فالأخلاق التي شرعها الله لعباده وأمرهم بها هي أسباب سعادة الأمة ورقيها وبقاء حكمها ودولتها ، ويقول آخر :
وليس بعامر بنيان قوم
إذا أخلاقهم كانت خرابا
ومما ذكره الله سبحانه وتعالى من صفات أهل الإيمان وأخلاقهم يعلم أن الأمة لا تستقيم إلا بهذه الأخلاق ولا تقوم دولتهم إلا بهذه الأخلاق ، فلابد من التواصي بهذه الأخلاق من الدولة والأمة حتى ينصرهم الله ويعينهم على عدوهم وحتى يحفظ عليهم دينهم ودنياهم وأخلاقهم وصحتهم وملكهم وقهرهم لأعدائهم .
فالأخلاق التي شرعها الله ودعا إليها ودعت بها رسوله صلى الله عليه وسلم إذا استقامت عليها الأمة حاكما ومحكوما كتب الله لهم النصر وأيدهم بروح منه ونصرهم على أعدائهم؟ جرى لسلفنا الصالح في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده فقد نصرهم الله على عدوهم مع قلة عددهم وعدتهم وفتح عليهم الفتوحات العظيمة وأيدهم بنصر من عنده كما وعدهم سبحانه بذلك في قوله عز وجل : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
وفي قوله سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ هكذا حصل لهم النصر لما استقاموا على الأخلاق العظيمة التي مدحها الله وأمر بها ، لما استقاموا وتواصوا بها نصرهم الله وملكوا غالب الدنيا وقهروا العالم وأدت لهم الجزية اليهود والنصارى والمجوس ، وأدى الخراج لهم آخرون من الكفار حتى ملك الصين ، إذ بلغت الدولة إلى هناك إلى أقصى المشرق وإلى أقصى المغرب ، فمنهم من أدى الخراج ، ومنهم من أدى الجزية ومنهم من دخل في دين الله بسبب قوة المؤمنين وأخلاقهم العظيمة التي مدحها الله وأوصاهم بها ، فلما قام بها ولاتهم وأمراؤهم وعامتهم وعلماؤهم استقام لهم الأمر وخافهم عدوهم ونصرهم الله عليه ، وفتحوا البلاد ودانت لهم العباد وأقاموا شرع الله في بلاد الله حتى بلغ ملك هذه الأمة أقصى المغرب وأقصى المشرق كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث ثوبان رضي الله عنه المخرج في صحيح مسلم ، فلما غير الناس غير الله عليهم وأخذ العدو بعض ما في أيديهم ، ومتى رجعوا إلى ربهم وأنابوا إليه واعتصموا بدينه رجعوا إلى دينهم واستقاموا عليه- رد الله لهم ما كان شاردا وأصلح لهم ما كان فاسدا ونصرهم على عدوهم ورد عليهم ملكهم السليب ومجدهم الغابر .
فالواجب على الحكام والأمراء والعلماء والأغنياء والفقراء الإنابة إلى الله والرجوع إليه والتمسك بالأخلاق التي أوصى الله بها عباده ، والحذر الحذر من الأخلاق التي نهى الله عنها ، فمتى استقام الجميع وتعاونوا على البر والتقوى وتواصوا بهذه الأخلاق في جميع الأحوال في الشدة والرخاء في السفر والإقامة أيدهم الله ونصرهم على أعدائهم وأعطاهم الملك العظيم ورد إليهم ما سلب منهم وأصلح لهم ما فسد وهابهم أعداؤهم وخضعوا لهم وأدوا لهم الجزية والخراج خوفا من قهرهم لهم أو دخلوا في الإسلام كما جرى لسلفنا الصالح ،
فوصيتي لكل من قرأ هذه الكلمة أو سمعها ، ولكل من تبلغه أن يتقي الله وأن يراقبه سبحانه أينما كان ، وأن يتمسك بالأخلاق التي أمر الله بها وأثنى على أهلها في القرآن العظيم أو أقرها أو أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة ، فيشرع للمسلم أن يلزمها وأن يستقيم عليها وأن يوصي بها إخوانه وأن ينصحهم بها أينما كانوا ، وأن يحذر الأخلاق التي ذمها الله وعابها ، أو ذمها رسوله محمد عليه الصلاة والسلام ليحذرها ولينهى عنها وليوصي إخوانه بتركها ، وهذا هو معنى قوله جل وعلا : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهذه الآية جامعة لجميع الأخلاق الفاضلة ،
ثم قال سبحانه في ختامها أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ومن رحمة الله لهم أن ينصرهم ويؤيدهم على عدوهم ، ومن رحمته أن يكفيهم شر الأعداء ، ومن رحمته أن يعينهم على هذه الأخلاق ويوفقهم لها ، ومن رحمته أن يدر لهم الأرزاق وينزل الأمطار وينبت لهم النبات ويعطيهم كل ما يطلبون ، ومن رحمته سبحانه إدخالهم الجنة وإنجائهم من النار كما قال سبحانه بعدها : وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ هذا هو جزاؤهم في الآخرة ، وفي الدنيا رحمة ونصر وتوفيق وتأييد ، وفي الآخرة رحمة لهم بإدخالهم الجنة ونجاتهم من النار .
أسال الله بأسمائه الحسنى أن يوفقنا وإياكم للتمسك بهذه الأخلاق التي مدحها الله وأمر بها وأثنى على أهلها وأن يوفقنا وجميع المسلمين في كل مكان وجميع ولاتهم وقادتهم في كل مكان من مشارق الأرض ومغاربها للتمسك بهذه الأخلاق العظيمة الفاضلة ، وأن يجنبنا وإياهم جميع الأخلاق المذمومة وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ، وأن يصلح قادة المسلمين وشعوبهم في كل مكان ، وأن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير ، وأن يعينهم عليه وأن يجمع كلمتهم على التقوى وأن ينصرهم بالحق وينصر الحق بهم ، وأن يفقههم في دينه ، وأن يثبتهم عليه ، وأن يصلح لهم البطانة ويعينهم على كل خير ، وأن يكثر أعوانهم في ذلك إنه سميع قريب ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان .