَلَ بِهِ أَهْلُ نَيسَابُورَ مَا فعلُوا بِهِ، اسْتَقبلُوهُ مرحلَتَينِ من البلد أو ثَلَاث ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى فِي مَجْلِسِهِ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَقبلَ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيلَ غَداً فليستقبِلْهُ، فَإِنِّي أستقبلُه. فَاسْتقبلَهُ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى وَعَامَّةُ العُلَمَاءِ، فَنَزَلَ دَارَ البُخَاريّينَ. قَالَ : فَازدحمَ النَّاسُ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ، حَتَّى امتلأَ السّطحُ وَالدَّارُ.)


2- انصرافُ أهلِ العلم إليه يأخذون منه

وكان احتفاءُ علماءِ نيسابورَ به أعظمَ من فرح العامة، إذ ما كاد يستوطن المدينة حتى أقبلوا إليه ينهلون من علمه؛
قال الذهبي: (وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بنُ عَدِيٍّ: ذَكَرَ لِي جَمَاعَةٌ مِنَ المَشَايِخِ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيلَ لَمَّا وَردَ نَيسَابُورَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيهِ.)

وعلى رأسهم الإمام مسلم -رحمه اللـه-؛
قال الذهبي: (قَالَ الحاكمُ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَعْقُوبَ الحَافِظَ يَقُولُ: لَمَّا اسْتوطَنَ البُخَارِيُّ نَيسَابُورَ أَكْثَرَ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ الاخْتِلَافَ إِلَيهِ.)

وكان توافدهم عليه بتشجيع من إمامِ نيسابورَ محمّدِ بنِ يحيى الذُّهليِّ؛
قال ابن حجر: (قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد اللـه فِي تَارِيخه: قدم البُخَارِيّ نيسابور سنة خمسين وَمِائَتَينِ فَأَقَامَ بهَا مُدَّة يحدث على الدَّوَام، قَالَ: فَسمِعت مُحَمَّد بن حَامِد الْبَزَّار يَقُول سَمِعت الْحسن بن مُحَمَّد بن جَابر يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن يحيى الذهلي يَقُول: اذْهَبُوا إِلَى هَذَا الرجل الصَّالح الْعَالم فَاسْمَعُوا مِنْهُ قَالَ فَذهب النَّاس إِلَيهِ فَأَقْبَلُوا على السماع مِنْهُ، حَتَّى ظهر الْخلَل فِي مجْلِس مُحَمَّد بن يحيى، فَحَسَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ.)

بل كان الإمامُ الذهليُّ نفسُه يأتيه ويسأله؛
قال ابن حجر: (وَقَالَ أَحْمد بنُ حَمدونٍ الْحَافِظُ : رَأَيتُ البُخَارِيّ فِي جنَازَة وَمُحَمّدُ بنُ يحيى الذهلي يسْأَله عَن الْأَسْمَاء والعلل وَالْبُخَارِيّ يمر فِيهِ مثل السهْم كَأَنَّهُ يقْرَأ {قل هُوَ اللـه أحد})


3- تغيّرات موقفِ الإمام محمد بن يحيى الذهلي منه

تطوّر موقفه عبر مراحل توضِّحُها الرواياتُ الآتيةُ:

أوَّلًا: قال الذهبي: (وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ حَاتِمُ بنُ أَحْمَدَ الكِنْدِيُّ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بنَ الحَجَّاجِ يَقُولُ: لَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ نَيسَابُورَ مَا رَأَيتُ وَالِيًا وَلَا عَالِمًا فَعَلَ بِهِ أَهْلُ نَيسَابُورَ مَا فعلُوا بِهِ، اسْتَقبلُوهُ مرحلَتَينِ وَثَلَاثَة ... فَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى: لَا تسأَلُوهُ عَنْ شِيءٍ مِنَ الكَلَامِ، فَإِنَّهُ إِنْ أَجَابَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَقَعَ بَينَنَا وَبَينَهُ، ثُمَّ شَمِتَ بِنَا كُلُّ حَرُورِيٍّ، وَكُلُّ رَافضيٍّ، وَكُلُّ جَهْمِيٍّ، وَكُلُّ مُرْجِئٍ بِخُرَاسَانَ.)
نأخذ من هذه الرواية حِرصَ الإمام الذهليّ على الاستفادة من البخاريّ، وتخوّفَه من ظهور الخلاف في مسألة اللـفظ التي كان بعض أهل بغداد قد وشَوْا إلى الذهلي أنّ البخاريّ يقول بها؛ كما في:

