إياك أن تكون معدنا للفتن

[مهدي بن صالح البجائي]

إياك أن تكون معدنا للفتن

الحمد لله وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن من أعظم ما يفسد الصنائع والعلوم أن يدخل فيها من ليس من أهلها، وقد بلغ بنا زمان صار يتكلم فيه كل ذي لسان ويبدي رأيه كل ذي رأي، دون مراعاة لمنزلة ولا تخصص.

ومما فتح من الأبواب على مصراعيه باب الجرح والتعديل، فمع أنه قام له وبه رجال أكْفَاء وجهابذة علماء، ووفوا المقام حقه، إلا أنه تطفل عليهم أدعياء وسفهاء، فكان إفسادهم أعظم من نفعهم، هذا إن نفعوا بشيء.

وإن للكلام في الرجال شروطا وضوابطَ، وينبغي أن يُحصَّل لذلك علوما وآلاتها، وليس هذا بالهين، بل هو من أدق أبواب العلم وأصعبها، وهذا الأمر لا يستقيم إلاّ لمن كان جمع بين الورع والتّقوى والعلم التامّ والمعرفة بأحوال الناس وتنزيلهم منازلهم.

وهذه كلمات ذكرى لي ولمن يقف عليها عسى أن ينتفع بها من أراد الله به خيرا، فإنها من الفقه في الدين:

عقد ابن مفلح في الآداب الشرعية فصلا (في جرح رواة الحديث لبيان الحقيقة ومعرفة الصحيح من غيره )، ومما ذكر فيه:

«وقال أبو الحارث : سمعت أبا عبد الله غير مرة يقول : ما تكلم أحد في الناس إلا سقط وذهب حديثه قد كان بالبصرة رجل يقال له الأفطس كان يروي عن الأعمش والناس ، وكانت له مجالس وكان صحيح الحديث ، إلا أنه كان لا يسلم على لسانه أحد فذهب حديثه وذكره .

وقال في رواية الأثرم وذكر الأفطس واسمه عبد الله بن سلمة قال : إنما سقط بلسانه فليس نسمع أحدا يذكره .

وتكلم يحيى بن معين في أبي بدر فدعا عليه قال أحمد : فأراه استجيب له ، والمراد بذلك والله أعلم عدم التثبت والغيبة بغير حق .

وقال أبو زرعة عبد الله بن سلمة الأفطس : كان عندي صدوقا لكنه كان يتكلم في عبد الواحد بن زياد ويحيى القطان ، وذكر له يونس بن أبي إسحاق فقال : لا ينتهي يونس حتى يقول سمعت البراء .

قال أبو زرعة : فانظر كيف يرد أمره ، كل من لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة فإنما يعطب نفسه ، وكان الثوري ومالك يتكلمون في الناس على الديانة فينفذ قولهم ، وكل من لم يتكلم فيهم على غير الديانة يرجع الأمر عليه ». اهـ

وقال ابن دقيق العيد –رحمه الله- :« أَعْرَاضُ المُسْلِمين حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّار؛ وَقَفَ عَلَى شَفِيرِهَا طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاس: المُحَدِّثُونَ، وَالحُكَّام ».اهـ

وفي الجملة: «فمن من تكلم في هذا الأمر ديانة وعلما وتثبتا وإلا سقط».

وتأمَّل في هذه الآثار تجد أنها فيمن كان أهلا وتصدى لذلك، فكيف بمن لا ناقة له في العلم ولا جمل، بل أحسن أحواله أن تكون له معلومات وثقافة في العلم الشرعي، فإذا تكلم حسبته هو هو، ولا زال العلماء يزجرون من هذا حاله ويتكلف ما لا يعنيه.

ثم إن هذا الصنف من الدخلاء على العلوم هم معدن كل فتنة وحطبها، فلا هم بأصحاب جهل بسيط عرفوا قدرهم ولزموا حدهم، ولا بالمتمكنين المتفهمين للعلم، فيتكلموا ببرهان وحجة أو يسكتوا بحلم وأناة.

وانظر ما قاله الشيخ محمد بازمول –حفظه الله-: «ليس من منهج السلف أن يخوض كل طالب علم في الجرح والتعديل، فإن لكل فن رجاله، فكما لا يؤخذ العلم عن كل أحد فإنه لا يتكلم في الجرح والتعديل أي أحد».

ومن سيِّء الفهم في الدين أن يظن أن منهج السلف منحصر في الكلام في الرجال والجرح والتعديل، إنما المنهج هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والفقه فيهما، فمن كان متمكنا من العلوم مقاصد ووسائل فهو المتمكن من منهج السلف، ولهذا لما قيل للشيخ مقبل –رحمه الله-: نريد أن تدرسنا في المنهج غضب وقال: «الكتاب والسنة هو المنهج».

