محلّ الأذكار في وقت المساء

[هشام بن حسن]

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، أمّا بعد :
فهذا بحث مختصر في مسألة تتعلّق بالأذكار النبوية الصحيحة التي ينبغي للمسلم أن يحافظ عليها في يومه وليلته، وهي مسألة توقيت ما ورد من أذكارٍ مقيّدة بالصباح والمساء، فمتى يبتدأ وقت المساء ؟ هذه مسألة وقع الخلاف فيها بين أهل العلم، فأحببت أن أدلي بدلوي فيها مستعرضا الأقوال ومبيّنا الأقرب للصواب منها مع التعليل لذلك، وأسأل الله السداد والتوفيق للحق والصواب مما اختلف فيه الناس، وهذا أوان الشروع في المقصود :

* ذهب بعض العلماء إلى أنّ المساء يبتدئ من بعد صلاة العصر وينتهي بغروب الشمس، ومن هؤلاء من جعل نهايته ثلث الليل

قال ابن عساكر في الفروق ص 288 :" إذا كان بعيد العصر فهو المساء ويقال للرجل عند العصر إذا كان يبادر حاجة قد أمسيت وذلك على المبالغة"
وقال الإمام ابن القيم في (الوابل الصيب ص 100 ):" الفصل الأول : في ذكر طرفي النهار؛ وهما ما بين الصبح وطلوع الشمس، وما بين العصر والغروب، قال سبحانه وتعالى :{ يا أيّها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبّحوه بكرة وأصيلا } [ الأحزاب : 41-42 ] والأصيل : قال الجوهري : هو الوقت بعد العصر إلى المغرب وجمعه : أُصُل وآصال وأصائل، كأنّه جمع أصيلة ..."
ثم قال ( ص 101 ) :" وقال تعالى :{ وسبّح بحمد ربّك بالعشيّ والإبكار } [ غافر : 55] فالإبكار : أول النهار، والعشيّ آخره، وقال تعالى :{ وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } [ ق : 39 ] وهذا تفسير ما جاء في الأحاديث : من قال كذا وكذا حين يصبح وحين يُمسي، أنّ المراد به : قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وأنّ محلّ هذه الأذكار بعد الصبح وبعد العصر .
وهو ما ذهب إليه العلامة بكر أبو زيد كما في كتابه المفيد : تصحيح الدعاء ص 337 حيث قال رحمه الله :" ومحلّ ورد المساء هو العشيّ وهو الآصال، بعد صلاة العصر قبل الغروب "

* وذهب آخرون إلى أنّه يبتدئ من بعد الظهر ويمتدّ إلى المغرب أو إلى ما بعده ـ جزء من الليل ـ
قال ابن منظور في لسان العرب 15/ 280 :" والمَساء بعد الظهر إِلى صلاة المغرب وقال بعضهم إِلى نصف الليل "
وقال الفيومي في المصباح المنير 8/476 "الْمَسَاءُ خِلَافُ الصَّبَاحِ وَقَالَ ابْنُ الْقُوطِيَّةِ الْمَسَاءُ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ إلَى الْمَغْرِبِ "
واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كَانَ النَّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بمنى فَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ، فَقَالَ: لاَ حَرَجَ" (أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الحج، باب الذبح قبل الحلق: (1636)
قال الحافظ ابن حجر ( كما في الفتح 3/718 ـ كتاب الحج باب إذا رمى بعدما أمسى ) :" أي بعد دخول المساء، وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتدّ الظلام "
وقال الشيخ ابن عثيمين ( رياض الصالحين 3/382 ) :" ويدخل المساء من صلاة العصر وينتهي بصلاة العشاء أو قريبا منها "

