منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 11 Dec 2014, 08:14 AM
حميد جبار حميد جبار غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2012
المشاركات: 41
افتراضي الجواب الصحيح في إبطال شبهات من أجاز الصلاة في مسجد فيه ضريح الشيخ فركوس

هذا المقال لفضيلة الشيخ محمد عي فركوس حفظه الله تعالى يرد فيه على دار الإفتاء المصرية و التي إحتجت بشبهة إجماع الصحابة على الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم رغم إتصال الحجرة التي دفن فيا هو ووزيراه أبو بكر و عمر رضي الله عنهما.
و لم أكن أريد إضافة أي كلام حتى لا أتطفل على شيخنا الفاضل، وأعتذر للإدارة و للجميع خاصة لمن توهم(في بداية قراءته أو من العنوان) أن المقال لي. و بارك الله فيك أخانا محمد على التنبيه و التوجيه.
في رد شبهة دار الإفتاء المصرية
في الاحتجاج بشبهة إجماع الصحابة رضي الله عنهم

• نص الشبهة:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فقد احتجَّت دار الإفتاء على استحباب الصلاة في المساجد المبنيَّة على الأضرحة والقبور -هداها الله- بشُبهة إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وقد جاء نصُّ احتجاجها على ما يلي:
«أمَّا فِعل الصحابة رضي الله عنهم يتَّضح في موقف دفن سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم واختلافهم فيه، وهو ما حكاه الإمام مالكٌ رضي الله عنه عندما ذكر اختلاف الصحابة في مكانِ دَفْنِ الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: «فقال ناسٌ: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: يُدفن بالبقيع، فجاء أبو بكرٍ الصدِّيق فقال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلاَّ فِي مَكَانِهِ الَّذِي تُوُفِيَّ فِيهِ فَحُفِرَ لَهُ فِيهِ»» [رواه مالكٌ في «الموطَّأ» (1/ 231)]، ووجه الاستدلال أنَّ أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم اقترحوا أن يُدفن صلَّى الله عليه وسلَّم عند المنبر وهو داخلَ المسجد قطعًا، ولم ينكر عليهم أحدٌ هذا الاقتراحَ، بل إنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه اعترض على هذا الاقتراح ليس لحرمة دفنه صلَّى الله عليه وسلَّم في المسجد، وإنما تطبيقًا لأمره صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يُدفن في مكانِ قَبْضِ روحه الشريف صلَّى الله عليه وسلَّم.
وبتأمُّلنا إلى دفنه صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك المكان؛ نجد أنه صلَّى الله عليه وسلَّم قُبض في حجرة السيِّدة عائشة رضي الله عنها، وهذه الحجرة كانت متَّصلةً بالمسجد الذي يصلِّي فيه المسلمون. فوضعُ الحجرة بالنسبة للمسجد كان -تقريبًا- هو نفْسَ وضع المساجد المتَّصلة بحجرةٍ فيها ضريحٌ لأحد الأولياء في زماننا، بأن يكون ضريحه متَّصلاً بالمسجد والناسُ يُصلُّون في صحن المسجد بالخارج.
وهناك من يعترض على هذا الكلام ويقول: إنَّ هذا خاصٌّ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والردُّ عليه أنَّ الخصوصية في الأحكام بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تحتاج إلى دليلٍ، والأصل أنَّ الحكم عامٌّ ما لم يَرِدْ دليلٌ يُثبت الخصوصيةَ، ولا دليلَ، فَبَطَلَتْ الخصوصية المزعومة في هذا الموطن، ونزولاً على قول الخصم من أنَّ هذه خصوصيةٌ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم -وهو باطلٌ كما بيَّنَّا- فالجواب أنَّ هذه الحجرة دُفن فيها سيِّدنا أبو بكرٍ رضي الله عنه، ومن بعده سيِّدنا عمر رضي الله عنه، والحجرة متَّصلةٌ بالمسجد، فهل الخصوصية انسحبت إلى أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما أم ماذا ؟ والصحابة يُصلُّون في المسجد المتَّصل بهذه الحجرة التي بها ثلاثة قبورٍ، والسيِّدة عائشة رضي الله عنها تعيش في هذه الحجرة، وتصلِّي فيها صلواتِها المفروضةَ والمندوبةَ، ألا يُعدُّ هذا فِعْلَ الصحابة وإجماعًا عمليًّا لهم».
