منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 11 Mar 2017, 09:42 PM
فارس شرفة فارس شرفة غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2016
الدولة: الجزائر
المشاركات: 11
افتراضي الجواب الصَدوق لأسئلة أهالي صدُوق

الجواب الصّدوق
لأهالي صدّوق


لأبي عبد الإله البجائي
-عفا الله عنه-

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتّقين، ولا عدوان إلّا على الظّالمين، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له الملك الحقُّ المبين، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الأمين-صلّى الله عليه وآل كلٍّ وسائر الصّالحين، أمّا بعد:
فقد كثر في زماننا من طمس اللّه على بصيرته، وختم على قلبه، وجعل على بصره غشاوة، فلبّس عليه الشّيطان وأقبل عليه بخيله ورَجِله، وملأ قلبه بالشّبهات في دينه، الذي ارتضاه ربّ العالمين لعباده، وهؤلاء ممّن ليسوا باليهود الظّالمين ولا بالنّصارى الضّالّين، ولا بالرّوافض الحاقدين، وإنّما هم من بني جلدتنا ويتكلّمون بألسنتنا، من تزيّ بزيِّ الإسلام وأهله، ويدّعي النّطق باسمه، وهو لم يدرك من الإسلام إلّا اسمه، ولم يعقل من تعاليمه إلّا رسمه.
وهؤلاء القوم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
1-جاهلٌ بتعاليم دين الإسلام، جهلًا بسيطًا، ولكنّه مقلّدٌ إمّعةٌ، أينما سمع كلامًا يقدح في الإسلام حفظه ثمّ بادر إلى نشره، فهذا يسهل جدًّا تعليمه وإزالة الشُّبه عنه.
2-جاهلٌ جهلًا مركّبًا، أو أجهل من أبي جهلٍ، من المثقّفين الذين حسبوا أنّهم بلغوا الذّروة في العلوم، وظنّوا أنّ لهم قسطًا من العلم في الدّين، فيقبلون على النّصوص فيأوّلونها كيفما أرادوا، ويفسّرونها بالهوى والتّشهّي، غير متورّعين عن الكذب في دين الله تعالى.
3-حاقدٌ على الإسلام والمسلمين، محبٌّ للكفر والزّندقة والكافرين، فتراه يفرح لحزن المسلمين، ويحزن لانتصارهم، ويفرح لفرح الكافرين، ويحزن لخسرانهم، وهذا هو النّفاق الاعتقاديّ الذّي يخرج صاحبه من ملّة الإسلام.
وتجد غالب هؤلاء قرآنيّين بزعمهم، لا يقبلون استدلالًا من غير القرآن، ولا اعتبار للسُّنّة عندهم البتّة، ويقدّمون آراء الفلاسفة والمتزندقة على سُّنَّته عليه السّلام، في حين أنّ أهل الحقّ لا يتركون ما صحّ عن النبيّ-صلّى الله عليه وسلّم-لقول أحد من الأنام، والسُّنّة أجلُّ في صدورهم من أن يُقدِّموا عليها رأيًا فقهيًّا، أو بحثًا جدليًّا، أو خيالًا صوِفيًّا، أو تناقُضًا كلامِيًّا، أو قياسًا فلسفِيًّا أو حُكمًا سياسِيًّا، فمن قدّم عليها شيئًا من ذلك فباب الصَّواب عليه مسدودٌ، وهو عن طريق الرّشاد مصدودٌ.
لقد أورد بعض هؤلاء القوم أسئلة، أو قُل شبهاتٍ حول دين الإسلام العظيم، وكأنّ القوم يسأل ببساطة ويقول: لماذا الإسلام، ولماذا القرآن، وما ربّ العالمين-جلّ وعزّ-؟؟؟؟.
ولا يخفى على أدنى من له علمٌ بالنّحو وعلوم اللّغة العربيّة، ما في أسئلة القوم من أخطاء نحويّة وإملائيّة، وحتّى المعنى أحيانًا لا تكاد تفهم ما يقصد السّائلُ من وراء سؤاله.
وحتّى نزيل عليهم في أفهامهم الإجمال، ونخرجهم من حيّز الإشكال، إلى التّجلّي واتّضاح الحال، نقول والله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم:
-الجواب الأوّل: الحكمة من بعث الرّسل والأنبياء إلى الجزيرة وضواحيها:.
أَي أَنَّهُ لَمْ يَقْصُصْ عَلَيْهِ أَنْبَاءَ رُسُلٍ آخَرِينَ، بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [4 \ 164]، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الْآيَةَ [14 \ 9]. وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [25 \ 38]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَهَذِهِ تسمية الأنبياء الذين نص الله عَلَى أَسْمَائِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَهُمْ: (آدَمُ، وَإِدْرِيسُ، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهرون، وَيُونُسُ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَإِلْيَاسُ وَالْيَسَعُ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وعيسى، وَكَذَا ذُو الْكِفْلِ، عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَسَيِّدُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَقَوْلُهُ: {ورسلاً لمن نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} أَيْ خَلْقًا آخَرِينَ لَمْ يُذْكَرُوا فِي الْقُرْآنِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِدَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلُ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ رَحِمَهُ الله في تفسيره عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: «ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، جَمٌّ غَفِيرٌ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ؟ قَالَ: «آدَمُ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ من روحه ثم سواه قبيلاً» وقد روى هذا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ، فقال ابن أبي حاتم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ؟، قَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وعشرون ألفاً، والرّسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر، جمًّا غفيرًا". ولقد أرسل الله رسلًا إلى عباده، حتّى يقيم عليهم الحجّة، ويبيّن لهم المحَجّة،
أمّا العرب فلم يكن فيهم من قبل نبيٌّ أو رسولٌ، كما أنّ رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-لم يكن طالبَ ملكٍ أو ساعٍ لثأرٍ، وهذا ممّا يؤكد بعثته-صلّى الله عليه وسلّم-.
إن من علامات النبوة أن تظهر في زمان في حاجة إلى نبيّ، وقد كان ذلك هو زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث انحرفت الأرض وضلّت عن سواء السّبيل، خطب رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقَالَ: "أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ".
فالله عزّ وجلّ-أرسل أغلب رسله وأنبيائه إلى الجزيرة وضواحيها، لأنّ معظم البشرية من نسل نوح وإبراهيم، كانت تتمركز هنالك، وهذا لا يعني البتّة أنّ الله تعالى لم يبعث غيرهم إلى غير الجزيرة وضواحيها، غير أنّ الله تعالى لا يظلم مثقال ذرّة، وأنّه لم يكن ليعذِّب قومًا حتّى يبعث إليهم رسولا ينذرهم من الشّرك ويدعوهم إلى التّوحيد.
-الجواب الثّاني: ما الحكمة من حادثة شقّ الصّدر؟:
- فيها بيان إعداد الله تعالى عبده ورسوله محمداً -صلى الله عليه وسلّم-لتلقي الوحي عنه.
- تعهد الله عز وجل نبيه عن مزالق الطبع الإنساني ووساوس الشّيطان.
إنّ كثيرا من المستشرقين وأذنابهم، ممّن تأثر بالمدرسة العقلانية، يُنكر بعض حوادث السّيرة النّبوية، ومن أهمّها:
أ-قضية شقّ الصّدر.
ب-قضية بحيرى الرّاهب مع الرسول-صلى الله عليه وسلّم -وعمّه أبي طالب.
ج-معراجه بجسده-صلّى الله عليه وسلّم-.
استنكر بعضهم وقوع شقّ الصّدر ليلة الاسراء: وقال: إنّما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، كما قال أحمد: حدثني حيوة ويزيد بن عبد ربه، قالا: حدثنا بقية، حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معدان، عن ابن عمرو السُّلمي، عن عتبة بن عبد السُّلمي، أنهّ حدثهم، أن رجلا سأل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال:
" كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زادا فقلت: يا أخي اذهب فأتنا بزاد من عند امنا فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل طيران أبيضان، كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهذا هو؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني الى القفا، فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين.
فقال أحدهما لصاحبه (قال يزيد في حديثه): ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة..."الحديث.
وقال ابن دحية في معراجه وابن المنير وغيرهما: الصّحيح أن شق الصدر مرتان.
قال شيخ الاسلام ابن حجر: "بل ثلاث مرات، فقد ثبت أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في الدّلائل، ولكلّ حكمة:
1-فالأوّل كان في زمن الطفوليّة: لينشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشّيطان.
2-ثم عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقّى ما يوحى إليه بقلبٍ قويٍّ في أكمل الأحوال من التطهير.
3-ثم عند الإسراء ليتأهّب للمُناجاة.
4-ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة لحصول المرة الثالثة كما هي في شرعه صلى الله عليه وسلم في الطّهارة".
وهذه الحكمة من أعظم الحكم وألطفها وأدقها، وحقها أن تكتب بماء الذهب على صفحات القلوب لارتفاع محلها.
وهذا الذي ذكر من شقّ الصّدر واستخراج القلب ممّا يجب التسليم له، ولا يصرف عنه حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك.
والأمر كذلك ويؤيده الحديث الصحيح أنهم كانوا يرون أثر المخيط في صدره الشريف، وما وقع من بعض جهلة العصر من إنكار ذلك وحمله على الأمر المعنوي وإلزام قائله القول بقلب الحقائق الممتنع، فهو جهل صريح، وخطأ قبيح، نشأ من خذلان الله تعالى لهم، وعكوفهم على العلوم الفلسفية وعدم إحاطتهم بالقدرة الربانية، وبعدهم عن دقائق السنة، عافانا الله من ذلك.