* بينما ذهب علماء آخرون إلى أنّ المساء يبتدئ من بعد غروب الشمس ، وهذا القول هو الأقرب للصواب لما سأحشده من أدلة تبيّن سداد هذا القول مستأنسا ـ في الوقت نفسه ـ بقول بعض علمائنا :
أ/ من الكتاب العزيز :
- قال جل وعلا :{ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [ الروم : 17-18 ]
والمقصود بالمساء ههنا : بعيد المغرب ، كما فسّره بذلك الحبر البحر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .
فعن أبي رزين قال : سأل نافع بن الأزرق ابن عباس : ميقات الصلوات الخمس في كتاب الله ؟ قال : "نعم { فسبحان الله حين تمسون } المغرب { وحين تصبحون } الفجر { وعشيا } العصر { وحين تظهرون } الظهر ، قال { ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم } " .
أخرجه الطبري في تفسيره ( 8/6513 برقم 27745 ) والحاكم في مستدركه ( 2/ 514-515 برقم 3541 ) والطبراني في الكبير ( 10/247-248 برقم 10596 ) وابن أبي حاتم في تفسيره (9/ 3089 برقم 14480 ) وعبد الرزاق في مصنفه ( 1/454 برقم 1772 ) والبيهقي في السنن الكبرى 1/359 وعزاه السيوطي في الدر المنثور 11/592 إلى كلّ من ـ إضافة لمن سبق ذكرهم ـ : الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم
والأثر صححه الحاكم وسكت عنه الذهبي ( تنبيه : سكوت الذهبي لا يعدّ موافقة كما هو الشائع ، لأن الإمام الذهبي قد عمل تلخيصا للمستدرك ولم يرد التعقب عليه في كل حكم يصدره الحاكم، والمسألة تحتاج لبسط فليراجع : الإيضاح الجليّ في نقد مقولة صححه الحاكم ووافقه الذهبي للدكتور خالد بن منصور الدريس ( أستاذ الحديث بجامعة المالك سعود ) ، وكلام العلامة الألباني في ( الدرر في مسائل المصطلح والأثر ص 45 وما بعدها )
ومما يقويه أنه قد ورد مثله عن بعض التابعين كالإمام مجاهد وقتادة والحسن ( انظر : تفسير الطبري 8/6514 ، السنن الكبرى للبيهقي 1/ 359 ، الدر المنثور للسيوطي 11/592 )

- أما الآيات السابقة ـ التي ساقها الإمام ابن القيم رحمه الله ـ فليس فيها التوقيت لأذكار المساء وإنما هي في الذكر المطلق وليس المقيّد بالصباح والمساء . ولو وُجد في بعض النصوص إطلاق المساء على ما قبل المغرب فإنّ أذكار الصباح والمساء تكون بعد الغروب لرجحان أدلتها.

ب / من السنة النبوية : وردت أحاديث صحيحة فيها تصريح بأنّ المساء هو الذي يكون بعد غروب الشمس ـ أي في ابتداء الليل ـ :

- فعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :" سيد الاستغفار أن تقول : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال : ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة "
رواه البخاري في كتاب الدعوات باب أفضل الاستغفار برقم 5831
وموضع الشاهد ظاهر في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم : "ومن قالها من الليل " بعد قوله : "قبل أن يمسي " فدل على أن مقصوده ـ عليه الصلاة والسلام ـ من المساء هو الليل الذي يبتدئ بعد الغروب

- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا كان جنح الليل ـ أو أمسيتم ـ فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلوهم وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا "
رواه البخاري كتاب بدء الخلق باب خير مال المسلم غنم برقم 3059 ومسلم في كتاب الأشربة برقم 3756
فالمقصود بهذا الأمر النبوي أولياء الطفل ، والزمن هو غروب الشمس وبداية الليل وانتشار الظلام ـ وهو وقت المساء ـ بدليل ما في نفس الحديث ( بصيغة الشك ) وبما ورد عند أبي داود قال :حدثنا مسدد وفضيل بن عبد الوهاب السكري قالا حدثنا حماد عن كثير بن شنظير عن عطاء عن جابر بن عبد الله رفعه قال :"واكفتوا صبيانكم عند العشاء " وقال مسدد : عند المساء فإن للجن انتشارا وخطفة " ( كتاب الأشربة باب في إيكاء الآنية وهو في صحيح أبي داود للألباني (3/339 برقم 3733 )

- وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهو صائم فلما غربت الشمس قال لبعض القوم : يا فلان قم فاجْدَح لنا، فقال : يا رسول الله لو أمسيت قال : انزل فاجدح لنا، قال : يا رسول الله فلو أمسيت، قال : انزل فاجدح لنا، قال : إن عليك نهارا قال : انزل فاجدح لنا، فنزل فجدح لهم فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : إذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم "
رواه البخاري في كتاب الصوم باب متى يحلّ فطر الصائم ؟ برقم 1819ومسلم في كتاب الصيام برقم 1843
فقول بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم : "يا رسول الله فلو أمسيت " بعد أمره له انزل فاجدح لنا ( معنى فاجدح : أي أعدّ لنا الشراب ) ، وكان هذا في يوم صيام ، لدليل على أنّ الصحابي أطلق المساء على غروب الشمس وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك .

* أقوال العلماء الربانيين : وأخيرا هذه طائفة من أقوال علماء اللغة والتفسير والفقه يُستأنس بها على ترجيح القول الذي أوردته
* وقال الإمام الشوكاني في تحفة الذاكرين ص 95 :" والمراد بالمساء : من الغروب إلى الفجر "
* وقال الماوردي في النكت والعيون 3/314 :"وقوله : { حِينَ تُمْسُونَ } أي صلاة المغرب والعشاء ، قاله ابن عباس وابن جبير والضحاك ... والفرق بين المساء والعشي أن المساء بدو الظلام بعد المغيب ، والعشي آخر النهار عند ميل الشمس للمغيب وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس "
* ونصّ على هذا القول جماعة من المفسّرين منهم : البغوي في معالم التنزيل 3/49 وابن الجوزي في زاد المسير 6/293 والشوكاني في فتح القدير 4/218 ( وقد سبق نقل قوله في تحفة الذاكرين وهو يشرح مفتاح الحصن لابن الجزري ) وصديق حسن خان في فتح البيان 10/243
* وقد نقل القرطبي (كما في الجامع لأحكام القرآن 7/16 ) عن الماوردي ـ ولم يتعقبه ـ قوله : والفرق بين المساء والعشاء ( أي العشيّ المذكور في الآية ) أنّ المساء بدوّ الظلام بعد المغيب وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر كنقص نور الشمس "
وقال اللغوي المفسّر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير 8/67 :" والإمساء اقتراب غروب الشمس إلى العشاء ، والعشيّ ما بعد العصر "
* وهو الذي ما إليه من المعاصرين الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي ـ رحمه الله ـ كما في فتاويه ص 628 :" هناك من يقول من بعد الظهر، وهناك من يقول : بعد العصر، وهناك من يقول : بعد غروب الشمس، والراجح عندي أنّها من بعد غروب الشمس كما قال ابن القيم ( تنبيه : قد سبق النقل عن الإمام ابن القيم خلاف ما ذكره الشيخ ههنا ، فأرجو ممن وقف على ما نسبه إليه الشيخ عفيفي رحمه الله أن يزودني به)
وجاء في كتاب ( معجم تصحيح لغة الإعلام العربي ) لمؤلفه : عبد الهادي أبو طالب قوله :" العِشاء ـ بكسر العين ـ هو بداية أول ظلام الليل أي : المساء " .