• الجواب على الشبهة:
فالجواب عنها من جهة ضعف سند الأثر ومن جهة تقدير صِحَّته على الوجه التالي:
• من جهة ضعف سند الأثر:
- إنَّ ما استندت إليه دار الإفتاء -هداها الله- من حديث مالكِ بن أنسٍ رحمه الله بقولها: «وهو ما حكاه مالكٌ رحمه الله عندما ذكر اختلاف الصحابة في مكان دفن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم» فإنما أورده مالكٌ رحمه الله في «الموطَّأ» بلاغًا منقطعًا دون إسنادٍ، وجاء في سياقه «أنه بلغه أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تُوفِّي يوم الإثنين، ودُفن يوم الثلاثاء وصَلَّى الناس عليه أفذاذًا، لا يؤمُّهم أحدٌ، فقال ناسٌ: يُدفن عند المنبر، وقال آخَرون: يُدفن بالبقيع، فجاء أبو بكرٍ الصدِّيق فقال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يَقُولُ: مَا دُفِنَ نَبِيٌّ قَطُّ إِلاَّ فِي مَكَانِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ..»(1).
وهذا الحديث معضلٌ، قال الحافظ ابن عبد البرِّ رحمه الله: «هذا الحديث لا يُروى على هذا النسق بوجهٍ من الوجوه غيرَ بلاغ مالكٍ هذا، ولكنَّه صحيحٌ من وجوهٍ مختلفةٍ وأحاديثَ شتَّى جمعها مالكٌ»(2)، ثمَّ تناول الحافظ ابن عبد البرِّ رحمه الله الحديث ببيان جميع شواهد فقراته ما عدا تلك المتعلِّقةَ بالدفن عند المنبر، فلم يذكر لها ما يشهد لها بالصِّحَّة.
وقد رواه ابن سعدٍ في «الطبقات الكبرى» قال: «أخبرنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، أخبرنا محمَّد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال: قال أبو بكرٍ أين يُدفن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ؟ قال قائلٌ منهم: عند المنبر، وقال قائلٌ منهم: حيث كان يصلِّي يؤمُّ الناسَ، فقال أبو بكرٍ: بل يُدفنُ حيث توفَّى الله نفْسَه، فأخَّر الفراش ثمَّ حفر له تحته»(3).
وسنده ضعيفٌ لإرساله، فأبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبي بكرٍ، «قال أبو زرعة: هو عن أبي بكرٍ مرسلٌ»(4)، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب كانت ولادته في خلافة عثمان ولم يسمع من أبي بكرٍ(5)، ومحمَّد بن عمرو ابن علقمة صدوقٌ له أوهامٌ(6).
والحديث رواه محمَّد بن إسحاق موصولاً، أخرجه ابن ماجه في «السنن»(7) والبزَّار(8) وأبو يعلى(9) والبيهقي في «دلائل النبوَّة»(10)، وأبو بكرٍ المروزي في «مسند أبي بكر»(11)، وابن هشامٍ(12)، وابن كثيرٍ(13). قال: «حدَّثني حسين بنُ عبد الله عن عكرمة عن ابن عبَّاسٍ قال: ..وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه فقال قائلٌ: ندفنه في مسجده، وقال قائلٌ: بل ندفنه مع أصحابه، فقال أبو بكرٍ: إنِّي سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ».
والحديث ضعيفٌ لأنَّ في سنده حسين بن عبد الله بن عُبَيْدٍ ضعَّفه ابنُ معينٍ والنسائي وأبو زرعة والبخاري، وكثيرٌ من أهل الحديث لم يحتجُّوا بحديثه(14)، والحديث ضعَّفه الألباني -أيضًا-(15).
وتابعه من هو دونه وأَوْهَى منه، قال السيوطي: «وصله ابن سعدٍ من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عبَّاسٍ، ومن طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة»(16).
قلت: فقد رواه ابن سعدٍ في «الطبقات الكبرى» قال: [أخبرنا محمَّد ابن عمر، أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحُصين عن عكرمة عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: «لَمَّا فُرِغَ من جهاز رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الثلاثاء وُضع على سريرٍ في بيته، وكان المسلمون قد اختلفوا في دفنه فقال قائلٌ: ادفنوه في مسجده، وقال قائلٌ: بل ادفنوه مع أصحابه بالبقيع، قال أبو بكرٍ: سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «مَا مَاتَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ»، فرفع فراش النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الذي تُوفِّي عليه ثمَّ حفر له تحته»](17).
