منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم مشاركات اليوم Right Nav

Left Container Right Container
 

العودة   منتديات التصفية و التربية السلفية » القــــــــسم العــــــــام » الــمــــنــــــــتـــــــدى الـــــــــعــــــــام » ركن الخطب المنبريّة والدروس العلمية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 03 Jun 2015, 08:57 AM
محمد ليمان محمد ليمان غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2015
الدولة: الجزائر
المشاركات: 116
افتراضي مقلات رمضانية الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله

يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ
روى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ))(1). وقد جاء التصريح في حديث رواه الإمام أحمد في مسنده بأن هذا المنادي ملَك من ملائكة الله وأنه يتكرر كلَّ ليلة حتى ينقضي الشهر ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((.. وَيُنَادِي فِيهِ مَلَكٌ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَبْشِرْ يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ حَتَّى يَنْقَضِيَ رَمَضَانُ))(2). ولئن كان أهل الإيمان لا يسمعون صوت هذا المنادي إلا أنهم من ندائه على يقين ؛ لأن الذي أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .

فلنستشعر في ليالي رمضان المباركات هذا النداء المبارك ، هذا النداء العظيم ، ولنفعِّل هذا النداء في حياتنا ، ولنتأمل في أحوالنا وسلوكنا ، ولننظر في حالنا من أي أهل النداءين ؟ فإنهما نداءان وكل منهما مقصود به فئة من الناس " يا باغي الخير .. يا باغي الشر " ؛ وفي هذا دلالة أن قلوب الناس على قلبين : قلب يبغي الخير ويطلبه ويبحث عنه ويتحراه ، وقلب آخر - والعياذ بالله - يبحث عن الشر ويتحرك في طلبه وينبعث في البحث عنه ، فليسوا سواء ؛ ليس من كان قلبه قلباً صالحاً مستقيماً يطلب الخير ويتحراه كمن قلبه -والعياذ بالله- قلباً شريراً لئيماً يبحث عن الشر ويتحراه .

فمن كان قلبه ذلك القلب الكريم الذي يتحرى الخير ويطلبه فليغنم شهر الخيرات : بالإقبال على الله ، وبالمزيد من الطاعات ، وبالاستكثار من العبادات ، وباغتنام موسم الخيرات بالإكثار من الرغائب والمستحبات ، وفي الحديث القدسي يقول الله جل وعلا : ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ))(3) فالمقبِل على الخيرات يجتهد في الفرائض أولاً تبكيراً إليها ومزيد اهتمامٍ بها وسعياً في تتميمها وتكميلها ، ثم بعد ذلك يوسع في باب الرغائب والمستحبات اغتناماً واستكثارا .

وما من شك أن هذا النداء العظيم المتكرر كلَّ ليلة من ليالي رمضان يُعَدُّ حافزاً عظيماً للهمم والعزائم في شهر الخيرات ؛ ينادي المقبلين على الخيرات تحفيزاً لهم وشحذاً لهممهم لاستباق الخيرات ؛ سواء كانت متعلقة بالنفس كالمحافظة على الواجبات وأداء الصلاة والصيام وغيرها من الواجبات على أتم الوجوه وأفضلها والمنافسة في أداء النوافل والسنن واجتناب المحرمات والمكروهات ، أو كانت متعلقة بالغير كبذل النصيحة لهم وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران وسائر الناس ، وكالإنفاق في سبيل الله ومساعدة الفقراء والمحتاجين ، وكفّ الأذى عن الناس ومساعدتهم بالمال والبدن والجاه .

وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أكملَ هدي وأحسنَ هدي ، يقول ابن القيم رحمه الله مبيِّناً هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة والإحسان إلى الناس : (( كان صلى اللَّه عليه وسلم أعظمَ الناس صدقةً بما ملكت يدُه ، وكان لا يستكثر شيئاً أعطاه للهِ تعالى ولا يستقِلُّه، وكان لا يسأله أحدٌ شيئاً عنده إلا أعطاه قليلاً كان أو كثيراً ، وكان عطاؤه عطاء مَنْ لا يخاف الفقر ، وكان العطاءُ والصدقةُ أحبَّ شيءٍ إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظمَ من سرور الآخذِ بما يأخذه، وكان أجودَ الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة ، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه، وتارة بلباسه . وكان ينوّع في أصناف عطائه وصدقته، فتارة بالهبة، وتارة بالصدقة ، وتارة بالهدية، وتارة بشراء الشيء ثم يعطي البائع الثمنَ والسلعة جميعاً كما فعل ببعير جابر، وتارة كان يقترض الشيء فيرد أكثر منه وأفضل وأكبر، ويشتري الشيء فيعطي أكثر من ثمنه، ويقبل الهدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها، تلطُّفاً وتنوُّعاً في ضروب الصدقة والإحسان بكل ممكن ، وكانت صدقته وإحسانه بما يملكه وبحاله وبقوله ، فيُخْرِجُ ما عنده، ويأمُرُ بالصدقة ويحضُّ عليها ويدعو إليها بحاله وقوله ، فإذا رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء، وكان مَنْ خالطَه وصحِبَه ورأى هديَه لا يملك نفسه من السماحة والندى، وكان هديه صلى اللَّه عليه وسلم يدعو إلى الإحسان والصدقةِ والمعروفِ، ولذلك كان صلى اللَّه عليه وسلم أشرحَ الناس صدراً ، وأطيبَهم نفساً ، وأنعَمهم قلباً ، فإن للصدقة وفعلِ المعروفِ تأثيراً عجيباً في شرح الصدر))(4)اهـ.