الجواب الثّالث: تزوج النبيّ-صلّى الله عليه وسلّم-أمّ عبد الله عائشة الصّديقة بنت الصّديق، المبرأة من فوق سبع سماوات، حبيبة رسول الله-صلّى الله عليه وسلم-، عائشة بنت أبي بكر الصديق وعرضها عليه الملَكُ قبل نكاحها في سَرَقَةٍ من حرير، وقال: "هذه زوجتك"، تزوّجَ بها في شوّال وعمرها ستّ سنين داخلةٌ في السّابعة، وبنى بها في شوّال في السّنة الأولى من الهجرة، وعمرها تسع سنين ولم يتزوّج بكرًا غيرها، وما نزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، وكانت أحبَّ الخلق إليه، ونزل عُذرها من السّماء، واتّفقت الأمّة على كفر قاذِفِها، وهي أفقه نسائه وأعلمهنّ، بل أفقه نساء الأمّة وأعلمُهنّ على الإطلاق، وكان الأكابر من أصحاب النّبيّ-صلّى الله عليه وسلّم- يرجعون إلى قولها ويستفتونها.
أمّا العبرة من الزواج بها وهي في هذا العمر، فإنّه الامتثال للأمر الربّاني، الذي جاء من عند الله تعالى، فالنبيّ-عليه الصّلاة والسّلام-ما تزوّج بها إلّا بأمرٍ من ربّه تعالى، وما كان ليعصي أمر ربّه ويُعرض.
أمّا الحكمة من الزّواج بها كامرأة، فهذا يتبيّن من مناقبها الكثيرة، وفضائلها الغزيرة.
-الجواب الرّابع: حكمة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بكل واحدة من أزواجه الطاهرات:
والآن أحاول أن أبين الحكمة وراء كل زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وفقاً للترتيب الزمني لزواجه صلى الله عليه وسلم:
-السيدة خديجة بنت خويلد-رضي الله عنها-:
السيدة خديجة هي أولى زوجاته -صلى الله عليه وسلم-وهي أرملة وكان عمرها وقت الزواج أربعين سنة وعمر الني صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة. فعاشا معاً لخمس وعشرين سنة بعد زواجهما إلى أن توفيت السيدة خديجة وهي في الخامسة والستين من عمرها بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الخمسين من عمره. وجدير بالذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج أية امرأة أخرى في حياتها، ومات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم في نفس السنة وسمي هذا العام بعام الحزن. ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فقد شخصيتين هامتين ألا وهما: السيدة خديجة وأبا طالب اللذين كانا يشدان من أزر النبي صلى الله عليه وسلم ويحنوان عليه، وهكذا صار النبي صلى الله عليه وسلم وحيداً لا ناصر له ولا معين من ناحية أسرته.
-السَّيِّدة سَوْدة بنت زمعة-رضي الله عنها-: وكانت هذه المرحلة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مرحلة الشدائد والابتلاء وهو في حاجة ماسة إلى من يسكن إليها لذلك فهو يتزوج السيدة سودة البالغ عمرها وقتئذ خمس وخمسون سنة.
وعليكم أيها القراء أن تنتبهوا إلى عمر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولكي ندرك مدى بطلان الافتراءات التي يثيرها أعداء الإسلام ضد الرسول صلى الله عليه وسلم واتهامهم له بالشهوانية والأنانية. علينا أن نتساءل: ما هي الخلفية وراء زوجاته: ما هو عمر أزواجه؟ ولماذا يتزوجهن؟
كانت السيدة سودة أرملة سكران بن عمرو وهي من المؤمنات المهاجرات. توفي عنها زوجها بعد الرجوع من الهجرة الثانية إلى الحبشة فأصبحت وحيدة لا ناصر لها ولا معين. ولو رجعت إلى أهلها الكفار لعذبوها ولحاولوا ردها إلى الشرك قسراً. وما كان هناك أي شخص يمكن أن يقوم بكفالتها والمحافظة على إسلامها.
فاختار النبي صلى الله عليه وسلم كفالة هذه الأرملة الوحيدة الحزينة المسكينة المسنة فتزوجها وفي هذا تشريع الزواج بالأرامل اللائي ينظر إليهن نظرة سوداء في الملل والأديان الأخرى كالهندوكية.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل للبشر كافة ولم يرسل لأمة بعينها كغيره من الأنبياء، لذا فسن زواجه لإبطال كل ما في الأديان المحرفة والملل الأخرى من خرافات وامتهان للنساء وبخاصّة المزدريات منهن في مجتمعاتهن كالأرامل والمطلقات وتشريفهن بزواجه منهن وهو أشرف البشر فيمتثل به المؤمنون كافّة.
-السّيِّدة عائشة بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما-:
وهي الوحيدة من بين أزواجه الطّاهرات التي كانت بكراً، وكان النبّي صلى الله عليه وسلم قد قضى على نظام التبني بزواجه السيدة زينب بنت جحش، فيمكننا القول أنّه -صلى الله عليه وسلم-قد قضى على نظام آخر بهذا الزواج وهو نظام التآخي الجاهلي إذ كانت العادة قد جرت عند بعض العرب أن يُؤاخي بعضهم بعضًا، وكانت هذه المؤاخاة تتساوى مع الأخوة الحقيقية القائمة على صلة الدم، وكانوا يحرمون على أنفسهم الزواج بابنة أخيهم المزعوم.
فقضى النبي صلى الله عليه وسلم على هذه العادة الجاهلية بزواجه بالسيدة عائشة رضي الله عنها وكان عمرها تسع سنوات وقت الزواج وبقيت على قيد الحياة، ثماني وأربعين سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولعل هذا هو السر وراء هذا الزواج. وظلت تنشر الدين وتبلغه إلى النساء والرجال.
ونرى أثر ذلك حتى اليوم كلما ذهبنا إلى الروضة في المسجد النبوي الشريف فنجد هناك عمودًا قائمًا يُسمّى: (أسطوانة عائشة).
وكان الصّحابة يجلسون بقرب هذه الأسطوانة بعد وفاة النبي-صلى الله عليه وسلّم-ويستفتونها في الأمور الدّينية وكانت عائشة تفتي وتدرس وتبلغ وهي جالسة في حجرتها التي فيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا استشكل أبوها سيّدنا أبو بكر وغيره من الصّحابة الكبار، مثل سيّدنا عمر الفاروق، وسيّدنا عثمان بن عفان، في أيّ أمرٍ هامٍّ، رجعوا إلى عائشة لحلِّ تلك المشكلة.
وقد ذكر العلماء المؤرخون، أنّه قد انتقل ربع الأحكام الشّرعية إلى الأمّة المسلمة، بعد وفاة النّبي-صلّى الله عليه وسلّم-من خلال توجيهات عائشة وجهودها، التي استمرّت 48 سنة بعد وفاته-صلّى الله عليه وسلّم-، وظلَّت تسكنُ نفس الحُجرة التي دُفن فيها الرّسول إلى أن توفي سيّدنا عمر، ودفن بجوار قبر رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-فانتقلت من تلك الحجرة قائلة: "إنّني أستحي الآن أن أبقى هنا".
-السّيِّدة حفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-:
وهي أرملة خنيس بن حذافة الذي استشهد في غزوة بدر وفي تلك الأثناء توفّيت السّيدة رقيّة زوج عثمان بن عفان، وبنت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فعرض سيّدنا عمر ابنته على عثمان للزواج كما أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-قال فقال عثمان: "سأنظر في أمري "فلبث ليالي، ثم قال: "لقد بدا لي ألّا أتزوج"، قال عمر لأبي بكر: "إن شئت أنكحك حفصة، فصمت، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبث ليالي ثم خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنكحتها إياه: فلقيني أبو بكر فقال: لعلّك وجدتَّ عَليَّ حين عرضت على حفصة. فلم أرجع إليك شيئًا؟، قلت: نعم قال: إنّه لم يمنعني أن أرجع إليك، إلّا أنني علمت أّن النبي-صلى الله عليه وسلم-ذكرها، فلم أكن لأفشي سِرّه، ولو تركها لقبلتها".
ولا يفوتنا هذا الأمر الهام أن زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة والسيدة حفصة له أهمية كبيرة من الناحية الاجتماعيّة، لأنّه كان سبب ربط قويّ بينه وبين سيّدنا أبي بكر وسيّدنا عمر وهما اللذان قاما بخدمات جليلة للإِسلام وضحّيا بالغالي والنّفيس في سبيل الله وحبّ رسوله.

-السّيّدة زينب بنت خزيمة -رضي الله عنها-:
وهي أرملة عبيدة بن الحارث رضي الله عنه، البطل الذي استشهد في أول المبارزة في غزوة بدر وهي أيضاً من النساء المؤمنات اللاتي ضحين بالنفس والنفيس في سبيل الله، وكانت حين استشهاد زوجها تقوم بواجبها في إسعاف الجرحى وصبرت على استشهاد زوجها، ولم تتخلّ عن واجبها حتّى بعد وفاة زوجها إلى أن جاء النصر وهزم المشركون، وكانت تُناهز السّتّين من عُمرها، ولم يكن هناك من يعولها فكانت بحاجة ماسة إلى الرّعاية.
فلمّا عَلِم الرسول-صلى الله عليه وسلم-بحالتها وصبرها، وجهادها وإخلاصها، خطبها لنفسه وكان عمره -صلى الله عليه وسلم-آنذاك يناهز الخامسة والخمسين، وظلّت السيدة زينب بنت خزيمة على قيد الحياة، بعد زواجها من النبي-صلى الله عليه وسلم-عامين اثنين ثم انتقلت إلى رحمة الله تعالى.
فلم يرى هؤلاء الأفاكين المغرضين الذين يتقولون على الرسول-صلى الله عليه وسلم-ما يتهمونه به من الشّهوانية والأنانية في هذا الزّواج الشّريف، الذي لا يهدف إلّا إلى غاية نبيلة كريمة، والذي يعبر عن المروءة والشّهامة التي كان يتحلّى بها الرّسول الكريم (صلى الله عليه وسلم).
-السيّدة أم سلمة هند المخزومية -رضي الله عنها-:
وهي أرملة عبد الله بن عبد الأسد من الأولين السابقين إلى الإسلام، كان قد هاجر إلى الحبشة ومعه زوجته السيدة أمّ سلمة التي خرجت فراراً بدينها، واستشهد زوجها البطل في غزوة أحد، مخلِّفاً لها أيتامها الأربعة: ابنان صغيران وبنتان صغيرتان، وكانوا بلا كفيلٍ ولا معينٍ، وكان عُمُر أمّ سلمة حينئِذٍ بين خمسٍ وخمسين وستِين سنة.
فقدر النبي-صلى الله عليه وسلّم-ظروفها الصّعبة وحاجة العائلة إلى من يكفلها، ويرعاها فخطبها ولكنّها اعتذرت في بداية الأمر، وقالت: "إني مُسِنّة، وإنّي أّم أيتام، وإنّني شديدة الغيرة "، فردّ عليها النبي-صلى الله عليه وسلم-وأرسل لها يقول بما معناه: "أنا لا أعبأ بالسّنّ، أمّا الأيتام فأضُمُّهم إليّ، وإنّي أدعو الله سبحانه أن يُذهِبَ عن قلبك الغيرة ".
واستجاب الله لدعاء النبي فذهبت عن قلبها الغيرة، ووافقت على الزّواج فتزوجها-عليه السلام-وتربّى أيتامُها تربيةً حسنةً وأحبّهم-عليه الصّلاة والسّلام-حُبًّا أكثر ممّا أحبّهم أبوهم.
هذه هي أم سلمة التي صحّحت خطأ أبي هريرة، وأفتت مع عائشة أنّ الصّوم يجوز في حالة الجنابة.

