منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 13 Feb 2017, 04:13 PM
عبد الصمد سليمان عبد الصمد سليمان غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2013
المشاركات: 139
افتراضي الدعاة إلى الله بين التكامل والتخاذل




الدعاة إلى الله بين التكامل والتخاذل



بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
لابد أن يتسلح كل داعية إلى الله بسلاح العلم قبل أن يخوض غمار الدعوة إلى الله سبحانه وهو من الشروط الأساسية فيها والدعائم القوية لبنائها، والعلم الذي ينبغي للداعية أن يتسلح به علمان: علم بالشريعة التي يدعو إليها، وعلم بأحوال من يريد دعوتهم إليها.
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في رسالة إلى الدعاة ص44 وهو يعدد صفات الداعية إلى الله التي ينبغي أن يكون عليها: الصفة السادسة: أن يكون الداعية إلى الله عالما بشريعة الله التي يدعو إليها وعالما بأحوال من يدعوهم النفسية والعلمية والعملية" اهـ.
والأمر الذي أردت أن أخوض فيه وأتكلم في هذه المقالة عليه وأُذَكِّر إخواني الدعاة ببعض ما يتعلق به، هو: العلم الثاني؛ العلم بأحوال المدعوين، والذي ينبغي على الداعية أن يعتني به وأن لا يهمله أولا: لأهميته، وثانيا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لفت انتباه معاذ رضي الله عنه حينما بعثه إلى اليمن إليه.
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في رسالة إلى الدعاة ص45: عالما بأحوال من يدعوهم النفسية والعلمية والعملية ليستعد لهم ويسلك في دعوتهم ما يليق بأحوالهم، ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له:" إنك ستأتي قوما أهل كتاب"، فأخبره بحال من بعث إليهم من أجل الغرضين السابقين، فإن الداعي إذا دعاهم وهو لا يعرف حالهم قد ينعكس عليه هدفه وقد يبدأ بغير المهم وبغير الأهم ويترك ما هو أولى منه" اهـ.
فقوله صلى الله عليه وسلم:" ستأتي قوما أهل كتاب" أخذ العلماء منه كما تقدم أن الداعية إلى الله ينبغي عليه أن يكون عالما بحال المدعوين.
وهذه فائدة يعلمها طلاب العلم ويفقهونها من خلال تذكير أهل العلم بها، ولكن كثيرا منهم لا يعملون بها في حياتهم الدعوية، وهي من الأمور المهمة التي تعينهم على تحقيق مرادهم، وتساعدهم على تحصيل مأمولهم، ومن الأمثلة التي ينبغي للدعاة إلى الله أن يستحضروا هذا المعنى عندها، ويعملوا به حين ورودها:
انتقال الداعية إلى بلدة جديدة هو غريب عنها، يريد أن يدعو الناس فيها، ويبث العلم بين أهلها، فهنا تدخل تلكم الفائدة التي استفادها من حديث معاذ رضي الله عنه نظريا، ليحاول تطبيقها عمليا:
فينظر أولا إلى أهل هذه البلدة ما هو دينهم الذي يتدينون به، وما هي صلتهم به، وما درجة تعصبهم له، وما هي الشبهات التي تجعلهم يتمسكون به ولا يلتفتون إلى سواه، وهذا مثال للبلدة التي تدين بغير دين الإسلام.
وإذا كانت البلدة ممن يدين أهلها بدين الإسلام فينبغي على الداعية أن يعلم مذهبهم الذي يتمذهبون به، وطريقتهم التي يسلكونها فيه، وأن يعلم درجة بعدهم من الدين الصحيح الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهل عندهم شبهات تبعدهم منه وتنفرهم عنه؛ ليستعد الاستعداد التام لها، ويحسن الرد على كل من أوردها.
ومما يدخل في هذه الفائدة وهي معرفة حال المدعوين: أن يعلم إن كانت الدعوة قد بلغتهم من غيره، وهل سُبق إليهم من سواه، فإن كان في البلدة داعية إلى الله قد قامت دعوته على قدم وساق، وصار له فيها أعوان ورفاق، وخبر مذاهب أهلها، وعرف الشاردة والواردة عن الساكنين فيها، ومشى في دعوتهم طريقا طويلة، وسلك في سبيل هدايتهم كل وسيلة شرعية وحيلة؛ فعليه أن يتصل به وأن يتعاون معه، وليحذر أن يبدأ دعوته دون اللقاء به والتشاور معه، وذلك لأسباب كثيرة منها:
أولا: حتى يعملا جميعا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما حينما بعثهما إلى اليمن داعيين إلى الله فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ:" يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا" رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
ثانيا: وحتى يستفيد اللاحق من السابق الذي يختصر عليه الزمان في معرفة أحوال المدعوين النفسية والعلمية والعملية ويوفر عليه الجهد والوقت فلا يذهبان عليه في طلب شيء هو بين يديه.
ثالثا: وحتى يبدءا معا من حيث انتهى السابق فتتظافر الجهود على إتمام البناء، ولا تكون مكررة تذهب ذهاب الهباء.
رابعا: وقد يُقدر اللاحق أن جهود السابق تكفي في تلك البلدة فيتركها لينتقل إلى غيرها حتى لا تضيع جهوده فيما لا طائل تحته، ولا زيادة خير من ورائه.
خامسا: ومن الفوائد التي ترجى من وراء اتصال اللاحق بالسابق أن لا يعكر على الدعوة القائمة التي وجدت طريقها بين المدعوين، وكونت لنفسها بينهم صورة واضحة المعالم براقة الجبين ليس فيها ما يقبح ويشين، ولذلك اطمأنوا إليها، ورُفع حاجز الخوف على الأقل بينهم وبينها، وهي في طريقها لكسب قلوب الكثير منهم، ونشر الدعوة بين صفوفهم، فيستفيد اللاحق باتصاله بسابقه من هذه المكاسب التي حُققت قبله، وحصلت بجهود من تقدمه.
