منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 28 Jan 2015, 11:43 PM
طه صدّيق طه صدّيق غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jul 2013
المشاركات: 312
افتراضي كلمات نيّرات للإمام إبن القيّم (حياة المُحبّين)



قال إبن القّيم في مدارج السالكين : فهمة المحب إذا تعلقت روحه بحبيبه ، عاكفا على مزيد محبته ، وأسباب قوتها ، فهو يعمل على هذا ، ثم يترقى منه إلى طلب محبة حبيبه له ، فيعمل على حصول ذلك ، ولا يعدم الطلب الأول ، ولا يفارقه ألبتة ، بل يندرج في هذا الطلب الثاني ، فتتعلق همته بالأمرين جميعا ، فإنه إنما يحصل له منزلة " كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به " بهذا الأمر الثاني ، وهو كونه محبوبا لحبيبه ، كما قال في الحديث " فإذا أحببته كنت سمعه وبصره " إلخ ، فهو يتقرب إلى ربه حفظا لمحبته له ، واستدعاء لمحبة ربه له .

فحينئذ يشد مئزر الجد في طلب محبة حبيبه له بأنواع التقرب إليه ، فقلبه ؛ للمحبة والإنابة والتوكل والخوف والرجاء ، ولسانه ؛ للذكر وتلاوة كلام حبيبه ، وجوارحه : للطاعات ، فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه .

وهذا هو السير المفضي إلى هذه الغاية التي لا تنال إلا به ، ولا يتوصل إليها إلا من هذا الباب ، وهذه الطريق ، وحينئذ تجمع له في سيره جميع متفرقات السلوك من الحضور والهيبة والمراقبة ونفي الخواطر وتخلية الباطن .

فإن المحب يشرع أولا في التقربات بالأعمال الظاهرة ، وهي ظاهر التقرب ، ثم يترقى من ذلك إلى حال التقرب ، وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وقلبه ، وعقله وبدنه ، ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان ، فيعبد الله كأنه يراه ، فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب ؛ من المحبة والإنابة والتعظيم والإجلال والخشية ، فينبعث حينئذ من باطنه الجود ببذل الروح والجود في محبة حبيبه بلا تكلف ، فيجود بروحه ونفسه ، وأنفاسه وإرادته ، وأعماله لحبيبه حالا لا تكلفا ، فإذا وجد المحب [ ص: 254 ] ذلك فقد ظفر بحال التقرب وسره وباطنه ، وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط ، فليدم على ذلك ، وليتكلف التقرب بالأذكار والأعمال على الدوام ، فعساه أن يحظى بحال القرب .

ووراء هذا القرب الباطن أمر آخر أيضا ، وهو شيء لا يعبر عنه بأحسن من عبارة أقرب الخلق إلى الله صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى ، حيث يقول حاكيا عن ربه تبارك وتعالى : من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةفيجد هذا المحب في باطنه ذوق معنى هذا الحديث ذوقا حقيقيا .

فذكر من مراتب القرب ثلاثة ، ونبه بها على ما دونها وما فوقها . فذكر تقرب العبد إليه بالبر ، وتقربه سبحانه إلى العبد ذراعا ، فإذا ذاق العبد حقيقة هذا التقرب انتقل منه إلى تقرب الذراع ، فيجد ذوق تقرب الرب إليه باعا .

فإذا ذاق حلاوة هذا القرب الثاني أسرع المشي حينئذ إلى ربه ، فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولة ، وهاهنا منتهى الحديث ، منبها على أنه إذا هرول عبده إليه كان قرب حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه ، فإما أن يكون قد أمسك عن ذلك لعظيم شاهد الجزاء ، أو لأنه يدخل في الجزاء الذي لم تسمع به أذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، أو إحالة له على المراتب المتقدمة ، فكأنه قيل له وقس على هذا ، فعلى قدر ما تبذل منك متقربا إلى ربك يتقرب إليك بأكثر منه ، وعلى هذا فلازم هذا التقرب المذكور في مراتبه ؛ أي من تقرب إلى حبيبه بروحه وجميع قواه ، وإرادته وأقواله وأعماله تقرب الرب منه سبحانه بنفسه في مقابلة تقرب عبده إليه .

وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة ، بل هو قرب حقيقي ، والرب تعالى فوق سماواته على عرشه ، والعبد في الأرض .

وهذا الموضع هو سر السلوك ، وحقيقة العبودية ، وهو معنى الوصول الذي يدندن حوله القوم .

وملاك هذا الأمر هو قصد التقرب أولا ، ثم التقرب ثانيا ، ثم حال القرب ثالثا ، وهو الانبعاث بالكلية إلى الحبيب .

وحقيقة هذا الانبعاث : أن تفنى بمراده عن هواك ، وبما منه عن حظك ، بل يصير ذلك هو مجموع حظك ومرادك ، وقد عرفت أن من تقرب إلى حبيبه بشيء من الأشياء جوزي على ذلك بقرب هو أضعافه ، وعرفت أن أعلى أنواع التقرب تقرب العبد بجملته بظاهره وباطنه ، وبوجوده إلى حبيبه ، فمن فعل ذلك فقد تقرب بكله ، ولم تبق منه بقية لغير حبيبه ، كما قيل :


لا كان من لسواك فيه بقية يجد السبيل بها إليه العذل
وإذا كان المتقرب إليه بالأعمال يعطي أضعاف أضعاف ما تقرب به ، فما الظن بمن أعطي حال التقرب وذوقه ووجده ؟ فما الظن بمن تقرب إليه بروحه ، وجميع إرادته وهمته ، وأقواله وأعماله ؟

وعلى هذا فكما جاد لحبيبه بنفسه ، فإنه أهل أن يجاد عليه ، بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه ، عوضا عن كل شيء ، جزاء وفاقا ، فإن الجزاء من جنس العمل . وشواهد هذا كثيرة .

منها : قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ففرق بين الجزاءين كما ترى ، وجعل جزاء المتوكل عليه كونه سبحانه حسبه وكافيه .

ومنها : أن الشهيد لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته .

ومنها : أن من بذل لله شيئا أعاضه الله خيرا منه .

ومنها : قوله تعالى فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون

ومنها : قوله في الحديث القدسي من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه .

ومنها : قوله من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا الحديث .


فالعبد لا يزال رابحا على ربه أفضل مما قدم له ، وهذا المتقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة ، بل حياة من ليس كذلك بالنسبة إلى حياته ، كحياة الجنين في بطن أمه بالنسبة إلى حياة أهل الدنيا ولذتهم فيها ، بل أعظم من ذلك .

فهذا نموذج من باين شرف هذه الحياة وفضلها ، وإن كان علم هذا يوجب لصاحبه حياة طيبة ، فكيف إن انصبغ القلب به ، وصار حالا ملازما لذاته ؟ فالله المستعان .

هذي حياة الفتى فإن فقدت ففقده للحياة أليق به

فلا عيش إلا عيش المحبين ، الذين قرت أعينهم بحبيبهم ، وسكنت نفوسهم إليه ، واطمأنت قلوبهم به ، واستأنسوا بقربه ، وتنعموا بحبه ، ففي القلب فاقة لا يسدها إلا محبة الله والإقبال عليه والإنابة إليه ، ولا يلم شعثه بغير ذلك ألبتة ، ومن لم يظفر بذلك : فحياته كلها هموم وغموم ، وآلام وحسرات ، فإنه إن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ، فإن همته لا ترضى فيها بالدون وإن كان مهينا خسيسا ، فعيشه كعيش أخس الحيوانات ، فلا تقر العيون إلا بمحبة الحبيب الأول .

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل


رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013