ومن شواهد ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ))(5).

ومن أبواب الخير التي رغب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم تفطير الصائم وتجهيز الغازي في سبيل الله ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا أَوْ جَهَّزَ غَازِيًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ))(6).

وحث على الاعتمار في رمضان روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً معي))(7) ، وروى ابن ماجة عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ قَالَ : ((عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً))(8).

فالثواب في هذا الشهر عظيم والأجر كبير وأبواب الخير واسعة فليضرب كل بسهم فيها والله تعالى يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] ، وإذا فعل ذلك فليخلص لله النية ولْيَحتسب الأجر عنده ولْيُداوم على ذلك ما استطاع ، وليحرص على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وموافقة هديه في كل أمر ، وليطلب العون من الله وحده على فعل الخيرات والمسابقة في أداء الطاعات والإكثار من الحسنات ، ومن الدعوات العظيمة التي علَّمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ولها نفع عظيم في هذا الباب ما رواه ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا))(9).

وفَّقنا الله جميعاً لفعل الخيرات واغتنام الأجور ورفيع الدرجات.

*****



----------------

(1) سنن الترمذي (682)، وابن ماجه (1642)، واللفظ للترمذي .

(2) مسند الإمام أحمد (18042) .

(3) رواه البخاري (6502) .

(4)زاد المعاد لابن القيم (2/21-22).

(5) البخاري (6)، ومسلم (2308) واللفظ للبخاري .

(6) سنن البيهقي (7927) .

(7) البخاري (1863) .

(8) سنن ابن ماجه (2995) .

(9) سنن ابن ماجه (3846) .

شَأْنُ الصَّلَاةِ فِي رَمَضَان
ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ))(1).

لابد لنا ونحن في شهر الصيام أن نتحدث عن موضوع مهم وعظيم وهو لا يقل أهمية عن الصيام بل إنه يتقدم على الصيام في المرتبة والمكانة ألا وهو الصلاة ؛ فإن الصلاة من أعظم الواجبات التي أوجبها الله على عباده وأجلِّ الفرائض التي افترضها ، فهي عماد الدين وآكد أركانه بعد الشهادتين ، وهي الصلة بين العبد وربه ، وأوّل ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة ، فإذا صلحت صلح سائر عمله ، وإذا فسدت فسد سائر عمله ، وهي الفارقة بين الكفر والإسلام ؛ فإقامتها إيمان وإضاعتها كفر وضلال وعصيان ، فلا دين لمن لا صلاة له ، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، من حافظ عليها كانت له نوراً في قلبه ووجهه وقبره وحشره ، وكانت له نجاة يوم القيامة، وحُشر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نورٌ ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة ، وحُشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.

(( قال الإمام أحمد رحمه الله : جاء في الحديث ( لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) ، وكان عمر بن الخطاب يكتب إلى الآفاق: " إن أهمَّ أموركم عندي الصلاةُ ؛ فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة " . قال: فكل مستَخِفٍّ بالصلاة مستهين بها فهو مستخِفٌّ بالإسلام مستهين به ، وإنما حظهم في الإسلام على قدر حظهم من الصلاة ، ورغبتُهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة ، فاعرف نفسك يا عبد الله واحذر أن تلقى الله ولا قدر للإسلام عندك ، فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك ، وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الصلاة عمود الدين ) ، ألست تعلمُ أن الفُسطاطَ إذا سقط عموده سقط الفسطاط ولم ينتفع بالطنب ولا بالأوتاد ، وإذا قام عمود الفسطاط انتُفع بالطنب والأوتاد ! وكذلك الصلاة من الإسلام ، وجاء في الحديث: (إنّ أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن تقبلت منه صلاته تقبل منه سائر عمله ، وإن ردت عليه صلاته رد عليه سائر عمله)، فصلاتنا آخر ديننا وهي أوّل ما نُسأل عنه غداً من أعمالنا يوم القيامة ، فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين إذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام))(2) اهـ.

فتضييع الصلاة وإهمالها أمر جد خطير وليس بالهين ، وفما يلي وقفة مع بعض النصوص بشأن الصلاة :

قال الله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } [المدثر: 38-43] ، فأخبر سبحانه بأن تارك الصلاة من المجرمين السالكين في سقر ؛ وهو وادٍ في جهنم ، وقال تعالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [مريم: 59] ، وجاء عن ابن مسعود أن (غيّاً) نهر في جهنم خبيث الطعم بعيد القعر ، فيا عظم مصيبة من لقيه ويا شدة حسرة من دخله . وقال تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [التوبة:11] ، فعلَّق أخوَّتهم بفعل الصلاة ، فدل على أنهم إن لم يفعلوها فليسوا بإخوان لهم . وقال u: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ } [المرسلات: 48] ، ذكر ذلك بعد قوله: { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } [المرسلات: 46] .

