منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 13 May 2017, 05:10 PM
مهدي بن صالح البجائي مهدي بن صالح البجائي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 591
افتراضي ألم يأن للصُّبح أن يُسفِر (نقدٌ لبعض المخالفات)

ألم يأن للصُّبح أن يُسفِر (نقدٌ لبعض المخالفات)

الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:

فإنَّه لا يخفى ما آلت إليه حال الدَّعوة في كثير من الأقطار، وما يقع من فتن وفرقة واختلاف، على أنَّه من الخلاف والفراق ما لا بدَّ من وقوعه بل إيقاعه إذ هو من بيان شرع الله وتحقيق أصل الولاء والبراء، فإنَّ المبعوث بالفرقان صلَّى الله عليه وسلَّم قد بُعث ليفرِّق بين الحقِّ والباطل، والإيمان والكفر، والسنَّة والبدعة، لكن من الخلاف والشِّقاق ما لا ينبغي وجوده بل يجب وَأْده، وهو ما يقع بين أبناء المنهج الواحد، أو ما يكون بغير وجه حقِّ بل ببغيٍّ وعدوان، إذ هو مفسدة جسيمة في نفسه، ومستلزم لمفاسد كثيرة، من أشدِّها تقهقر الدَّعوة وقلَّة انتشار العلم والخير، وفي هذه الكلمات أحاول–ومِثلي ليس له إلَّا ذلك- أن أشخِّص داءً وأسبابَه وأصفَ له دواء -بإذن الله- مفيدا:

وقبل الشُّروع في المقصود فإنَّه من الحرِيِّ أن أذكِّر نفسي وإخواني أنَّ هذه الأدواء التي سأذكرها هي التي سلطَّت المنحرفين والمشغِّبين على بعض أهل السنَّة السلفيِّين، بل إنَّها هي التي أخَّرت حسمَ الأمور وظهورَ الحقِّ من الباطل عند كثير ممَّن استُغفل ولُبِّس عليهِ، ولا زال المنحرفون يلعبون على وتر أخطائنا على عادتهم في التَّهويل والتهوين، وهم في ذلك من الماكرين، ثمَّ إنَّه يتحتَّم علينا أن ننقد أنفسنا ونتناصح فيما بيننا قبل أن يأتي كُسَير وعُوير وثالثٌ ليس فيه خير ليتبجَّح بالنَّقد والتَّصحيح وهو في نفسه غارق أو مارق!

فإلى ذكر المقصود بحسب ما جاء في نصوص الشَّرع، وكلام أهل العلم، وبحسب واقع حالنا، وتجاربَ سلَفت في تاريخنا القريب والبعيد، والله هو الموَفِّق:

أوَّلا: حبُّ الظهور والسعي وراء الرِّئاسة، فإنَّ حظوظ النَّفس وأمراضها ما داخلت قلبا إلا أفسدته وجعلت عالي أخلاقه سافلا، بل إنَّ حب الشَّرف للدِّين كالذِّئب الجائع أرسل في غنم لا راعيَ لها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم:»ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه«، أخرجه أحمد ( 15784) ( 15794 )، وابن حبَّان ( 3228)، والتِّرمذيُّ في سننه (4/ 588) (2376)، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، والحديث صحَّحه البوصيري والشَّيخ الألباني وغيرهما، وقال الشَّيخ أبو عبد المعز محمَّد علي فركوس (حفظه الله): فإن من أسوء المساعي طلب الإمامة لأجل الترؤُّس على النَّاس والتقدُّم عليهم، فإنَّ السَّعي في تحصيله مذموم لأنَّه مسعى المتكبِّرين لا من عمل المتَّقين [عدَّة الدَّاعية إلى الله (29)].

ولا يخفى ما لهذا الدَّاء من يدٍ لئيمة في إيقاع الفرقة والشِّقاق، أو في إسقاط من لا يستحقُّ في واقع الحال إلَّا التَّبجيل والتَّقدير، أو على أقلِّ تقدير التألُّف وعدم التَّنفير، وهذان دواءان.

ثانيًا:
التَّسرُّع واستعجال الثَّمرة، وترك الترفُّق، فمن النَّاس من لا ينصح إلَّا على شرط القبول، ولا تسكن نفسه إلَّا يرى أثر كلامه ماثلا بين يديه! ومنهم من لا يرضى إلَّا أن يقفز المراحل ويتعدَّى الأطوار، والعجلة خُلُق لا يحبُّه الله جلَّ وعلا، بل إنَّما يحبُّ ربُّنا الحلم والأناة كما جاء في حديث أشجِّ عبد القيس، وممَّا هو لصيق بالتسرُّع ترك التثبُّت في الأخبار والتروِّي في الأحكام، فإنَّ المجازفات تدلُّ على خفَّة عقل ورقَّة دين.

وكلام الشَّيخ العلَّامة ربيع بن هادي المدخلي (حفظه الله) في هذا مشتهر منتشر لما حبا اللهُ الشَّيخَ من بصيرة في دينه، وما وضع له من القبول في عباده، من ذلك نصيحة الشيخ لـلسَّلفيين في فرنسا، وممَّا جاء فيها قوله (حفظه الله): «فليس دين الله ومنهج السلف بهذه المنـزلة التي يتصورها كثير من الشباب؛ أن يحصل التمزق والاختلاف والعداوة والبغضاء لأتفه الأسباب، ومنها أنَّ فلاناً تكلَّم في فلان فيتعصب طرف لفلان وطرف آخر لفلان، ثمَّ تقوم المعارك والصِّراعات بين الطَّرفين أو الأطراف، هذا العمل يبرأ منه الله ورسوله ودين الإسلام، إذ هذا من عمل الشَّيطان الذي يريد الفرقة والخلاف والعداوة والبغضاء بين المسلمين لأتفه الأسباب.

كما أنه من طرق أهل الأهواء والبدع والتحزُّب البعيدين عن منهج السلف وتعقُّل السلف وحكمتهم وبصيرتهم، وبُعد نظرهم، وثباتهم وتماسكهم تجاه الأحداث، واحترامهم للأخوَّة والمودَّة التي أمر الله باحترامها والحفاظ عليها».

ومنه أنَّه سئل (حفظه الله): ما نصيحة شيخنا لبعض الإخوة الذين لا يفرقون بين دعوة العامي الذي وقع في البدعة، وبين الداعية إلى البدعة وما هو منهج السلف في ذلك؟

فأجاب: «السَّلف فرَّقوا بين الدعاة وغيرهم، الدُّعاة عاملوهم بشدَّة، هجروهم وقاطعوهم ولم يأخذوا عنهم العلم، وإذا تمادى في دعوته إلى الباطل أغروا به ولاة الأمور فيقتلونه، إلى آخر ما عاملوا به أولئك الضُّلال، وأمَّا السَّاكت والعاميُّ فهذا له معاملة أخرى... نترفَّق بعوامهم، ندعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة ونبيِّن لهم... فهذا الجاهل الذي ترى أنه على بدعة علِّمْه، وبيِّن له خطأه، وبين له أن هذا العمل بدعة، بالحجَّة والبرهان، فلعلَّ الله أن يهديه على يديك، ولا تسبق الأحكامُ البيانَ، قدِّم البيان، ثمَّ بعدها إذا عاند واستكبر وأبى، عند ذلك عامله بما يستحقُّ من أحكام وغيره» [مجموع كتب ورسائل الشيخ (14/163)].

والواجب في هذا الباب: النَّصيحة بشروطها، وإنكار المنكر، وردُّ الباطل، والتَّحذير ممَّن يجب التحذير منه، وليعلم المرء أنَّما عليه البلاغ وما هو على النَّاس بمسيطر، ثمَّ الصبرَ الصبرَ، وإذا جاءه الخبر من ثقة =عدل ضابط فليأخذ به، وإن جاءه ممَّن في عدالته خدش، أو ممَّن يحدِّث على التوهُّم، أو كثير الغلط، أو مغفَّل، أو من فيه تعنُّت ظاهر، فإنَّ كلَّ هؤلاء ومن كان على شاكلتهم يُتثبَّت في أخبارهم، ويُتبيَّن من نقلهم، وكم قول قيل وخبر نُقل ثمَّ بان خطؤه أو كذبه! أمَّا الأحكام والأسماء فأمرها أشدُّ، وحالها أغمض، وجِماع أمر هذا الباب معرفة مراتب المخالفات والمخالفين من حيث الوضوحُ والخفاءُ، ومن حيث وجودُ العذر وعدمُه، ثمَّ معرفةُ كلِّ مُصدرٍ للحكم منزلتَه في نفسه، ويُعمَل على ذلك، والله الموفِّق.

