4 ـ قال الكاتب: (( سَمَّيتُم المصحف الشريف الذي أمر بطبعِه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد ـ جزاه الله خيراً ـ بـ (مصحف المدينة النبوية) بدلاً من أن يُسمَّى (مصحف المدينة المنورة)، وكأنَّكم لا تُقرُّون أنَّ هذه المدينةَ المباركةَ قد استنارت، بل استنارت الدنيا كلُّها ببعثة ورسالة سيِّدنا محمد عليه الصلاة والسلام ... )).
والجواب: أنَّه قد ورد لفظ (المدينة) في الكتاب والسُّنَّة غير مقيَّد بوصفها بـ (النبوية) أو (المنورة) أو غير ذلك.
وإطلاق لفظ المدينة ينصرف إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال ابنُ عقيل في شرح ألفية ابن مالك: (( من أقسام الألف واللاَّم أنَّها تكون للغلبة، نحو (المدينة) و(الكتاب)؛ فإنَّ حقَّهما الصدق على كلِّ مدينة وكلِّ كتاب، لكن غلبت (المدينة) على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، و(الكتاب) على كتاب سيبويه رحمه الله تعالى، حتى إنَّهما إذا أُطلقا لَم يتبادر إلى الفهم غيرهما )).
ثمَّ إنَّه حصل وصفُ المدينة بـ (النبوية) في كلام بعض العلماء المتقدِّمين، كابن كثير في البداية والنهاية والتفسير، وكابن حجر في فتح الباري.
انظر: البداية والنهاية (10/262)، والتفسير (4/143)، وفتح الباري لابن حجر (1/569)، و(5/88)، و(6/128، 623)، و(7/198)، و(11/250، 262)، و(13/101).
وفي العصور المتأخرة وُصفت المدينة بـ (المنورة)، ولا شكَّ أنَّ المدينة وسائر أقطار الأرض عمَّها نورُ الهداية ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وُصف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنَّه سراجٌ منير، ووُصف القرآن بأنَّه نورٌ، والمراد بالنورِ المضاف إلى القرآن وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم نور الهداية، وأهل السنَّة المتَّبعون للسلف الصالِح يُصدِّقون بذلك، ويَدعون الناسَ إلى هذا النور، وأما غيرُهم من أهل البدع فإنَّهم يصرفونهم عن النور، ويَدعونهم إلى البدع ومُحدثات الأمور.
ووصفُ المدينة بـ (النبوية) في العصور المتقدِّمة اصطلاح، ووصفُها بـ (المنوَّرة) في عصور متأخرة اصطلاح، ولا مُشاحة في ذلك، فلا وجه لإنكار الكاتب على مَن زعم نُصحَهم وصفها بـ (النبوية) مع أنَّه وصفٌ فيه إضافتُها إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً من عمل المتقدِّمين.
* * *
5 ـ قال الكاتب: (( تُصرِّون على تسمية الجهة المشرِفة على شؤون الحرمين الشريفين (رئاسة الحرم المكي والمسجد النبوي الشريف)، ولا تقولون (الحرم النبوي الشريف)، وكذلك في إعلانات الطرق الدَّالة على ذلك والموجهة إليه، فلماذا لا يكون مسجدُه صلى الله تعالى عليه وسلَّم حَرَماً؟ كيف وقد جعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة كلَّها حرَماً؟ )). ثمَّ ذكر حديثين في تحريم المدينة.
والجواب: أنَّ الجهة المسؤولة عن المسجد الحرام والمسجد النبوي سُمِّيت أول إنشائها باسم (الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين) ثمَّ عُدِّل الاسم إلى (الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي) ولا تزال تلك التسمية ، بل إنَّ المياه المبردة في المسجد الحرام والمسجد النبوي مكتوب على أوعيتها هذا الاسم، وكذلك على ثياب العمال في المسجدين، بل إنَّ مَن يضْغَط على رقم هاتف مُقسِّم هذه الرئاسة بمكة يسمع تسجيلاً بهذه التسمية.
ولَم تُسَمَّ الجهةُ المشرِفة على المسجدين الشريفين باسم (رئاسة الحرم المكي والمسجد النبوي الشريف) كما زعم الكاتب، لكنَّها الرغبة في الاعتراض، ولو كان المعترَض فيه ليس له أساس، فمِن أين جاءت هذه التسمية المزعومة، فضلاً عن الإصرار عليها المزعوم؟!
وهذه الورطة التي وقع فيها الكاتب هي من جملة الجنايات التي جناها عليه الذين جَمعوا له مادَّة أوراقه!!
وأهل السُّنَّة يؤمنون بِما صحَّت به الأحاديث عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم في تحريم المدينة، وأفضل بُقعة في حرم
المدينة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنَّ الصلاةَ فيه خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلاَّ المسجد الحرام، بخلاف سائر حرم المدينة.
لكن إطلاق (( الحرم )) على خصوص مسجده صلى الله عليه وسلم هو من الخطأ الشائع، ومثله إطلاق (( ثالث الحرمين )) على المسجد الأقصى، فإنَّ الحرمين هما مكة والمدينة، وليس لهما ثالث، والتعبير الصحيح أن يُقال: ثالث المسجدين، أي: المشرفين المعظَّمَين.
* * *
6 ـ أنكر الكاتب على من زعم نصحَهم عدم إيجاد علامة تدلُ على القبلة الأولى إلى المسجد الأقصى، وذلك في المسجد المسمَّى (( مسجد القبلتين )).
والجواب: أنَّني لَم أجد شيئاً ثابتاً يدلُّ على أنَّ تحويل القبلة كان والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي في مسجد بني سَلِمة الذي قيل: إنَّه مسجد القبلتين، وإنَّما جاء ذلك في كلام الواقدي، ذكره عنه ابنُ سعد في الطبقات، عبَّر عنه الواقديُّ بقوله: (( ويُقال ))، وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
والواقديُّ قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب:
(( متروك مع سعة علمه ))، ولو صحَّ لَم يكن فيه دليل على فضل هذا المسجد؛ لأنَّ الفضلَ إنَّما يَثبتُ بالنَّصِّ عليه مِن رسولِ اللهصلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك لمسجده صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء.
ثمَّ لا أدري ماذا يريد الكاتب من إيجاد علامة تدل على القبلة الأولى عند بناء المسجد؟
هل يريد أن يوضع محرابٌ إلى جهة بيت المقدس، كالذي جُعل إلى جهة الكعبة؟!
فإنَّ ذلك لا يجوز؛ وفي تحقيقه فتنة للناس، بأن يُصلي بعض الجُهَّال إلى جهة بيت المقدس، وقد حصل ذلك بدون وجود محراب، كما ذكر ذلك بعضُ مَن شاهده حتى في موسم الحجِّ في العام الماضي (1420هـ)!!
وقد سألني قبل عدَّة سنوات ـ وأنا في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ـ سائلٌ يقول: إنِّي رأيتُ أناساً يُصلُّون فرادى إلى الجهة الخلفية من مسجد القبلتين، فصليتُ ركعتين إلى تلك الجهة؟!