وأما الأحاديث في هذا الشأن فهي كثيرة منها: ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ))(3) ، وروى أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن يزيد بن حبيب الأسلمي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ))(4)، وروى الإمام أحمد بإسناد جيد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ : مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ))(5)، وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَصَلَّى صَلَاتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ ))(6) ، وروى أحمد ومالك والنسائي بإسناد صحيح عن محجن الأسلمي رضي الله عنه (( أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ وَمِحْجَنٌ فِي مَجْلِسِهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ ؟ قَالَ بَلَى وَلَكِنِّي كُنْتُ قَدْ صَلَّيْتُ فِي أَهْلِي ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جِئْتَ فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ صَلَّيْتَ )) (7) .

وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى آثار كثيرة منها: ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ))(8) ، وقال: (( لا إسلام لمن ترك الصلاة)) قاله بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم، بل قال مثلَ قوله هذا غيرُ واحد من الصحابة منهم معاذُ بن جبل وعبدُ الرحمن بنُ عوف وأبو هريرة وعبدُ الله بن مسعود وغيرُهم . وروى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى ، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ ))(9) .

فإذا كان هذا شأن من لا يشهد الصلاة مع الجماعة يعده الصحابةُ منافقاً معلومَ النفاق فكيف إذن بالتارك لها !! - نسأل الله السلامة - ، وقد ورد في فضل المحافظة على الصلاة وشدّة عقوبة من تهاون فيها غير ما تقدم نصوص كثيرة لا يسع المقام لبسطها .

ومع ذلك فإنَّ مما يلاحظ على بعض الصائمين إهمالهم للصلاة وعدم عنايتهم بها ؛ إما بتأخيرها عن وقتها ، أو بالتفريط ببعض الصلوات مع اهتمام وعناية بأمر الصيام ، ألم يعقِل هؤلاء مكانة الصلاة وعظم شأنها !! ألم يكن لهم في مدرسة الصيام ما يقودهم إلى المحافظة على الصلاة وتحقيق تقوى الله سبحانه !! ، بل بعضهم أساء الفهم وأبعد النجعة في فهم مدلول قول النبي صلى الله عليه وسلم (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )) حيث توهم أن هذا الصيام يكفيه لنيل الغفران ، فركن إلى ذلك وضيع الصلوات ، وما أسوأه من فهم وأبعده عن الحق والهدى ، وأين هذا من النصوص الواردة في الصلاة ترغيبا وترهيبا وهي كثيرة ، وقد تقدم شيء منها ، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ (( الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ )) وترك الصلاة كبيرة من الكبائر ، بل دلت النصوص المتقدمة على أنه كفر ، وأن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن تقبلت تقبل منه سائر عمله ، وإن ردت رد عليه سائر عمله .

نسأل الله أن يوفقنا جميعاً لإقام الصلاة وأدائها كما بينها رسولنا صلى الله عليه وسلم في المساجد مع الجماعة ، وأن يهدي ضال المسلمين ، ويحبب إلينا الصلاة وسائر العبادات إنه سميع قريب مجيب .

*****



------------

(1) صحيح البخاري (8)، ومسلم (16) واللفظ له .

(2) حكم تارك الصلاة لابن القيم (ص: 9).

(3) مسلم (82).

(4) مسند الإمام أحمد (22833)، سنن الترمذي (2621 ) وقال: حديث حسن صحيح ، النسائي (463)، وابن ماجه (1079).

(5) مسند الإمام أحمد (2/169، رقم 6576) وصحح إسناده أحمد شاكر .

(6) صحيح البخاري (393).

(7)مسند الإمام أحمد (16347) ، موطأ الإمام مالك (293) ، سنن النسائي (857).

(8) موطأ الإمام مالك (74) ، سنن البيهقي (6291)، مصنف عبد الرزاق (3/125)، مصنف ابن أبي شيبة (8/581).

(9) مسلم (654).

رَمَضَانُ شَهْرُ الدُّعَاء

ثبت في السنن عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ ثُمَّ قَرَأَ : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر:60]))(1) .

فالدعاء من أجل العبادات وأعظمها وهو حق لله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يُصرف لغيره كائناً من كان ، وله مكانة عظيمة في الدين ومنزلة رفيعة فيه ، وذلك لما في الدعاء من التضرع وإظهار الضعف والحاجة لله ، ولأن العبادة كلما كان القلب فيها حاضراً وأخشع فهي أفضل وأكمل ، والدعاء أقرب العبادات إلى حصول هذا المقصود، والدعاء فيه ملازمة للتوكل والاستعانة بالله ، والتوكل هو اعتماد القلب على الله وثقته به في حصول المحبوبات واندفاع المكروهات ؛ والنصوص في فضل الدعاء وعظيم شأنه كثيرة لا تحصر ، ولشهر الصيام شهر رمضان المبارك خصوصية في الدعاء ، فإن الصائم ممن لا ترد دعوته إذا أخلص في صيامه ونصح في عبادته وصدق مع الله ففي الحديث ((ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ : دَعْوَةُ الصَّائِمِ ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ))(2)، وقال صلى الله عليه وسلم : ((ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لَا تُرَدُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ))(3).