ثالثًا: عدم مراعاة المصالح والمفاسد عند الكلام، ويدخل في هذا كثير من الصُّور، تتنوَّع تنوُّع الوقائع والأحوال، منها أن يحدَّث المرء بكلِّ ما سَمِع، ومنها إلقاء المسائل الخفيَّة أو الخطيرة لمن لا يستوعبها عقله ولا تتحمُّلها نفسه، ومنها نقل بعض كلمات العالم أثناء غضبه، أو ما يذكره في مجالسه الخاصَّة لمن يثق فيهم، ولا يرى أن يشاع ذلك عنه مع كونه حقًّا في نفسه لما قد يترتَّب على ذلك فتنة العامَّة وما إلى ذلك.

قال الشيخ العلَّامة ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله-:« لقد تعبت كثيرا وكثيرا هنا وهناك في معالجة آثار كلام من لا ينظر في العواقب، ولا يراعي المصالح والمفاسد ، ولا يستخدم الرفق والحكمة، تلكم اﻷمور واﻷصول العظيمة التي يجب مراعاتها ، ولا تقوم للدعوة قائمة إلا بها، ومع اﻷسف أن كل من يدرك حجم هذه المعضلة ، وينصر هذه المعالجات المشروعة يرمى بالتَّمييع، وأحزاب التَّمييع» [المجموع (9/ 137)].

وفي قسم القواعد من كتاب التَّنكيل [صحيفة 87 من الجزء الأوَّل فما بعدها (طبعة المجمَّع)] للعلَّامة المعلِّمي اليماني (رحمه الله) ذكر القاعدة الرَّابعة في «قدح الساخط ومدح المحب ونحو ذلك»، وفيها أنَّ كلام العالم في غيره على وجهين، أنقل منه الوجه الأوَّل كاملًا لأهميَّته ونفاسته:
«الأوَّل: ما يخرج الذم بدون قصد الحكم، وفي «صحيح مسلم» وغيره من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهداً لم تخلفنيه، فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلته فاجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة» وفي رواية «فأي المسلمين آذيته شتمته لعنته جلته فاجعلها له صلاة ...».

وفيه نحوه من حديث عائشة ومن حديث جابر، وجاء في هذا الباب عن غير هؤلاء، وحديث أبي هريرة في صحيح البخاري مختصراً، ولم يكن صلى الله عليه وآله ومسلم سبابا ولا شتاماً ولا لعاناً ولا كان الغضب يخرجه عن الحق، وإنما كان كما نعته ربه عز وجل بقوله {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقوله تعالى {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} وقوله عز وجل {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وإنما كان يرى من بعض الناس ما يضرهم في دينهم أو يخل بالمصلحة العمة أو مصلحة صاحبه نفسه فيكره صلى الله عليه وسلم ذلك وينكره فيقول «ما له تربت يمينه» ونحو ذلك مما يكون المقصود به إظهار كراهية ما وقع من المدعو عليه وشده الإنكار لذلك وكأنه والله أعلم أطلق على ذلك سباً وشتما على سبيل التجوز بجامع الإيذاء فأما اللعن فلعله وقع الدعاء به نادراً عند شدة الإنكار، ومن الحكمة في ذلك إعلام الناس أن ما يقع منه صلى الله عليه وآله وسلم عند الإنكار كثيرا ما يكون على وجه إظهار الإنكار والتأديب لا على وجه الحكم في مجموع الأمرين حكمة أخرى وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علم من طباع أكثر الناس أن أحدهم إذا غضب جرى على لسانه من السب والشتم واللعن والطعن ما لو سئل عنه بعد سكون غضبه لقال: لم أقصد ذلك ولكن سبقني لساني، أو لم أقصد حقيقته ولكني غضبت فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينبه أمته على هذا الأصل ليستقر في أذهانهم فلا يحملوا ما يصدر عن الناس من ذلك حال الغضب على ظاهره جزماً.