وهذه هي النتيجة التي تترتَّب على رغبة الكاتب في إيجاد علامة إلى القبلة الأولى المنسوخة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
* * *
7 ـ قال الكاتبُ: (( لا يجوز اتِّهامُ المسلمين الموحِّدين الذي يُصلُّون معكم ويَصومون ويُزكُّون ويَحُجُّونَ البيتَ مُلبِّين مُردِّدين: (لبَّيك اللَّهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لك والملك، لا شريك لك)، لا يجوز شرعاً اتِّهامُهم بالشِّرك، كما تطفَح كتبُكم ومنشوراتكم، وكما يجأرُ خطيبُكم يوم الحجِّ الأكبر من مسجد الخيف بِمِنى صباح عيد الحُجَّاج وكافة المسلمين، وكذلك يُروِّعُ نظيرُه في المسجد الحرام يوم عيد الفطر بهذه التهجُّمات والافتراءات أهلَ مكة والمعتمرين، فانتهوا هداكم الله تعالى!
وترويعُ المسلم حرامٌ، لا سيما أهالي الحرمين الشريفين، وفي هذا المعنى نصوصٌ شريفةٌ صحيحة )).
وقال أيضاً: (( لقد كفَّرتُم الصوفية ثم الأشاعرة، وأنكرتم واستنكرتُم تقليدَ واتباعَ الأئمة الأربعة (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل) في حين أنَّ مُقلِّدي هؤلاء كانوا ولا زالوا يُمثِّلون السوادَ الأعظم من المسلمين، كما أنَّ المنهجَ الرَّسميَ لدولتِكم والذي وَضعه الملك عبد العزيز ـ رحمه اللهـ يَنصُّ على اعتماد واعتبار المذاهب الأربعة، فانتهوا هداكم الله تعالى )).
وقال أيضاً: (( ... ولكنَّكم تُكفِّرون الصوفيَّة كافَّة، وتَصفونَهم بالابتداع والشرك!! )).
والجوابُ من وجوه:
الأول: أنَّ قولَه في الذين زعم نصحَهم أنَّهم يتَّهمون المسلمين بالشِّرك، وأنَّهم يُكفِّرون الصوفيةَ كافَّة والأشاعرة هو افتراءٌ عليهم، وهم بُرآءُ من ذلك، وعقيدتُهم هي عقيدة أهل السنَّة والجماعة، وأنَّهم لا يُكفِّرون إلاَّ مَن كفَّره الله ورسولُه، ولا يُكفَّرُ المسلمُ بذنبٍ إلاَّ إذا استحلَّه، وكان ذلك الذنبُ مِمَّا عُلِم من الدِّين تحريمُه بالضرورة، قال الإمامُ الطحاويُّ ـ رحمه الله ـ في عقيدة أهل السنة والجماعة: (( ولا نُكفِّر أحداً من أهلِ القبلة بذنبٍ ما لَم يستحلَّه )).
والبدعُ تنقسِمُ إلى قسمَين:
ـ بدعةٌ مكفِّرةٌ: كالاستغاثة بالأموات والجِنِّ والملائكةِ ونحوِهم، وطلبِ الحاجات وكشفِ الكُرُبات منهم، قال الله عزَّ وجلَّ: {أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ءَإِلَـهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}.
ـ وبدعةٌ مفسِّقةٌ: كالتوسُّلِ إلى الله بالأموات والملائكةِ ونحوهم.
والصوفية المذمومون الذين يلهَج بهم الكاتب من جملة أهل البِدع، فيهم مَن بدعتُه مكفِّرة، كابن عربي وأضرابِه، ومَن بدعتُه مفسِّقة.
الثاني: أنَّ الذي اشتملتْ عليه كتبُ مَن زعم نصحَهم، وكذا خطب الخُطباء الذين أشار إليهم، إنَّما هو التحذيرُ من الشِّرك، والدعوةُ إلى إخلاصِ العبادةِ لله عزَّ وجلَّ، وهذه هي وظيفةُ الرُّسُل، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمًّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
والمسلمون في الحَرَمين وكذا غيرُهم في كلِّ مكانٍ يسمعون الخُطبَ من المسجدَين الشريفين في مكة والمدينة بواسطة الإذاعة، وليس فيها ـ بِحمد الله ـ ما يُروِّع،
كما زعم الكاتب، بل فيها ما يَسُرُّ النفوسَ ويُثلِجُ الصُّدورَ؛ لأنَّها دعوة إلى الحقِّ والهُدى الذي جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونسألُ الله عزَّ وجلَّ أن يَهديَ قلبَ الكاتب ومَن على شاكلتِه ليَرَوا الحقَّ حقًّا فيتَّبعوه، والباطلَ باطلاً فيَجتنِبوه.
الثالث: أما قول الكاتب عمَن زعم نصحَهم أنَّهم يُنكرون ويستنكرون التقليدَ والاتباعَ للأئمَّة الأربعة، فهو غير صحيح؛ لأنَّ مَن عنده علمٌ ومعرفةٌ بالدَّليل من الكتاب والسُّنَّة يجبُ عليه الأخذُ بالدليل، كما قال الشافعيُّ رحمه الله: (( أجمع النَّاسُّ على أنَّ مَن استبانت له سنَّةُ رسول اللهصلى الله عليه وسلم لَم يكن له أن يَدَعها لقول أحدٍ ))، وقال ابنُ خزيمة: (( ويَحرُم على العالم أن يُخالف السنَّة بعد علمِه بها )). (فتح الباري 3/95)، وقال أيضاً في رفع اليدين عند القيام من الركعتين: (( هو سنَّةٌ وإن لَم يَذْكره الشافعي، فالإسنادُ صحيح، وقد قال: قولوا بالسنَّة ودَعُوا قولي )). (الفتح 2/222).
وأما العاميُّ ومَن لا يتمكَّن من معرفة الدليل فإنَّه يسوغ له التقليد؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ قد قال: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((إنَّ أهلَ السُّنَّة لَم يقُل أحدٌ منهم: إنَّ إجماعَ الأئمَّة الأربعة حُجَّةٌ معصومةٌ، ولا قال: إنَّ الحقَّ مُنحصِرٌ فيها، وأنَّ ما خرج عنها باطلٌ، بل إذا قال مَن ليس من أتباع الأئمة
ـ كسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، ومَن قبلهم من المجتهدين ـ قولاً يُخالف قول الأئمَّة الأربعة، رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، وكان القول الرَّاجحُ هو القول الذي قام عليه الدليل )). منهاج السنة (3/412).
وقال شيخنا شيخ الإسلام العلاَّمة عبد العزيز بن باز
ـ رحمه اللهـ في ردِّه على الصابوني في قوله عن تقليد الأئمة الأربعة: ((إنَّه من أوجب الواجبات )) قال: (( لا شكَّ أنَّ هذا الإطلاقَ خطأٌ؛ إذ لا يجب تقليدُ أحد من الأئمَّة الأربعة ولا غيرهم مهما كان علمُه؛ لأنَّ الحقَّ في اتِّباع الكتاب والسنَّة لا في تقليد أحد من الناس، وإنَّما قُصارى الأمر أن يكون التقليدُ سائغاً عند الضرورة لِمَن عُرِف بالعلم والفضل واستقامة العقيدة، كما فصَّل ذلك العلاَّمةُ ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه "إعلام الموقعين"، ولذلك كان الأئمَّة ـ رحمهم الله ـ لا يَرضون أن يُؤخذ من كلامِهم إلاَّ ما كان موافقاً للكتاب والسُّنَّة، قال الإمام مالك رحمه الله: (كلٌّ يُؤخذ من قوله ويُرَدُّ، إلاَّ صاحب هذا القبر)، يُشير إلى قبر رسول اللهصلى الله عليه وسلم، وهكذا قال إخوانُه من الأئمَّة في هذا المعنى.