-السيّدة زينب بنت جحش -رضي الله عنها-:
هي ابنة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخت عبد الله بن جحش البطل الذي استشهد في غزوة أحد.
كان قد زوجها الرسول صلى الله عليه وسلم بزيد بن حارثة متبناه وكان يعرف بزيد بن محمد ولكنها رأت أنها أشرف من زيد بسبب حسبها ونسبها وأن زيداً كان عبداً مملوكاً قبل أن يتبناه الرسول صلى الله عليه وسلم. وهكذا ساءت العلاقات بينهما وكما ورد في بعض الروايات أنها كانت تغلظ له في القول. فشكا زيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد أن يطلقها ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه من الطلاق، ونصحه قائلاً: "أمسك عليك زوجك"، ولكن ظلّ الخلاف بينهما يزداد حتّى طلقها زيد، وفي تلك الآونة أراد الله-سبحانه وتعالى-أن يقضي الرّسول-صلّى الله عليه وسلّم-على نظام التبنّي الذي كان سائداً منذ أيام الجاهلية، وتحت هذا النظام كان العربيّ يتبنّى ولد غيره، فيقول له: "أنت ابني، أرثك وترثني".
وكان يصبح هذا الولد بمثابة ابنه الحقيقيّ في الأمور كلّها، حتّى فيما يّتصل بتحريم علاقة الزّواج، وما كان لله سبحانه أن يُبقِيهم ويُقرَّهم على مثل تلك العادات، التي كانت سائدة في الجاهليّة كنظام التبنّي، فأبطل الله-سبحانه وتعالى-هذا النّظام كما ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم.
عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنه قال:
"إن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت زيد بن حارثة بن شُرحبيل ".
وبعد أن طلق زيد زينب، أمر الله سبحانه رسوله أن يتزوجها لإبطال نظام التبني إبطالاً كاملاً. كانت هذه هي الظروف والملابسات وراء هذا الزواج وحكمته التشريعية الكبرى.
أمّا ما يُردِّدُه الأفاكون المغرضون، فعلينا أن نقف عليه أيضًا قليلاً، كي ندرك مدى افتراءهم وحقدهم على النّبي-صلّى الله عليه وسلّم-.
إنّ أعداء الإِسلام قد استغلّوا بعض الروايات المذكورة في بعض كتب التفسير وفى الحقيقة، ليس هناك أي سند لهذه الروايات من ناحية العقل والرواية وهي مستحيلة من ناحية العقل والدراية.
إنّهم يزعمون أّن النّبي-صلّى الله عليه وسلّم-مرّ ببيت زيدٍ ذات يوم وهو غائبٌ، فرأى زينب فوقعت في قلبه فأحبّها، فقال: "سبحان مُقلّب القلوب"، سمعت زينب ذلك فأخبرت زوجها بما سمعت من الرّسول-صلّى الله عليه وسلّم-، فلمّا علم زيد أنّ زينب وقعتْ في نفس رسول الله-صلى الله عليه وسلّم-أتاه يريدُ طلاقَها، فقال له الرّسول-صلّى الله عليه وسلّم-:"أمسِكْ عليك زَوجكَ"، وفي قلبه غير ذلك، فطلّقها زيدٌ كي يتزوّج بها الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم-.
وجديرٌ بالذّكر أنّ الذي يُروِّج لهذا الافتراء والكذب، لا يذكر عمدًا أمرين هامّين في هذه القضيّة وهما:
1-أنّ زينب بنت جحش رضي الله عنها هي ابنة عمّ رسول الله-صلى الله عليه وسلّم-وقد ظلّت تسكن مع الرّسول-صلّى الله عليه وسلّم-، منذ طفولتها حتّى وقت زواجها بزيد، ولم يكن هناك حينئذٍ حجاب.
2-أنّ النبي-صلى الله عليه وسلم-زوّجها بزيدٍ على الرّغم مما تتمتّع به من حسبٍ ونسبٍ.

-الجواب الخامس: الحكمة من زواج رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-بِــــزينب-رضي الله عنها-:
كانت عادة التبني متغلغلة في نفوس الناس ومشاعرهم، وليس من السهل التغلب عليها وإلغاء الآثار المترتبة عليها، هذه العادة في صدر الإسلام في مكة وفي أول الهجرة إلى المدينة، ثم شاء الله تعالى فنزلت الآيات في نفي أن يكون الأدعياء أبناء لمن ادَّعاهم في الحقيقة، وإنما ذلك حسب دعوى المدعي فقط، وذلك لا يغير من الواقع شيئًا، فقال تعالى: ( مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) [الأحزاب: 4].
ثم أمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، فهذا من العدل والقسط والبر، فقال تعالى" ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا".
فلمّا كانت عادة التبني مستحكمة في نفوس الناس، وقد أخذت أبعادها مع مرور الزمن، كان زواج النبيّ-صلّى الله عليه وسلم-بالسيّدة زينب إلغاءً عمليًّا، وليس إلغاء ذهنيًّا فحسب.
إن الحكمة في زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من السيدة زينب حكمة واضحة وظاهرة، وقد بينها الله تعالى بقوله عز وجل: (لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب: 37].
وقد ذكر المبطلون من الكفار وفروخهم ومقلدوهم بما ينعقون به، ويردده الجهال متعلقين بروايات مكذوبة خلاصتها كما يفترون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هوي زينب بنت جحش بعد أن تزوجت بزيد بن حارثة، فلما علم زيد بذلك أراد طلاقها ليتزوجها النبيّ-صلى الله عليه وسلم- ، فهذا قول باطل، وقد نسف الإمام ابن العربي هذا القول من جذوره فقال: فأما قولكم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها أي رأى زينب بنت جحش فوقعت في قلبه، فباطل، فإنه كان صلى الله عليه وسلم معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها، ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج؟ حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة، وقد قال تعالى: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [طه:131].
والنّساء أفتن الزّهرات فيخالف هذا في المطلقات فكيف في المنكوحات؟، ثم إن قوله تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) [الأحزاب: 37]، يعني من نكاحك لها وهو الذي أبداه لا سواه أقول: فلو كان الذي أخفاه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-هو حبه لها لأبداه الله تعالى وأظهره فتيقنا أن الذي أخفاه رسول الله من أمر زينب هو نكاحه إياها وليس ما تخيله المبطلون من حبه لها .
-الجواب السّادس:
تأمر شريعة الإسلام السّمحة النّقيّة أنّه إذا أراد المسلمون غزو بلد وجب عليهم أولاً دعوة أهله إلى الدخول في الإسلام فإذا لم يسلموا يبقون على دينهم ويدفعون الجزية مقابل دفاع المسلمين عنهم ورد العدوان عن بلادهم وتمتعهم بجميع حرياتهم, وهي تقابل الزكاة المفروضة على المسلمين وتتبين لنا عظمة هذا الدين القويم في أن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال دون النساء والصبيان ولا تؤخذ من مسكين ولا من أعمى ولا من مقعد لا مال له ولا من راهب ولا من شيخ كبير لا يستطيع العمل ولا من المرضى الزمنى, وليس في أموال أهل ذمة المسلمين زكاة، وتتضح أيضًا عظمة هذا الدين في أن مقدارها يختلف من حالة لأخرى حسب يسر الدافع.
أمّا المرتدُّ عن دين الإسلام بعد أن كان فيه، فهذا حكمه فيه خلافٌ بين أهل العلم، هل يُقتل مباشرةً، أو بعد استتابته، أو لا يُقتل مطلقًا، والجمهور على وجوب قتله، وهو الرّاجح.
لقد شرع الإسلام عقوبة المرتد، لأنّ ردته عبثٌ في الدّين والمقدّسات، قال تعالى: ((وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) (البقرة:217)، واتفق الفقهاء على وجوب قتل المرتد-لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» [16]، وقوله-عليه الصّلاة والسلام-: «لا يحِلُّ دم امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاثٍ: الثّيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» [17].
أمّا تطبيق هذا الحكم فإنّه صالحٌ في كلّ زمان ومكان، إلى قيام السّاعة، غير أنّ هذا العصر الحاضر لا حدود شرعية فيه تطبّق، لأنّ هذا الأمر يرجع إلى ولاة الأمور، وليس لأيّ أحدٍ، كما لا يخفى.

