خيانات علمية أخرى في كتاب ((العلمانية)):
وليس ما تقدّم ذكره من بتر الدكتور (سفر) لكلام ابن تيمية وتمشيته له على مُراده هو لا على مُراد ابن تيمية، ليس ما تقدّم هو الخيانة العلمية الوحيدة في الكتاب بل هناك خيانات أُخر فمن ذلك:
أنّ المؤلف غفر الله له قد توسّع في النّقل عن كلّ من تكلّم أو أشار ولو من بعيد إلى موضوع العلمانية وهذا جُهدٌ منه مشكور ولكنّ الذي يُحيّر كل عاقل هو إغفال المؤلّف غفر الله له لذكر أثر ابن عبّاس رضي الله عنه المشهور في تفسير قوله تعالى ((ومن لم يحكم بما أنزل الله ... )) الآيات ؟!
فلماذا أغفل المؤلّف ذكر هذا الأثر العظيم الجليل الذي يبيّن فهم حبر الأمّة وتُرجمان القرآن للآية ؟!
بل ولم ينقل لنا المؤلّف غفر الله له كلام المُفسّرين في قول الله تعالى ((ومن لم يحكم بما أنزل الله ...)) مطلقا وإنّما اكتفى بتفسير ابن كثير رحمه الله لقوله تعالى ((أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون)) ولقوله تعالى: ((فلا وربّك لا يؤمنون...)) الآية من سور ة النّساء.
والمُصيبة أنّ المؤلّف حين نقل كلام ابن كثير بحروفه في تفسير الآية الثانية حذف منه الأحاديث التي ساقها ابن كثير لبيان سبب نزول الآية ومن المعلوم أنّ سبب النّزول من أهمّ الأمور التي يجب معرفتها قبل الخوض في تفسير آية من كتاب الله فما بال الدكتور (سفر) لم ينقل في كتابه ذي 727 صفحة الأحاديث التي ساقها ابن كثير في تفسيره للآية ؟!
مع العلم أنّها – أي الأحاديث- صحيحة عند البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم ؟!
وإليك أخي القارئ كلام ابن كثير كاملا من غير حذف للأحاديث التي أغفلها صاحب كتاب ((العلمانية)) وآثر ألا يذكرها:
قال ابن كثير رحمه الله (2/315-316 دار الكتاب العربي، تحقيق: عبد الرزّاق المهدي):
وقوله ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)) يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور, فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً, ولهذا قال ((ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)) أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به, وينقادون له في الظاهر والباطن, فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة, كما ورد في الحديث ((والذي نفسي بيده, لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لم جئت به)).
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا معمر عن الزهري, عن عروة, قال: خاصم الزبير رجلاً في سْريج من الحرة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك)) فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك, فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: ((اسق يا زبير, ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر, ثم أرسل الماء إلى جارك)).
واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري, وكان أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة, قال الزبير: فما أحسب هذه الاَية إلا نزلت في ذلك ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)) الاَية.
هكذا رواه البخاري ههنا, أعني في كتاب التفسير من صحيحه من حديث معمر, وفي كتاب الشرب من حديث ابن جريج ومعمر أيضاً, وفي كتاب الصلح من حديث شعيب بن أبي حمزة, ثلاثتهم عن الزهري, عن عروة, فذكره, وصورته صورة الإرسال, وهو متصل في المعنى, وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال, فقال: حدثنا أبو اليمان, حدثنا شعيب عن الزهري, أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة, كانا يسقيان بها كلاهما, فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير ((اسق ثم أرسل إلى جارك)) فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: ((اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر)) فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: حقه, وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري, فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم, قال عروة: فقال الزبير: والله ما أحسب هذه الاَية نزلت إلا في ذلك ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم, ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)), هكذا رواه الإمام أحمد, وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير, فإنه لم يسمع منه, والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله, فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم, رواه كذلك في تفسيره, فقال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب, أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام, أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, في شراج الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل, فقال الأنصاري: سرح الماء يمر, فأبى عليه الزبير, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك)) فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله, أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: ((اسقِ يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر)) واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصار, فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم, استوعى للزبير حقه في صريح الحكم, فقال الزبير: ما أحسب هذه الاَية إلا في ذلك ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)) وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به...)) انتهى وذكر للحديث طرقا أخرى.
والذي يهمّنا هو أنّ ابن كثير رحمه الله قد فسّر قوله تعالى: ((فلا وربّك لا يؤمنون...)) بما روي عن النّبي صلى الله عليه وسلّم: ((والذي نفسي بيده, لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لم جئت به)). وهو حديث ضعيف إسناده واه ولكنّ شرّاح الحديث رحمهم الله حملوا نفي الإيمان الوارد في هذا الحديث على نفي الإيمان المُطلق لا مُطلق الإيمان أي الإيمان الكامل لا أصل الإيمان كما في قوله عليه السلام في أحاديث أخرى ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ...)) وقوله: ((من قال لا إله إلا الله دخل الجنّة وإن زنى وإن سرق...)) الحديث.
ومثله قوله عليه السلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) و ((والله لا يؤمن –ثلاثا- من لا يأمن جاره بوائقه)) الحديث.
فهل من قائل أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم حكم بالكفر على من يخافه جاره ؟!
حاشا وكلا وهذا –حسب علمي- لم يقله إلا الحرورية وأصحاب النّهروان، فهل الدّكتور (سفر) منهم ؟!
قال الحافظ ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم، ص406، مكتبة الصفا، تحقيق: وليد بن محمد بن سلامة):
((وأمّا معنى الحديث –أي حديث: ((والذي نفسي بيده, لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لم جئت به))- فهو أنّ الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبّته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلّم من الأوامر والنّواهي وغيرها، فيحب ما أمر به، ويكره ما نهى عنه. وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع. قال تعالى: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم, ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً))...)). اهـ
ويُوضّح أنّ المقصود من الآية هو نفي كمال الإيمان لا أصل الإيمان أنّ الآية نزلت في رجل من الأنصار قد شهد بدرا، ومعلوم ما قاله عليه السلام في أهل بدر ((لعلّ الله اطّلع على قلوب أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).
فسقطت بالتالي شبهة الدكتور سفر وبان تلبيسه وتدليسه على العوام غفر الله له.
التعديل الأخير تم بواسطة ابو عبد الله غريب الاثري ; 27 Mar 2008 الساعة 01:01 PM
|