سادسا: ومن الفوائد التي ترجى من وراء اتصال اللاحق بالسابق أن يُدخل الطمأنينة على قلبه، ويكسب بذلك وده، ويربط العلاقة التي تثمر التعاون معه، كما أنه يعرفه بمنهجه ومذهبه وطريقته التي يسلكها في سائر أموره.
وتنبيها أقول أننا نتحدث عن الدعاة إلى الله ممن عندهم الأهلية للدعوة إلى الله، ولا نتكلم على من انبرى للدعوة إلى الله ممن لا أهلية عنده، ولا علم لديه؛ فإن هذا الواجب عليه أن يسكت ولا يتكلم، وأن يطلب العلم فكيف له أن يُوجه ويُعلم.
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في رسالة إلى الدعاة ص44:" عالما بشريعة الله ليدعو إلى الله على بصيرة وبرهان حتى لا يُضل أو يَضل وليكون داخلا في قوله تعالى:" قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" سورة يوسف من الآية 108، وليستطيع أن يدافع عن دعوته ويقنع خصمه، وكم من داع كان جاهلا فحصل من المضرة عليه وعلى ما يدعو إليه شيء كبير لأنه يُهزم أمام الباطل لقلة ما معه من العلم بالحق، ولهذا لا يجوز تمكين مثل هؤلاء الجهال من الدعوة كما لا يجوز تمكين الصبيان من الجهاد" اهـ.
ولأجل هذا فالكلام يدور على من هو أهل للدعوة إلى الله، فإذا وفد من عنده علم على بلدة فيها آخر ممن عنده علم وجب أن يتعاونا ويتعاضدا وأن يتكاملا ويتساعدا، ولللاحق مع السابق أحوال ينبغي معرفتها وبناء العلاقة بينهما على وفقها:
الحال الأولى أن يكون السابق البادئ بالدعوة أعلم من اللاحق: فعلى اللاحق أن يتعاون معه، ويأخذ بوصاياه ويستجيب لنصائحه، ويشير عليه إن طلب مشورته.
الحال الثانية أن يكون اللاحق الوافد على البلدة أعلم من السابق: ففي هذه الحال على اللاحق أن يستعين بالسابق وبخبرته، وأن يكون الموجه له والمسدد لخطواته، وأن يصير العين الساهرة على الدعوة بأكملها، والجانب الوطيء للمستجيب لها والمدعو إليها، ومن باب أولى لمن يعينه على بثها ونشرها.
وفي هذين الحالين على كل من كان أقل علما أن لا يتقدم بين يدي الأعلم منه وأن لا يتكلم في حضرته إلا إذا أذن له أو طلب منه ولقد كان السلف في هذا الباب على طريقين:
- الأول: كان أحدهم لا يحدث إذا وُجد في المجلس من هو أسنُّ أو أعلم منه؛ روى الخطيب البغدادي رحمه الله في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع تحت مبحث من كره التحديث بحضرة من هو أسنُّ أو أعلم منه ج1 ص373 : بسنده عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: «كَانَ زِرٌّ أَكْبَرَ مِنْ أَبِي وَائِلٍ، فَكَانَا إِذَا جَلَسَا جَمِيعًا لَمْ يُحَدِّثْ أَبُو وَائِلٍ مَعَ زِرٍّ»، وروى بسنده عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، قَالَ: «كَانَ إِبْرَاهِيمُ وَالشَّعْبِيُّ إِذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَتَكَلَّمْ إِبْرَاهِيمُ بِشَيْءٍ لِسِنِّهِ»، وروى بسنده عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: " كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يُحَدِّثُنَا فَيَسِحُّ عَلَيْنَا مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ، وَيُشِيرُ عُبَيْدُ اللَّهِ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَإِذَا طَلَعَ رَبِيعَةُ قَطَعَ يَحْيَى حَدِيثَهُ إِجْلَالًا لِرَبِيعَةَ وَإِعْظَامًا لَهُ" وذكر آثارا أخرى في هذا المعنى فراجعها إن شئت.
- الثاني وهو أعظم: كان أحدهم لا يحدث إذا وجد في البلدة من هو أسن أو أعلم منه؛ روى الخطيب البغدادي رحمه الله في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع تحت مبحث من كره الرواية ببلد فيه من المحدثين من هو أسنُّ منه ج1 ص372 : بسنده عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ، يَقُولُ:" لَقَدْ كُنْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامًا فَكُنْتُ أَحْفَظُ عَنْهُ، وَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا أَنَّ هَهُنَا رِجَالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي" (قلت: ورواه مسلم في صحيحه)، وروى بسنده عن الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ:" مَا لَكَ لَا تُحَدِّثُ؟ فَقَالَ: أَمَا وَأَنْتَ حَيٌّ فَلَا"، وروى بسنده عن أَحْمَدَ بْنَ أَبِي الْحَوَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ، يَقُولُ:" إِنَّ الَّذِي يُحَدِّثُ بِالْبَلْدَةِ وَبِهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالتَّحْدِيثِ مِنْهُ أَحْمَقُ" وذكر آثارا أخرى.