ثانيًا: قال الذهبي: (وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الأَعمَشِيُّ: رَأَيتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيلَ فِي جنَازَةِ أَبِي عُثْمَانَ سَعِيدِ بنِ مَرْوَانَ، وَمُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى يَسْأَلُهُ عَنِ الأَسَامِي وَالكُنَى وَعِلَلِ الحَدِيثِ، وَيمرُّ فِيهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ مِثْلَ السَّهْمِ. فَمَا أَتَى عَلَى هَذَا شَهْرٌ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى: أَلَا مَنْ يَخْتلِفُ إِلَى مَجْلِسِهِ فَلَا يَخْتَلِفْ إِلَينَا، فَإِنَّهُم كَتَبُوا إِلَينَا مِنْ بَغْدَادَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي اللَّفْظِ، وَنهَينَاهُ، فَلَمْ يَنْتَهِ، فَلَا تقربوهُ، وَمَنْ يقربْهُ فَلَا يقربْنَا، فَأَقَامَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ هَا هُنَا مُدَّةً، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى بُخَارَى.)
نأخذ من هذه الرواية تحذيرَ الإمام الذهلي من قُربان البخاري وطردَ كلّ من يقربُه، والسببُ وشايةُ بعض البغداديين، وهناك سبب آخر وهو تشغيب بعض النيسابوريين كما تُبيِّنُهُ الروايةُ السابقة عن الإمام مسلمٍ وفيها:
يقول الذهبي: (وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ حَاتِمُ بنُ أَحْمَدَ الكِنْدِيُّ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بنَ الحَجَّاجِ يَقُولُ: ... فَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى: لَا تسأَلُوهُ عَنْ شِيءٍ مِنَ الكَلَامِ، فَإِنَّهُ إِنْ أَجَابَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَقَعَ بَينَنَا وَبَينَهُ، ثُمَّ شَمِتَ بِنَا كُلُّ حَرُورِيٍّ، وَكُلُّ رَافضيٍّ، وَكُلُّ جَهْمِيٍّ، وَكُلُّ مُرْجِئٍ بِخُرَاسَانَ. قَالَ: فَازدحمَ النَّاسُ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ، حَتَّى امتلأَ السّطحُ وَالدَّارُ، فَلَمَّا كَانَ اليَومُ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ، قَامَ إِلَيهِ رَجُلٌ، فَسَأَلَهُ عَنِ اللَّفْظِ بِالقُرْآنِ. فَقَالَ: أَفْعَالُنَا مَخْلُوقَةٌ، وَأَلفَاظُنَا مِنْ أَفْعَالِنَا. فَوَقَعَ بَينَهُمُ اخْتِلَافٌ؛ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: قَالَ: لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَقُلْ، حَتَّى توَاثَبُوا، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الدَّارِ وَأَخرجُوهُم.)