فالذي يتمكَّن من الأخذ بالكتاب والسنَّة يتعيَّن عليه ألاَّ يُقلِّد أحداً من الناس، ويأخذ عند الخلاف بما هو أقرب الأقوال لإصابة الحقِّ، والذي لا يستطيع ذلك فالمشروع له أن يسألَ أهل العلم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} )). مجموع فتاوى ومقالات متنوِّعة (3/52).
وقال شيخنا العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في كتابه أضواء البيان (7/553 ـ 555): (( لا خلاف
بين أهل العلم في أنَّ الضرورةَ لها أحوالٌ خاصة تستوجب أحكاماً غير أحكام الاختيار، فكلُّ مسلم ألْجأَتْه الضرورةُ إلى شيء إلْجاءً صحيحاً حقيقيًّا فهو في سعةٍ من أمره فيه )) إلى أن قال: (( وبهذا تعلم أنَّ المضطرَّ للتقليد الأعمى اضطراراً حقيقيًّا، بحيث يكون لا قدرة له ألبتَّة على غيره، مع عدم التفريط لكونه لا قدرة له أصلاً على الفهم، أو له قدرة على الفهم وقد عاقَتْه عوائقُ قاهرة عن التعلُّم، أو هو في أثناء التعلُّم، ولكنَّه يتعلَّم تدريجاً؛ لأنَّه لا يقدر على تعلُّم كل ما يحتاجه في وقتٍ واحد، أو لم يَجِد كُفْئاً يتعلَّم منه ونحو ذلك، فهو معذورٌ في التقليد المذكور للضرورة؛ لأنَّه لا مَندوحة له عنه.
وأما القادر على التعلُّم المفرِّط فيه والمقدِّم آراء الرجال على ما علم من الوحي فهو الذي ليس بمَعذور )).
وقال أيضاً (7/555): (( اعلم أنَّ موقفَنا من الأئمَّة
ـ رحمهم الله ـ من الأربعة وغيرهم هو موقف سائر المسلمين المُنصِفين منهم، وهو موالاتُهم ومحبَّتُهم وتعظيمُهم وإجلالُهم والثناءُ عليهم بما هم عليه من العلم والتقوى، واتباعُهم في العمل بالكتاب والسنة، وتقديمهما على رأيِهم، وتعلُّم أقوالِهم للاستعانة بها على الحق، وترك ما خالف الكتاب والسنة منها.
وأمَّا المسائل التي لا نصَّ فيها، فالصواب النظر في اجتهادهم فيها، وقد يكون اتِّباعُ اجتهادهم أصوبَ من اجتهادنا لأنفسنا؛ لأنَّهم أكثر علماً وتقوى منَّا.
ولكن علينا أن ننظرَ ونحتاطَ لأنفسِنا في أقرب الأقوال إلى رِضى الله، وأحوطها وأبعدِها من الاشتباه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (دَع ما يَريبُك إلى ما لا يريبُك)، وقال: (فمَن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه).
وحقيقة القول الفصل في الأئمة ـ رحمهم الله ـ أنَّهم من خيار المسلمين، وأنَّهم ليسوا معصومين من الخطأ، فكلُّ ما أصابوا فيه فلهم فيه أجر الاجتهاد وأجرُ الإصابة، وما أخطأوا فيه فهم مأجورون على كلِّ حال، لا يلحقُهم ذمٌّ ولا عيبٌ ولا نقصٌ في ذلك.
ولكن كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم حاكمان عليهم وعلى أقوالهم، كما لا يخفى.
فلا تَغْلُ في شيءٍ من الأمر واقتصد --- كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ
فلا تكُ مِمَّن يذُمُّهم وينتقصُهم، ولا مِمَّن يعتقد أقوالَهم مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله أو مقدَّمة عليهما )). اهـ.
هذه بعض أقوال المحقِّقين من أهل العلم في حكم التقليد، وعلى هذا فليس هناك إنكارٌ ولا استنكارٌ كما زعم الكاتب، بل إنَّ الشيخَ العلاَّمة المحدِّث محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله وهو الذي له نصيبٌ كبيرٌ من حِقد الرِّفاعي والبوطي ـ قد قال في ردِّه على أبي غدَّة:
(( إنَّ الانتسابَ إلى أحدٍ من الأئمَّة كوسيلة للتعرُّف على ما قد يفوت طالبَ العلم من الفقه بالكتاب والسنَّة أمرٌ لا بدَّ منه شرعاً وقدَراً؛ فإنَّ ما لا يقوم الواجب إلاَّ به فهو واجب، وعلى هذا جرى السَّلفُ والخلفُ جميعاً، يتلقَّى بعضُهم العلمَ عن بعض، ولكن الخلف ـ إلاَّ قليلاً منهم ـ خالف السَّلفَ حين جعل الوسيلةَ غايةً، فأوجب على كلِّ مسلم ـ مهما سَما في العلم والفقه عن الله ورسوله من بعد الأئمة الأربعة ـ أن يُقلِّدَ واحداً منهم، لا يَميلُ عنه إلى غيره، كما قال أحدهم: وواجبٌ تقليد حَبْرٍ منهم! )).
وهذا الذي قاله الشيخ الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ عن المُتعصِّبة للمذاهب قد جاء عن الشيخ أحمد الصاوي في حاشيته على الجلالين عند قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ}؛ إذ فهِم الآية فهماً خاطئاً، وبَنَى عليه حكماً من أبطلِ الباطل، أوضح الردَّ عليه شيخُنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في تفسيره أضواء البيان عند قول الله عزَّ وجلَّ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، وكلام الصاوي الباطلُ هو قولُه ـ وبئس ما قال ـ: (( ولا يجوز تقليدُ ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قولَ الصحابة والحديثَ الصحيح والآية!! فالخارجُ عن المذاهب الأربعة ضالٌّ مُضِلٌّ، وربَّما أدَّاه ذلك للكفر؛ لأنَّ الأخذَ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر!!! )).
وهذا كلام من الصاوي من أسوإ الكلام وأبطل الباطل، ولو بحث أحدٌ عن كلامٍ سيِّءٍ يُنسبُ إلى مسلم قد لا يَجِد أسوأ منه، وقد جاء ذلك نتيجة لتفسيره للقرآن بالرأي والتعصُّب للمذاهب، نسأل الله السلامةَ والعافية.
الرابع: وأمَّا الملك عبد العزيز ـ رحمه اللهـ فإنَّه على منهج السَّلف، يحترمُ الأئمَّة الأربعة ويُوقِّرُهم، ويُعوِّلُ على الأدلَّة من الكتاب والسنَّة، قال رحمه الله: (( إنَّنا لم نُطِع (ابن عبد الوهاب) وغيره إلاَّ في ما أيَّدوه بقول من كتاب الله وسنَّة رسوله، وقد جعلنا الله ـ أنا وآبائي وأجدادي ـ مُبشِّرين ومُعلِّمين بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح، ومتى وجدنا الدليلَ القويَّ في أيِّ مذهب من المذاهب الأربعة رجعنا إليه وتَمسَّكنا به، وأمَّا إذا لَم نَجد دليلاً قويًّا أخذنا بقول الإمام أحمد )). من تاريخ البلاد العربية السعودية لمنير العجلاني (1/229).
* * *
8 ـ قال الكاتبُ: (( تُرَدِّدون جملة الحديث الشريف: (( كلُّ بدعة ضلالة )) بدون فهم للإنكار على غيركم، بينما تُقِرُّون بعضَ الأعمال المخالفة للسُنَّة النَّبوية، ولا نكرونها ولا تَعُدُّونها بدعةً، سنذكر بعضاً منها فيما يأتي ... )).