ومما يبين مكانة الدعاء وعلو شأنه في شهر الصيام أن قوله تعالى في سورة البقرة : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} قد جاء متخللاً لآيات الصيام وفي أثنائها ؛ فقبل هذه الآية قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } وبعدها قوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } ، فجاءت هذه الآية الكريمة وهي مختصة بالدعاء متوسطة لآيات الصيام ومحفوفة بها ولعل في ذلك ما يدل على عظم قدر الدعاء وأهميته في هذا الشهر ؛ لأن العبد في هذا الشهر المبارك يملؤه الرجاء أن يوفقه الله للقيام بحق الله في هذا الشهر على أتم الوجوه وأكملها ؛ ولا سبيل له إلى ذلك إلا بسؤال الله ودعائه ، وهو كذلك يكثِر في هذا الشهر من الطاعات والعبادات والقربات وهو يرغب ويطمع أن يتقبلها الله منه ؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بدعائه والانكسار بين يديه والتضرع له ، وكذلك قد يكون العبد مرتكباً لبعض الآثام قبل رمضان أو صدر عنه نقص أو تقصير أو تفريط أثناء رمضان وهو يرغب في توبة الله عليه ومغفرة ذنوبه ؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بالدعاء ، فكأن الله يلفت عباده إلى ما يلوذون به ويهربون إليه وبه تجاب رغباتهم وتقضى حاجاتهم وتقال عثراتهم وتغفر زلاتهم.

قال ابن القيم رحمه الله : (( أساس كلّ خير أن تعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ؛ فتتيقن حينئذ أن الحسنات من نِعَمِه ؛ فتشكره عليها وتتضرعَ إليه أن لا يقطعها عنك ، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته؛ فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكِلَكَ في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك . وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله بتوفيق الله للعبد، وكلَّ شرٍّ فأصله خذلانه لعبده ، وأجمعوا أنَّ التوفيق أن لا يكِلَك الله إلى نفسك، وأن الخذلان : هو أن يخلي بينك وبين نفسك، فإذا كان كلُّ خير فأصله التوفيق وهو بيد الله لا بيد العبد؛ فمفتاحه الدعاءُ والافتقار وصدق اللَّجإ والرغبةِ والرهبةِ إليه ، فمتى أعطَى العبدَ هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له ، ومتى أضلَّه عن المفتاح بقي بابُ الخير مُرْتَجاً دونه ... وما أُتي من أُتِيَ إلا من قِبَل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء ، ولا ظَفِرَ من ظفر - بمشيئة الله وعونِه - إلا بقيامه بالشكرِ وصدقِ الافتقار والدعاء))(4) اهـ.

والدعاءُ شأنُه في الإسلام عظيمٌ، ومكانتُه فيه ساميةٌ، ومنزلتُه منه عالية؛ إذ هو أجلُّ العبادات وأعظمُ الطاعات وأنفعُ القربات، ولهذا جاءت النصوصُ الكثيرةُ في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المبيِّنةُ لفضله والمُنَوِّهةُ بمكانته وعظم شأنه، والمرغِّبةُ فيه والحاثَّةُ عليه، وقد تنوَّعت دلالاتُ هذه النصوص المبيِّنة لفضل الدعاء، فجاء في بعضها الأمرُ به والحثُّ عليه، وفي بعضها التحذير من تركه والاستكبار عنه، وفي بعضها ذكرُ عِظم ثوابه وكبر أجره عند الله، وفي بعضها مدحُ المؤمنين لقيامهم به، والثناءُ عليهم بتكميله، وغيرُ ذلك من أنواع الدلالات في القرآن الكريم على عظم فضل الدعاء.

بل إنَّ الله سبحانه قد افتتح كتابه الكريم بالدعاء واختممه به، فسورة «الحمد» التي هي فاتحة القرآن الكريم مشتملةٌ على دعاء الله بأجلِّ المطالب وأكمل المقاصد، أَلَا وهو سؤال الله عزَّ وجلَّ الهدايةَ إلى الصراط المستقيم والإعانةَ على عبادته، والقيامَ بطاعته سبحانه، وسورةُ «الناس» التي هي خاتمة القرآن الكريم مشتملةٌ على دعاء الله سبحانه، وذلك بالاستعاذة به سبحانه من شرِّ الوسواس الخنَّاس، الذي يوسوسُ في صدور الناس، مِنَ الجِنَّة والناس، وما من ريبٍ أنَّ افتتاحَ القرآن الكريم بالدعاء واختتامَه به دليلٌ على عِظم شأن الدعاء وأنَّه روحُ العبادات ولبُّها.

بل إنَّ الله جلَّ وعلا سمَّى الدعاءَ في القرآن عبادةً في أكثر من آية، مِمَّا يدلُّ على عِظم مكانته، كقوله سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر: 60]، وكقوله فيما حكاه عن نبيِّه إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا } [مريم: 48 – 49]، ونحـوها من الآيات، وسَمَّى سبحانه الدعاءَ دِيناً كمـا في قوله: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65]، ونحوها من الآيات.

وهذا كلُّه يُبيِّن لنا عِظمَ شأن الدعاء، وأنَّه أساسُ العبودية وروحُها، وعنوانُ التذلُّل والخضوع والانكسار بين يدي الربِّ، وإظهارِ الافتقار إليه، ولهذا حثَّ الله عبادَه عليه، ورغَّبهم فيه في آيٍ كثيرة من القرآن الكريم، يقول الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف: 55 – 56]، وقال تعالى: { هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65].

وأخبر سبحانه ـ مرَغِّباً عبادَه في الدعاءِ ـ بأنَّه قريبٌ منهم يُجيب دعاءَهم، ويُحقِّقُ رجاءَهم، ويعطيهم سؤلهم، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] ، وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ} [النمل: 62].