وكذلك نقل إلينا هذا التشغيبَ شيوخٌ للحافظ ابن عديّ كما هو عند الذهبيِّ قال:
(وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بنُ عَدِيٍّ: ذَكَرَ لِي جَمَاعَةٌ مِنَ المَشَايِخِ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيلَ لَمَّا وَردَ نَيسَابُورَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيهِ، حَسَدَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ مِنْ مَشَايِخِ نَيسَابُورَ لَمَّا رَأَوا إِقبالَ النَّاسِ إِلَيهِ، وَاجْتِمَاعَهُم عَلَيهِ، فَقَالَ لأَصْحَابِ الحَدِيثِ: إِنَّ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: اللَّفْظُ بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَامتحِنُوهُ فِي المَجْلِسِ. فَلَمَّا حضَرَ النَّاسُ مَجْلِسَ البُخَارِيِّ، قَامَ إِلَيهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللـهِ، مَا تَقُولُ فِي اللَّفْظِ بِالقُرْآنِ، مَخْلُوقٌ هُوَ أَمْ غَيرُ مَخْلُوقٍ؟ فَأَعرَضَ عَنْهُ البُخَارِيُّ وَلَمْ يُجِبْهُ. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللـهِ، فَأَعَادَ عَلَيهِ القَولَ، فَأَعرضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ، فَالتفَتَ إِلَيهِ البُخَارِيُّ، وَقَالَ:
القُرْآنُ كَلَامُ اللـهِ غَيرُ مَخْلُوقٍ، وَأَفْعَالُ العبَادِ مَخْلُوقَةٌ، وَالامْتِحَانُ بِدْعَةٌ. فشَغَبَ الرَّجُلُ، وَشَغَبَ النَّاسُ، وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ. وَقَعَدَ البُخَارِيُّ فِي مَنْزِلِهِ.)

ثالِثًا: ثم بعد ذلك بدأ التلميحُ بأن البخاريَّ مبتدع وتنزيلُ أحكام أهل البدع عليه؛
قال الذهبي: (وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ بنُ الشَّرْقِيِّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ يَقُولُ:
القُرْآنُ كَلَامُ اللـهِ غَيرُ مَخْلُوقٍ مِنْ جَمِيعِ جهَاتِهِ، وَحَيثُ تُصُرِّفَ، فَمَنْ لزِمَ هَذَا اسْتغنَى عَنِ اللَّفْظِ وَعمَّا سِوَاهُ مِنَ الكَلَامِ فِي القُرْآنِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ القُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ، وَخَرَجَ عَنِ الإِيمَانِ، وَبَانتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَجُعِلَ مَالُهُ فَيئاً بَينَ المُسْلِمِينَ وَلَمْ يُدْفَنْ فِي مَقَابِرِهِم، وَمَنْ وَقَفَ فَقَالَ: لَا أَقُولُ مَخْلُوق وَلَا غَير مَخْلُوق، فَقَدْ ضَاهَى الكُفْرَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَهَذَا مُبْتَدِعٌ، لَا يُجَالَسْ وَلَا يُكَلَّمْ. وَمِنْ ذهبَ بَعْدَ هَذَا إِلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيِّ فَاتَّهِمُوهُ، فَإِنَّهُ لا يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مذهَبِهِ.)

رابعًا: التلميحُ إلى أنّه شرٌّ من الجهمية؛
قال الذهبي: (وَقَالَ الحَاكِمُ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللـهِ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوبَ بنِ الأَخْرَمِ، سَمِعْتُ ابْنَ عَلِيٍّ المَخْلَديَّ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَحْيَى يَقُولُ: قَدْ أَظهرَ هَذَا البُخَارِيُّ قَولَ اللـفظيَّةِ، وَاللـفظيَّةُ عِنْدِي شرُّ مِنَ الجَهْمِيَّةِ.)

خامسًا: السعيُ إلى إخراجه من نيسابورَ؛ كما سيأتي في قوله (لَا يُسَاكِنُنِي هَذَا الرَّجُلُ فِي البلدِ.)