-الجواب السّابع: ذكر الثّلج في القرآن الكريم:
لا أعلم فائدة تُرجى من طرح هذا السُّؤال، إلّا محاولة الاعتراض على القرآن وكلّ شيء واردٍ في الإسلام، هل ينتظر السّائل مثلًا أن يُجاب فيُقال له: لا ذكر للثّلج في القرآن، فيقول بدوره: إذن أنا كافر به، أم ماذا يصنع هؤلاء المجانين؟، وماذا ينتظر هؤلاء المخذولون من وراء هذه الشّبهات إلّا فساد قلوبهم، وطمس بصائرهم، أفلا يعقلون؟ .
ولكن رغم هذا فإنّ الذين رزقهم الله تعالى حلاوة العلم، وقوّة الإدراك والفهم، أجابوا على هذا السّؤال رغم أنوفهم، في تفسيرهم لكلام ربّ العالمين، فنقول والله المستعان:
قال ابن العربي-رحمه الله-:" قوله تعالى{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا}: ولم يَذكُر القُطْن ولا الكَتَّانَ، لأنَّهُ لم يَكُن فِي بلاد العرَب المخاطبِين به، وإِنَّمَا عَدَّدَ عليهم ما أنْعم به عليهِم، وخُوطِبوا فيما عرفوا بِمَا فهِموا ، وما قام مقام هذه وَناب منابَهَا يدخُل في الِاسْتِعمال والنِّعمةِ مَدخَلها، وهذَا كقوله{وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ}، فخاطبَهُم بِالبَرَدِ، لأنَّهم كانوا يعرِفُونَ نُزُولَهُ كَثِيرًا عِنْدَهُمْ ، وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّلج، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ، وَهُوَ مِثْلُهُ فِي الصِّفَةِ وَالْمَنْفعَة، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-معًا في التَّطهِير فقال{اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ ، وَنَقِّنِي مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا ، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ الدَّنِسُ بِالْمَاءِ}" اهـ.
قال ابن عطيّة:" وإذا جاء في الشَّتوات فإنما يتوقى بما هو أكثف من السّربال المتقدم الذكر، فتبقى السرابيل لتوقي الحر فقط، قاله الطبري عن عطاء الخراساني، الا ترى أن الله قد نبههم إلى العبرة في البرد ولم يذكر لهم الثلج لأنه ليس في بلادهم، قال ابن عبّاس: إن الثلج شيء أبيض ينزل من السماء ما رأيته قطّ" ، وقال الواحدِيّ: {وفي السّماء رزقكم}، أَي: الثَّلج والمطر الذي هو سبب الرِّزق والنَّبات من الأرض.
8-الجواب الثّامن:
اعلم-أرشدك الله لطاعته- أَنَّ فِي الْجَنَّةِ كُلَّ مَحْبُوبٍ وَمَطْلُوبٍ، بَلْ وَفِي الْحَقِيقَةِ مَا لَا تَشْعُرُ بِهِ النُّفُوسُ لِتَطْلُبَه، فَإِنَّ الطَّلَبَ وَالْحُبَّ وَالْإِرَادَةَ فَرْعٌ عَنْ الشُّعُورِ وَالْإِحْسَاسِ وَالتَّصَوُّرِ، فَمَا لَا يَتَصَوَّرُهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُحِسُّهُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَطْلُبَهُ وَيُحِبَّهُ وَيُرِيدَهُ، فَالْجَنَّةُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}، وَقَالَ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}، فَفِيهَا مَا يَشْتَهُونَ وَفِيهَا مَزِيدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُهُمْ لِيَشْتَهُوهُ، كَمَا قَالَ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: {مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ}، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.
فإنّ الله يقول{ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين }، ويقول في الحديث القدسي{ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خَطرَ على قلبِ بشرٍ }، وقال ابن عبّاس: ليس في الدُّنيا ممّا في الجنّة إلّا الأسماء؛ فإنّ الله قد أخبر أنّ في الجنّة خمرًا ولَبنًا وماءً وحريرًا وذهبًا وفضًّة، وغير ذلك، ونحن نعلم قطعًا أنّ تلك الحقيقة ليست مُماثلة لهذه، بل بينهما تباينٌ عظيمٌ مع التّشابه كما في قوله{ وأتوا به متشابها}، على أحد القولين أنّه يشبه ما في الدُّنيا وليس مثله، فأشبَهَ اسمُ تلك الحقائقِ أسماءَ هذه الحقائق، كما أشبهت الحقائِقُ الحقائِقَ من بعض الوجوه.
فبؤسًا وتعسًا للنّفوس الوضيعة الدّنيئة التي لا يهزُّها الشّوق إلى ذلك طربًا، ولا تتَّقِدُ نار إرادتها لذلك رغبًا، ولا تبعُدُ عَمَّا يَصُدُّ عن ذلك رَهبًا، فبصائرها كما قيل:
خَفَافيشُ أعْشَاهَا النَّهارُ بِضَوئِهِ وَلَائَمَها قِطْعٌ من اللّيل مُظلِمُ
تجول حول الحُشّ إذا جالت النّفوس العُلويّة حول العرش، وتندَسُّ في الأحجار إذا طارت النُّفُوس الزكيّة إلى أعلى الأوكار.
أمّا هذا العموم الذي يُفيدُه لفظ: "كلُّ"، في قول السّائل: كلُّ ما حَرُم في الدّنيا حلالٌ في الجنّة، فليس على عمومه، ولا يمكن القول به، وإلّا لزمكم أن تثبتوا أنّ بعض الخبيث الذي حرّمه الله في الدّنيا كاللّواط وإتيان الذكور من دون النّساء مثلًا -على عمومكم-جائزٌ، وهذا ظاهرٌ البطلان والفساد كما لا يخفى، لأنّ الجنّة لا تحوي إلّا الطّيبات، ولكنّ أكثر النّاس لا يعقلون.
9-الجواب التّاسع:
إنّ السّائل يطالب بتعدّد الأزواج للمرأة، ويرى هذا من النّعمة التي ينبغي أن يكرمها الله بها، وأنا لا أظنُّ أنّ السّائل يكون رجلًا من الرّجال الفحول، فلا يسأل هذا إلّا المخنّثين، والذّكور المؤنّثين، الذين لا غيرة لهم على الأعراض، أو من النّساء اللّواتي انسلخن من كلِّ فضيلة، واتّبعن كلَّ رذيلة، من اللّاتي يطالبن بالحرّية المزعومة، والحقوق الموهومة.
رغم هذا فاسمع لما أقول يا هذا: إنّ الله تعالى أكرم المرأة في الدّنيا قبل الآخرة، وإنّ الله تعالى أعدّ جنّةً، من دخلها لم يجد فيها حُزنًا ولا ألمًا، ولا مللًا ولا سأمًا، فهي سيّدة الحور العين، وأمة ربّ العالمين، فأمّا إن كانت ذات زوج صالح في الدّنيا، بقيت زوجه في الجنّة، ولا زوج لها غيره، لمنع التّعدّد إذ كان من الخبائث في حقّ المرأة المطهّرة، إذ ليس في الجنّة خبيثٌ.
أمّا إن كانت المرأة أيّمةً لا زوج لها في الدّنيا، سواء كانت عزباء، أو مطلّقةً أو أرملة لم تتزوج بعد ذلك، وماتت على ذلك، فإنّ اللّه تعالى يُخيّرها من الأزواج ما شاءت، حتّى تُزوّج بأحدهم لا كلّهم، كما لا يخفى.
أمّا إن تزوّجت مرّتين فأكثر، ودخلوا جميعًا الجنّة، فهي تخيّر بينهم كذلك، وقيل أنّها للآخِر منهم، والمهمّ في هذا أنّ الله تعالى لن يظلمها مثقال ذرّة، فتنبّه لهذا أرشدك الله لطاعته.
10-الجواب العاشر: نكاح المتعة:
إنّ السائل يزعم أنّ المتعة حرّمت ثلاث مرّات، كما ترجم له الإمام مسلم بن الحجّاج، ولكن انظر إلى ما قاله النّووي في شرحه على مسلم: "الصّواب المختار أنّ التّحريم والإباحة كانا مرّتين فكانت حلالا قبل خيبر ثم حُرِّمَت يوم خيبر، ثمّ أبيحت يوم فتح مكة، وهو يوم أوْطَاسٍ لاتِّصالهما، ثمّ حُرِّمَت يومئذ بعد ثلاثة أيّام تحريمًا مُؤبّدًا إلى يوم القيامة، واستمرّ التّحريم، قال القاضي: واتّفق العلماء على أنّ هذه المتعة كانت نكاحًا إلى أجل لا ميراث فيها، وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاقٍ، ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلّا الرّوافض" اهـ.
ومعلوم أنّ نكاح المتعة يُشبه السّفاح، كأنّه إجارة على الوطء والاستمتاع مدّة معينة، ولكن معنى الآية التي استدلّ بها هؤلاء، أنّكم إذا استمتعتم بهن فإنّ الأموال التي أعطيتموهن حق لهن، وأن المهر يثبت بالاستمتاع بالزوجة وإن لم يطأ، فالصواب في هذه المسألة أن نكاح المتعة محرم وباطل.
لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حرّمه وما حرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما حرمه الله تبارك وتعالى لقوله تعالى (وما آتاكم الرسول فخذوه) وقوله (وما نهاكم عنه فانتهوا) وقوله (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا).
أمّا كون عمر بن الخطّاب هو الذي حرّمه فهذا ظاهر الكذب والبهتان، كما زعمه هذا السّائل الذي يهرف بما لا يعرف.
11-الجواب الحادي عشر:
إنّ السائل هنا لا يكاد يفقه حديثًا، وتلعثم قلمه بعد لسانه، فلم يمكنه أن يُعْرِب عَمَّا في نفسه، فكيف لمن لا يستطيع أن يتكلّم بكلام مفيدٍ، أن يفهم لغة القرآن والسُّنّة، ثمّ يُورد عليها الشُّبهات من هنا وهنالك، إنّ هذا من العجب العُجاب الذي قد حارت منه الألباب.
إنّ الدِّين الصّحيح الذي كان سائدًا في الجاهليّة قبل مولد النبيّ-صلّى الله عليه وسلّم-ومبعثه، هو دين الحنيفيّة ملّة إبراهيم-عليه السّلام-وأصحابه المتمسّكون به آن ذاك يُسمّون بالحُنفاء، فتراهم لا يُشركون بالله شيئًا، ولا يأكلون الميتة والدّم، ولا يقربون الفواحش، ولا يطوفون بالبيت عرايا، إلى غير ذلك من الأمور الجاهليّة الجهلاء.
أمّا رجم أصحاب الفيل فكان أمرًا من عند الله ربّ العالمين، إذ كان البيت الحرام معظّمًا عند العرب في الجاهليّة، وكانوا يحجُّون إليه كلّ عام، فأراد ملك الحبشة أن يصرف حجّهم إليه، فبنى بيتًا عظيمًا وزخرفه بأنواع من الزّخارف، حتّى يجذب الأنظار إليه، فلمّا سمع به أحد الأعراب ذهب إلى هذا القصر فتغوّط فيه، حتّى يكون عارًا عليه فلا يلتفت إليه أحدٌ، فلمّا سمع به أبرهة الحبشي وكان عظيمَهم، أقبل بجيوشه إلى البيت الحرام حتّى يهدمه، فكان من أمرهم ما كان.
أمّا زعم السّائل أنّ البيت هُدم وحُرق في زمن يزيد، فما هو الدّليل على ذلك، وكتب التّاريخ بين أيدينا، فليقدّم لنا مرجعًا نعود إليه، ثمّ لما سمّى يزيد بالظّالم؟؟؟، أ لأنّ السّائل رافضيٌّ خبيثٌ يكره الزّيديّة وإمامهم، فانظر إلى تخبُّطِه وسَفَهِه-حَمَاك الله من كلّ دسِيسَةٍ وشرٍّ-.
12-الجواب الثّاني عشر:
-معنى" نصرت بالرّعب مسيرة شهر": أي أنّ عدوّه مرعوبٌ منه إذا كان بينه وبينه مسافة شهرٍ، والرُّعبُ أشدُّ شيء يفتِكُ بالعدوّ، لأنّ من حصل في قلبه الرُّعبُ لا يمكن أن يثبت أبداً، بل سَيطِيرُ طيرانَ الرِّيح، ولذا بوّب عليه الإمام البخاريّ: باب قول النبي-صلى الله عليه وسلّم- نُصِرتُ بالرُّعب مسيرة شهر، ثمّ ساق طرفًا من قصة هرقل مع أبي سفيان وفيه: أنّ هرقل أرسل إليه وهم بإيلياءَ، ثمّ دعا بكتاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فلمّا فرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصّخب، فارتفعت الأصوات، وأُخرجنا، فقلتُ لأصحابي حين أخرجنا: لقد أَمِرَ أمْرُ ابنُ أبي كبشة، إنّه يخافهُ ملكُ بني الأصفر!، يعني بذلك النبيّ-صلّى الله عليه وسلّم- فقد خاف هرقلُ وهو بالشّام، والنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-بالمدينة .
الرُّعْبُ: هُوَ الْوَجَلُ وَالْخَوْفُ لِتَوَقُّعِ نُزُولِ مَحْظُورٍ، وَالْخُصُوصِيَّةُ الَّتِي يَقْتَضِيهَا لَفْظُ الْحَدِيث: مُقَيَّدَةٌ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الزَّمَانِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ:
-أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَنْفِي وُجُودَ الرُّعْبِ مِنْ غَيْرِهِ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الْمَسَافَةِ.
-والثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لِغَيْرِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ الْفَضَائِلِ وَالْخَصَائِصِ، وَيُنَاسِبُهُ: أَنْ تُذْكَرَ الْغَايَةُ فِيهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ وُجِدَ لِغَيْرِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَافَةِ، لَحَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي الرُّعْبِ فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ، وَذَلِكَ يَنْفِي الْخُصُوصِيَّةَ بِهَا.
-معنى "أحلّت لي الغنائم": يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِه: جَوَازُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا كَيْفَ يَشَاء، وَيَقْسِمَهَا كَمَا أَرَادَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ: لَمْ يَحِلَّ مِنْهَا شَيْءٌ لِغَيْرِهِ وَأُمَّتِهِ.
وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا يُشْعِرُ ظَاهِرُهُ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْغَنَائِمِ بَعْضُهَا، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ" وَأُحِلَّ لَنَا الخُمْسُ"، (أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ فِي صَحِيحِه).
-معنى "جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي": عَن ابْن عُمَرَ عن النَّبِيِّ: جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي".
قال ابن بطّال: "ومعنى هذا كالأبواب التي قبله أن الرمح كان من آلات النّبيّ للحرب ومن آلات أصحابه، وأنّه من مُهمِّ السِّلاح وشريفِ القدْرِ؛ لقول الرّسول: «جُعل رزقي تحت ظل رمحي»، وهذه إشارة منه لتفضيله والحض على اتخاذه والاقتداء به في ذلك.
قال المهلَّب: وفيه أنّ الرّسول خُصَّ بإحلالِ الغنائم وأنّ رزقه منها بخلاف ما كانت الأنبياء قبله عليه، وخُصَّ بالنّصر على من خالفه، ونُصِر بالرُّعب وجُعلت كلمة الله هي العُليا، ومن اتّبعها هم الأعلون، وإنّما ثَقِفَ المخالفون لأمره إلّا بحَبلٍ من الله وهو العهد، باءُوا بغضبٍ من الله وضُربت عليهم الذِّلَّةُ والصَّغار، وهي الجزيةُ، والله الموفق" اهـ.