ولهذا فإنَّ العبدَ كلَّمـا عظُمت معرفتُه بالله وقويت صِلتُه به كان دعاؤُه له أعظمَ، وانكسارُه بين يديه أشدَّ، ولهذا كان أنبياءُ الله ورُسُلُه أعظمَ الناس تحقيقاً للدعاء وقياماً به في أحوالهم كلِّها وشؤونهم جميعِها، وقد أثنى الله عليهم بذلك في القرآن الكريم، وذَكَر جملةً من أدعيتهم في أحوالٍ متعدِّدةٍ ومناسبات متنوِّعةٍ، قال تعالـى في وصفهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].

فينبغي على المؤمن أن يعنى بهذه العبادة ، وأن يغنم أوقات هذا الشهر الشريف بالإقبال على الله بالدعاء والسؤال والإلحاح راغبا راهبا ، مع العناية بشروط الدعاء وآدابه ، راجيا أن يكون من الفائزين بثواب الله الناجين من النار ، فإن لله عتقاء من النار وذلك كلَّ ليلة من ليالي رمضان .

اللهم تقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا ، ومنَّ علينا بالعتق من النار يا حي يا قيوم .




--------------

(1) سنن أبي داود (1479)، سنن الترمذي (3247) وقال: هذا حديث حسن صحيح ، سنن ابن ماجه (3828) .

(2) رواه الطبراني في الدعاء (1215) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7513) .

(3) رواه البيهقي في السنن الكبرى (3/345، 6185) .

(4) الفوائد لابن القيم (ص:127- 128 )

رَمَضَانُ شَهْرُ الاسْتِغْـفَارِ
قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر:53] ، إن هذا الآية الكريمة تبين سعة رحمة الله ولطفه بعباده ، وفيها نداء من الرحمن الرحيم للمسرفين والمذنبين الذين ارتكبوا أعظم الذنوب وأشنعها - ويدخل في ذلك الشرك والكفر وكبائر الذنوب - أن يقلعوا من ذنوبهم هذه ويستغفروا ربهم الغفور الرحيم ؛ فإنه يغفر الذنوب جميعاً ولا يتعاظم ذنباً أبداً مهما كبُر وعظم طالما استغفر صاحبه وتاب ، روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي ، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً))(1).

وقد أمر الله عباده في القرآن بالاستغفار قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [المزمل:20] ، وقال تعالى {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:3]، وبيَّن سبحانه أنه يغفر لمن استغفره فقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء: 110] ، ومدح الله عباده المستغفرين فقال: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] ، وقال سبحانه: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات: 18]، وكان من هديه صلى الله عليه وسلم كثرة الاستغفار قال صلى الله عليه وسلم : ((إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ))(2) ، وفي حديث آخر: ((أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً))(3).

وإن شهر رمضان له مزيد خصوصية في مغفرة الذنوب ومحو السيئات ؛ فالسعيد من أدرك رمضان وقضى أيامه ولياليه في طاعة الله وما يرضيه فاستحق بذلك المغفرة والرضوان من الملك الديان ، والشقي المحروم ذاك الذي دخل عليه هذا الشهر العظيم ولم يعمل صالحاً يرقيه ، ولم يتب من ذنوبه التي تهلكه وتخزيه ، وأضاع شهره بأيامه ولياليه فيما يغضب ربه ويرديه ، ولم يتوجه إلى ربه طالبا غفران ذنوبه ومساويه ، حتى خرج شهر الغفران وهو باق على صدوده وتجنيه .

روى الطبراني في معجمه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ قُلْ آمِينَ ، فَقُلْتُ آمِينَ ، قَالَ : يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَمَاتَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأُدْخِلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ، قُلْ آمِينَ ، فَقُلْتُ آمِينَ ، قَالَ : وَمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ، قُلْ آمِينَ ، فَقُلْتُ آمِينَ ))(4). وروى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ ))(5).

والحري بالعبد المؤمن أن يغنم خيرات هذا الشهر وبركاته وأن يلازم الاستغفار ويكثر منه ليغنم عوائده المبارك وفوائده الجليلة ، وهي كثيرة لا تحصى ؛ في الدنيا والآخرة .

فمن فوائده الدنيوية ما ورد في قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [10] يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [11] وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } [نوح: 10-12] ، وجاء في الأثر عن الحسن البصري - رحمه الله - أنّ رجلاً شكا إليه الجدبَ فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر الفقر فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر عدم الولد فقال: استغفر الله ، ثم تلا عليهم قول الله تعالى عن نوح عيه السلام :{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [10] يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [11] وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } ؛ " أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه ؛ كثَّر الرزق عليكم ، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض ، وأنبت لكم الزرع ، وَأَدَرَّ لكم الضرع ، وأمدكم بأموال وبنين ، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها " (6) ، فهذه الثمرات المذكورة هنا هي مما يناله العبد في دنياه جزاء استغفاره من الخيرات العميمة والعطايا الكريمة والثمرات المتنوعة .

وأما ما يناله المستغفرون يوم القيامة من الثواب الجزيل والأجر العظيم والرحمة والمغفرة والعتق من النار والسلامة من العذاب فأمرٌ لا يحصيه إلا الله تعالى ، روى ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا))(7) وسنده صحيح ، وروى الطبراني في الأوسط والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ أَحَبَّ أَنْ تُسِرَّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الاسْتِغْفَارِ ))(8).