سادسًا: الكتابةُ إلى خارجِ نيسابورَ بالتحذير منه؛
قال عبدُ الرحمن بنُ أبي حاتم : (قَدِمَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ الرَّيَّ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمائَتَينِ، وَسَمِعَ مِنْهُ أَبِي وَأَبُو زُرْعَةَ، ثمّ تركَا حَدِيثَهُ عِنْدَمَا كَتَبَ إِليهِمَا مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى النيسابوريُّ أَنَّهُ أَظهرَ عِنْدَهُم أَنَّ لَفْظَهُ بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ.)
بلْ تبع التحذيرُ الإمامَ البخاريَّ إلى بلدته بُخارى؛
قال الذهبيُّ: (رَوَى أَحْمَدُ بنُ مَنْصُورٍ الشِّيرَازيُّ قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَقُوْلُ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو عَبْدِ اللـهِ بُخَارَى نُصِبَ لَهُ القبَابُ عَلَى فرسخٍ مِنَ البلدِ، وَاسْتقبلَهُ عَامَّةُ أَهْلِ البلدِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَذْكُورٌ إِلاَّ اسْتَقبَلَهُ، وَنُثِرَ عَلَيْهِ الدَّنَانِيرُ وَالِدَرَاهِمُ وَالسُّكَّرُ الكَثِيرُ، فَبقيَ أَيَّامًا. قَالَ: فَكَتَبَ بَعْدَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ إِلَى خَالِدِ بنِ أَحْمَدَ أَمِيرِ بُخَارَى: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَظهرَ خِلَافَ السُّنَّةِ. فَقَرَأَ كِتَابَهُ عَلَى أَهْلِ بُخَارَى، فَقَالُوا: لَا نُفَارِقُهُ، فَأَمرَهُ الأَمِيرُ بِالخُرُوجِ مِنَ البلدِ، فَخَرَجَ. قَالَ أَحْمَدُ بنُ مَنْصُورٍ: فحَكَى لِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ إِبْرَاهِيْمَ بنِ مَعْقِلٍ النَّسفيِّ قَالَ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيلَ فِي اليَوْمِ الَّذِي أُخرِجَ فِيْهِ مِنْ بُخَارَى، فَتقدَّمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللـهِ، كَيْفَ تَرَى هَذَا اليَوْمَ مِنَ اليَوْمِ الَّذِي نُثِرَ عَلَيْكَ فِيهِ مَا نُثِرَ؟ فَقَالَ: لَا أُبَالِي إِذَا سَلِمَ دينِي.)

4- دفاعُ البخاريِّ عن نفسه

لا شكّ في براءة هذا الإمام من القول بخلق القرآن وبراءته من مذاهب أهل البدع كلّها لذا كان يُبيِّنُ لمن سأله ما يراه في هذه المسألة -أعني مسألةَ اللـفظ- وأن الأمر ليس كما يُذاع عنه،