13-الجواب الثالث عشر:
إنّ الله تعالى أنزل هذا القرآن إلى بيت العزّة في السّماء الدُّنيا، جملةً واحدةً، ثمّ أوحاه إلى النبيّ-صلّى الله عليه وسلّم-بواسطة جبريل-عليه السّلام-مُنجّمًا ومُفرّقًا على حسب المقام والوقائع، فالله تعالى يتكلّم بما شاء، وأنّى شاء، وكيفما شاء، فهو سبحانه تكلّم ويتكلّم ولا يزال يتكلّمُ، كما يليق بجلاله وسلطانه، فنحن أهل السنّة نعتقد هذا في ذات ربّنا العظيم، ولا نخوض في التّأويل الباطل، والتّحريف المنكر المزوّر للحقائق.
كقوله{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:124]، فهذه الآية نصٌّ في أنّه لا نبيَّ بعده، وإذا كان لا نبيّ بعده فلا رسول -بعده-بطريق الأولى والأحرى، لأنّ مقام الرّسالة أخصُّ من مقام النُّبوّة، فإنّ كلَّ رسولٍ نبيٌّ، ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم- من حديث جماعة من الصّحابة.
والأحاديث في هذا كثيرة، فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمّدٍ-صلوات الله وسلامه عليه-إليهم، ثمّ من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدِّين الحنيف له، وقد أخبر تعالى في كتابه، ورسوله في السُّنّة المتواترة عنه: أنّه لا نبي بعده؛ ليعلموا أنّ كلّ مَنِ ادَّعَى هذا المقام بعده فهو كذّابٌ أفاكٌ، دجّالٌ ضالٌّ مضلٌّ، ولو تخرَّقَ وشَعْبَذَ، وأتى بأنواع السِّحر والطّلاسِم والنَيرجيَّات، فكلّها محالٌ وضلالٌ عند أولي الألباب، كما أجرى الله، سبحانه وتعالى، على يد الأسود العَنْسي باليمن، ومسيلمة الكذّاب باليمامة، من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة، ما علم كل ذي لب وفهم وحِجى أنهما كاذبان ضالّا-لعنهما الله-، وكذلك كلّ مُدَّعٍ لذلك إلى يوم القيامة حتّى يُختموا بالمسيح الدّجال، فكلّ واحد من هؤلاء الكذّابين يخلق الله معه من الأمور ما يشهد العلماء، والمؤمنون بكذب مَن جاء بها.
وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه، فإنّهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر، إلّا على سبيل الاتفاق، أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره، ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم، كما قال تعالى {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ * تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الآية. وهذا بخلاف الأنبياء-عليهم السّلام-فإنّهم في غاية البرّ والصِّدق، والرُّشد والاستقامة والعدل، فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه، مع ما يُؤيَّدون به من الخوارق للعادات، والأدلّة الواضحات، والبراهين الباهِرات، فصلوات الله وسلامه عليهم دائمًا مُستمرًّا ما دامت الأرضُ والسّموات.
أمّا هذه المدّة التي يزعمها السّائل فلم أجد لها دليلًا، وهو كعادته يزعم شيئًا ويطرح سؤالًا، ولا يذكر في ذلك إلّا تأويلًا، وما يضرّه إذ نزلت الآية بعد هذه المدّة، وما يضرّه إن خفيت عليه الحكمة وجهلها، ولكن الشّأن أن يعلم أنّ النبوّة خُتمت بخير البشر، ولا نبيّ بعده وهذا لا يكون إلّا لمن عقل وادّكر، فتأمّل-يرعاك الله-.
14-الجواب الرّابع عشر: الحكمة من تعدّد الزّوجات بعد خديجة:
لقد ذكرت آنفًا للسّائل في الجواب الرّابع ما يغني ههنا عن الإعادة، غير أنّه بإمكانه أيضًا إن أصغى سمعه من الاستفادة، وذلك أنّ السُّؤال لا ترجى منه فائدة، ولا تعلم له عائدة، إذ السّائل أطلق عنان بنانه في الكتابة، ولم يرع للمعاني ولا للمباني قوالبًا ولا خطابة، لا جَرَم أنّه لا يعرف لغة القوم، ولكنّ هذا لا يعذره من مغبّة اللّوم.
فيُقال في هذا: هل أنّ الرّجل إذا لم يرد الزّواج على امرأته حتّى توفّيت، أنّه يلام على هذا ويعاب عليه؟، كلّا بل الأمر له إن شاء عدّد في حياتها، وإن شاء عدّد بعد وفاتها، فالكلّ جائزٌ مباحٌ.
أمّا الحكمة التي لا يزال شغوفًا بها، مولعًا بذكرها والبحث عنها، فإنّه إن كانت هنالك حكمةٌ في هذا فإنّه لا يعلمها إلّا الله-سبحانه وتعالى-، وليس من شأن الرّجال الاعتراض على قضاء العليّ المتعال.

15-الجواب الخامس عشر:
فقوله "عينٌ حمئة": وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أَيْ رَأَى الشَّمْسَ فِي مَنْظَرِهِ تَغْرُبُ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنِ انْتَهَى إِلَى سَاحِلِهِ يَرَاهَا كَأَنَّهَا تَغْرُبُ فِيهِ وَهِيَ لَا تُفَارِقُ الْفَلَكَ الرَّابِعَ الَّذِي هِيَ مُثَبَّتَةٌ فِيهِ لَا تُفَارِقُهُ، وَالْحَمِئَةُ مُشْتَقَّةٌ عَلَى إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ مِنْ الْحَمْأَةِ وَهُوَ الطِّينُ، كَمَا قَال تعالى إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ، أَيْ طِينٍ أَمْلَسَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أنبأنا نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجَ يَقُولُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي عين حمئة ثم فسرها ذات حمئة، قَالَ نَافِعٌ: وَسُئِلَ عَنْهَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْقُرْآنِ مِنِّي، وَلَكِنِّي أَجِدُهَا فِي الْكِتَابِ تَغِيبُ فِي طِينَةٍ سَوْدَاءَ، وَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ مِصْدَعٍ، عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ حَمِئَةٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَجَدَهَا تَغْرُبَ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ، يَعْنِي حَارَّةً، وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ وَأَيَّهُمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبٌ، قُلْتُ: وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَعْنَيَيْهِمَا إِذْ قَدْ تَكُونُ حَارَّةً لِمُجَاوَرَتِهَا وَهْجِ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وحمئة فِي مَاءٍ وَطِينٍ أَسْوَدَ، كَمَا قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ حَدَّثَنِي مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الشَّمْسِ حِينَ غابت فقال: «في نَارِ اللَّهِ الْحَامِيَةِ لَوْلَا مَا يَزَعُهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَأَحْرَقَتْ مَا عَلَى الْأَرْضِ».
قال ابن كثير: وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَفِي صِحَّةِ رَفْعِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ وَلَعَلَّهُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ زَامِلَتَيْهِ اللَّتَيْنِ وَجَدَهُمَا يَوْمَ الْيَرْمُوكِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ أَنْبَأَنَا ابْنُ حَاضِرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَرَأَ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْكَهْف: «تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ»، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُعَاوِيَةَ مَا نَقْرَؤُهَا إِلَّا حَمِئَةٍ، فَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَيْفَ تَقْرَؤُهَا؟، فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ كَمَا قَرَأَتْهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ فِي بَيْتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبٍ فَقَالَ لَهُ أَيْنَ تَجِدُ الشَّمْسَ تَغْرُبُ فِي التَّوْرَاةِ؟، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ سَلْ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهَا، وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَجِدُ الشَّمْسَ تَغْرُبُ فِي التَّوْرَاةِ فِي مَاءٍ وَطِينٍ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَغْرِبِ قال ابن حاضر: لو أني عندك أَفَدْتُكَ بِكَلَامٍ تَزْدَادُ فِيهِ بَصِيرَةً فِي حَمِئَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِذًا مَا هُوَ؟ قُلْتُ: فِيمَا يُؤْثَرُ مِنْ قَوْلِ تُبَّعٍ فِيمَا ذَكَرَ بِهِ ذَا الْقَرْنَيْنِ فِي تَخَلُّقِهِ بِالْعِلْمِ وَاتِّبَاعِهِ إياه:
بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي أَسْبَابَ أَمْرٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدِ
فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا في عَيْن ذِي خُلُبٍ وَثَاطٍ حَرْمَدِ
فقال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا الْخُلُبُ؟ قُلْتُ: الطِّينُ بِكَلَامِهِمْ، قال: فما الثَّاطُ؟ قُلْتُ: الْحَمْأَةُ، قَالَ: فَمَا الْحَرْمَدُ؟ قُلْتُ: الْأَسْوَدُ، قَالَ: فَدَعَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَجُلًا أَوْ غُلَامًا فَقَالَ: اكْتُبْ مَا يَقُولُ هَذَا الرَّجُلُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بَيْنَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ فَقَرَأَ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قال: كَعْبٌ وَالَّذِي نَفْسُ كَعْبٍ بِيَدِهِ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَقْرَؤُهَا كَمَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ غَيْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّا نَجِدُهَا فِي التَّوْرَاةِ تَغْرُبُ فِي مَدَرَةٍ سَوْدَاءَ، وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ حَدَّثْنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قَالَ مَدِينَةٌ لَهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ بَابٍ لَوْلَا أَصْوَاتُ أَهْلِهَا لَسَمِعَ النَّاسُ وُجُوبَ الشَّمْسِ حِينَ تَجِبُ، وَقَوْلُهُ: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً أَيْ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ ذَكَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّةً عَظِيمَةً مِنْ بَنِي آدَمَ.
16-الجواب السادس عشر:
معنى قوله تعالى: "بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ"، أَي: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، أَنْزَلْنَاهُ بِلِسَانِكَ الْعَرَبِيِّ الْفَصِيحِ الْكَامِلِ الشَّامِلِ، لِيَكُونَ بَيِّنًا وَاضِحًا ظَاهِرًا، قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، مُقِيمًا لِلْحُجَّةِ دَلِيلًا إِلَى الْمَحَجَّةِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: عن إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-مَعَ
قَالَ «فَكَيْفَ تَرَوْنَ قَوَاعِدَهَا؟»، قَالُوا: مَا أَحْسَنَهَا وَأَشَدَّ تَمَكُّنَهَا، قَالَ «فَكَيْفَ تَرَوْنَ جَوْنَهَا؟»، قَالُوا: مَا أَحْسَنَهُ وَأَشَدَّ سَوَادَهُ، قَالَ «فَكَيْفَ تَرَوْنَ رَحَاهَا اسْتَدَارَتْ»، قَالُوا: مَا أَحْسَنَهَا وَأَشَدَّ اسْتِدَارَتَهَا. قال «فكيف تَرَوْنَ بَرْقَهَا: أَ وَمِيضٌ أَمْ خَفْوٌ أَمْ يَشُقُّ شَقًّا؟»، قَالُوا: بَلْ يَشَقُّ شَقًّا، قَالَ «الْحَيَاءَ الْحَيَاءَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي وَأُمِّي مَا أَفْصَحَكَ، مَا رَأَيْتُ الَّذِي هُوَ أَعْرَبُ مِنْكَ، فَقَالَ: "حُقَّ لِي وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِي وَاللَّهُ يَقُولُ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ".
لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ وَلَا لَبْسَ بَلْ هُوَ بَيَانٌ وَوُضُوحٌ وبرهان، وإنّما جعله الله تعالى كَذَلِكَ، وَأَنْزَلَهُ بِذَلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَيْ يَحْذَرُونَ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ.
لا يقربه شيطان من شياطين الإنس والجن، لا بسرقة، ولا بإدخال ما ليس منه به، ولا بزيادة ولا نقص، فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه ومعانيه، قد تكفل من أنزله بحفظه كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}،
اخبر تعالى عن فضله وكرمه، حيث أنزل كتابا عربيًا، على الرسول العربي، بلسان قومه، ليُبيّن لهم، وهذا مما يوجب لهم زيادة الاغتناء به، والتلقّي له والتّسليم، وأنّه لو جعله قرآنًا أعجميًا، بلغة غير العرب، لاعترض، المكذّبون وقالوا: {لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أي: هلا بينت آياته، ووضحت وفسرت.
{أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} أي: كيف يكون محمّدٌ عربيًا، والكتابُ أعجميٌّ؟، هذا لا يكون، فنفى الله تعالى كلّ أمرٍ يكون فيه شُبهة لأهل الباطل عن كتابه، ووصفه بكلّ وصفٍ يُوجِبُ لهم الانقياد، ولكن المؤمنون الموفقون انتفعوا به وارتفعوا، وغيرهم بالعكس من أحوالهم.
ولهذا قال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} أي: يهديهم لطريق الرشد والصراط المستقيم، ويعلمهم من العلوم النافعة، ما به تحصل الهداية التامة وشفاء لهم من الأسقام البدنية، والأسقام القلبية، لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال، ويحث على التوبة النصوح، التي تغسل الذنوب وتشفي القلب.
{وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} بالقرآن {فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ}، أي: صَمَمٌ عن استماعِه إعراضًا، {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى}، أي: لا يُبصرون به رُشدًا، ولا يهتدون به، ولا يزيدهم إلا ضلالًا، فإنّهم إذا ردُّوا الحقَّ، ازدادوا عَمًى إلى عَماهم، وغيًّا إلى غيَّهم.
{أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي: ينادون إلى الإيمان، ويدعون إليه، فلا يستجيبون، بمنزلة الذي ينادي، وهو في مكان بعيد، لا يسمع داعيًا ولا يجيب مناديًا. والمقصود: أن الذين لا يؤمنون بالقرآن، لا ينتفعون بهُدَاه، ولا يبصرون بنوره، ولا يستفيدون منه خيرًا، لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى، بإعراضهم وكفرهم.