وكان حذيفة ربما يذكر بعض ما اتفق من كلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند غضبه فأنكر سلمان الفارسي ذلك على حذيفة رضي الله عنهما وذكر هذا الحديث، وسئل بعض الصحابة وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة عن شيء من ذلك فأراد أن يخبر وكانت امرأته تسمع فذكرته بهذا الحديث فكفَّ [نقل محقِّق التَّنكيل عن الهيثمي في مجمع الزوائد أن في الأثر عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك]. فكذلك ينبغي لأهل العلم أن لا ينقلوا كلمات العلماء عند الغضب وأن يراعوا فيما نقل منها هذا الأصل، بل قد يقال لو فرض أن العالم قصد عند غضبه الحكم لكان ينبغي أن لا يعتد بذلك حكماً ففي (الصحيحين) وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لا يقضين حكم بين أثنين وهو غضبان» لفظ البخاري، والحكم في العلماء والرواة يحتاج إلى نظر وتدبر وتثبت أشد مما يحتاج إليه الحكم في كثير من الخصومات فقد تكون الخصومة في عشرة دراهم فلا يخشى من الحكم فيها عند الغضب إلا تفويت عشرة دراهم فأما الحكم على العالم والراوي فيخشى منه تفويت علم كثير وأحاديث كثيرة ولو لم يكن إلا حديثاً واحداً لكان عظيماً.

ومما يخرج مخرج الذم لا مخرج الحكم ما يقصد به الموعظة والنصحية، وذلك كأن يبلغ العالم عن صاحبة ما يكرهه له فيذمه في وجهه أو بحضرة من يبلغه، رجاء أن يكف عما كرهه له وربما يأتي بعبارة ليست بكذب ولكنها خشنة موحشة يقصد الإبلاغ في النصحية ككلمات الثوري في الحسن بن صالح بن حي، وربما يكون الأمر الذي أنكره أمراً لا بأس به بل قد يكون خيراً ولكن يخشى أن يجر إلى ما يكره كالدخول على السلطان وولاية أموال اليتامى وولاية القضاء والإكثار من الفتوى، وقد يكون أمراً مذموما وصاحبه معذورا ولكن الناصح يحب لصاحبه أن يعاود النظر أو يحتال أو يخفي ذاك الأمر، وقد يكون المقصود نصيحة الناس لئلا يقعوا في ذلك الأمر إذ قد يكون لمن وقع منه أولاً عذر ولكن يخشى أن يتبعه الناس فيه غير معذورين ومن هذا كلمات التنفير التي تقدمت الإشارة إليها في الفصل الثاني.

وقد يتسمَّح العالم فيما يحكيه على غير جهة الحكم فيستند إلى ما لو أراد الحكم لم يستند إليه كحكاية منقطعة وخبر من لا يعد خبره حجة، وقرينة لا تكفي لبناء الحكم ونحو ذلك. وقد جاء عن إياس بن معاوية التابعي المشهور بالعقل والذكاء والفضل أنه قال «لا تنظر إلى عمل العالم ولكن سله يصدقك» وكلام العالم إذا لم يكن بقصد الرواية أو الفتوى أو الحكم داخل في جملة عمله الذي ينبغي أن لا ينظر إليه، وليس معنى ذلك أنه قد يعمل ما ينافي العدالة، ولكن قد يكون له عذر خفي وقد يترخص فيما لا ينافي العدالة، وقد لا يتحفظ ويتثبت كما يتحفظ ويثبت في الرواية والفتوى والحكم.

هذا، والعارف المتثبت المتحري للحق لا يخفى عليه إن شاء الله تعالى ما حقه أن يعد من هذا الضرب مما حقه أن يعد من الضرب الآتي، وأن ما كان من هذا الضرب فحقه أن لا يعتد به على المتكلم فيه ولا على المتكلم. والله الموفق» اهـ.

