01 Apr 2011, 10:52 PM
|
عضو
|
|
تاريخ التسجيل: Nov 2009
الدولة: عنابة
المشاركات: 173
|
|
قال الشيخ عبد المحسن العباد في رسالته الأخيرة :((الإيضاح والتبيين في حكم الاستغاثة بالأموات والغائبين)):
...ويتضح مما تقدم أن البناء على القبور والافتتان بها وتعظيمها من أعظم الوسائل المؤدية إلى الشرك.
وأما دعاء أصحابها والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات وكذا دعاء الغائبين من الجن والإنس والملائكة فهو شرك مخرج من الملّة، ومن كانت هذه حاله فإنه لا يجوز أن يصلَّى وراءه، ومن مات وهو كذلك فإنه لا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين ومآله إلى دخول النار والخلود فيها؛ كما قال الله عز وجل: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}، وهذا حكم من قامت عليه الحجة، أما من لم تقم عليه وعاش في بلاد لا يعرف الإسلام إلا أنه الغلو في الصالحين والاستغاثة بهم ودعاؤهم مغتراً بأشباه العلماء الذين يزينون للناس هذا الباطل ويسكتون على شركهم وعبادتهم غير الله فهذا ظاهره الكفر ويُعامَل في الدنيا معاملة من قامت عليه الحجة فلا يُصلَّى وراءه ولا يُصلَّى عليه إذا مات ولا يُدعى له ولا يُحج عنه، وأمره في الآخرة إلى الله لكونه من جنس أهل الفترات الذين لم تبلغهم الرسالات وهم يمتحنون يوم القيامة، وبعد الامتحان ينتهون إلى الجنة أو إلى النار، وقد أورد ابن كثير في تفسيره لقول اللهعز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} جملة من الأحاديث في ذلك، وقال: ((إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك غير واحد من أئمة العلماء،ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها)).
وأما من كان من الإنس حاضراً أو في حكم الحاضر ـ كمن يكلَّم بالهاتف ـ فإن سؤاله الإغاثة فيما يقدر عليه من الأمور الحسية كإعانته بالمال قرضاً أو إحساناً أو مساعدته في حاجات أخرى يقدر عليها فلا محذور في ذلك؛ كما قال اللهعز وجلعن موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ }.
ويتضح مما تقدم أن هناك فرقاً بين كفر من قامت عليه الحجة ومآل أصحابه إلى النار والخلود فيها، وبين كفر من لم تقم على أصحابه الحجة ككفر أهل الفترات ومن في حكمهم ممن نشأوا على الغلو في الصالحين والاستغاثة بهم لا يعرفون الإسلام إلا أنه هذا العمل مقتدين بأشباه العلماء الذين أضلوهم، فإن هؤلاء أمرهم إلى الله يُمتحنون يوم القيامة ويكون مآل بعضهم بعد الامتحان إلى الجنة ومآل بعضهم إلى النار.
ومما يوضح أن مصيبة العوام سببها اغترارهم واقتداؤهم بأشباه العلماء، أن شيخاً كبيرا في بلده له مكانة مرموقة ألَّف رسالة عن السيد البدوي وذكر في مقدمتها أنه كتب الأسطر الأولى منها وهو في المقصورة المباركة، يعني بذلك ضريح البدوي! وآخر كان عميداً لكلية شرعية في إحدى الدول العربية سمعته يقول أنه عندما زار قبر النبي لا يذكر شيئاً قاله إلا قوله: ((جئتك يا رسول الله))! يشير بذلك إلى قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}، وسيأتي بيان معنى الآية.
وما جاء في هذه الرسالة من التفصيل بين من قامت عليه الحجة ومن لم تقم عليه هو المعتمد، وأي كلام مسموع أو مقروء جاء عني يُفهم منه خلاف ذلك لا يُعوَّل عليه، وإنما التعويل على ما جاء في هذه الرسالة من التفصيل.
وهذا التفصيل الذي ذكرته قريب مما قاله شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في مجموع الفتاوى (1/49): ((ولكن الغالب على عباد القبور هو التقرب إلى أهلها بالطواف بها, كما يتقربون إليهم بالذبح لهم والنذر لهم, وكل ذلك شرك أكبر, من مات عليه مات كافراً لا يغسَّل ولا يُصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين, وأمره إلى اللهعز وجل في الآخرة إن كان ممن لم تبلغه الدعوة فله حكم أهل الفترة)).