ثمّ إنّ السّائل يتعجّب لم لا يفهم كلام ربّ العالمين ببساطة، وهو لا يعلم أنّ القوم الذين أنزل عليهم القرآن كانوا يفهمونه ويعقلونه، لأنّهم كانوا من أهل هذه اللغة وأصحابها، رغم أنّه قد تخفى على بعضهم بعض الكلمات والمعاني، كون الكلمة نزلت بغير لغة قريش ولهجتهم، ولكن مع بقاء نزوله في الجملة باللّسان العربيّ الفصيح.
ونحن من الأعاجم ولسنا من العرب في شيء، ولهذا يعسر علينا فهم غريب القرآن، ولهذا منّ الله علينا بمن قام بتفسيره لنا بيُسرٍ وسُهولة، حتّى يتسنّى لكلّ من يستطيع الهجاء الفهم لكلام الله تعالى.
أمّا اختلاف المفسّرين من أهل السُّنّة والجماعة أحيانًا في تفسير المعاني، فهذا لا يضرّك بشيء ما دام العلماء المحقّقون والذين هم أهلٌ للنّظر في الذّكر الحكيم، يستخرجون الزُّبدة من أقاويلهم، والرّاجح من اختلافاتهم، والأمر مبنيٌّ على الاجتهاد المبني على الأدلّة القويّة الظّاهرة.
ولكن ليعلم السّائل أنّ طالب علم التّفسير، لابدّ عليه أن يتدرّج في هذا العلم الجليل، فطعام الكبار سمٌّ للصّغار، فيبدأ المبتدأ بتفسير السّعدي، أو أيسر التّفاسير للجزائري، ثمّ يرتقي إلى من هو أعلى منه درجة كتفسير ابن كثير، ثمّ الطّبري، ثمّ القرطبي، وهكذا دواليك.
17-الجواب السّابع عشر: الإسراء والمعراج:
وقد استشكل فريق من الماديين، ومن يأخذون أخذهم من المسلمين أمر المعراج فأنكروه، ووجَّهُوا إليه ما يأتي من الشّبهات التي في الحقيقة شبهات من ينكر القادر المختار-سبحانه وتعالى-فهي شبهات على جميع الأديان، وعلى المعجزات عامّة، وهي شبهاتٌ ماديّةٌ إلحاديةٌ صِرفةٌ.
-أمّا قولهم: لماذا لم تذكر سورة الإسراء المعراج مع الإسراء، وهما في ليلة واحدة، فنقول: إنّ العلماء قد اختلفوا هل كان المعراج والإسراء في ليلة أم ليلتين؟، واحتجت كل طائفة بروايات، فقد جاء في الرّوايات الصّحيحة ما قد يدلّ على أنهما كانا في ليلة واحدة، وجاء فيها ما قد يدل على أنهما كانا في ليلتين، وعلى الرأي الأخير يسقط هذا السؤال جملة، وعلى الأول نقول: إن لله تعالى حكمة بالغة في ذكر الإسراء في السورة دون المعراج، وذلك أن الله علم أن المشركين والمخالفين سوف ينكرون ذلك كله إذا ما حدثهم به رسول الله عليه السلام، وسوف يهزؤون برسول الله من أجله، وقد حدث هذا.
أمّا الإسراء فانه يقدر أن يصدق قوله إذا كذبوه بأن يذكر لهم بيت المقدس، وصفة المسجد الأقصى، فينتصر عليهم، وتكون له الحجة وهذا قد كان.
وأمّا المعراج فبماذا يكذبهم إذا كذبوه، وبماذا يصدق قوله ؟! فلو نعت لهم السماء وما رأى فيها لما كان في ذلك مقتنع لهم، ولا حجة عليهم لأنهم لا يعرفون ما هنالك. فكان من الحكمة البالغة أن يذكر في سورة الإسراء التي تتلى على المشركين المعاندين الإسراء دون المعراج، حكمة منه بالغة.
على أن الإسراء إلى بيت المقدس إنما كان مقدمة للمعراج، وطريقاً إليه، على القول بأنهما كانا في ليلة واحدة. قد يكون حينئذٍ من الجائز المناسب المعهود أن يذكر الإسراء دون المعراج، لأنه إذا ذكر الإسراء علم أنه يعني به ما بعده. ومن أجل ذلك يذكر كثير من المؤلفين المعراج في باب الإسراء. والقرآن يقول (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا) وهذه الآيات فيما يبدو، ولمن فكّر جيداً هي الآيات التي رآها في المعراج، فأشار إلى المعراج بما وقع فيه من الآيات والعجائب، وليس بلازم ذكره نصّاً، ثم إن المعراج قد ذكر في سورة النجم كما تقدم، فذكر الإسراء في سورة، وذكر المعراج في سورة أخرى، وما في هذا شيء من الغرابة.
وأمّا قولهم: إنّ الأحاديث متخالفة، فنقول: إن الاختلاف لم يقع في أصل المعراج، فإن الروايات كلها مجتمعة على وقوع المعراج، وإنما كان بعض الاختلاف في بعض صفاته وهيئاته، كما ذكرنا، وقد قدمنا في أحاديث انشقاق القمر وأحاديث الدجال أنّ كل أمر عظيم ذي بال لا بد أن يقع في صفته وهيئته وشكله اختلاف، وأنه على قدر عظمه يكون الاختلاف في ذلك، ولكن ذلك الاختلاف لا يقدح في وجود ذلك الأمر الذي اختلف في صفاته يقيناً، وقدمنا هنالك أن الاختلاف قد وقع في صفات الرسول، والملائكة، والجنة، والنار، وفي الحساب والعقاب، وفي أعمال الرسول عليه السلام، وفي سائر عظماء التاريخ، ولم يدل هذا على أن هؤلاء لم يوجدوا عند أحد من خلق الله، فكذلك أحاديث المعراج لا يدلُّ الاختلاف في بعض صفات المعراج على أن المعراج لم يقع وهذا ضروري.
ونحن هنا لا نتعرض للتوفيق بين الروايات نفسها، فإن ذلك ليس مما قصدنا له في هذا الباب، على أن من حاول أن يجمع بين الروايات كلها في المسائل الكبيرة كالمعراج، والدجال، وأحوال الساعة فقد حاول محالا في رأينا، إذ لابدّ أن يكثر الدخيل في ذلك لكثرة التحديث به، وكثرة روايته ولاشتهاره والعناية به.
وأمّا قولهم: إنه وقع في أخبار المعراج أشياء لا يمكن أن تكون صحيحة، فلا يمكن أن تكون الأخبار إذاً صحيحة، فنقول: هذه الأشياء المذكورة إما أن تكون محالة الحصول، كانت أخبارها هي الكذب فقط دون أخبار المعراج، ولا مانع أن يقع في الحادثة الواحدة صدق وكذب، ومحال وجائز، فيكذب الكذب والمحال، ويصدق الصدق والجائز، وذلك كالأخبار عن حاتم الطائي بالكرم، وعن عنترة بالشجاعة وعن قيس بن الملوح بالعشق، فإن الأخبار عنهم بما اشتهروا به جمعت صدقاً وكذباً ومحالًا وجائزاً، ولكن كذبها لا يقضي بأن يكون صدقها كذباً، وصدقها لا يقضي بأن يكون كذبها صدقاً، فالأخبار عن حاتم بالجود متواترة، ولكن دخلها مبالغات لا يقبلها العقل، ولكن يصدق مطلق الجود له، وكذلك الأخبار عن عنترة بن شداد بأنه شجاع متواترة، ولكن دخلها مبالغات لا يصدّقها العقل، ولكن يصدق مطلق الشجاعة له، وكذلك الأخبار عن قيس بن الملوح متواترة بأنه كان عاشقًا، ولكن دخلها مبالغات لا يصدقها العقل، ولكن يصدق مطلق العشق له، وكذلك حصل في أخبار جميع الرجال المشهورين، وفي الأحداث الكبيرة، فوقع فيها مبالغات لا تصدق، وقد وقع ذلك في معجزات الأنبياء وكرامات أتباعهم، وفي أخبار الجنة والنار وما بعد الموت، وهذا لا يقدح في الحقّ منه، ومثله أخبار المعراج إذا افترضنا أنه وقع فيها ما لا يكون وجب ردُّه هو دون أصل المعراج، وهذا واضح.
هذا على الفرض الأول، وأمّا إن افترضنا أن الأشياء المذكورة غير محال حصولها بطلت الشبهة رأسًا، فهذه الشُّبهة لا تقدح في المعراج على جميع الافتراضات.
على أن هذه الأمور المنكرة عندهم قد وقعت في أخبار الإسراء، فهل يكذبون الإسراء لذلك، والإسراء مذكور في القرآن ؟! على أننا نجاوب عن الأمور المذكورة واحداً فواحداً، لا لأن إشكالها يقدح في المعراج، بل لأنها هي في نفسها مشكلة عند هؤلاء.
-أمّا رؤيته الأنبياء: في بيت المقدس، ثم رؤيته لهم بعد ذلك في السّماء، ففي هذا تفاسير كلها صحيحة أوّلها: أن يكون الذي رأى هي الأرواح، رآها في بيت المقدس، ثم عرج بها إلى السّموات فرآها هنالك.
ثانياً: أن يكون الله خلق له عليه السلام أشخاصهم، فرآهم في السماء وفي الأرض لحكمة بالغة.
ثالثها ـ أن يكونوا مثلوا له تمثيلا، فرآهم وخاطبهم وخاطبوه.
هذه التفاسير ثلاثة، وكلها لها نظائر في فعل الله وفي علوم هذا العصر أيضاً، وليس المعنى في هذا أن تكون الذات الواحدة في مكانين في وقت واحد.
-وأمّا قولهم: كيف يصلّون والميت ينقطع عمله كما قال عليه السّلام: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله " الحديث، يقال عليه: إن سنة الله المطردة الغالبة أن الإنسان إذا مات انقطع عمله كما في الحديث المذكور ولكن الله قد يخلق خوارق: إما معجزات لرسله، أو كرامات لأوليائه، كما ذلك للأنبياء وللأولياء في مواضع معلومة، ولكن ذلك لا يتخذ سنة عامة وأمراً مطرداً شأن المعجزات والكرامات والخوارق، فالحديث الذي يخبرنا بانقطاع الأعمال يخبرنا عن السنة العامة في الأموات. وصلاة الأنبياء ليلة الإسراء والمعراج هي من قسم الخوارق. والخوارق يؤمن بها المؤمنون والكافرون، إلّا أنّ الكافرين يسمون ذلك فلتات الطبيعة، كما يجعلون ما في الكون من حكمة ونظام من ناموس الطبيعة، وقد كانت ليلة الإسراء والمعراج كلها خوارق وعجائب، وليس ما حصل فيها طبق السنة العامة المطردة، ولا ريب في هذا.
وقد صح في الأحاديث المتكاثرة أن بعض الأحجار والأشجار والجماد والحيوان كان يخاطب رسول الله وكان يعقل عنه، وليس معنى هذا أن هذا سنة الأشياء، وإنما ذلك كله خوارق للناموس العام الشائع، فليراع هذا هؤلاء الذين يجعلون صلاة الأنبياء في ليلة المعراج دليلا على أن الأنبياء أحياء حياة مادية كحياتهم قبل أن يموتوا، بل قد يقولون: إنّ حياة الأنبياء وتصرفهم في موتهم أكمل من ذلك في حال الحياة، وهذا غلط شائع، وإلا فما معنى الموت حينئذٍ ؟!، إنه لا موت على رأيه، وهذا خلاف الدين والضرورة والإجماع.