والذي يأخذ بزمام ما تقدَّم بصيرة نافذة =عقلا وعلما في تقوى قلب، فيلحَظ اللَّبيب ما ينبغي إشاعته ممَّا ينبغي نقله للخاصَّة ممَّا لا يقال إلَّا للواحد بعد الواحد، مراعيا في ذلك عقول المخاطَبين واستعدادَهم، وأدقُّ منه معرفة كون المخاطب ممَّن يثق في المتكلِّم أو لا أو بينهما، إذ كونُك تُلقي على من لم تطمئنَّ إليك نفسه تمام الاطمئنان ما من شأنه أن يُستنكر أو يُستغرب ربَّما أدَّى به ذلك أن يتَّهمك أو يرتاب في أمرك، وإيضاحه: أن تذكر له مثلا جَرح صاحب دعوة قديمة ومنتشرة ممَّن قد لا يَعرف له نظيرا في بلدته، وأنت عنده ممَّن لم تثبت بعدُ عدالتك عنده، فما موقفه الذي تتصوَّر منه أن يتَّخذه؟! وكلُّ هذا يُرجع فيه ويرجَح فيه ما يرجح بتتبُّع نصوص الشَّرع وسيَر الأعلام في التَّعامل معها وتنزيلها على أعيان القضايا.

رابعًا: تغليب جانب الإنكار والتَّحذير من الشرِّ وأهله على جانب الأمر بالمعروف وإتيانه والحثِّ على الخير وأهله، وهذا مأخذ عزيز نبَّه عليه الشَّيخ تقيُّ الدِّين ابن تيميَّة (رحمه الله) إذ قال: «وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات تجدهم مقصِّرين في فعل السنن من ذلك، أو الأمر به، ولعلَّ حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة، بل الدِّين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه كما يؤمر بعبادة الله سبحانه، وينهى عن عبادة ما سواه، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خلقت لتعمل، لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح، وإلا لم يترك العمل السيء، أو الناقص، لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح، نهيت عنه حفظًا للعمل الصالح»اهـ [الاقتضاء(2/617)].

ومن تأمَّل حال أهل العلم قديما وحديثا بان له بوضوح كيف يجمعون بين الأمرين دعوةً إلى الخير وعملا به، وتحذيرا من الشرِّ وبُعدًا عنه، وخذ لكَ مثالا حيًّا معاصرًا: العالمَ الربَّانيَّ محمَّد ناصر الدِّين الألباني (عليه رحمة الله ورضوانه) كيف جمع في دروسه وتآليفه بين بيان أحكام الشَّرع وعقائده الصَّحيحة، وبين التَّحذير من بدع العمل والاعتقاد، من ذلك ما ذكره في كتابه أحكام الجنائز بعد بيان صحيحها البدعَ التي تتعلَّق بها.

ودواء ما ذكر هو ما أردفته من اتِّباع أهل العلم سلفا وخلفا وعلى رأسهم إمام العلماء صلَّى الله عليه وسلَّم، في تعليم النَّاس دين الله فرائض وسننًا وتحذيرهم ممَّا يضادُّه وينافيه من المحرَّمات والبدع والكفر، متَّزنين في ذلك لا وكس ولا شطط.

خامسًا:
مجاوزة الحدِّ في الاحتساب والإنكار، وهو قريب ممَّا قبله، وهذا لا يختصُّ بباب دون باب، بل ما من شيء يحبُّه الله إلَّا وللشَّيطان فيه نصيب من التضليل غلوًّا أو جفاءً، والمقصود هاهنا أنَّه ربَّما وقع المخالف في مخالفة –هبها عظيمة- فيأتي المحتسب عليه فيعتدي عليها قولا أو فعلا، تارة بإيذائه في عرضه أو نفسه بما ليس بحقٍّ، وتارة بتقويله ما لم يقل أصالة أو زيادة، وإنَّه ممَّا طبعت عليه النُّفوس أن ترقَّ للمظلوم وتعطف عليه ومن ثمَّ تنتصر له، ولو كان هو البادئ والمتسبِّب فيما وقع له، حتَّى أنَّها ربَّما تناست انحرافه وضلاله على ما هو حال بني آدم من نقص وغفلة، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة (رحمه الله) عند ذكره فوائد قوله تعالى: لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ: «الرَّابِعُ: أَلَّا يَعْتَدِيَ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي بِزِيَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوعِ فِي بُغْضِهِمْ أَوْ ذَمِّهِمْ أَوْ نَهْيِهِمْ أَوْ هَجْرِهِمْ أَوْ عُقُوبَتِهِمْ؛ بَلْ يُقَالُ لِمَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ عَلَيْك نَفْسَك لَا يَضُرُّك مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْت كَمَا قَالَ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} الْآيَةَ، وَقَالَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَقَالَ: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْآمِرِينَ النَّاهِينَ قَدْ يَتَعَدَى حُدُودَ اللَّهِ إمَّا بِجَهْلِ وَإِمَّا بِظُلْمِ وَهَذَا بَابٌ يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْفَاسِقِينَ وَالْعَاصِينَ. " الْخَامِسُ " أَنْ يَقُومَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ الْعِلْمِ وَالرِّفْقِ وَالصَّبْرِ وَحُسْنِ الْقَصْدِ وَسُلُوكِ السَّبِيلِ الْقَصْدِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} وَفِي قَوْلِهِ: {إذَا اهْتَدَيْتُمْ}» [مجموع الفتاوى( 14/477)].