الحال الثالثة أن يكونا سواء في العلم: ففي هذه الحال على كل واحد منهما أن يتواضع لأخيه، وأن يستعين به في كل شيء يقصد إليه، وأن يحترمه ويثني عليه، ويدعو الناس للأخذ عنه والاستفادة منه، وإذا استجدت أمور تتعلق بالدعوة ومسارها، وبقائها أو إعاقة سيرها؛ لا يقدم عليها حتى يسمع رأيه وينظر في مشورته؛ فإن اتفقا فالحمد لله، وإن اختلفا رفعا الأمر لمن هو أعلم منهما وأقدر على معرفة الأحكام التي تعرض لهما.
الحال الرابعة أن لا يُعلم الأعلم منهما: ففي هذه الحال على كل واحد منهما – على الأقل - أن يعامل الآخر على أساس أنه مساو له في العلم، ومعادل له في الفهم؛ فيتواضع له كما تقدم ويستعين به، ويسمع رأيه وينظر في مشورته، وإذا اختلفا رفعا الأمر إلى من هو أعلم منهما لينصح لهما ويوجههما.
تنبيه: ومما يهون التعامل بمثل هذه المعاملات على الدعاة إلى الله الآتي:
أولا: الإخلاص لله والصدق معه سبحانه.
ثانيا: طلب الآخرة والحرص عليها وترك الدنيا والزهد فيها؛ وبخاصة أن يكون زاهدا في مكانة عند الناس ترنوا القلوب إليها، ومنزلة بين الأقران تحرص النفوس الأمارة بالسوء أن تحل فيها، فإن هذه من أكبر أسباب وقوع الخلافات بين الدعاة، وحصول الشقاق بين الإخوان والرفاق، بل هي من أعظم أسباب فساد الدين وضياعه من قلوب المؤمنين؛ فعَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:"مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ" رواه أحمد وغيره وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع وغيره.
ثالثا: التواضع للإخوان وعدم التعالي عليهم، وتقدير كل واحد فيهم؛ فلا يحتقر من دونه، ولا يتطاول على من فوقه؛ روى الخطيب البغدادي رحمه الله في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع تحت باب المذاكرة مع الشيوخ وذوي الأسنان ج2 ص289 بسنده: عن عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: قَالَ أَبِي: كَانَ النَّاسُ فِيمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ الْأَوَّلِ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ قَالَ: الْيَوْمُ يَوْمُ غُنْمِي فَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ وَإِذَا لَقِيَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ قَالَ: الْيَوْمُ يَوْمُ مُذَاكَرَتِي فَيُذَاكِرُهُ وَإِذَا لَقِيَ مَنْ هُوَ دُونَهُ عَلَّمَهُ وَلَمْ يَزْهُ عَلَيْهِ، قَالَ: حَتَّى صَارَ هَذَا الزَّمَانُ - فَصَارَ الرَّجُلُ يَعِيبُ مَنْ فَوْقَهُ ابْتِغَاءَ أَنْ يَنْقَطِعَ مِنْهُ حَتَّى لَا يَرَى النَّاسُ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ حَاجَةً، وَإِذَا لَقِيَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ لَمْ يُذَاكِرْهُ فَهَلَكَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ" قلت: ولعله إذا لقي من هو دونه يفتخر بما لديه ويزهو بنفسه عليه.
رابعا: أن يحتقر نفسه ويعظم غيره؛ فلا ينظر إلى نفسه بعين الإجلال والتعظيم، وإن عامله الناس بالتقدير والتكريم، وليكن أكثر الناس حرصا على معرفة نفسه والاطلاع على عيوبها ليزداد مقته لها، وعليه أن ينظر إلى محاسن إخوانه ويثني عليهم بها ويعرف لهم فضائلهم وأقدارهم ويحاول أن يتأسى بهم فيما نبغوا فيه وامتازوا على غيرهم به، وبهذا ينصلح حاله ويكون أهلا لأن يرفع الله قدره ويصلح سبحانه الناس به؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ. قَالَ رَجُلٌ وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ. فَقُلْتُ وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -. فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:" فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ" رواه البخاري ومسلم. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-:" نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ (رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْيِى الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ" رواه البخاري ومسلم، فإذا كان هذا ما يقوله نبينا صلى الله عليه وسلم في حق إخوانه وهو أفضل الأنبياء والمرسلين وسيد ولد آدم أجمعين، فما هو الذي يجب على العبد أن يعامل به إخوانه ويتصرف معهم به وبخاصة وهو الذي لا شأن له ولا خطر لقدره؟.
خامسا: الاهتمام بالدعوة والحرص على بلوغها لمن هو في حاجة إليها أيا كان المبلغ لها والمتكلم بها؛ فلا يهم الداعية إلى الله سبحانه من قام بالدعوة إلى الله أهو أم غيره، وبمن انتفع المدعوون أبدعوته أم بدعوة سواه؟؛ بل الداعية الصادق يتمنى أن يوفق الله سبحانه من تصدى للدعوة ممن هو أهل لها، ويدعو الله أن يسدده ويصلح به كل من لقيه، بل من صدقه وطلبه لوجه ربه ليتمنى أن ينتشر ما يقوله من الخير وهو غير معروف عند الناس خامل الذكر؛ روى الذهبي في سير أعلام النبلاء: عن الأصَمِّ قَالَ: سَمِعْتُ الرَّبِيْعَ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ: وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا العِلْمَ يَعْنِي: كُتُبَهُ عَلَى أَنْ لاَ يُنْسَبَ إِلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ" أين مثل هذه القلوب في زماننا الذي كثرت فيه العيوب، وقلَّ فيه الخوف من الله علام الغيوب، وتنافس الناس على الدنيا وتكالبوا على ما فيها مما يفنى، وطلبت شهواتها بالدين وتفقه لغير وجه رب العالمين، وصار الولاء والبراء فيها على حظوظ نفسية ومطالب دنية لا على ما يرضي رب البرية والعالم بأسرار النفوس الخفية؟.