ويُجاب عن هذا من وجوه:
الأول: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّن في حديث العرباض بن سارية أنَّه سيوجد الاختلافُ في هذه الأُمَّة، ومع وجوده يكون كثيراً، حيث قال: (( فإنَّه مَن يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ))، ثم أرشدَ صلى الله عليه وسلم عند وجود هذا الاختلاف إلى الطريق الأمثل والمنهج الأقوم، وهو اتباع السنن وترك البِدع، فقال: (( فعليكم بسُنَّتِي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومُحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ مُحدَثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة ))، فإنَّه صلى الله عليه وسلم رغَّب في السُّنن بقوله: (( فعليكم بسُنَّتي ... ))، ورهَّب من البدع بقوله: (( وإيَّاكم ومُحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ مُحدَثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة )).
ومثل ذلك حديث (( ستفترق هذه الأُمَّة على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النَّار إلاَّ واحدة. قالوا: مَن هي
يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي )).
فقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أنَّ أمَّةَ الإجابة ستفترق هذا التفرُّق الكثير، وأنَّه لا ينجو مِن العذاب إلاَّ مَن كان على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، وهم الذين يتَّبعون الكتابَ والسنَّةَ وما كان عليه سلفُ الأُمَّة، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: (( لن يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ بما صلح به أولها )).
وروى الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة بإسنادٍ صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (( كلُّ بدعة ضلالةٌ وإن رآها الناس حسنة )).
وذكر الشاطبِيُّ في الاعتصام (1/28) أنَّ ابن الماجشون قال: سمعتُ مالكاً يقول: (( مَن ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنةً فقد زعم أنَّ محمداً خان الرسالة؛ لأنَّ الله يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليومَ ديناً )).
وقال أبو عثمان النيسابوري: (( مَن أمَّر السنَّةَ على نفسِه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهَوَى على نفسِه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة )). انظر: حلية الأولياء (10/244).
وقال سَهل بن عبد الله التستري: (( ما أحدثَ أحدٌ في العلم شيئاً إلاَّ سُئل عنه يوم القيامة، فإن وافق السُّنَّةَ سَلِم، وإلاَّ فلا )). فتح الباري (13/290).
وعلى هذا، فإنَّ الفهمَ الصحيحَ لقوله صلى الله عليه وسلم: (( وكلُّ بدعة ضلالة )) هو بقاءُ اللفظ على عمومه، وأنَّ كلَّ ما أُحدث في دين الله فهو بدعة، وهو مردودٌ على مَن جاء به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحَّته: (( مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ ))، وفي لفظٍ لمسلم: (( مَن عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ )).
أمَّا القولُ بأنَّ مِن البدعِ ما هو حَسنٌ فغير صحيح؛ لأنَّه يُخالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( وكل بدعة ضلالة ))، كما مرَّ إيضاحه في كلام ابن عمر ومالك وغيرهما المتقدِّم قريباً.
ولا يَصِحُّ الاستدلالُ لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: (( مَن سَنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً فله أجرها وأجر مَن عمل بها ...))، الحديث رواه مسلم؛ لأنَّ سياقَه في القدوة في الخير؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حثَّ على الصدَقة، أتى رجلٌ من الأنصار بصُرَّةٍ كبيرة، فتابعه الناس على الصدقة، فعند ذلك قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ما قال.
الثاني: ذكر الكاتب أنَّ مَن زعم نُصحَهم يُقرُّون بعضَ الأعمال المخالفة للسُّنَّة، ولا يعدُّونَها بدعة، ومن أمثلة ذلك عنده وضعُ حواجز بين الرِّجال والنِّساء في المسجد النَّبوي، قال عن ذلك: (( وهذه بدعةٌ شنيعةٌ؛ لأنَّه إحداثُ ما لم يحدُث في زمنه عليه الصلاة والسلام والسلف الصالح، فقد كان يَلِي الإمامَ صفوفُ الرِّجال، ثم الصِّبيان، ثم النِّساء، يُصلُّون جميعاً وبلا حاجز خلفه صلَّى الله تعالى عليه وآله وسلم )).
ويُجاب عن ذلك: بأنَّ من عجيب أمرِ الكاتب أن يرى أنَّ هذا العملَ بدعةٌ، مع أنَّ فيه ستراً للنساء، وصيانةً لهنَّ من نظرِ الرِّجال إليهنَّ، ونظرهنَّ إلى الرِّجال، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( ما تركتُ بعدي فتنةً أَضَرَّ على الرِّجال من النساء ))، وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( خيرُ صفوف الرِّجال أوَّلُها، وشرُّها آخرُها، وخير صفوف النِّساء آخرُها، وشرُّها أوَّلُها )).
وجاء في آداب النساء في صلاتِهنَّ مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: (( إن كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم لَيُصلِّي الصبحَ فينصرفَ النساءُ مُتلفِّعاتٍ بِمُروطِهنَّ، ما يُعرفنَ من الغَلَس ))، رواه البخاري ومسلم.
وفي صحيح البخاري عن أمِّ سلمة رضي الله عنها:
(( أنَّ النساءَ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلمr كُنَّ إذا سلَّمنَ من المكتوبة قُمْنَ، وثبتَ رسولُ اللهصلى الله عليه وسلم ومَن صلَّى من الرِّجال ما شاء الله، فإذا قام رسولُ اللهصلى الله عليه وسلم قام الرِّجال )).
فهذان حديثان عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الترغيب في تباعد النساء عن الرجال، وبعدَهما حديثان في آداب صلاة النساء مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك تغيَّرت حال النساء، حتى قالت عائشةُ رضي الله عنها: (( لو أنَّ رسولَ اللهصلى الله عليه وسلم رأى ما أَحْدَثَ النساءُ لَمَنَعَهنَّ المسجد، كما مُنعت نساءُ بَنِي إسرائيل ))، رواه البخاري ومسلم.
وفي هذا الزمان تغيَّرت أحوال النساء كثيراً، وحصل منهنَّ التبرُّجُ والسُّفور، وسَهُل الوصول إلى مكة والمدينة للرِّجال والنِّساء، والمسجدان الشريفان حصل فيهما توسعةٌ كبيرة، والنساء تأتي إليهما من جهاتٍ مختلفة، وخُصِّص لهنَّ أماكن مُعيَّنة، وجُعل حواجز؛ حتى لا يختلِطنَ بالرِّجال، فأيُّ مانعٍ يَمنَعُ من ذلك؟! بل وكيف يجوز أن يصفَه الكاتبُ بأنَّه بدعةٌ شنيعة؟!
مع أنَّ أوراق الكاتب اشتمَلت على بدَعٍ واضحة جليَّة لَم يعتبِرها بدعاً، كبدعة بناء القِباب على القبور، والاحتفال بالمولد النَّبويِّ!!
* * *
9 ـ أشاد في أوراقه بتعظيم القبور وبناء القباب عليها، فوصف العيدروس فقال: (( الإمام الربَّاني الحبيب العدني، بركة عدن وحضرموت رحمه الله تعالى ))، ونَوَّه بِمشهده وبناء قُبَّتِه، ووصفها بأنَّها (( مباركة!! )).
والجواب: أنَّ البناءَ على القبور واتخاذها مساجد قد جاءت أحاديث كثيرة عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم في تحريمه والتحذير منه؛ لأنَّه من وسائل الشرك، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي الهيَّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: (( ألاَ أبعثُكَ على ما بعثنِي عليه رسول اللهصلى الله عليه وسلم؟ أن لا تَدَعَ تِمثالاً إلاَّ طمَستَه، ولا قبراً مُشرفاً إلاَّ سوَّيتَه ))، وفي لفظ: (( ولا صورةً إلاَّ طَمستَها )).