قال الشيخ عبيد الجابري –حفظه الله- : « فالدين ليس باباً واحداً، والجرح والتعديل بابٌ من أبواب الدين، فلا ينبغي الاقتصار عليه » ، وقال الشيخ ربيع بن هادي –حفظه الله-: « فلو استمررنا في ردِّ مقالاتهم الباطلة والتي تدور حول أشياء افتعلوها قد بيَّنَّا مرَّات وكرَّات بُطلانها، والقوم لا هَمَّ لهم إلاَّ مشاغلتنا عن أهدافنا السَّامية من نشر الدَّعوة السَّلفية عقيدةً وعملاً ومنهجاً وأخلاقاً مع سائر جوانب الإسلام العظيمة؛ لو استمررنا في الردود عليهم لضيَّعنا كثيراً من هذه الأهداف. فأوَدُّ من إخواننا الإعراض عنهم والإقبال بجِدٍّ على القيام بالدَّعوة السامية؛ وإن كان الإخوة -ولله الحمد- قائمين بذلك، إلاَّ أنَّ المشاغلة بهم يُفوِّتُ ما تَكْمُلُ به دعوتهم-؛ فدَعُوهُم وما رسموه لأنفسهم ولا يَضِيرُنا ولا يَضِير دعوتنا ذلك لا سيما والسَّلفيون في كلِّ مكان مقتنعون بأننا على الحقِّ وخصُومنا على الباطل ».

ومما يحز في النفس كون صنيع هؤلاء ينسب إلى المنهج السلفي ظلما وزورا، ويُظهر تصرفهم على أن هذه هي طريقة مشايخ السنة وتربيتهم، فما أضرهم على الدعوة والعلم، والله المستعان.

نعم، بارك الله فيك أبا محمد.
دخل بعض إخواننا في هذا العلم الغامض دقيق المسالك فتكلموا فيه بغير علم ولا رويَّة، وخاضوا بغير نية ولا حسن طويَّة، فضروا أنفسهم وآذوا عباد الله، وحالوا بين كثير من الناس وبين معرفة المنهج الصَّحيح القائم على العلم والرحمة والإحسان.
نبَّه علماؤنا إلى أنَّ الجرح والتعديل علم أُسِّس لحماية الدين، وهو علمُ خاصَّة العلماء، ومن منافعه رحمة المتكلَّم فيه بنقص أوزاره ومن يضلِّهم بغير هدى من الله، فتكلَّم فيه بعض النَّاس شهوةً وانتصارًا للنفس وتلذُّذا بالأعراض وتفكُّها بالأسماء، فليبشر هؤلاء أنَّهم أوَّل السَّاقطين إذا حقَّت الحقائق وانكشف الزَّيف.

جزاك الله خيرا أخي مهدي
وما أروع ما أضفتَ أخانا المفضال خالد

[محمد بلوافي]

جزاكما الله خيرا تنبيهات في غاية الأهمية جعلنا الله ممن سلمت ألسنتهم من أعراض المسلمين

[إبراهيم بويران]