سادسا: أن يعلم أن الدعوة إلى الله عبادة من العبادات الجليلة التي يتعبد لله بها، وقربة من القربات العظيمة التي يتقرب إلى ربه سبحانه بفعلها، وأنها ليست حكرا على أحد من الناس لا تتجاوزه، ولا خاصة بفرد منهم لا تتعداه؛ بل مثلها كمثل سائر العبادات الأخرى إذا توفرت في المسلم شروطها أداها تعبدا لله وطلبا للأجر الأخروي منه سبحانه، فكما أن المسلم يرضى من إخوانه أن يشاركوه التعبد لله في صلاته وصيامه وحجه وسائر عباداته بل يتعاون معهم على أدائها والقيام بها فكذلك هو شأن الدعوة إلى الله لا يريد أن يستأثر بها دونهم، ولا يطلب الانفراد بفعلها من غير مشاركتهم، لأنه إن فعل ذلك يكون داعية حينئذ لنفسه، حريصا على بروز شخصه، والداعية الصادق همته أن يدعو إلى ربه وحده، وأن يعلي كلمته سبحانه؛ قال الله تعالى:" قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)" سورة يوسف. يوضحه ويقربه الآتي:
سابعا: أن الله سبحانه يرفع قدر من يدعو إليه، وقد يرفع قدر من يدعو إلى نفسه، ولكن رفعة قدر الأول تكون دائمة في الدنيا والآخرة، متصلة غير منقطعة، أما رفعة الثاني فهي متغيرة حائلة وذاهبة زائلة، ولذلك ترى قدر الداعية إلى الله يستمر مرفوعا في حياته ومن بعد موته، وأما قدر الداعية إلى نفسه وإن استمر مرفوعا في الدنيا عند بعض المخدوعين به إلا أنه يظهر يوم القيامة للناس جميعا على حقيقته، قال الله تعالى:" يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)" سورة الحاقة، وقال تعالى:" يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)" سورة الطارق.
ثامنا: أن يحرص الداعية أن لا تكون همته في اجتماع الناس عليه، وسماعهم منه، وأخذهم عنه، وتعظيمهم له؛ لأنهم لن يغنوا عنه من الله شيئا، بل يجعل همته في درء شهوات نفسه، والتفكير في موته، وتفرق الناس عنه بعد دفنه، ومقامه بين يدي ربه عند حشره، وأنه مهما عظمه الناس في الدنيا واجتمعوا عليه في مجالسها فإنهم لن ينفعوه في آخرته إذا كانت نيته دنيا يصيبها ومنزلة يرنو إلى تحصيلها، فإذا حذر الداعية هذه الشهوة وتجنبها وبذل وسعه في تركها والبعد عنها سهل عليه كل شيء ومن ذلك التعاون مع إخوانه والتواضع لمن هو دونه فضلا عن أمثاله وأقرانه، فشهوة حب الداعية اجتماع الناس عليه تدفعه للأعاجيب وتؤدي به إلى كل شيء غريب؛ ومثل ذلك ما روى الخطيب البغدادي رحمه الله في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع تحت باب المنافسة في الحديث بين طلبته ج2 ص177 بسنده عن أَبِي وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ، يَقُولُ:" اسْتُقْضِيَ عَلَى مَرْوٍ قَاضٍ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَدِ النَّاسِ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ رَأَيْتُهُ وَاقِفًا عَلَى دَابَّتِهِ يَنْظُرُ إِلَى مَصْلُوبٍ، فَلَمَّا خَلَوْتُ بِهِ قُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا الْقَاضِي رَأَيْتُكَ تَنْظُرُ إِلَى ذَلِكَ الْمَصْلُوبِ أَفَحَسَدْتَهُ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ حَسَدْتُهُ عَلَى كَثْرَةِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «وَكُنْتُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَدَثًا" نسأل الله العافية.
تاسعا: أن يعلم الداعية أنه لا يمكنه أن يقوم بأعباء الدعوة وحده لأسباب كثيرة أذكر منها:
الأول: أنه يتعذر عليه الإلمام بعلوم الشريعة كلها؛ مسائلها ودلائلها، ولذلك فهو في حاجة إلى غيره ممن يلم بما لم يلم به، ويطلع على ما لم يطلع عليه، فتنتفع الأمة بمجموع الدعاة الذين معه ما لا تنتفع به وحده.
الثاني: أنه لا يمكنه أن يُوصل الدعوة إلى الناس جميعهم، ولا يقدر أن يعلمهم الخير الذي عنده وحده لكثرتهم واستحالة وصوله إليهم، وحتى لو وصل إليهم فلا يمكنه للأسباب ذاتها أن يتابعهم ويتدرج في تربيتهم، فوجود الدعاة معه كفيل بإيصالها إلى خلق الله بأكملهم وقيام حجة الله عليهم.
الثالث: أن الداعية معرض لما يقطعه عن دعوته، ويحرم الناس من الخير الذي كان يأتيهم من قبله؛ وعلى رأس ذلك: الموت والضلال؛ فالموت يخترمه ويقطعه عن عمله الذي كان يقوم به، والضلال يقلبه من نافع للخلق إلى ضار لهم، فتوفر دعاة الحق معه وانتشارهم بين الخلق يدعون إلى مثل دعوته؛ من أعظم أسباب بقاء دعوة الحق واستمرارها، وضمان انتفاع الناس على الدوام بها.