لكن مما ينبغي أن يعلم هنا أن المراد بالاستغفار ما اقترن به ترك الإصرار ؛ فهو حينئذ يعد توبة نصوحاً تَجُبُّ ما قَبْلَها ، وهذا هو الاستغفار الذي ندب الله إليه وكافأ أصحابه بالمغفرة ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [135] أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135-136]

وللمغفرة ثلاثة أسباب عظيمة اجتمعت في حديث أنس المتقدم:

الأول: أن العبد إذا أذنب ذنباً لم يرجُ مغفرته من غير ربه ، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب ويأخذ بها غيره ، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى لَا أَدْرِي أَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ اعْمَلْ مَا شِئْتَ وفي رواية قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ))(9).

الثاني : الاستغفار ؛ ولو عظُمت الذنوب وبلغت الكثرة عنان السماء : وهو السحاب ، وقيل ما انتهى إليه البصر منها ، وفي الرواية الأخرى : ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَغَفَرَ لَكُمْ)) (10) ، والاستغفار: طلب المغفرة ، والمغفرة: هي وقاية شر الذنوب مع سترها . وإذا قُرن الاستغفار بالتوبة فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن طلب المغفرة باللسان ، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب والجوارح .

الثالث: التوحيد ؛ وهو السبب الأعظم ، فمن فقَدَه فقَد المغفرة ، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48].

اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها صغيرها وكبيرها ما علمنا منها وما لم نعلم ، واختم بالصالحات أعمالنا.

*****

--------------

(1) سنن الترمذي (3540) .

(2) رواه مسلم (2702) .

(3) رواه البخاري (6307).

(4) المعجم الكبير (2023) .

(5) جامع الترمذي (3545)، ومستدرك الحاكم (2016) .

(6) تفسير ابن كثير (سورة نوح ، 8/233).

(7) سنن ابن ماجه (3818) .

(8) المعجم الأوسط للطبراني (839)، شعب الإيمان للبيهقي (639).

(9) رواه مسلم (2758).

(10) مسند الإمام أحمد (13427).

رَمَضَانُ شَهْرُ الصَّبْر
إن الصبر هو الأساس الأكبر لكل خُلُقٍ جميل ، والتنزه من كلِّ خُلُقٍ رذيل ، وهو حبس النفس على ما تكره ، وعلى خلاف مرادها طلباً لرضا الله وثوابه ، ويدخل فيه الصبر على طاعة الله ، وعن معصيته ، وعلى أقدار الله المؤلمة ، فلا تتم هذه الثلاثة التي تجمع الدين كله إلا بالصبر :

* فالطاعات - خصوصاً الطاعات الشاقة كالجهاد في سبيل الله ، والعبادات المستمرة كطلب العلم والمداومة على الأقوال النافعة والأفعال النافعة - لا تتم إلا بالصبر عليها ، وتمرين النفس على الاستمرار عليها وملازمتها ومرابطتها ، وإذا ضعف الصبر ضعفت هذه الأفعال وربما انقطعت .

* وكذلك كفُّ النفس عن المعاصي - وخصوصاً المعاصي التي في النفس داعٍ قويٌ إليها - لا يتم الترك إلا بالصبر والمصابرة على مخالفة الهوى وتحمُّل مرارته .

* وكذلك المصائب حين تنزل بالعبد ويريد أن يقابلها بالرضا والشكر والحمد لله على ذلك لا يتم ذلك إلا بالصبر واحتساب الأجر . ومتى مرّن العبد نفسه على الصبر ووطّنها على تحمُّل المشاق والمصاعب وجدّ واجتهد في تكميل ذلك صار عاقبته الفلاح والنجاح ، وقلّ من جدّ في أمر يطلبه واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر .

وإن شهر رمضان مدرسة عظيمة وصرح شامخ يستلهم منه العباد كثيراً من العبر والدروس النافعة التي تربي النفوس وتقوِّمها في شهرها هذا وبقية عمرها ، وإن مما يجنيه الصائمون في هذا الشهر العظيم والموسم المبارك تعويد النفس وحملها على الصبر ؛ ولذا وصف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم شهر رمضان بشهر الصبر في أكثر من حديث ، منها ما رواه الإمام أحمد ومسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ))(1) ، وأخرج الإمام أحمد عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عَنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وذكر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ ))(2) ، وروى النسائي عن الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((صمْ شهرَ الصبرِ وثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شهر...))(3) .

ففي هذه الأحاديث الثلاثة وصف النبي صلى الله عليه وسلم شهر رمضان بأنه شهر الصبر وذلك لأن رمضان يجتمع فيه أنواع الصبر كلها ؛ الصبر على طاعة الله ، والصبر عن معصيته ، والصبر على أقدار الله المؤلمة :

- فرمضان فيه الصيام، وفيه القيام، وفيه تلاوة القرآن ، وفيه البر والإحسان والجود والكرم وإطعام الطعام والذكر والدعاء والتوبة والاستغفار وغير ذلك من أنواع الطاعات ، وهي تحتاج إلى صبر ليقوم بها الإنسان على أكمل الوجوه وأفضلها .

- وفيه كفّ اللسان عن الكذب والغش واللغو والسب والشتم والصخب والجدال والغيبة والنميمة ومنع بقية الجوارح عن اقتراف جميع المعاصي ، وهذا يكون في رمضان وفي غيره ، والبعد عن هذه المعاصي يحتاج إلى صبر حتى يستطيع العبد حفظ نفسه عن الوقوع فيها .