وأمّا إنه رأى النيل والفرات في السماء وهما نهران في الأرض، فقد سلف الكلام على ذلك في بحث خاص.
وأمّا إنه رأى نسمات الكفار في السّماء والله يقول: (لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة) فيقال: إن الآية في جانب والحديث في جانب آخر، فالآية تعني أن الكفار لا يدخلون الجنة وقوله بعد ذلك (ولا يدخلون الجنة) كالتفسير لذلك، والحديث دلّ على أن أرواح الكفار قد يعرج بها إلى السماء حيناً لحكمة، كما فعل في المعراج على أنه مثلت له أرواحهم تمثيلا، فرأى مثلها لا أعيانها.
وأيضاً الآية تعني أن الكفار في الشأن الغالب لا يعرجون إلى السماء شأن المؤمنين، فأن المؤمنين يعرج بهم حين الموت إلى السماء وأما الكفار فيذهب بأرواحهم إذا ماتوا في أسفل سافلين، هذا هو ما تعنيه الآية، ولا تنفي أن يذهب بأرواحهم يوماً لحكمة إلى السماء على أن مثل هذه العبارة قد تعبر عن الرحمة والقبول، كما يعبر عكسها على عكس هذا المعنى.
فيقال مثلا: هذا دعاء تفتح له أبواب السماء، وهذا عمل تغلق دونه أبواب السماء، ويراد بالأول أنه دعاء مرضي مقبول، وبالثاني أنه عمل غير صالح، فهو مردود، فكذلك قول الله (لا تفتح لهم أبواب السماء) يريد أنهم بعداء مغضوب عليهم وقد يقول العربي صاحب اللسان " لا تفتح لفلان أبواب الملوك ". ولا يعني بقوله هذا أنه لا يدخل على الملوك أبداً، وإنما يعني أنه ليس بصاحب جاه ولا مقام عند الملوك، ولا ممن تعظهم الملوك، كما يدلّ عكس العبارة على عكس المعنى، ثمّ إن الآية تريد أنهم بأجسامهم لا يدخلون في ملكوت السماء، وفي حديث المعراج رأى أرواحهم فقط.
-وأمّا قولهم: وهل الأرواح ترى؟، فيقال في الأرواح مذهبان:
-الأول: وهو القول الصحيح، لا ريب أن الجواهر ترى، وأنها من مدركات الأبصار
-الثّاني: لا ريب أنّ الأعراض والمعاني ترى إذا مثلت أجساماً، وقد كانت الملائكة يتمثلون، وكذلك الجن، ومُستحضر الأرواح الآن من الفرنج وغيرهم يدّعي أنه يرى الأرواح، وأنها تخرج لهم بصور أناس محسوسين فيحسونها، وهذا يوافق آراء طوائف من علماء الإسلام سلفوا، وعلى كلّ حال ليس هذا خارجاً عن متناول القدرة الإلهيّة.
-وأمّا قولهم: إن الملائكة شقُّوا صدره-عليه السلام-فنقول: هذا حق لا شيء فيه، والجراحون الآن من الأطباء يعلمون عمليات في الجراحة هي أعظم من هذا.
وأمّا قولهم: إن الهواء يفقد بعد أميال فوق الأرض، فلا يمكن أن يعيش أحد فوق منقطع الهواء. فنقول: نحن لا نريد أن نجادل هؤلاء كما يجادلهم فريق من المؤمنين بتلك الطريقة التي لا يرضى المنطق بها، وهي أن نجتهد بأن نقيم لهم الدلائل، على أنّ ذلك الأمر جارٍ على ناموس الطبيعة المطردة، وأنه مألوف في الخلق معروف وليس غريباً في بابه.
فإنّنا إذا ما فعلنا ذلك أخرجنا ذلك الأمر عن أن يموت معجزاً، وأن يكون من خصائص النُّبُوة، وهذا صنع من لا يقر بالإله القادر الفعّال، وصُنع من ينكر الرّسالة والمعجزات والخوارق، وهذا هو أصلُ الدِّين وعِماده.
وإنما الطريقة التي نرضى بها والمنطق في إثبات هذه الحقائق، أن نقول لمن يخاطبنا في ذلك: إمّا أن تكون مؤمناً بالله وبالرسالة والرّسل، أو تكون منكراً ذلك، غير معترف بشيء منه، فإن كنت الأوّل لم يكن علينا إلّا أن نبيِّن لك أنّ هذا الأمر قد جاء بسندٍ صحيحٍ عن صاحب الرّسالة، وهذا الأمر كافٍ بالإثبات لأنّ الأمر جائز، وإنّما يتوقّف إثباته على ثبوت سنده، وإن كنت الآخر قلنا لك: أنّت إلى إقامة الدّلائل على الإله والرّسول، أحوج منك إلى إثبات المعراج ونحوه من جزئيات الدِّين. هكذا يكون أسلوب الجدل والردّ على المنكر، وليس من الأسلوب الصحيح، والطريقة المرضية في البحث أن نجيء من ينكر الله، وينكر أنبياءه وكتبه، ونتعب أنفسنا في سبيل أن نقنعهم بأن المعراج ونحوه ليس خارجاً عن ناموس الطبيعة، ولا مما يختص به صاحب الرسالة، ولا مما يدل على العناية والإصطفاء.
فإننا في مثل هذا لا نصل إلى النتيجة التي نحاول الوصول إليها، وهي أن تثبت أن محمداً رسول الله، بل نحن نسعى في صد الناس عن الإيمان بذلك، لأننا إذا أقنعنا ذلك المخالف بأن المعراج ليس مما يخص رسول الله بل يكون ذلك له ولغيره على حسب نواميس في الطبيعة نزعنا الإعجاز من ذلك. وهل يكون الرسول رسولاً إلا بالمعجزات ؟!.
وأما قولهم: إنّ السّموات ليست لها أبواب، فهو قول مجرد، ودعوى لا سند عليها، ومن أين علموا أن السّموات ليست لها أبواب ولا مفاتيح، (وما يعلم جنود ربك إلا هو (ويخلق ما لا تعلمون). وفي القرآن (لا تفتح لهم أبواب السماء) وما ادعى أحد من علماء الشرق ولا الغرب أنه أحاط بكل شيء خلقه الله علماً، وهؤلاء إذا كانوا يطلبون منا أن نترك نصوص الدين بلا دليل، فكيف نقبل قولهم بلا دليل ؟، على أنّه لو صحّ ما قالوا لما كان هذا مخالفاً له، فان قوله فتحت أبواب السماء، وأمثال هذا القول، ليس صريحاً بإثبات ما نفوه فإنه يقال: اللهم افتح لنا أبواب رحمتك، اللهم أفتح لنا أبواب فضلك، ولا يراد بأمثال ذلك الأبواب حقيقة ولا الفتح حقيقة.
أمّا قولهم: إنّ السّموات لا تقبل الخرق والالتئام، فهو وهم مجرد ما لهم عليه من سلطان. على أنه لم يكن في أخبار المعراج خرق ولا التئام، وإنما فيها فتح، وقد قدمنا الكلام في الفتح.
وأمّا قولهم: إنّ الأخبار تدلّ على أنّ السّموات سبع، وأنها غير الأفلاك المعروفة لأهل النجوم والفلك فيقال: عدد السّموات مذكور في القرآن الكريم، وفي الأحاديث المتواترة. ليس ذلك من فرائد حديث المعراج. ولا شك في وجود سمواتٍ سبع عند أحد من العلماء والخلاف إنما وقع في تعيين هذه السّموات، لا في وجودها.
وأحاديث المعراج لم تعيينه، فإن كان ما يعتقده الجمهور في السّموات السبع باطلا، لم يكن غيره باطلاً وما قال عالم إنه علم كل شيء في الوجود، والعلماء الآن متفقون على أن الفضاء لا نهاية له، ولا حد له، وإذا كان ذلك كذلك فالمخلوقات في هذا الفضاء، الذي لا يحد لا يقدر أحد على إدراكها ورؤيتها كلّها، فإن التلسكوبات يرى بها إلى حد محدود، ثم ينتهي الإدراك بها، فمن أنكر السموات السبع على مقتضى الأحاديث لأن التلسكوب لم يرها فقد جعل هذه المقدمات، وجهل ما عرف، وأنكر ما اعترف به، أي إنّنا نقول: إنّ السّموات السّبع هي غير النّجوم التي رآها النّاس اليوم ، والتي عرفها الفلكيون إلى اليوم، وهي سموات طباق سبع، بعيدة جداً في الفضاء الذي لا نهاية له، ولا حد له باعتراف جميع الفلاسفة الحاضرين والماضين، فالإنسان إلى الآن لم ير هذه السّموات ببصره المجرد، ولا بآلاته المقرِّبة المعظِّمة، وليس له أن ينكر ما لم يره لأنه لم يره، وقد اعترف أنّ الفضاء لا نهاية له.
-وأما قولهم: كيف يقطع هذه المسافات في ليلة واحدة، فنقول: هذا راجع إلى قدرة الله، وإلى الإيمان به فالذي ينكر المعراج لذلك يكون منكراً الله ومنكراً قدرته، وهذا أحسن طريقة في إقناعه أن يقام له على الإله القادر الذي يفعل ما يشاء، فإذا عرف الله وقدرته سهل عليه الجواب عن هذا، وسهل عليه معرفته، أمّا أن نذهب لنقيم له الدليل على إمكان أن يقطع المسافات الطويلة في ليلة واحدة وهو ينكر الله، وينكر قدرته فمما لا يجوز المنطق الذهاب إليه، وما يكون المعراج والإيمان به في جانب الله والإيمان به !! وأما إذا كان المعارض بهذه الحجة مؤمناً بالله، وبأنه خالق السّموات والأرض والوجود كله، وخالق المسافات والأبعاد والقوى فلن يصعب عليه الإيمان بأن يعرج برسوله إلى أبعد ما يريد، ويرجعه في ليلة واحدة بلا عجز ولا تعب، وليس عروجه برسوله في ليلة واحدة بأشق على قدرة الله وأغرب فيها من خلقة الإنسان وما أودع فيه، وليس أعجب من خلقه لعينه الباصرة التي يرى بها على حقارتها هذه المرئيات من الأجرام السّماوية، وبيننا وبينها مئات الملايين من الأميال في أقل من ثانية. وليس أعجب من أ خلق لنا من هذه النطفة البيضاء السائلة ومن الخبز الذي نأكله، هذه العقول الجبارة، والعلوم التي لا تنتهي، والحواس العجيبة، ولكن الشيء إذا كثرت رؤيته نزعت منه العبرة .
والله أكبر من رَقَى فوق الطِّبَا قِ رسولُه فدَنَا منَ الدَّيَّانِ
وإليه قد صعد الرّسول حقيقةً لا تُنكروا المعراجَ بالبُهتانِ
ودنا من الجبّار جلّ جلاله ودنا إليه الرب ذو الإحسانِ
والله قد أحصى الذي قد قلتمُ في ذلك المعراج بالميزانِ
قلتم خيالًا أو أكاذيبًا أو الـ مِعْراج لم يحصل إلى الرحمنِ
إذ كان ما فوق السموات العُلى ربّ إليه مُنتهى الإنسانِ