الرابع: أن أساليب الدعاة في الدعوة إلى الله متفاوتة، وطرائقهم متباينة، والناس متباينون في تأثرهم بهم بسبب تباين أساليبهم، فكثرة الدعاة إلى الله سبحانه جدير بأن يوسع نطاقها، ويسهم في قبول الناس على اختلاف نفسياتهم وأعرافهم ومستوياتهم لها.
قد يقول القائل: أليست الدعوة واحدة والكل يدعو إلى دين واحد ويستدل بأدلة واحدة ويقرر حقائق واحدة؟
فالجواب: بلى هو كذلك ولكن الأساليب والطرائق في عرض هذه الدعوة الواحدة متباينة ومتفاوتة، ويقرب لك هذا المعنى مثلان اثنان:
المثال الأول: الكتابة، فلو أن مجموعة من الكتاب كلفوا بكتابة نص ما لكتبوه جميعا، واتفقوا في كتابة حروفه وكلماته، ولم يختلفوا في شيء منه، لكن الشيء الذي يختلفون فيه، ويتباينون بسببه هو: الخط الذي كتبوا به نصهم ورقموا به مكتوبهم، فبعضهم يكون خطه دقيقا والآخر غليظا، ويكون خط بعضهم واضحا مفهوما وخط الآخر مستبهما مستعجما، وللناس بعد ذلك أذواق في التفضيل بينها، وتقديم واختيار بعضها دون بعضها.
المثال الثاني: تلاوة القرآن، من المعلوم أن مشاهير القراء يقرؤون كلاما واحدا هو كلام الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم ولكن أصواتهم به وتغنيهم بتلاوته تختلف من واحد إلى الآخر، فالمقروء واحد والأداء مختلف، وللناس بعد ذلك أذواق في تقديم بعضها والتأثر بها والتفضيل بينها.
فالدعاة من أهل السنة يدعون إلى شيء واحد ولكنهم يختلفون في أساليبهم، وكل أسلوب له تميزه وفائدته وأثره وثمرته، فالداعية إذا كان وحيدا لم تنتشر دعوته إلا بقدر من يميل إلى أسلوبه وتعجبه طريقته.
فائدة معترضة: إن المفاضلة بين العلماء وترتيبهم على حسب العلم الذي عندهم لا يكون إلا من قبل العالم المجتهد الذي اطلع على آثارهم وسمع كلامهم وخبر مستوياتهم، ومع هذا فإنك تجد عموم من يسمع للعلماء ويقرأ لهم - من طلبة العلم وممن هو دونهم - يحكم عليهم ويفاضل بينهم بل ويجادل غيره على صحة حكمه وصدق ترتيبه وتقديمه وكثير منهم لا يدري أن حكمه إنما مبناه على ذوقه، وأن تقديمه لمن قدمه إنما هو لإعجابه بأسلوبه وتأثره بطريقته.
فالتأثر بأسلوب الداعية شيء والحكم عليه وتقديمه على غيره شيء آخر.
والخلاصة: أن الداعية إلى الله لا يمكنه أن يبلغ الدعوة وحده وأن يقوم بأعبائها دون إعانة من غيره، ولأجل هذا فالداعية المخلص لربه المحب لانتشار الخير الذي صار من دعاته يحب أن يكثر الدعاة إلى الله سبحانه حتى تعم الدعوة الناس أجمعين وتفهم على وجهها الذي يقطع حجتهم يوم القيامة بين يدي رب العالمين. يوضحه:
عاشرا: أن يعلم الداعية أن وجود الأعوان في الدعوة إلى الله سبحانه كما أنه ضرورة كونية فهو سنة شرعية؛ وعلى ذلك جملة أدلة نذكر منها:
الدليل الأول: في قصة كليم الله موسى عليه السلام حيث قال فيما أخبرنا الله عنه في القرآن:" وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ" سورة القصص الآية 34 ومن الآية 35. فسأل الله جل وعلا أن يقويه بأخيه ويؤازره به وذكر خصيصة من خصائصه التي تميزه عن غيره وهي فصاحته، قال الإمام ابن كثير رحمه الله: أي: وزيرًا ومعينًا ومقويًّا لأمري، يصدقني فيما أقوله وأُخبر به عن الله عز وجل؛ لأن خبر اثنين أنجع في النفوس من خبر واحد؛ ولهذا قال:{ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ }.
وقال محمد بن إسحاق:{ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي } أي: يبين لهم عني ما أكلمهم به، فإنه يفهم عني.
فلما سأل ذلك قال الله تعالى:{ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أي: سنقوي أمرك، ونعز جانبك بأخيك، الذي سألت له أن يكون نبيا معك.
الدليل الثاني: قال الله تعالى:" وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)" سورة يس. قال العلامة السعدي رحمه الله: أي: قويناهما بثالث، فصاروا ثلاثة رسل، اعتناء من اللّه بهم، وإقامة للحجة بتوالي الرسل إليهم.
الدليل الثالث: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ:" بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" رواه البخاري رحمه الله. والحديث واضح في الدلالة على المعنى المراد. ومثله:
الدليل الرابع: عَنْ أَبِى بَكْرَةَ ذُكِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ:" فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ - عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ" رواه البخاري رحمه الله، وعن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ:" نَضَّرَ اللَّهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُمَّ أَدَّاهَا لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لاَ فِقْهَ لَهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ" رواه أحمد وغيره وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير رقم 6766.