وفي الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: (( لَمَّا نُزل برسول اللهصلى الله عليه وسلم طفِق يطرحُ خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد يُحذِّرُ ما صنعوا )).
وقولهما رضي الله عنهما في الحديث: (( لَمَّا نُزل )) يَعنيَان الموتَ، وقد اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: الدعاء على اليهود والنصارى باللَّعن.
الأمر الثاني: بيان سبب اللَّعن، وهو اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.
والأمر الثالث: بيان الغرض من ذكر ذلك، وهو تحذيرُ هذه الأمَّة من الوقوع فيما وقع فيه اليهود والنصارى، فيستحقُّوا اللَّعنة.
وثبت في صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله البَجَليِّ أنَّه قال: سمعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ، وهو يقول: (( إنِّي أبرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ، فإنَّ الله قد اتَّخذني خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً، ألاَ وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالِحيهم مساجد، ألاَ فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد، إنِّي أنهاكم عن ذلك )).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: (( قاتَل الله اليهودَ؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد ))، وثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها وصْفُ الذين يَبنونَ المساجد على القبور بأنَّهم شرارُ الخَلق عند الله.
وهذه الأحاديثُ الثابتة عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم اشتملت على التحذير من اتِّخاذ القبور مساجد مطلقاً، وبعضُها يُفيد حصولَ ذلك منه قبل أن يموت بخمسٍ، وبعضُها يُفيد حصولَ ذلك عند نزول الموتِ به.
والتحذيرُ من ذلك جاء على صِيَغٍ متعدِّدة، فجاء بصيغة الدعاء باللَّعنة على اليهود والنصارى، وجاء بصيغة الدعاء بمقاتلَة الله لليهود، وجاء بوصف فاعلي ذلك بأنَّهم شرارُ الخَلق عند الله، وجاء بصيغة (( لا )) الناهية في قوله:
(( ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد ))، وبصيغة لفظ النَّهي بقوله: (( إنِّي أنهاكم عن ذلك )).
وهذا مِن كمال نُصحِه لأمَّتِه صلى الله عليه وسلم، وحرصِه على نَجاتِها وشفقتِه عليها، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وجزاه أوفَى الجزاء، وأثابَه أَتَمَّ مثوبَة.
واتِّخاذ القبور مساجد يشمل بناء المسجد على القبر، كما قال صلى الله عليه وسلم في النصارى: (( أولئك إذا كان فيهم الرَّجل الصالِح فمات بَنَوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصُّوَر، أولئك شرارُ الخلق عند الله))، وهو في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها.
ويَشمل قَصدَها واستقبالَها في الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (( لا تجلِسوا على القبور، ولا تُصلُّوا إليها ))، أخرجه مسلم من حديث أبي مَرثَد الغنَويِّ رضي الله عنه. ويَشمل السجودَ على القبر من باب أولى؛ إذ هو أخصُّ من الصلاة إليه.
وذكر الذهبيُّ في سير أعلام النبلاء (8/27) في ترجمة عبد الله بن لهيعة أنَّ الدَّفنَ في البيوت من خصائص النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وأورد ابنُ كثير في البداية والنهاية ترجمة السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد القرشية الهاشمية في حوادث سنة (208هـ)، ونقل عن ابن خلِّكان أنَّه قال: (( ولأهل مصر فيها اعتقاد ))، ثم قال ابنُ كثير: (( وإلى الآن قد بالغَ العامَّةُ في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيراً جدًّا، ولا سيما عوامُّ مصر، فإنَّهم يُطلقون فيها عبارات بَشِعة، فيها مجازَفةٌ تؤدِّي إلى الكفر والشِّرك، وألفاظاً كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنَّها لا تجوز ... ))، إلى أن قال: (( ... والذي ينبغي أن يُعتقد فيها: ما يليق بِمِثلِها من النساء الصالحات، وأصلُ عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلمبتسوية القبور وطمسِها،والمغالاةُ في البَشَر حرامٌ ...)).
وكانت وفاةُ ابنِ كثير ـ رحمه الله ـ سنة (774هـ).
وقد ألَّف في هذه المسألة العلاَّمةُ الشوكاني المتوفى سنة (1250هـ) رسالةً سَمَّاها "شرح الصدور بتحريم رفع القبور" أجادَ فيها وأفاد، قال فيها: (( اعلم أنَّه قد اتَّفق الناسُ سابقهم ولاحِقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة إلى هذا الوقت أنَّ رفعَ القبور والبناءَ عليها بدعةٌ من البدع التي ثبت النَّهيُ عنها واشتدَّ وعيدُ رسول اللهصلى الله عليه وسلم لفاعلِها، ولم يُخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين أجمعين، لكنَّه وقع للإمام يحيى مقالة تدلُّ على أنَّه يرى أنَّه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يَقل بذلك غيرُه ولا روي عن أحدٍ سواه، ومَن ذكرها من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جرى على قوله واقتداء به، ولم نجد القول بذلك مِمَّن عاصَرَه أو تقدَّم عصره عليه، لا من أهل البيت ولا من غيرهم، ثم ذكر أنَّ صاحب البحر الذي هو مدرس كبار الزيدية ومرجع مذهبهم ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم لم ينسب القول بجواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفضلاء إلاَّ إلى الإمام يحيى وحده، فقال ما نصُّه: مسألة: الإمام يحيى: لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك؛ لاستعمال المسلمين ولم ينكر. انتهى ... )) إلى أن قال الشوكاني رحمه الله: (( فإذا عرفتَ هذا تقرَّر لك أنَّ هذا الخلافَ واقعٌ بين الإمام يحيى وبين سائر العلماء من الصحابة والتابعين ومن المتقدِّمين من أهل البيت والمتأخرين، من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ومن جميع المجتهدين أولهم وآخرهم، ولا يعترض هذا بحكاية مَن حكى قول الإمام يحيى في مؤلَّفِه مِمَّن جاء بعده من المؤلِّفين، فإنَّ مجردَ حكاية القول لا يدلُّ على أنَّ الحاكي يختاره ويذهب إليه ... )). إلى أن قال رحمه الله: (( فإذا أردتَ أن تعرفَ هل الحق ما قاله الإمام يحيى أو ما قاله غيرُه من أهل العلم فالواجبُ عليك رد هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالردِّ إليه وهو كتاب الله وسنة رسول اللهصلى الله عليه وسلم ... )).