وختاما أنقل كلمة نفيسة لشيخ الإسلام ابن تيميَّة (رحمه الله) إذ قال عقب ذكره لفوائد الآية المتقدِّمة: «وَفِيهَا الْمَعْنَى الْآخَرُ: وَهُوَ إقْبَالُ الْمَرْءِ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَإِعْرَاضُهُ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ: {مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ} وَلَا سِيَّمَا كَثْرَةُ الْفُضُولِ فِيمَا لَيْسَ بِالْمَرْءِ إلَيْهِ حَاجَةٌ مِنْ أَمْرِ دِينِ غَيْرِهِ وَدُنْيَاهُ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ التَّكَلُّمُ لِحَسَدِ أَوْ رِئَاسَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فَصَاحِبُهُ إمَّا مُعْتَدٍ ظَالِمٌ، وَإِمَّا سَفِيهٌ عَابِثٌ، وَمَا أَكْثَرُ مَا يُصَوِّرُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ بِصُورَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَتَأَمّل الْآيَة فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ أَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ لِلْمَرْءِ، وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْت مَا يَقَعُ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عُلَمَائِهَا وَعُبَّادِهَا وَأُمَرَائِهَا وَرُؤَسَائِهَا وَجَدْت أَكْثَرَهُ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ الْبَغْيُ بِتَأْوِيلِ أَوْ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، كَمَا بَغَتْ الْجَهْمِيَّة عَلَى الْمُسْتَنَّةِ فِي مِحْنَةِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنِ؛ مِحْنَةِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَكَمَا بَغَتْ الرَّافِضَةُ عَلَى الْمُسْتَنَّةِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً، وَكَمَا بَغَتْ النَّاصِبَةُ عَلَى عَلِيٍّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَكَمَا قَدْ تَبْغِي الْمُشَبِّهَةُ عَلَى الْمُنَزِّهَةِ، وَكَمَا قَدْ يَبْغِي بَعْضُ الْمُسْتَنَّةِ إمَّا عَلَى بَعْضِهِمْ، وَإِمَّا عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ بِزِيَادَةِ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ الْإِسْرَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِمْ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}، وَبِإِزَاءِ هَذَا الْعُدْوَانِ تَقْصِيرُ آخَرِينَ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْحَقِّ، أَوْ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ كُلِّهَا، فَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِأَمْرِ إلَّا اعْتَرَضَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِأَمْرَيْنِ - لَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا ظَفَرَ - غُلُوٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ، فَالْمُعِينُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ بِإِزَائِهِ تَارِكُ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَفَاعِلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَزِيَادَةٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا بِإِزَائِهِ تَارِكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَبَعْضِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَاَللَّهُ يَهْدِينَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ»[ مجموع الفتاوى ( 14 / 482)].