- ورمضان فيه ترك الطعام والشراب وما يتعلق بها ونفسه تتوق لذلك وكذلك حبس النفس عما أباحه الله من الشهوات والملذات كالجماع ومقدماته، وهذا لا تستطيع النفس إلا بالصبر .

فاشتمل رمضان على أنواع الصبر كلها ، قال ابن القيم رحمه الله : (( والنفس فيها قوتان : قوة الإقدام ، وقوة الإحجام ؛ فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه ، وقوة الإحجام إمساكاً عما يضره ، ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به وثباتُه عليه أقوى من صبره عما يضره فيصبر على مشقة الطاعة ولا صبر له عن داعي هواه إلى ارتكاب ما نُهي عنه ، ومنهم من تكون قوة صبره عن المخالفات أقوى من صبره على مشقة الطاعات ، ومنهم من لا صبر له على هذا ولا ذاك ، وأفضل الناس أصبرهم على النوعين ، فكثير من الناس يصبر على مكابدة قيام الليل في الحر والبرد وعلى مشقة الصيام ولا يصبر عن نظرة محرمة ، وكثير من الناس يصبر عن النظر وعن الالتفات إلى الصور ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين بل هو أضعف شيء عن هذا وأعجزه ، وأكثرهم لا صبر له على واحد من الأمرين ، وأقلهم أصبرهم في الموضعين ))(4) اهـ.

وقال أيضاً : ((فالإنسان منا إذا غلب صبرُه باعثَ الهوى والشهوة الْتحق بالملائكة ، وإن غلب باعثُ الهوى والشهوة صبرَه الْتحق بالشياطين ، وإن غلب باعثُ طبعه من الأكل والشرب والجماع صبرَه التحق بالبهائم))(5).

وقد أمر الله بالصبر وأثنى على الصابرين، وأخبر أن لهم المنازل العالية والكرامات الغالية في آيات كثيرة من القرآن وأخبر أنهم يوفون أجرهم بغير حساب قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران:200] ، وقال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } [البقرة:45] ، وقال سبحانه: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [155] الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [156] أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة:155ـ 157]، وقال تعالى: { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [البقرة:177] ، وقال عز وجل:{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة:153] ، وقال تعالى في جزاء الصابرين وأجرهم : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر:10] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ))(6)، وقال صلى الله عليه وسلم : ((وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ))(7).

وحسبك من خُلُقٍ يسهِّل على العبد مشقة الطاعات ، ويهوِّن عليه ترك ما تهواه النفوس من المخالفات ، ويسليه عن المصيبات ، ويُمِدُّ الأخلاق الجميلةَ كلها ويكون لها كالأساس للبنيان ، ومتى علِم العبد ما في الطاعات من الخيرات العاجلة والآجلة ، وما في المعاصي من الأضرار العاجلة والآجلة ، وما في الصبر على المصائب من الثواب الجزيل والأجر العظيم ؛ سهل الصبر على النفس ، وربما أتت به منقادة مستحلية لثمراته ، وإذا كان أهل الدنيا يهوِّن عليهم الصبر على المشقات العظيمة لتحصيل حطامها ، فكيف لا يهون على المؤمن الموفق الصبر على ما يحبه الله لحصول ثمراته !! ومتى صبر العبد لله مخلصاً في صبره كان الله معه ؛ فإن الله مع الصابرين بالعون والتوفيق والتأييد والتسديد .

اللهم وفِّقنا للقيام بحق هذا الشهر ، وطهرنا من وحر الصدر ، وألبِسنا فيه حلل اليقين والصبر .

*****



------------

(1) مسند أحمد (7567، 8965)، ومسلم (1162) واللفظ للإمام أحمد .

(2) مسند الإمام أحمد (22965) .

(3) سنن النسائي ( 2756) ، انظر صحيح الجامع (3794).

(4) عدّة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 37).

(5) نفس المرجع (ص: 44).

(6) رواه البخاري (1469).

(7) رواه الإمام أحمد في المسند (2666) والحاكم في المستدرك (6304).

رَمَضَانُ شَهْرُ التَّقْوَى
إن الله تبارك وتعالى الرحمن الرحيم أوصى عباده بتقواه التي بها يحصِّلون السعادة في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وينالون رضاه والفوز بدار كرامته والسلامة من ناره وعذابه ، وهي وصيته سبحانه للأولين والآخرين من خلقه قال تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } [النساء:131] ، وقد شرع سبحانه لعباده صيام شهر رمضان المبارك لتحقيق تقواه ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني بالصوم لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات ، فما شُرع صيام هذا الشهر الكريم إلا لتحقيق التقوى ؛ بل إنه من أكثر ما يعين على تحقيقها ، قال ابن القيم رحمه الله : (( وللصوم تأثيرٌ عجيب فى حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة وحِميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها ، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها ؛ فالصومُ يحفظ على القلب والجوارح صحتها ، ويُعيد إليها ما استلبته منها أيدى الشهوات، فهو من أكبر العونِ على التقوى كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:183] ))(1) اهـ .

وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره لقوله{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }: (( فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه ، فمما اشتمل عليه من التقوى:

* أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها التي تميل إليها نفسه ؛ متقرباً بذلك إلى الله راجياً بتركها ثوابه ، فهذا من التقوى.