تنبيه: هذا كله إذا أراد الداعية أن ينتقل إلى بلد هو غريب عنه، وليس من أهله، وفيه دعوة قامت قبل مجيئه، وإلا فالأصل الذي كان عليه السلف أن يرجع طالب العلم إلى بلده، ويقوم على تعليم الناس فيه، فيفيد أهل بلده بعلمه، ويرحل غيره إليه لتلقي العلم على يديه؛ قال الله تعالى:" وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)" سورة التوبة.
وفي البقاء على هذا الأصل فوائد كثيرة ومصالح وفيرة:
منها: أنه أخبر بأهل بلده من غيره، وأعلم بمذاهبهم وأحوالهم وأعرافهم وحاجاتهم من سواه، ولذلك فهو أقدر على دعوتهم وإصلاحهم من كل أحد يريد نشر الدعوة بينهم.
ومنها: أنهم أعرف به وبنسبه؛ ومن أجل ذلك يأخذون عنه وينقادون له ولا ينفرون منه ويتأبون عليه؛ ولهذا كان الله جل وعلا يبعث في كل قوم رسولا منهم، قال الله تعالى:" لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)" سورة التوبة، وقال تعالى:" وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)" سورة النحل.
ومنها: أن يوجد فيهم من أقاربه وأصحابه وجيرانه ومعارفه من يذب عنه، ويدافع عن شخصه، وعن كل ما له علاقة به؛ ومن ذلك دعوته التي هي من أخص خصائصه.
ومنها: أن يترك الناس إذايته إما حياء من أهله وأقاربه ومن له صلة به وبخاصة إن كان فيهم أهل الشرف والمنزلة، وإما خوفا منهم وحذرا من انتقامهم وبخاصة إن وجد فيهم أهل القوة والبسالة.
ومنها: أنه أدرى بلسانهم ومصطلحاتهم ولهجاتهم فيحسن الفهم عنهم ويجيد إفهامهم على اختلاف مستوياتهم؛ صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم ومتعلمهم وجاهلهم.
ومنها: أنه يكون أشفق وأحن عليهم وأكثر حرصا على صالحهم من كل من يتعرض لدعوتهم.
ومنها: أن أهل بلده أولى بدعوته من غيرهم لأنهم أقرب منه وأعظم الناس حقا عليه كيف وفيهم أقاربه وأصحابه وجيرانه وغيرهم ممن لهم علاقة به ومعرفة سابقة بشخصه.
ومنها: أن يتفرغ لدعوتهم بمجرد الحلول بينهم؛ بعكس البلاد الغريبة التي ينتقل إليها؛ فهو محتاج إلى تأسيس بيت يسكن فيه، وعمل يقتات منه، وهذان لابد يشغلانه عن الدعوة التي قصدها ويريد القيام بها، أما في بلده فقد يكتفي ببيت والده أو بعض أقاربه يسكن فيه ويأوي هو وأهله إليه، وهكذا بالنسبة للعمل الذي يقتات منه فهو أعلم بأسبابه وأخبر بها في بلده منه في بلاد غيره التي قد لا يحسن أسباب المعيشة الموجودة فيها لعدم علمه بها، فأسباب المعيشة تختلف باختلاف بلاد الله التي تختلف مواقعها والتضاريس التي فيها فمنها الساحلية والجبلية والسهلية والصحراوية وكل واحدة من هذه لها خصائصها وثقافاتها والأسباب المعيشية التي تمتاز بها فلذلك إذا انتقل إلى بلاد غير بلاده قد يصعب عليه كسب قوت عياله فيعيقه ذلك عن التفرغ لدعوته.
ومنها: أن يستمر ويتابع ولا يترك وينقطع؛ لأن الداعية إلى الله إذا انتقل إلى بلد غير بلده اضطر إلى الانقطاع عن دعوته لزيارة أهله وصلة أرحامه كوالديه وإخوانه وأقاربه وأهله وغيرهم ممن لهم صلة به؛ وبخاصة عند حلول الأمراض التي تدعوا إلى وجوده معهم للقيام بما يجب عليه تجاههم، أو عند المناسبات التي لا يمكنه تركها والتخلف عنها، وغير ذلك مما يستدعي تنقله وانقطاعه، وإني لأعرف رجلا تجارته في غير قريته التي يسكن فيها اضطر لتركها بسبب والده المريض المقعد الذي يطلب منه دائما أن يمكث معه وأن لا يفارقه.
ومنها: أنه قد لا يتأقلم مع جوها ومناخها فيتضرر إذا انتقل إليها وعاش فيها بعكس بلده التي نشأ فيها فإنه قد تكيف معها؛ ومن ذلك ما وقع للصحابة رضوان الله عليه حينما هاجروا إلى المدينة فأصيبوا بحماها التي ألمت بهم وأثرت عليهم؛ فعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ - قَالَتْ - فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بِلاَلُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟. قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ في أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ.
وَكَانَ بِلاَلٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ وَيَقُولُ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِى هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:" اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ" رواه البخاري رحمه الله في صحيحه.
- ومنها: أنه قد يعينه في دعوته بعض محبي الخير من أعيان بلدته؛ إما لمعرفتهم به واطمئنانهم له وإما لمعرفتهم بأهله وعائلته، فالداعية إذا دخل بلدة لم يكن من أهلها قد لا يعان من بعض أهل الخير من سكانها وقاطنيها بسبب غربته وجهلهم به وبحقيقته فالناس أعداء لما جهلوا، وبخاصة في أزمان الفتن التي لا يعين المرء في أيامها المجهولين عنده مخافة أن يعود ذلك بالضرر عليه.
والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وكتب أبو عبد السلام عبد الصمد سليمان
الإثنين15 جمادى الأولى 1438هـ الموافق: 13 / 02 / 2017م