ثم ذكر بعضَ الآيات المقتضية ذلك، وبيَّن وجهَ دلالتها على المطلوب، ثم ذكر جملةً من الأحاديث الكثيرة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في تحريم اتِّخاذ القبور مساجد، والتي مرَّ ذكر بعضها، وبيَّن أنَّ ذلك يُفضي بفاعله إلى الشرك بالله، ثم قال: (( فلا شكَّ ولا ريب أنَّ السببَ الأعظمَ الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما يُزيِّنه الشيطان للناس من رفعِ القبور ووضعِ الستور عليها وتجصيصِها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين، فإنَّ الجاهلَ إذا وقعت عينُه على قبرٍ من القبور قد بُنيت عليه قُبَّة فدخلها ونظر على القبور الستورَ الرائعة والسُّرُجَ المتلألئة وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شكَّ ولا ريب أنَّه يمتلئ قلبُه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذِهنُه عن تصوُّر ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله من الرَّوعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد، مِمَّا يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه، فيصير في عدادِ المشركين، وقد يحصل له هذا الشركُ بأولِ رؤيةٍ لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة، وعند أول زَورة؛ إذ لا بدَّ له أن يخطرَ ببالِه أنَّ هذه العنايةَ البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلاَّ لفائدة يرجونها منه، إمَّا دُنيوية أو أُخرويَّة، فيستصغرُ نفسَه بالنِّسبة إلى مَن يراه من أشباه العلماء زائراً لذلك القبر وعاكفاً عليه ومُتمسِّحاً بأركانه، وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانِه من بني آدم يَقفون على ذلك القبر يُخادعون مَن يأتي إليه من الزائرين، يُهولون عليهم الأمر، ويصنعون أموراً من أنفسهم وينسبونها إلى الميت على وجهٍ لا يفطن له مَن كان من المغفَّلين، وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يُسمُّونَها كراماتٍ لذلك الميت، ويَبُثونها في الناس، ويُكرِّرون ذكرَها في مجالِسهم وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض ويتلقَّاها مَن يحسن الظنَّ بالأموات، ويَقبَل عقلُه ما يُروى عنهم من الأكاذيب فيرويها كما سَمِعها، ويتحدَّث بها في مجالِسِه، فيقع الجُّهالُ في بليَّةٍ عظيمة من الاعتقاد الشركيِّ، وينذرون على ذلك الميت بكرائم أموالهم، ويحبسون على قبره من أملاكِهم ما هو أحبُّها إلى قلوبهم؛ لاعتقادِهم أنَّهم ينالون بجاه ذلك الميت خيراً عظيماً وأجراً كبيراً، ويعتقدون أنَّ ذلك قربةٌ عظيمةٌ وطاعةٌ نافعةٌ وحَسنةٌ متَقبَّلةٌ، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطانُ من إخوانِه من بني آدم على ذلك القبر، فإنَّهم إنَّما فعلوا تلك الأفاعيل، وهوَّلوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا تلك الأكاذيب لينالوا جانباً من الحُطام من أموال الطغام الأغتام، وبهذه الذريعةِ الملعونةِ والوسيلةِ الإبليسيَّة تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلَغاً عظيماً حتى بلغت غلاَّتُ ما يُوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافُه لبلغ ما يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين، ولو بِيعت تلك الحبائسُ الباطلة لأغنى اللهُ بها طائفةً كبيرةً من الفقراء، وكلُّها من النَّذر في معصية الله، وقد صحَّ عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (( لا نذر في معصية الله))، وهي أيضاً من النَّذر الذي لا يُبتَغَى به وجه الله، بل كلُّها من النذور التي يستحقُّ بها فاعلُها غضب الله وسخطه؛ لأنَّها تُفضي بصاحبها إلى ما يفضي به اعتقاد الإلـهيَّة في الأموات من تزلزل قدَم الدِّين؛ إذ لا يَسمحُ بأحبِّ أمواله وألصقها بقلبه إلاَّ وقد زرع الشيطان في قلبه مِن مَحبَّةِ وتعظيم وتقديس ذلك القبر وصاحبه، والمغالاة في الاعتقاد فيه ما لا يعود به إلى الإسلام سالِماً، نعوذ بالله من الخذلان ... )).
إلى أن قال: (( وأمَّا ما استدلَّ به الإمام يحيى حيث قال: (لاستعمال المسلمين ذلك ولم ينكروه)، فقولٌ مردودٌ؛ لأنَّ علماءَ المسلمين ما زالوا في كلِّ عصرٍ يروون أحاديث رسول اللهصلى الله عليه وسلم في لعن مَن فعل ذلك، ويُقرِّرون شريعةَ رسول اللهصلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك في مدارسِهم ومجالسِ حُفَّاظهم، يرويها الآخرُ عن الأوَّلِ، والصغيرُ عن الكبير، والمتعلِّمُ عن العالِمِ من لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدِّثون في كتبهم المشهورة من الأمَّهات والمسندات والمصنفات، وأوردها المفسِّرون في تفاسيرِهم، وأهلُ الفقه في كتبهم الفقهية، وأهلُ الأخبار والسِّيَر في كتب الأخبار والسِّيَر، فكيف يُقال إنَّ المسلمين لم يُنكروا على مَن فعل ذلك، وهم يروون أدلَّةَ النَّهيِ عنه واللَّعن لفاعله خلفاً عن سلف في كلِّ عصرٍ؟! ومع هذا فلم يزل علماءُ الإسلام منكرين لذلك مبالِغين في النهي عنه، وقد حكى ابن القيِّم عن شيخه تقيِّ الدِّين ـ رحمهما الله ـ وهو الإمام المحيط بمذهب سلف هذه الأمة وخلفِها أنَّه قد صرَّح عامةُ الطوائفُ بالنَّهي عن بناء المساجد على القبور، ثم قال: وصرَّح أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفةٌ أطلقت الكراهة، لكن ينبغي أن يُحمل على كراهة التحريم؛ إحساناً للظنِّ بهم، وأن لا يُظنَّ بهم أن يُجوِّزوا ما تواتَر عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه )). انتهى.
هذه مقتطفاتٌ مِمَّا اشتملت عليه رسالة هذا الإمام
من الإيضاح والتحقيق في هذه المسألة التي تواترت الأحاديث عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم فيها، وأَجمعَ العلماءُ على حكمِها، ومع ذلك فقد تحقَّق للشيطان مراده في كثير من البلاد الإسلامية من مخالفة كثير من الناس ما تواتر وانعقد عليه الإجماع من تحريم البناء على القبور واتِّخاذها مساجد، وكأنَّ الإجماعَ في نظرهم انعقد على جواز واستحباب ذلك، فالله المستعان ونعوذ بالله من الخذلان.
وعلى قاعدة ابن جرير التي ذكرها ابنُ كثير عند تفسيره قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ}، وهي أنَّ خلاف الواحد أو الإثنين لا يُؤثِّر في الإجماع، فإنَّ هذه المسألةَ من مسائل الإجماع، وعلى قول الحافظ ابن حجر في الفتح (2/219) أنَّه لا يُعتدُّ بخلاف الزيدية، فإنَّ المسألةَ أيضاً من مسائل الإجماع.
وهذا المعنى الذي ذكره الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ من الافتتان بالقبور وتحبيس الأموال عليها وعمل النذور لها نَظَمه الشاعر المصري حافظ إبراهيم المتوفى سنة (1351هـ) فقال يَصف واقعَ المسلمين المؤلِم:
أحـيـاؤنـا لا يُــرزقـون بـدرهــم --- وبـألفِ ألـفٍ تُـرزَقُ الأمـــواتُ
مَـن لِي بِحَظِّ النَّائِمـيـن بِـحـفـرة --- قامت على أحجارها الصـلواتُ
يسعى الأنام لَـهـا ويجري حـولَهَا --- بَـحْـرُ النــذور وتُـقـرأ الآيــاتُ
ويُقال هذا القطب باب المصطفى --- ووسيلةٌ تـقضَى بها الحاجـــاتُ
وإذا تأمَّل العاقلُ ما ورد عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الكثيرة في تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد، وإجماع أهل العلم على ذلك وما نُقل عنهم في ذلك، ولا سيما قول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (( وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها ))، ثم نظر في كلام الكاتب عن العيدروس ووَصفه بأنَّه بركة عدَن وحضرموت، وتنويهه بمشهده وبناء قُبَّته، ووصفها بأنَّها مباركة، تبيَّن له الفرقُ بين الحقِّ والباطل، والهُدى والضلال، ومَن يدعو إلى الجَنَّة ومَن يدعو إلى النار!!