ينقل ذلك الذهبي في ثلاثة نُقُول حيث يقول:
(وَقَالَ الحَاكِمُ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَبِي الهَيثَمِ بِبُخَارَى، أَخْبَرَنَا الفَِـرَبْرِيُّ ، حَدَّثَنَا البُخَارِيُّ قَالَ: نظرتُ فِـي كَلَامِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالمَجُوسِ فَمَا رَأَيتُ أَحَداً أَضَلَّ فِي كُفْرِهِم مِنَ الجَهْمِيَّةِ، وَإِنِّي لأَستجهلُ مَنْ لَا يُكَفِّرُهُم.
وَقَالَ غُنْجَارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَاضِرٍ العَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا الفَِـرَبْرِيُّ، سَمِعْتُ البُخَارِيَّ يَقُولُ: القُرْآنُ كَلَامُ اللـهِ غَيرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَقَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا طَاهِرُ بنُ مُحَمَّدٍ الوَرَّاقُ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ شَاذِلٍ يَقُولُ: لَمَّا وَقَعَ بَينَ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى وَالبُخَارِيِّ، دَخَلْتُ عَلَى البُخَارِيِّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللـهِ، أَيشٍ الحِيلَةُ لَنَا فِيمَا بينكَ وَبَينَ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيَى، كُلُّ مَنْ يَخْتلِفُ إِلَيكَ يُطْرَدُ؟ فَقَالَ: كم يَعْتَرِي مُحَمَّدَ بنَ يَحْيَى الحسدُ فِي العِلْمِ، وَالعِلْمُ رِزْقُ اللـهِ يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ. فَقُلْتُ: هَذِهِ المَسْأَلَةُ الَّتِي تُحْكَى عَنْكَ؟ قَالَ: يَا بني، هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَشْؤُومَةٌ، رَأَيتُ أَحْمَدَ بنَ حَنْبَلٍ، وَمَا نَالَهُ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، وَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ فِيهَا.
قُلْتُ[أي الذهبي]: المَسْأَلَةُ هِيَ أَنَّ اللَّفْظَ مَخْلُوقٌ، سُئِلَ عَنْهَا البُخَارِيُّ، فَوَقَفَ فِيهَا، فَلَمَّا وَقَفَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ أَفْعَالَنَا مَخْلُوقَةٌ، وَاسْتدلَّ لِذَلِكَ، فَهِمَ مِنْهُ الذُّهْلِيُّ أَنَّهُ يُوَجِّهُ مَسْأَلَةَ اللَّفْظِ، فَتَكَلَّمَ فِيهِ، وَأَخَذَهُ بلَازِمِ قَولِهِ هُوَ وَغَيرهُ.)
وقال الذهبي أيضا:
(وَقَدْ قَالَ البُخَارِيُّ فِي الحِكَايَةِ الَّتِي رَوَاهَا غُنْجَارُ فِي (تَارِيخِهِ) حَدَّثَنَا خَلَفُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ، سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو أَحْمَدَ بنَ نَصْرٍ النَّيسَابُورِيَّ الخَفَّافَ بِبُخَارَى يَقُولُ: كُنَّا يَوماً عِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ القَيسِيِّ، وَمَعَنَا مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ، فجَرَى ذِكْرُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيِّ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ نصرٍ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنِّي قُلْتُ: لَفْظِي بِالقُرْآن مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَذَّابٌ، فَإِنِّي لَمْ أَقُلْهُ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللـهِ قَدْ خَاضَ النَّاسُ فِي هَذَا وَأَكْثَرُوا فِيهِ. فَقَالَ: لَيسَ إِلَّا مَا أَقُولُ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو الخَفَّافُ: فَأَتَيتُ البُخَارِيَّ، فَنَاظرتُهُ فِي شِيءٍ مِنَ الأَحَادِيثِ حَتَّى طَابَتْ نَفْسُهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللـهِ، هَا هُنَا أَحَدٌ يحكِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ هَذِهِ المَقَالَة. فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، احْفَظ مَا أَقُولُ لَكَ: مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ نَيسَابُورَ وَقُومَس وَالرَّيِّ وَهَمَذَان وَحُلوَانَ وَبَغْدَادَ وَالكُوفَةِ وَالبَصْرَةِ وَمَكَّةَ وَالمَدِينَةِ أَنِّي قُلْتُ: لَفْظِي بِالقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَذَّابٌ، فَإِنِّي لَمْ أَقُلْهُ إِلَّا أَنِّي قُلْتُ: أَفْعَالُ العِبَادِ مَخْلُوقَة.)


5- دفاعُ الإمام مسلمٍ وأحمدَ بنِ سلمة عن شيخهما البخاري

قال الخطيب البغدادي: (وكان مسلمٌ يناضلُ عن البخاريّ حتّى أوحشَ ما بينه وبين محمّدِ بنِ يحيى الذهليّ بسببه.)
قال الذهبي: (قَالَ [أي الحاكم]: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَعْقُوبَ الحَافِظَ يَقُولُ: لَمَّا اسْتوطَنَ البُخَارِيُّ نَيسَابُورَ أَكْثَرَ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ الاخْتِلَافَ إِلَيهِ. فَلَمَّا وَقَعَ بَينَ الذُّهْلِيِّ وَبَينَ البُخَارِيِّ مَا وَقَعَ فِـي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ، وَنَادَى عَلَيهِ، وَمنعَ النَّاسَ عَنْهُ [حتى هُجِرَ وخرج من نيسابور في تلك المحنة]، انْقَطَعَ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ غَيرَ مُسْلِمٍ [فإنه لم يتخلّفْ عن زيارته، فأُنْـهِيَ إلى محمّدِ بنِ يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديما وحديثا، وأنه عُوتِب على ذلك بالعراق والحجاز ولم يرجع عنه] فَقَالَ الذُّهْلِيُّ يَوماً: أَلَا مَنْ قَالَ بِاللَّفْظِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَنَا. فَأَخَذَ مُسْلِمٌ رِدَاءً فَوقَ عِمَامَتِهِ، وَقَامَ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ، وَبَعَثَ إِلَى [بابِ] الذُّهْلِيِّ [كلَّ] مَا [كان] كتبَ عَنْهُ عَلَى ظَهرِ جَمَّالٍ ، [فاستحكمت بذلك الوحشةُ، وتخلّف عنه وعن زيارته]، وَكَانَ مُسْلِمٌ يُظْهِرُ القَولَ بِاللَّفْظِ وَلَا يَكْتُمُهُ.)