التعديل الأخير تم بواسطة أبو معاذ محمد مرابط ; 17 Feb 2017 الساعة 02:00 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15 Feb 2017, 12:36 PM
أبو سهيل محمد القبي أبو سهيل محمد القبي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2014
المشاركات: 207
افتراضي

بارك الله فيك أخي عبد الصمد على مقالك الطيب الرائع، صراحة حمل فوائد ونصائح عديدة يحتاجها الداعية إلى الله تعالى.
وللإشارة فقط أخي: فإن لشيخنا أبي عبد المعز حفظه الله مقالا في موقعه بعنوان: تكامل مهام الإمام الداعية في مسجده.
فيه توجيهات قيمة للداعي إلى الله فيها حث على نشر العلم ومحاربة الجهل والشرك والبدع، والتمسك بمنهج السلف قولا وعملا، والتعاون مع الدعاة وغير ذلك ...
فحُق لمثل هذه المقالات أن تُقرأ وتُتفهّم.

التعديل الأخير تم بواسطة أبو سهيل محمد القبي ; 15 Feb 2017 الساعة 02:32 PM
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15 Feb 2017, 02:56 PM
أبو معاذ محمد مرابط
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

مقال يجلد القلوب الغافلة.
جزاك الله خيرا أخي العزيز عبد الصمد وكثر الله من أمثالك في هذا المنتدى
من المقالات التي تقف دونها الأنامل عاجزة فلا تجد ما تكتب.
فالحمد لله

التعديل الأخير تم بواسطة أبو معاذ محمد مرابط ; 16 Feb 2017 الساعة 03:41 PM
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 15 Feb 2017, 08:42 PM
عبد الله سنيقرة عبد الله سنيقرة غير متواجد حالياً
عفا الله عنه
 
تاريخ التسجيل: Oct 2012
المشاركات: 268
افتراضي

بورك فيك أيها الفاضل وجزاك الله خيرا . مقال نافع ماتع .
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 15 Feb 2017, 11:14 PM
أبو عبد السلام جابر البسكري أبو عبد السلام جابر البسكري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2014
المشاركات: 1,229
إرسال رسالة عبر Skype إلى أبو عبد السلام جابر البسكري
افتراضي