ومن هؤلاء الأدعياء السفهاء الذين تطفَّلوا وصدَّروا أنفسهم وأقحموها في هذا الباب الخطير فكان إفسادهم أعظم من نفعهم، كما ذكر أخونا مهدي: الغِمْر الحدادي يوسف العنابي فانتهك بصنيعه ذاك حرمة منازل العلماء، مُتقدِّمًا بين أيديهم، فلم يُبق لهم شيئًا مما خصهم الله بالكلام فيه، فكأنه يرى نفسه منهم، بل من أفضلهم، مع شدة جهله وانحرافه، وحداثة سِنِّه، وإفلاسه العلمي، واتباعه لهواه .
وكان سبب ذلك نفخةٌ نفخها فيه شيخه الحجوري، استنصارًا منه بالنكرات والمجاهيل، بعدما رماه مشايخ السنة وعلماؤها عن قوس واحدة .
فالحجوري؛ وبعد أن فرغ من العلماء، وأسقطهم عند أتباعه، وانفصل عنهم، لا سِيما منهم من أبان باطله، حاول أن يرفع من شأن بعض أشباه طلبة العلم الذين وافقوه في ضلالاته، ومواقفه المنحرفة، ومنهم النكرة يوسف العنابي، فشيَّخهم وبوَّأهم منازل العلماء؛ وجعلهم مراجع لأتباعه في الأحكام على المخالفين، فأحدث بذلك منصِب طلبة الجرح والتعديل، بدل: علماء الجرح والتعديل!! أو أئمة الجرح والتعديل، كما هو معروف عند السلف، فقد كان أئمة الجرح والتعديل عند السلف، كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، بالنسبة لكبار علماء الحديث، بل إنه قد كان في أئمة أهل الحديث من على إمامته وجلالته لا يُقبل قوله في الرجال، فما بالك بالحجاورة أمثال النكرة العنابي المنتحلين زورًا شخصية أئمة الجرح والتعديل؟!! بل إن زعيمهم الحجوري نفسه الذي يغلون فيه أشد من غلو أتباع فالح في فالح، لا يعد من العلماء، فلا يحق له الكلام في الرجال ولا يقبل منه ذلك لاسيما من انفرد بالكلام فيه فضلا عن طلابه الذين انتهكوا حرمة منازل العلماء، ولذلك لا تجد العلماء يوافقون الحجوري في حكم واحد انفرد به عنهم في زيد أو عمرٍو من الناس .
وقد قال فيه حامل راية الجرح والتعديل بحق ربيع المدخلي في كلامه الأخير الذي أبان فيه حاله: « عندنا مراكز سلفية لم يبلغ يحيى في العلم والأدب مستواهم.. وهو طالب علم لم يبلغ درجة العلماء »، فإذا كان زعيم الحجاورة الذي كاد القوم أن يُقدِّسوه لم يبلغ مبلغ طلاب العلم السلفيين في العلم والأدب فما بالك بطلاب الجرح والتعديل الحجاورة من طلبته!! بل إذا عرفت حال شيخهم ليس لك حينذاك إلا أن تُسميهم عوام الجرح والتعديل!! أو جهال الجرح والتعديل!! فهل مثل هؤلاء وفيهم هذا الحزبي العنابي وبعد أن عرفت حالهم، يجوز لهم الكلام في الرجال لاسيما في أسيادهم من أهل السنة والجماعة!!؟ الذين لم يبلغ شيخهم وكبيرهم مبلغ صغارهم في العلم والأدب !!؟ .

[عبد الرحمن رحال]

جزاك الله خيرا أخي مهدي ، أسأل الله عزوجل أن يجعل ما كتبته في ميزان حسناتك يوم القيامة.
وبارك الله في من أجاد بعدك وأفاد , قصدت الأخوين الفاضلين أبي البراء وأبي بسطام فجزاهما الله خيرا وبارك فيهما.
نسأل الله عزوجل أن يقينا شر الفتن، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.

جزاك الله خيرا أخي مهدي على ما أتحفتنا به
فهو تذكير في محلّه وتنبيه جاء في وقته
وهل زاغ الحدادية إلا بترك ما ذكرت؟!

ولا يفهم من هذا المقال الموفق أن يسكت طلبة العلم عن بيان الحق ورد الباطل وكشف زيغ أهل الشغب
وكما ذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله أنه لاعيب في منهج أهل السنة أن يتكلم الصغير بالحق
ولا يكون هذا إلا بتصحيح النية ولزوم الأدب ومشورة أهل علم
بارك الله مهدي

[مهدي بن صالح البجائي]

بارك الله فيكم وجزاكم الله خير الجزاء على هذه الإضافات النفيسة.

وقد أثلج صدري تعليقك أبا معاذ، فما ذكرته هو المقصود بعينه.

وخاصة ما ذكرته هاهنا:

ولا يفهم من هذا المقال الموفق أن يسكت طلبة العلم عن بيان الحق ورد الباطل وكشف زيغ أهل التشغيب
فكما ذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله أنه لاعيب في منهج أهل السنة أن يتكلم الصغير بالحق
ولا يكون هذا إلا بلزوم الأدب وتصحيح النبية ومشورة أهل علم

فإنه من سوء الفهم -كذلك- تقزيم بعض طلبة العلم المتمكنين وتكتيم أفواههم عن قولة الحق بحجة صغر السن، ولو نظر إلى سير بعض أكابر الأمة لوجد أنهم ما توفوا إلا في سن مبكرة، كعمر بن عبد العزيز والنووي وابن عبد الهادي وفي زماننا حافظ الحكمي وغيرهم، بل إن إمام العلماء معاذ بن جبل -رضي الله عنه- ما توفي إلا عن عمر لا تتجاوز ثلاثا وثلاثين سنة، وما ناظر ابن عباس الخوارج بعد مشورة علي -رضي الله عنهما- إلا وعمره خمس وثلاثون سنة، وكم ممن شابت لحيته وهو من الأصاغر، فالعبرة بالعلم ولزوم السنة والثبات على الحق.

[أبو سهيل عبد الوهاب]

بوركت أخي مهدي

[مراد براهيمي]

مقال ماتع يكتب بماء العين ؛ جزاك الله خيرا أخي مهدي .
أسأل الله تعالى أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن .
وأن يجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه .

[أبو عبد الله حيدوش]

بوركتم