وتبع الإمامَ مسلمًا رفيقُه الحافظُ أحمدُ بنُ سلمةَ؛
قال الذهبي عن قصة خروج مسلم من مجلس الذهلي: (رَوَاهَا أَحْمَدُ بنُ مَنْصُورٍ الشِّيرَازِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يَعْقُوبَ، فَزَادَ: وَتَبِعَهُ أَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ.)، وكان أحمدُ بنُ سلمة الوحيدَ الذي شيَّعه حين خروجه من نيسابور كما سيأتي.


6- ثباتُ الإمام البخاري على قوله:

إن من علاماتِ صدقِ المرءِ فيما يقول ويفعل ألّا يُخالفَ شيئًا علمه حقًّا إلَّا بحجّة أقوى من حجته لا اتّباعًا للناس وإرضاءً لهم، وكذلك كان الإمام البخاريُّ -رحمه اللـه- ثابتًا شُجاعًا صابرًا محتسِبًا؛
قال الخطيب البغدادي : (أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ غَالِبٍ [أَبُو بَكْرٍ البَرْقَانِيُّ]، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللـهِ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سيَّارٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ مُسْلِمٍ خُشنَام قَالَ: سُئِلَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ بِنَيسَابُورَ عَنِ اللَّفْظِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيدُ اللـهِ بنُ سَعِيدٍ [يَعْنِي: أَبَا قُدَامَةَ] عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ [هُوَ القَطَّانُ] قَالَ: أَعْمَالُ العبَادِ كُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ. فمَرَقُوا عَلَيهِ. فَقَالُوا لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: ترجِعُ عَنْ هَذَا القَولِ حَتَّى [نعُودَ] إِلَيكَ؟ قَالَ: لَا أَفعلُ إِلاَّ أَنْ تَجِيئُوا بحجَّةٍ فِيمَا تقولُونَ أَقْوَى مِنْ حُجَّتِي. وَأَعجبَنِي مِنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ ثَبَاتُهُ.)

ولما توجَّه إلى مَرْوَ دُعِي إلى تركِ قولِه فأبى؛
قال الذهبي: (وَقَالَ أَحْمَدُ بنُ مَنْصُورٍ الشِّيرَازِيُّ: سَمِعْتُ القَاسِمَ بنَ القَاسِمِ يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ وَرَّاقَ أَحْمَدَ بنِ سَيَّارٍ يَقُولُ: لَمَّا قَدِمَ البُخَارِيُّ مَرْوَ اسْتَقبلَهُ أَحْمَدُ بنُ سَيَّارٍ فِيمَنْ اسْتَقبَلَهُ، فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللـهِ، نَحْنُ لَا نُخَالِفُكَ فِيمَا تَقُولُ، وَلَكِنَّ العَامَّةَ لَا تحملُ ذَا مِنْكَ. فَقَالَ البُخَارِيُّ: إِنِّي أَخشَى النَّارَ أُسْأَلُ عَنْ شَيءٍ أَعْلَمُهُ حقًّا أَنْ أَقُولَ غَيرَهُ. فَانْصَرَفَ عَنْهُ أَحْمَدُ بنُ سَيَّارٍ.)