وإنِّي أنصَحُ الأستاذ الرفاعي والدكتور البوطي أن يتَّقوا الله في أنفسِهم وفي المسلمين، فلا يكونون عوناً لهم على الافتتان بالقبور، بل يكونون عوناً لهم على الهداية إلى الصراط المستقيم، وقد قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: (( مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ))، رواه مسلم.
* * *
10 ـ أشاد الكاتب في أوراقه بقصيدة البُردة للبوصيري في مدحِ الرسول صلى الله عليه وسلم!
والجواب: أنَّ مدحَ الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما هو محمودٌ، ومنه ما هو مذمومٌ، فالمحمودُ مَدْحُه صلى الله عليه وسلم بِما يليقُ به من غير غُلُوٍّ وإطراء، والمذمومُ منه ما كان مُشتملاً على الغُلُوِّ والإطراء، ومجاوزة الحدِّ، ومنه بعض أبيات البُردة للبوصيري.
وقد مدحتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بما يليقُ به في كتابي "من أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم"، ومِمَّا قلتُ في شرح الحديث: (( لا تُطروني كما أطرت النصارى ابنَ مريم، فإنَّما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله )) من كتابي "عشرون حديثاً من صحيح البخاري" المطبوع قبل ثلاثين عاماً، قلتُ:
مَدْحُ الرسول صلى الله عليه وسلم منه ما هو محمودٌ، ومنه ما هو مذمومٌ، فالمحمودُ هو أن يُوصَف بكلِّ كمالٍ يليق بالإنسان، فهو صلى الله عليه وسلم أعلمُ الناس وأنصحُهم وأخشاهم لله وأتقاهم وأفصحُهم لساناً وأقواهم بياناً، وأرجحُهم عقلاً، وأكثرُهم أدباً، وأوفرُهم حِلماً، وأكملُهم قوَّةً وشجاعة وشفقة، وأكرمُهم نفساً، وأعلاهم منزلة، وكلُّ وصف هو كمالٌ في حقِّ الإنسان فلِسيِّد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه منه القِسطُ الأكبر والحظُّ الأوفر، وكلُّ وصفٍ يُعتبر نقصاً في الإنسان، فهو أسلم الناس منه وأبعدهم عنه، فلقد اتَّصف بكلِّ خُلُق كريم، وسَلِم مِن أدنى أيِّ وصفٍ ذميمٍ، وحَسبُه شرفاً قول الله تعالى فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، قد والله بلَّغ البلاغَ المبين، وأدَّى الأمانةَ على أكمل وجه، ونصَح للأمَّة غايةَ النُّصح، ببيان ليس وراءَه بيان، ونصحٍ يفوق نصحَ أيِّ إنسان، فكلُّ ثناءٍ على سيِّد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم من هذا القبيل فهو حقٌّ، مع الحَذر من تجاوز الحدِّ والخروج عن الحقِّ، وما أحلى وأجملَ وصفه صلى الله عليه وسلم بكونِه عبد الله ورسوله، تحقيقاً لرغبته عليه الصلاة والسلام، وامتثالاً لأمرِه في قوله في هذا الحديث:
(( وقولوا عبد الله ورسوله )).
والمدحُ المذمومُ هو الذي يتجاوز فيه الحدّ، ويقع به المادحُ في المحذور الذي لا يرضاه الله ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم، وذلك أن يُوصف صلى الله عليه وسلم بما لا يجوز أن يوصف به إلاَّ الله تبارك وتعالى، أو أن يُصرف له صلى الله عليه وسلم ما لا يستحقُّه إلاَّ الباري جلَّ وعلا، ومن ذلك بعض الأبيات التي قالَها البوصيري في البُردة مثل قوله:
يا أكرم الخلق ما لي مَن ألوذ به ---- سواك عند حلول الحادِث العَمِمِ
فهذا المعنى الذي اشتمل عليه هذا البيت لا يجوز أن يُصرف لغير الله عزَّ وجلَّ، ولا يستحقُّه إلاَّ هو وحده لا شريك له، فهو الذي يُعاذ به ويُلاذ به ويُلتجأ إليه ويُعتصم بحبلِه ويُعوَّل عليه، وهو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم مُبيِّناً تفَضُّلَه وامتنانَه على عباده وأنَّه ما بِهم من نعمة فمنه تفضُّلاً وامتناناً: (( لن يَدخل أحدُكم بعمله الجنَّةَ، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلاَّ أن يتغمَّدني الله برحمة منه وفضل ))، وهو الذي يُجيبُ المضطَرَ إذا دعاه ويكشف السوءَ، كما قال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ءَإِلَـهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}، أي: لا أحد سواه يكون كذلك، لا مَلَكاً مُقرَّباً، ولا نبيًّا مرسلاً، فضلاً عمَّن سواهما، وقال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ}، وقال: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرْونَ}.
والحاصل أنَّ المدحَ الذي اشتمل عليه هذا البيت مدحٌ بالباطلِ الذي حذَّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون حقًّا لو قال منادياً ربَّه:
يا خالق الخلق ما لي مَن ألوذ به ---- سواكَ عند حلول الحادث العمم
ومثل قوله أيضاً يُخاطبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
فإنَّ مِن جُودِك الدنيا وضَرَّتَها ---- ومِن علومك علم اللَّوحِ والقَلَمِ
وهذا لا يليق إلاَّ بِمَن بيدِه ملكوت كلِّ شيءٍ سبحانه وتعالى، فهو القائل عن نفسه: {وَمَا بِكُمْ مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}، والقائل عنه نبيُّه صلى الله عليه وسلم: (( واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله لك ))، الحديث، فهو وحده الذي من جوده الدنيا والآخرة، وهو وحده الذي من علمِه علم اللوح والقلم، أما الرَّسول صلى الله عليه وسلم فهو لا يَملك إلاَّ ما أعطاه الله، ولا يعلم من الغيب إلاَّ ما أطلعه عليه، وقد أمره الله أن يقول: {لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ} الآية، وقال له: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا}، وثبت في الصحيحين أنَّه صلى الله عليه وسلم لَمَّا نزل عليه قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قال: (( يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم لا أُغني عنكم من الله شيئاً، يا بَنِي عبد مَناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس ابن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفيَّة عمَّة رسول الله لا أغني عنكِ من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سَلِينِي ما شئتِ من مالي، لا أغنِي عنكِ من الله شيئاً ))، وروى البخاريُّ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (( قام فينا رسول اللهصلى الله عليه وسلم فذَكر الغُلولَ فعظَّمه وعظَّم أمرَه قال: لا أُلفينَّ أحدَكم يوم القيامة على رقبَته فرسٌ له حمحمة يقول: يا رسول الله أَغِثنِي، فأقول: لا أملكُ لك شيئاً قد أبلغتُك ))، الحديث.
* * *
11 ـ قال الكاتب: (( تَمنعون دفنَ المسلم الذي يموت خارج المدينة المنوَّرة ومكة المكرَّمة من الدَّفن فيهما، وهما مِن البقاع الطيِّبة المباركة التي يُحبُّها الله ورسولُه، فتَحرِمون المسلمين ثوابَ الدَّفنِ في تلك البقاع الشريفة المباركة، فعن عبد الله بن عدي الزهري رضي الله عنه قال: رأيتُ رسول اللهصلى الله عليه وسلم على راحلتِه واقفاً بالحزوَرة، يقول: (والله إنَّك لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أخرجتُ منك ما خرجتُ)، وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: (من استطاع أن يموت في المدينة فليَمت بها، فإنَّي أشفع لِمَن يموت بها) )).