إذن فالإسراء كان قبل المعراج ولكن حصل ذلك في ليلة واحدة، وأنّ النبيّ –عليه الصّلاة والسّلام-كان راكبًا على دابّة عظيمة، تسمّى البراق، وكانت عظيمة السّرعة، انتقالها يكون مدّ بصرها في كلّ خطوة تخطوها، وهذا كان في الاسراء، أمّا المعراج فجبريل-عليه السّلام-هو الذي عرج به إلى السّماء، كما في الحديث.
أمّا الدّليل القاطع في القرآن فضلًا عن سورة النّجم، أو سورة الإسراء،
ونحن نقول كما قال الصّدّيق الأكبر أبو بكر الصّدّيق، لمّا قالت له قريش إنّ صاحبك هذا يزعم ما يزعم من الإسراء والمعراج، فقال-رضي الله عنه وأرضاه-: إن قاله فقد صدق"، ثمّ ما زال يُصدّقه في كلّ ما قال، حتّى لُقّب بالصّدّيق لذلك.

18-الجواب الثّامن عشر: معجزات الرّسول-صلّى الله عليه وسلّم-:
-أمّا سؤاله عن ماهية معجزات النبيّ-صلّى الله عليه وسلّم-، فهي أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تُحصر، ولكن فلتعلم أنّ له معجزات في عصمته-صلّى الله عليه وسلّم-، وأفعاله، وأقواله، وفيما أكرمه الله تعالى به من إجابة دعوته-صلّى الله عليه وسلّم-، وفي إنذاره بما يُستحدث بعده، وفي معجزه بما ظهر من البهائم، وفي ظهور المعجز من الشّجر والجماد، وفي بشائر الأنبياء-عليهم الصّلاة والسّلام-بنبوّته صلى الله عليه وسلم، وفي هتوف الجن بنبوته، وفيما هجست النفوس من إلهام العقول بنبوّته، وفي مبادئ نسبه وطهارة مولده، وفي آيات مولده وظهوره بركته، وفي شرف أخلاقه وكمال فضائله-صلوات ربّي وسلامه عليه-.
-أمّا قوله: لماذا لم تذكر بالتّفصيل في القرآن"، كما ذكرت معجزات من قبله من الأنبياء، فالجواب على هذا هو كالآتي:
لو علم السّائل أنّ أعظم معجزة هو القرآن ذاتُه، في بلاغته وحسن تركيبه، وسلاسة تلاوته، وتأثيره في القلوب، وأنّه كلام ربّ العزّة والجلال، لم يكن لِيَسأل مثل هذا السّؤال الأخرق، الذي لا يُرجى منه فائدة ولا كبير عائدة، ثمّ إنّ اللّه تعالى لمّا أخبرنا بمعجزات الأنبياء لم يذكر أنّها كلّ ما أوتُوا من الدّلائل والأعلام، وإنّما أعلمنا بما شاء منها، وبما يحصل الاتّعاظ والذّكرى لمن آمن من النّاس، ولو شاء أن يعلمنا بها كلّها لفعل سبحانه، ولكن لمّا لم يرد ذلك، ليس لنا أن نسأل لم عدم الفعل، لأنّ سؤال مثل هذا هو ردٌّ لحكم الكتاب، ومن ردّ حكم الكتاب كان من الكافرين.
-إنّ وظيفة النبيّ كانت متجلّيةً وظاهرةً في قول الله {شَاهِدًا} لأمتك بما فعلوه من خير وشر، وشاهدًا على المقالات والمسائل، حقِّها وباطِلها، وشاهدًا لله تعالى بالوحدانِيّة والاِنفراد بالكمال من كلِّ وجهٍ.
وَمُبَشِّرًا من أطاعك وأطاع الله بالثّواب الدُّنيوي والدِّيني والأُخرَوِي.
ومُنذرًا من عصى الله بالعقاب العاجل والآجل، ومن تمام البشارة والنّذارة، بيانُ الأعمال والأخلاق التي يبشر بها وينذر، فهو المبيِّنُ للخير والشَّر، والسَّعادة والشَّقاوة، والحقِّ من الباطل.
أي شاهِدًا لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَعَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}، وكَقَوْلِهِ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
أي بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَنَذِيرًا لِلْكَافِرِينَ مِنْ وَبِيلِ الْعِقَابِ، دَاعِيًا لِلْخَلْقِ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ عَنْ أَمْرِهِ لَكَ بِذَلِكَ، وأمرُك ظَاهِرٌ فِيمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، كَالشَّمْسِ فِي إِشْرَاقِهَا وَإِضَاءَتِهَا، لَا يَجْحَدُهَا إِلَّا مُعَانِدٌ، وَسِراجًا أَيْ هَادِيًا مِنْ ظُلْمِ الضَّلَالَةِ، وأنت كالمصباح المضي، ووَصَفَهُ بِالْإِنَارَةِ لِأَنَّ مِنَ السُّرُجِ مَا لَا يُضيء، إِذَا قَلَّ سَلِيطُهُ وَدَقَّتْ فَتِيلَتُهُ.

-أمّا قول السّائل عن المعجزة التي حصلت أمام أعين الملأ ومرآهم، فهي كثيرة منها انشقاق القمر، الذي جحدوه وادّعوا أنّه سحرٌ مستمرٌّ، قال ابن عباس: "اجتمع المشركون إلى رسول الله-صلّى الله عليه وسلم-، وقالوا: إن كنت صادقًا فاشقُقْ لنا القمر فِرقتين، نصفٌ على أبي قَبيسٍ ونصفٌ على قُعَيقِعَان، فقال لهم رسول الله-صلّى الله عليه وسلّم-: إن فعلتُ تؤمنون، قالوا: نعم؟، وكانت ليلةَ بدرٍ، فسَألَ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ربَّهُ أن يعطيهُ ما قالوا، فانشقَّ القمرُ فِرقتين، ورسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يُنادي المشركين: يا فلان يا فلان اشهدوا".
طالب المشركون بتحقيق معجزات ماديّة، على سبيل المكابرة والعناد، على الرّغم ممّا رأوا من الآيات والمعجزات الباهرة، الدّالة على صدق نُبوّة الرّسول محمد بن عبد الله-صلّى الله عليه وسلّم-، ومع الإخبار بأنباء إهلاك الأمم المكذّبة رُسلَها، ليعتبروا ويتَّعِظوا، ومع تحذِيرهم ممّا يتعرّضون له في الآخرة من عذابٍ شديدٍ، ونشرٍ من القبور، ذليلين مُهانين، مُسرعين إلى الدّاعي إسرافيل إلى شيء رهيبٍ، وهو موقف الحساب، وهذا ما أطلعتنا عليه أوائل سورة القمر.
ومِنْ عَادَةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَنْتَهِزَ الْفُرْصَةَ لإعادة الموعظة والتّذكير حِينَ يَتَضَاءَلُ تَعَلُّقُ النُّفُوسِ بِالدُّنْيَا، وَتُفَكِّرُ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُعِيرُ آذَانَهَا لِدَاعِي الْهُدَى، فَتَتَهَيَّأُ لِقَبُولِ الْحَقِّ فِي مَظَانِّ ذَلِكَ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي اسْتِعْدَادِهَا وَكَمْ كَانَ مِثْلُ هَذَا الِانْتِهَازِ سَبَبًا فِي إِيمَانِ قُلُوبٍ قَاسِيَةٍ، فَإِذَا أَظْهَرَ اللَّهُ الْآيَاتِ على يَد رَسُوله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِتَأْيِيدِ صِدْقِهِ شَفَعَ ذَلِكَ بِإِعَادَةِ التَّذْكِيرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً".
وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ شَاهِدَةً عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِظُهُورِ آيَةٍ كُبْرَى وَمُعْجِزَةٍ مِنْ مُعْجِزَاتِ النَّبِيءِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهِيَ مُعْجِزَةُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ.
فَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ»
و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ». زَادَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ «فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ فِرْقَتَيْنِ، فَنَزَلَتِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إِلَى قَوْلِهِ: "سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ".
فجعلت تلك المعجزة وسيلة للتذكير باقتراب السّاعة على طريقة الإدماج بمناسبة أنّ القمر كائنٌ من الكائنات السّماويّة، ذات النّظام المسايِر لِنظام الجوّ الأرضي، فلمّا حدث تغيُّرٌ في نظامه لم يكن مألوفًا، ناسَبَ تنبيه النّاس للاعتبار بإمكان اضمحلال هذا العالم، وكان فعل الماضي مستعملًا في حقيقته.

خاتمة:
وبهذا يكون قد تمّ الجواب الصَّدوق على أسئلة أهالي دائرة صدُّوق، واللهَ أسألُ التّوفيق، ومنعَهُ التَّعويق، إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه، والله أعلم، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
والحمد لله ربّ العالمين


التعديل الأخير تم بواسطة يوسف عمر ; 20 Jun 2018 الساعة 08:23 AM
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
منهج, مميز, مسائل

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013