* ومنها: أن الصائم يدرِّب نفسه على مراقبة الله تعالى ، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه.

* ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان ، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فبالصيام يضعف نفوذه ، وتقل منه المعاصي.

* ومنها: أن الصائم في الغالب تكثر طاعته ، والطاعات من خصال التقوى.

* ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساةَ الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى)) اهـ.

وتقوى الله هي طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ومعنى التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافُهُ وقايةً، وتقوى العبد لربه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه ، وذلك لا يكون إلا بفعل طاعته واجتناب معصيته .

والله عز وجل تارةً يأمر بتقواه فهو الذي يُخشى ويُرجى وكل خيرٍ يحصل للعباد فهو منه سبحانه ، وتارةً يأمر باتقاء النار التي هي مآل من خالف تقواه واتبع هواه كما قال تعالى :{ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [البقرة:24] ، وكقوله سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم:6] ، وتارةً يأمر باتقاء يوم القيامة يوم الحساب والجزاء والسعادة أو الشقاء ؛ اليوم الذي ينال فيه المتقون ثوابهم والمجرمون المخالفون للتقوى عذابهم وعقابهم كما قال تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [البقرة:281] .

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بتقوى الله وإذا أرسل سرِيَّةً يوصي أميرها في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه خيراً ، ولما خطب يوم النحر في حجة الوداع أوصى الناس بتقوى الله لحاجة الناس إلى هذه الوصية ولعظيم أهميتها وفائدتها .

ولقد اعتنى السلف الصالح بتحقيق التقوى في نفوسهم وتوضيح معناها ومبناها ولم يزالوا يتواصون بها ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما : " الْمُتَّقَونَ : الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ فِي التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ " . وقال الحسن البصري رحمه الله : " الْمُتَّقُونَ اتَّقَوْا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ ، وَأَدَّوْا مَا افْتُرِضَ عَلَيْهِمْ " . وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : " لَيْسَ تَقْوَى اللهِ بِصِيَامِ النَّهَارِ وَلاَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَالتَّخْلِيطِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ تَقْوَى اللهِ: تَرْكُ مَا حَرَّمَ اللهُ ، وَأَدَاءُ مَا افْتَرَضَ الله " . وقال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى{ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }[آل عمران:102] قال : " أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى ، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى ، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ " ، وقال طلق بن حبيب: " التَّقْوَى أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ تَرْجُو ثَوَابَ اللهِ ، وَأَنْ تَتْرُكَ مَعْصِيَةَ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ تَخَافُ عِقَابَ الله "(2) ، ولما قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : اتق الله، أجابه عمر بقوله: " لَا خَيْرَ فِيكُمْ إِنْ لَمْ تَقُولُوهَا، وَلَا خَيْرَ فِينَا إِذَا لَمْ نَقْبَلْهَا " .

والتقوى محلها القلب ، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ))(3) ، يقول ابن رجب رحمه الله : " وإذا كان أصلُ التَّقوى في القُلوب ، فلا يطَّلعُ أحدٌ على حقيقتها إلا الله عز وجل ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ)) -أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفي رواية ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ)) (4) - وحينئذٍ فقد يكون كثيرٌ ممن له صورة حسنة أو مال أو جاه أو رياسة في الدنيا قلبه خراباً من التقوى ، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبُه مملوءاً من التقوى، فيكون أكرم عند الله عز وجل ، بل ذلك هو الأكثر وقوعاً " (5) اهـ.

وللتقوى عوائد عديدة وثمار كثيرة يجنيها المتقون في الدنيا والآخرة فمن ثمراتها في الدنيا:

- حصول العلم النافع قال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [البقرة: 282]، وقال سبحانه: { إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } [الأنفال: 29].

- الخروج من المحن ، وحصول الرزق الطيب للعبد من حيث لا يحتسب قال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [2] وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق:2-3] .

- أنهم ينالوا محبة الله ، ومعيَّته ، ومغفرته ؛ وبذلك يتحقق لهم الفوز والفلاح ، قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [التوبة:4] ، وقال سبحانه: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [البقرة:194] ، وقال عز وجل: { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنفال:69] ، وقال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة:189] .

وأما ثمرات التقوى في الآخرة فهي كثيرة وعديدة منها :

- الفوز بجنات النعيم ، وحصول الرفعة لهم والعاقبة الحميدة ، قال تعالى: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [القلم:34] ، وقال سبحانه: { وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [البقرة:212] ، وقال سبحانه: { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف: 128] .

- ومن أعظم ثمرات التقوى لقاءُ الله ورؤيتُه يوم القيامة قال تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [54] فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ }[القمر:54-55] .

فنسأل الكريم رب العرش العظيم ونحن في هذا الموسم العظيم والشهر الكريم أن يزيِّن قلوبنا بزينة التقوى وأن يجعلها لنا زاداً في هذه الدنيا ويوم نلقاه.

*****

-----------------

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد (فصل: فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الصيام ، ص: 201).

(2) أورد ابن رجب رحمه الله هذه الآثار عن السلف رحمهم الله في جامع العلوم والحكم (الحديث الثامن عشر/ ص: 296-297).

(3) صحيح مسلم (2564).

(4) كلا الروايتين أخرجها مسلم برقم (2564).

(5) جامع العلوم والحكم لابن رجب (الحديث الخامس والثلاثون / ص: 626).

رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013