التعديل الأخير تم بواسطة مهدي بن صالح البجائي ; 14 May 2017 الساعة 05:13 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 13 May 2017, 05:29 PM
أبو عاصم مصطفى السُّلمي أبو عاصم مصطفى السُّلمي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2016
المشاركات: 607
افتراضي

نعمت الذكرى للمعتبر ، أدواء فتّاكة بحق ، بوكت يمينك أخانا الفاضل مهدي
جعلك الله هاديا مهديا و هدى بك إلى الحق
و زبد المخيض و مسك الختام ، كلمة نفيسة لشيخ الاسلام
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 13 May 2017, 05:59 PM
عماد معوش عماد معوش غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Dec 2013
المشاركات: 92
افتراضي

بارك الله فيك أبا محمد، وعجَّل الله الإسفار!
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 13 May 2017, 09:24 PM
أبو البراء
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

قولك هذا أبا محمد قول سديد، يرشد إلى ما يقتضيه الشرع والعقل، ولو سلك الناس وراءه لأوشك الصبح أن يسفر عن أيام بيضاء عامرة بالوفاق ونبذ الشقاق.
بارك الله فيك.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 13 May 2017, 10:49 PM
أبو إكرام وليد فتحون أبو إكرام وليد فتحون غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 1,798
افتراضي

بارك الله فيك و جزاك خيرا و متعك الله بالصحة والعافية
كما متعتنا بهاته الفوائد والآداب النفيسة والقيمة .
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 13 May 2017, 11:26 PM
إسماعيل جابر إسماعيل جابر غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2017
الدولة: بومرداس
المشاركات: 142
افتراضي

كلمات نيّرات
حريٌّ بكل طالب حق أن يقرأها ويتدبر معانيها ويعمل بمقتضاها
جزاك الله خيرا أخانا الكريم
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 14 May 2017, 12:35 AM
أبو عمر محمد أبو عمر محمد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2015
المشاركات: 176
افتراضي

جزاكم الله خيرا أخانا الفاضل مهدي
أسأل الله أن يبارك في مقالكم و أن ينفع به .
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 14 May 2017, 05:08 AM
أبو سهيل محمد القبي أبو سهيل محمد القبي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2014
المشاركات: 207
افتراضي

بارك الله فيك أخي مهدي على مقالك الطيب، الذي يشخّص أمرا نعايشه، للأسف! فقد كثرت التصدعات بين أبناء الدين الصحيح، لخصتٙ أسبابها في نقاط مهمة جزاك الله خيرا، فحري بكل عاقل أن يبتعد عن تلك المزالق التي أضعفت الدعوة السلفية، وجرّأت أعدائها، وحري به كذلك أن يعطي القوس باريها، وأن لا يتقدم بين يدي المشايخ والعلماء، حتى لا يزيد الخرق من حيث يظن أنه يرقع.
نسأل الله أن يصلح أحوال قلوبنا، ويعرفنا بقدر أنفسنا.
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 14 May 2017, 10:00 AM
نورالدين قاسم نورالدين قاسم غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2012
الدولة: الجزائر
المشاركات: 50
افتراضي

جزاك الله خيرا
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 14 May 2017, 04:40 PM
أبو عبد الله حيدوش أبو عبد الله حيدوش غير متواجد حالياً
وفقه الله
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
الدولة: الجزائر ( ولاية بومرداس ) حرسها الله
المشاركات: 757
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خالد حمودة مشاهدة المشاركة
قولك هذا أبا محمد قول سديد، يرشد إلى ما يقتضيه الشرع والعقل، ولو سلك الناس وراءه لأوشك الصبح أن يسفر عن أيام بيضاء عامرة بالوفاق ونبذ الشقاق.
بارك الله فيك.
جزاك الله خيراً وبارك فيك.
وصدق الشيخ خالد حفظكم الله جميعا ونفع بكم الإسلام والمسلمين
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 15 May 2017, 10:21 AM
مهدي بن صالح البجائي مهدي بن صالح البجائي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 591
افتراضي

جزى الله الشَّيخ خالدا وجميع الإخوة على تعليقاتهم الطيِّبة وتشجيعاتهم، حفظكم الله.
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 31 Jul 2018, 10:01 AM
أبو فهر وليد أبو فهر وليد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2015
المشاركات: 115
افتراضي

مقالٌ مهم مفيد.
جزاك الله خيراً -أخي أبا محمد-.
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013