نقولات ونكت مفيدة :
مع ترجيح القول السابق إلا أنّ الأمر واسع لا إنكار فيه ـ كما سيأتي مبيَّنا من خلال ما سأنقله من كلام العلماء ـ :

*فقد سئل سماحة الامام ابن باز رحمه الله في برنامج نور على الدرب :
هل أستطيع أن أذكر أذكار المساء بعد صلاة العصر مباشرة، وذلك لأنني قد أخرجبعد صلاة العصر مباشرة في بعض الأحيان لزيارة أقاربي ولا أعود إلا بعدصلاة المغرب؟
فأجاب : أذكار المساء يستحب أداؤها بعد العصر أو بعد المغرب، الأمر واسع، من حينتزول الشمس دخل وقت أذكار المساء العشي، العشي بعد الزوال كله عشي، وإذاأتى بالأذكار في العصر أو في المغرب أو بعد العشاء كله طيب، والحمد لله،وإذا تيسر في العصر فهو أحسن.
المصدر :
http://www.binbaz.org.sa/mat/11457


*وسئل الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ عن ذلك فأجاب ـ كما في فتاوى نور على الدرب ـ :
الذي يظهر أن الوقتين كلاهما من المساء ما بين العصر إلى المغرب وما بينالمغرب إلى العشاء وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن نسبحه قبل طلوع الشمسوقبل الغروب فأفضل ما تكون الأذكار في الصباح ما بين صلاة الفجر وطلوعالشمس وفي المساء ما بين صلاة العصر وغروب الشمس ولكن الوقت يمتد إلى أكثرمن ذلك فوقت الصباح قد يمتد إلى إشراق الشمس وكذلك وقت المساء قد يمتد إلىطائفة من أول الليل والأمر في ذلك واسع لكن ما ورد تخصيصه بالليل فإنه لايفعل في النهار كما في قوله صلى الله عليه وسلم في آية الكرسي من قرأها فيليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح فمثل هذا النصواضح في تخصيص ذلك بالليل.
http://www.ibnothaimeen.com/all/noor/article_7735
( وقد سبق نقل كلامه من شرح رياض الصالحين )

وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه تصحيح الدعاء ص 337 بعد أن رجّح كون المساء بعد العصر :" والأمر فيهما واسع كمن عرض له شغب ، والحمد لله "

*كلامٌ مهمّ لشيخنا أبي عبد المعز محمد علي فركوس ـ حفظه الله ـ
شيخنا ـ سدده الله ـ وإن كان من القائلين بأنها تبتدئ من بعد الظهر ، حيث قال ( كما في الفتوى رقم 938 ـ فتاوى الحديث وعلومه من موقع الشيخ ) :" وإنما المساء يطلق-لغة- على ما بعد وقت الظهر إلى الليل " ثم ساق بعض الأدلة وأقوال العلماء في ذلك، إلا أنّه قرّر ـ غير مرّة ـ بأنّ من أتى بالأذكار بعد المغرب فيشمله قول من قال أنها بعد العصر ، ومن أتى بها بعد العصر لم يشمله قول من قال أنها بعد المغرب ، وقد قال شيخنا ـ كما هو مقيّد عندي ـ : وبغض النظر عن أدلة هؤلاء وهؤلاء ، فمن جعل المغرب هو وقت المساء ، فإن كان هو أول وقت المساء فقد أصاب الوقت ، وإن كان وقت المساء هو العصر فيكون المغرب أحد أوقات المساء ، لكنه إذا كان المساء يبتدئ بالمغرب لا يكون العصر وقتا للمساء .
أي من أتى بها بعد المغرب فقد أخذ بالقولين ( قول من يقول أنها بعد المغرب وقول من يقول أنها بعد العصر ويمتد لما بعد المغرب ) بخلاف من يأتي بها بعد العصر فلم يأخذ إلا بقول واحد ـ وهو محتمل وفيه اجتهاد قد يكون صوابا كما قد يكون خطأ ـ
والله تعالى أعلم ، وصلّ اللهم وسلّم على نبيك محمد وآله وصحبه .

[خلفة أسامة الميلي]

بارك الله فيك على الجمع الجميل

[معبدندير]

بارك الله فيكم

[هشام بن حسن]

وفيكما بارك الله أخويّ الكريمين .