وقال أيضاً في (9/40): ((من مات على الشرك فهو على خطر عظيم)) ثم ذكر آيات، ثم قال: ((فهذا وعيدهم ومصيرهم كسائر الكفرة الكفر الأكبر, وحكمهم في الدنيا أنهم لا يغسلون ولا يصلى عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين, أما إن كان أحد منهم لم تبلغه الدعوة ـ أعني القرآن والسنة ـ فهذا أمره إلى الله سبحانه يوم القيامة كسائر أهل الفترة, والأرجح عند أهل العلم في ذلك في حكمهم أنهم يمتحنون يوم القيامة, فمن أجاب دخل الجنة ومن عصى دخل النار)) إلى أن قال: ((أما إن كان أحد منهم عنده جهل فيما وقع فيه من الشرك فأمره إلى الله جلَّ وعلا, والحكم على الظاهر, فمن كان ظاهره الشرك حكمه حكم المشركين وأمره إلى الله ـ جلَّ وعلا ـ الذي يعلم كل شيء سبحانه وتعالى)).
وقد جاء عن الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فتاوى كثيرة فيها إطلاق القول بكفر المستغيثين بغير الله من الأموات والغائبين، وكلامه الذي أوردته فيه التفريق بين من قامت عليه الحجة ومن لم تقم عليه، فيُحمل كلامه الذي كفَّر فيه من قامت عليه الحجة على الكفر الواضح البيِّن الذي مآل أصحابه إلى النار والخلود فيها، وذلك بخلاف من لم تقم عليه الحجة وكان ظاهر حاله الكفر، وعُومل في الدنيا معاملة الكفار فإن مآل هؤلاء في الآخرة بعد الامتحان إما إلى الجنة وإما إلى النار، وبذلك يُجمع بين ما جاء عنه رحمه الله من الإجمال في التكفير مطلقاً وبين التفصيل.
وأما قول الله عز وجل: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} فليس المراد به المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، بل المراد به المجيء إليه في حياته صلى الله عليه وسلم كما فهمه الصحابة رضي الله عنهم، وقد أوضحت ذلك في رسالة أهمية توحيد العبادة (ص 69) بقولي: ((وأصحاب القبور يزارون ويُدعى لهم ولا يُدعَون، ويُطلب من الله لهم ولا يُطلب منهم شيء، لا دعاء ولا شفاعة ولا جلب نفع ولا دفع ضر؛ فإن ذلك إنما يُطلب من الله، والله سبحانه وتعالى هو الذي يُدعى ويُرجى، وغيرُه يُدعى له ولا يُدعى؛ والدليل على ذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في حياته يطلبون منه الدعاء فيدعو لهم، وبعد موته صلى الله عليه وسلم في حياته البرزخية ما كانوا يذهبون إلى قبره فيطلبون منه الدعاء، ولهذا لما حصل الجدب في زمن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس رضي الله عنه وطلب منه الدعاء، فقد روى البخاري في صحيحه (1010) عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: ((اللهم إنا كنّا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقون))، ولو كان طلب الدعاء من النبي بعد موته سائغاً لما عدل عنه عمر رضي الله عنه إلى الاستسقاء بالعباس.
وجاء في فتح الباري (2/495) قول الحافظ ابن حجر: ((وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار ـ وكان خازن عمر ـ قال: (أصاب الناسَ قحطٌ في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي فقال: يا رسول الله! استسق لأمتك؛ فإنهم قد هلكوا، فأُتي الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر) الحديث، وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة))، وهذا الأثر في مصنف ابن أبي شيبة (12051) إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم إلى أبي صالح، وأما مالك الدار فمجهول، فلا يكون الأثر ثابتاً، وأيضاً الرجل السائل مبهم غير معروف، وأما تسميته ببلال بن الحارث المزني الصحابي فلا يصح؛ لأن الذي رواه سيف بن عمر وهو ضعيف لا يحتج به، وترجمته في تهذيب التهذيب مشتملة على ما قيل فيه من الجرح الشديد، وانظر تفصيل ذلك في كتاب ((التوسل: أنواعه وأحكامه)) للشيخ الألباني رحمه الله (ص: 116).
ويدل أيضاً لكون النبي صلى الله عليه وسلم لا يُطلب منه الدعاء بعد موته ما رواه البخاري في صحيحه (7217) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((وا رأساه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك، فقالت عائشة: وا ثكلياه! والله إني لأظنك تحب موتي...)) الحديث، فلو كان يحصل منه الدعاء والاستغفار بعد موته صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك فرق بين أن تموت قبله أو يموت قبلها ، وهذا الحديث مبيِّن لقول الله عز وجل: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} ، وأن المجيء إليه وحصول الاستغفار والدعاء منه إنما يكون في حياته وليس بعد موته ، والسّنّة تفسر القرآن وتبيِّنه وتوضّحه.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين للفقه في دينهم والثبات على الحق الذي جاء في كتاب ربهم وسنة نبيهم ضلى الله عليه وسلم وأن يهدي ضالهم ويرشد حائرهم، إنه سبحانه وتعالى جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
|