7- صبرُه على أذى خصومِه وعدمُ انتقامِهِ لنفسه

قال الذهبي: (وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَتَى رَجُلٌ عَبْدَ اللـهِ البُخَارِيَّ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللـهِ، إِنَّ فُلَاناً يُكَفِّرُكَ! فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا" . وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُونَ لَهُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقَعُ فيكَ، فَيَقُولُ: {إِنَّ كَيدَ الشَّيطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النِّسَاء 76] وَيتلو أَيضاً: {وَلَا يَحيقُ المَكْرُ السَّيِّءُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فَاطِر: 43]. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ المَجِيدِ بنُ إِبْرَاهِيمَ: كَيفَ لَا تدعُو اللـهَ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يظلِمُونَكَ وَيتنَاولونَكَ وَيَبْهَتُونَكَ؟ فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَونِي عَلَى الحَوضِ" ، وَقَالَ: - صَلَّى اللـهُ عَلَيهِ وَسلَّمَ-: "مَنْ دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ، فَقَدِ انْتَصَرَ" . قَالَ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ يَتَعرَّضُ لَنَا قَطُّ أَحَدٌ مِنْ أَفنَاءِ النَّاسِ إِلاَّ رُمِيَ بِقَارعَةٍ، وَلَمْ يَسْلَمْ، وَكُلَّمَا حَدَّثَ الجُهَالُ أَنفسَهُم أَنْ يَمْكُرُوا بِنَا رَأَيتُ مِنْ ليلتِي فِي المَنَامِ نَارًا تُوَقَدُ ثُمَّ تُطفَأُ مِنْ غَيرِ أَنْ يُنْتفَعَ بِهَا، فَأَتَأَوَّلُ قَولَهُ تَعَالَى: {كُلَّمَا أَوقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللـهُ} وَكَانَ هِجِّيرَاهُ مِنَ اللَّيلِ إِذَا أَتيتهُ فِي آخِرِ مَقْدَمِهِ مِنَ العِرَاقِ: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللـهُ فَلَا غَالِبَ لَكُم وَإِنْ يَخْذُلْكُم فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِنْ بَعْدِهِ} الآيَة [آل عِمْرَان:160].)



8- خروجه من نيسابورَ

بعد أن لاقى البخاريُّ ما لاقاه من انقلابِ أهل نيسابورَ عليه قـرّر أن يخرج منها درءًا لتفاقُم هذه الفتنة؛
قال الذهبي: (قَالَ أَحْمَدُ بنُ مَنْصُورٍ الشِّيرَازيُّ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَعْقُوبَ الأَخْرَمَ، سَمِعْتُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ: لَمَّا قَامَ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ مِنْ مَجْلِسِ الذُّهْلِيِّ، قَالَ الذُّهْلِيّ: لَا يُسَاكِننِي هَذَا الرَّجُلُ فِي البلدِ. فَخَشِيَ البُخَارِيُّ وَسَافَرَ.)
وقال أيضًا: (وَقَالَ [أي الحاكم]: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ صَالِحِ بنِ هَانِئٍ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بنَ سَلَمَةَ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى البُخَارِيِّ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللـهِ، هَذَا رَجُلٌ مَقْبُولٌ بِخُرَاسَانَ خصوصاً فِي هَذِهِ المَدِينَةِ، وَقَدْ لَجَّ فِي هَذَا الحَدِيثِ حَتَّى لَا يَقْدِرَ أَحَدٌ منَّا أَنْ يُكَلِّمَهُ فِيهِ، فَمَا تَرَى؟ فَقبضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَأَفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللـهِ إِنَّ اللـهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ} [غَافر: 44] اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أُرِدِ المقَامَ بِنَيسَابُورَ أَشَراً وَلَا بَطراً، وَلَا طَلباً للرِّئاسَةِ، وَإِنَّمَا أَبَتْ عليَّ نَفْسِي فِي الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِي لِغَلَبَةِ المُخَالِفينَ، وَقَدْ قَصَدَنِي هَذَا الرَّجُلُ حَسَدًا لَمَّا آتَانِي اللـهُ لَا غَيرُ. ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ، إِنِّي خَارجٌ غَداً لتتخلَّصُوا مِنْ حَدِيثِهِ لأَجلِي. قَالَ: فَأَخبرْتُ جَمَاعَةَ أَصْحَابِنَا، فَوَاللـهِ مَا شَيَّعَهُ غَيرِي. كُنْتُ مَعَهُ حِينَ خَرَجَ مِنَ البلدِ، وَأَقَامَ عَلَى بَابِ البلدِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لإِصْلَاحِ أَمرِهِ.)