جزاك الله خيرا على ما سطرته أخي عبد الصمد - ونفع الله بمقالك وجعلك من دعاة الخير -
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 16 Feb 2017, 12:31 PM
عبد الصمد سليمان عبد الصمد سليمان غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2013
المشاركات: 139
افتراضي

جزى الله خيرا إخواننا المعلقين على تعليقاتهم وتشجيعاتهم وحسن ظنهم بأخيهم، فأسأل الله جل وعلا أن يبارك فيهم، وأن ينفع بهم، وأن يكون عونا لهم على كل خير يريدونه ويحرصون على فعله إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأقول ﻷخينا أبي معاذ سلم الله أناملك، وجعلها راقمة لكل ما ينفعك في دنياك وآخرتك، وأعطاك حظا من اسمك حتى تكون مرابطا على ثغور الإسلام إلى أن يدخلك الله سبحانه دار السلام.
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 16 Feb 2017, 06:45 PM
أبو عبد الله محمد بن عامر أبو عبد الله محمد بن عامر غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jan 2016
الدولة: تلاغ - الجزائر
المشاركات: 81
افتراضي

بارك الله فيكم أبا عبد السلام ، و الله إنه لمقال ماتع نسأل الله أن ينفع به كاتبه و قارئه و الدال عليه ، و حقا ما قاله الأخ الفاضل المرابط ، تعجز الأنامل عن كتابة تعليق على المقال ، فنسأل الله أن ينفع بكما ، و بغيركما من الدعاة إلى الله على منهاج النبوة .
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 17 Feb 2017, 11:57 AM
عبد الله بوزنون عبد الله بوزنون غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2014
المشاركات: 187
افتراضي

كلمة في الصميم يحتاجها الداعية إلى الله ,بوركت يمينك وجعل ما كتبت في ميزان حسناتك.
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 17 Feb 2017, 03:15 PM
عبد الصمد سليمان عبد الصمد سليمان غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2013
المشاركات: 139
افتراضي

حفظكما الله وبارك فيكما ووفقكما لكل خير ويسر لكما سبيل السنة والطاعة وجنبكما سبل الغواية والبدعة وجعلكما من الدعاة إليه والدالين عليه آمين وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 19 Feb 2017, 11:12 AM
لزهر سنيقرة لزهر سنيقرة غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2009
المشاركات: 343
افتراضي

بارك الله فيك أخي عبد الصمد على هذه المقالة النفيسة، وخاصة في مثل هذه الأيام التي نحتاج فيها لمثل هذه المواضيع النافعة في باب الدعوة إلى الله والاجتماع فيها وعليها على وفق مايحبه ربنا ويرضاه، وفقنا الله جميعا للسير على هذه المعالم ورزقنا الإخلاص في القول والعمل.
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 19 Feb 2017, 12:04 PM
مهدي بن صالح البجائي مهدي بن صالح البجائي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Aug 2013
المشاركات: 591
افتراضي

جزاك الله خير الجزاء أخي عبد الصمد، وأسأل الله أن ينفعنا بهذه الكلمات الصائبة والتوجيهات السديدة.
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 22 Feb 2017, 07:30 PM
أبو عبد الله حيدوش أبو عبد الله حيدوش غير متواجد حالياً
وفقه الله
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
الدولة: الجزائر ( ولاية بومرداس ) حرسها الله
المشاركات: 759
افتراضي

جزاك الله خيرا وبارك فيك ونفع بك وجعلك مباركا أينما كنت
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 24 Feb 2017, 09:55 AM
عبد الصمد سليمان عبد الصمد سليمان غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2013
المشاركات: 139
افتراضي

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
جزى الله خيرا كل من علق على مقالتي ودعا بالأدعية الصالحة المباركة لي، فأسأل الله عز وجل أن يبارك فيهم وأن يحفظهم وأن ينفع الخلق بهم.
ثم أخص بالذكر والشكر والدعاء والثناء الشيخ الفاضل والوالد المناضل شيخنا لزهر حفظه الله ورعاه والذي ما فتئ يشجع أبناءه ويعضد ساعد إخوانه فبارك الله فيه وحفظه وجعله بلسما لجراح أهل السنة وشوكة لا تنتقش في حلوق أهل البدعة.
ومما يجدر بي أن أذكره، وأعترف به؛ أن الكتابة من أمثالي، ومن هو في مستواي؛ لا يطمئن لها صاحبها، ولا يأمن من تبعاتها، إلا عندما يطلع عليها أحد المشايخ السنيين، ويعلق عليها بما يدل على صحة ما جاء فيها، وموافقته للسنة التي ننتسب جميعا إليها، فهذه التعليقات من مشايخنا الأجلاء تثلج الصدر وتشجع على الخير وتدعوا إلى الاستمرار وتحفز على السير في هذا المضمار.
فجزى الله شيخنا خير الجزاء وأكرمه في الدنيا والآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
منهج, مميز, التخاذل, الدعاة, دعوة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013