والجواب: أنَّ الأصلَ أن يُدفن كلُّ ميتٍ في بلد وفاته إلاَّ لضرورة تدعو إلى نقله إلى غيره، وفي هذا الزمان سهُل الوصول إلى الحرمين الشريفين بوسائل النقل المختلفة، فلو مُكِّن كلُّ مَن أراد الدفن في الحرمَين لأوشك أن تتحوَّل المدينتان المُقدَّستان إلى قبور، والمُهمُّ للمسلم أن يكون في حياته على حالة حسنةٍ وأعمالٍ صالحة، وأن يُختم له بخير.
والحديثان المذكوران: الأول في فضل مكة، والثاني في فضل المدينة، وهو يدلُّ على فضل الموت بالمدينة، ومن المعلوم أنَّ كلَّ من مات بالحرمين يُدفن فيهما، ولا دلالة في ذلك على النقل إلى الحرمين للدَّفن فيهما.
ثم لماذا يعيبُ الكاتب على مَن زعم نصحَهم منْعَ النقل إلى الحرمين للدَّفن فيهما، مع أنَّه مُعجَبٌ بالصوفية، وقد ذُكر عن بعضهم حكاياتٌ مفادُها أنَّ من الأمواتِ من تنقلُه الملائكةُ من المكان الذي دُفن فيه إلى مكان آخر!! وقد ذكر السخاويُّ في كتابه "المقاصد الحسنة فيما يدور من الأحاديث على الألسنة" حديث: (( إنَّ لله ملائكة تنقل الأموات!! ))، وقال: (( لم أقف عليه ))، ثم ذكر حكاياتٍ، منها أنَّ العزَّ يوسف الزرندي أبا السادة الزرنديين المدنيين ـ وهو مِمَّن لم يَمت بالمدينة ـ رؤي في النوم وهو يقول للرائي: سلِّم على أولادي، وقل لهم: إنِّي قد حُملتُ إليكم، ودُفنت بالبقيع عند قبر العباس، فإذا أرادوا زيارتي فليَقفوا هناك، ويُسلِّموا ويدعوا!!!
وذكر هذا الحديثَ العجلوني في "كشف الخفاء ومزيل الإلباس فيما يدور من الحديث على ألسنة الناس"، ونقل الحكايات التي ذكرها السخاوي، ثم قال: (( وقال الشعراني أيضاً في كتابه البدر المنير في غريب أحاديث البشير النذير: قد ثبت وقوعه لطائفة، منهم سيدي أبو الفضل الغريق من أولاد السادات بني الوفاء، غرق في بحر النيل فوجدوه عند جدِّه بالقرافة مدفوناً!! وأما نقل الحديث فكثير، يتكلَّم الرَّجل بمصر فينتقل إلى مكة في ليلة فيجده الناس هناك!! انتهى )).
وكانت وفاة الشعراني صاحب هذا الكلام سنة (973هـ).
وأهل السنة والجماعة ـ ومنهم مَن زعم الكاتبُ نصحَهم ـ يُؤمنون بأنَّ اللهَ على كلِّ شيء قدير، ويُصدِّقون بكرامات أولياء الله حقًا، وهم الصحابة ومَن تبعهم بإحسانٍ، ولا يُصدِّقون بالحكايات المنامية وغير المناميَّة التي ليس لها خطامٌ أو زِمام.
وكلُّ ميت دُفن في مكان فإنَّه يُبعث منه يوم القيامة، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}، والقبور تنشقُّ عن أصحابِها يوم القيامة، وأوَّلُ قبرٍ ينشقُّ عن صاحبِه قبرُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم: (( أنا سيِّدُ ولد آدم يوم القيامة، وأوَّلُ مَن ينشقُّ عنه القبرُ، وأوَّلُ شافعٍ وأوَّلُ مُشَفّع ))، رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولم يثبت في السُّنَّة ما يدلُّ على خلاف ذلك، وأنَّ الملائكةَ تنقل الموتى من مكان إلى مكان، بل قد جاء في جامع الترمذي حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه في سؤال منكر ونكير للمؤمن والمنافق، وأنَّ كلاًّ منهما يكون في مضجعه، وفيه أنَّه يُقال للمؤمن: (( نَمْ كنومَة العروس الذي لا يوقظُه إلاَّ أحبُّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك )).
وفيه أنَّه يُقال للأرض في حقِّ المنافق: (( الْتَئمِي عليه، فتَلْتَئمُ عليه، فتختلف أضلاعُه، فلا يزال فيها مُعذَّباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ))، وهو حديثٌ ثابتٌ، رجاله رجال مسلم.
* * *
12 ـ عاب الكاتب على مَن زعم نصحَهم تعيينَ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ أستاذاً بالجامعة الإسلامية بالمدينة، وعضواً في مجلسِها الأعلى، وزعم أنَّ الملكَ فيصلاً ـ رحمه الله ـ طرَدَه، وأنَّه أُعيد إلى نفس المنصب بعد ذلك، ووصف كتبَه بأنَّها كاسدة!!!
والجواب: أنَّ الشيخَ العلاَّمةَ المحدِّث محمد ناصر الدِّين الألباني ـ رحمه الله ـ معروفٌ لدى أهل الإنصاف بجهودِه العظيمة في خدمة السنَّة، وتسهيل الوصول إلى معرفة الأحاديث، وبيان مظانِّها وطرُقِها ومتابعاتها وشواهدها والحكم عليها.
وقد عُيِّن مدرِّساً في الجامعة الإسلامية بالمدينة في السنوات الأولى من إنشائها، وعُيِّن عُضواً في مجلسها الأعلى، ثم انتهى التعاقد معه كما ينتهي التعاقد مع المدرِّسين غير السعوديين، وكنتُ مدرِّساً في الجامعة الإسلامية منذ تأسيسها، وما سمعتُ أنَّ الملكَ فيصلاً
ـ رحمه الله ـ طرد الشيخَ الألبانيَّ كما زعم الكاتب!
والمجلسُ الأعلى للجامعة سابقاً يتألَّف من أعضاء، فيهم عشرة من خارج المملكة يصدر بتعيينهم أمرٌ مَلَكيٌّ لمدَّة ثلاث سنوات بناءً على ترشيح رئيس الجامعة.
وقد كنتُ منذ عهد الملك فيصل ـ رحمه الله ـ على وظيفة نائب رئيس الجامعة الإسلامية، وبعد انتقال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ من رئاسة الجامعة الإسلامية إلى رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في شوال عام 1395هـ، كنتُ المسئول الأول في الجامعة مدَّة أربع سنوات، فرشَّحتُ عشرة أعضاء في المجلس الأعلى للجامعة، فيهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، وتَمَّت الموافقة على تعيينهم، ويرجع اختيار الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ إلى علمِه وفضله وجهودِه في خدمة السنَّة، وإلى كونه ناصراً للسُنَّة محذِّراً من البدع، رادًّ على المبتدعة.
وأمَّا وصف الكاتب لكُتبِه بأنَّها كاسدة، فنعم هي كاسدةٌ عنده وأمثاله! أمَّا مَن له اشتغالٌ بالعلم واهتمامٌ بالسُنَّة فيحرص على اقتنائها والاستفادة منها.
* * *
يتبع..
التعديل الأخير تم بواسطة حاتم خضراوي ; 16 Dec 2009 الساعة 10:02 AM
|