9- موقفه من الإمام الذهلي بعد هذه الفتنة

رغمَ ما لاقاه البخاريُّ من الأذى إلّا أنّه لم يدعُ على خصومه كما مرّ، بل قد أخرج أحاديث الذهليّ في صحيحه؛ قال ابن حجر: (روى عنه البخاري أربعة وثلاثين حديثًا.)
وقال الناصر بن المنيِّر : (وَمن تَمام رسوخ البُخَارِيّ فِي الْوَرع أَنه كَانَ يَحلِفُ بعد هَذِه المحنة، أَن الحامد والذامَّ عِنْده من النَّاس سَوَاءٌ، يُرِيد أَنه لَا يكره ذامَّه طبعا، وَيجوز أَن يكرههُ شرعا، فَيقوم بِالْحَقِّ لَا بالحظّ، ويحقِّقُ ذَلِك من حَالِه أَنه لم يَمحُ اسْمَ الذهلي من جَامعه، بل أثبتَ رِوَايَته عَنهُ، غير أَنه لم يُوجد فِي كِتَابه إِلَّا على أحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يَقُول: " حَدثنَا مُحَمَّد " ويقتصر، وَإِمَّا أَن يَقُول: " حَدثنَا مُحَمَّد بن خَالِد "، فينسبه إِلَى جدّ أَبِيه . فَإِن قلتَ: فَمَا لَهُ أجملَه، واتّقى أَن يذكره بنسبه الْمَشْهُور؟ قلتُ: لَعَلَّه لمّا اقْتضى التَّحْقِيقُ عِنْده أَن يُبقِيَ رِوَايَته عِنْده خشيَةَ أَن يَكتمَ علمًا رزقه اللـه على يَدَيْهِ وعَذَره فِي قدحه فِيهِ بالتأويل والتعويل على تَحْسِين الظَّنّ= خشِيَ على النَّاس أَن يقعوا فِيهِ بِأَنَّهُ قد عدَّلَ من جَرَحَه، وَذَلِكَ يُوهمُ أَنه صدَّقه على نَفسه فيجرُّ ذَلِك إِلَى البُخَارِيِّ وَهْنًا، فأخفى اسْمَه وغطّى رسمَه وَمَا كتم علمَه، فَجمع بَين المصلحتين، وَاللـه أعلمُ بمراده من ذَلِك.)

خاتمة

من أسباب هذه المحنة:
- اختلاف الإماميْنِ في مسألة اللفظ بين المنع بإطلاق والتفصيل.
- أنّ الذهلي لم يَعذر البخاري.
- حَسدُ بعض شيوخ نيسابورَ للإمام البخاري.
- مكانة الإمام الذهلي في نيسابورَ.
- وشاية بعض الناس بالبخاري.
- امتحانه في هذه المسألة.
- سؤال البخاري علنًا عن هذه المسألة.
- تشغيب بعضهم على البخاري.
- مؤاخذتُه بلازم قوله.
- ثبات البخاري على قوله.
- صبره وعدم انتقامه لنفسه -رحمه اللـه-.
وصلى اللـه على محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.

كتبه يوسف قديري يوم الجمعة 11 شعبان 1439

الملفات المرفقة
نوع الملف: pdf منحة الباري في محنة البخاري.pdf‏ (278.5 كيلوبايت, المشاهدات 767)
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 08 Apr 2019, 10:13 PM
يونس بوحمادو يونس بوحمادو غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Aug 2018
المشاركات: 121
افتراضي

بوركت أخي العزيز على اختيارك الموفق هذا؛ فها نحن نعاصر جزء من محنته رحمه الله تعالى، فما زال أعداء السنة يوجهون سهامهم إليه؛ وما ذلك إلا أجر ساقه الله تعالى للإمام البخاري رحمه الله تعالى.
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013