وسند هذا الحديث ضعيفٌ جدًّا، وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ضعيفٌ وعنده مناكيرُ(18)، وداود بن الحُصين ثقةٌ إلاَّ في عكرمة، ورُمي برأي الخوارج كما صرَّح ابن حجرٍ في «التقريب»(19)، ومحمَّد بن عمر بن واقدٍ الأسلمي هو الواقديُّ متروكُ الحديث، فلا يصلح هذا الطريق لا في المتابعات ولا في الشواهد.
ولا يشفع لحال الواقديِّ إسناده الآخَر الذي ذكره الحافظ ابن كثيرٍ في «البداية والنهاية»: «وقال الواقدي حدَّثنا عبد الحميد بن جعفرٍ عن عثمان بن محمَّدٍ الأخنسي عن عبد الرحمن بن سعيدٍ -يعني ابن يربوع- قال: لَمَّا تُوفِّي النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم اختلفوا في موضع قبره، فقال قائلٌ: في البقيع، فقد كان يُكثر الاستغفارَ لهم، وقال قائلٌ: عند منبره، وقال قائلٌ: في مُصلاَّه، فجاء أبو بكرٍ فقال: إنَّ عندي من هذا خبرًا وعلمًا، سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ تُوُفِّيَ»(20).
وهذا الحديث مرسلٌ، وعبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي لم يُدرك أبا بكرٍ، وفيه الواقديُّ -كما ترى-.
وأمَّا طريق هشام بن عروة فليس فيه ذكرٌ لمحلِّ الشاهد.
هذا، والناظر في مجموع طُرُق الحديث يُدرك أنَّ الطريق الأوَّل -وإن كان ضعيفًا من جهة الإرسال وليس فيه تهمةٌ في صدق الراوي وديانته- إلاَّ أنَّ الطُّرُق الأخرى لا تخلو من ذلك، فإنَّ طريق عكرمة عن ابن عبَّاسٍ فيه حسين بن عبد الله ابن عبيد الله بن عبَّاسٍ: تركه أحمد وله أشياءُ منكرةٌ، وقال النسائي: متروكٌ، وتركه البخاري، وقال: يقال إنه متَّهمٌ بالزندقة(21).
أمَّا الطريق الثالث ففيه إبراهيم بن أبي حبيبة: ضعيفٌ له مناكيرُ، وفيه الواقديُّ: متروك الحديث، وكذا الطُّرُق الأخرى.
وعليه، فلا يتقوَّى الحديث بكثرة طُرُقه مهما تعدَّدت؛ لأنها ناشئةٌ من تهمةٍ في صدق الرواة ودينهم، وإنما يرتقي ويتقوَّى بكثرة الطرق إذا كان ضعف رواته في مختلف الطرق ناشئًا من جهة سوء حفظهم كما نبَّه عليه أهلُ الحديث.
• من جهة تقدير صحَّة الأثر:
هذا، وعلى فرض صحَّة الأثر فإنَّ قول القائل: «ندفنه في مسجده» أو «عند المنبر» معارَضٌ بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «لَمَّا نُزل برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم طَفِقَ يطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها فقال وهو كذلك: لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. يحذِّر ما صنعوا، ولولا ذلك أُبْرِزَ قبرُه، غير أنه خشِيَ أن يُتَّخذ مسجدًا»(22).
والمرادُ أنه لولا تحذير النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما صنعوا ولعنُ مَن يفعل ذلك لدُفن خارجَ بيته، غيرَ أنه خَشِيَ [أي: النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم] أن يُتَّخذ قبرُه مسجدًا على رواية الفتح، أمَّا «خُشِيَ» على رواية الضمِّ فهي خشيةٌ واقعةٌ من الصحابة رضي الله عنهم، ولا تُعارضها روايةُ عائشة رضي الله عنها: «غيرَ أنِّي أخشى»؛ لأنَّ إخبار وقوع الخشية من فردٍ لا ينافي وقوعها في مجموع الأفراد.
ومن جهةٍ أخرى: يجوز أن يشير أحدُهم بأن يُدفن في بيته -قطعًا لذريعة الشرك- وليس في ذهنه إلاَّ تلك الخشية، وبعضهم يشير إلى الرأي نفسه ومعه علمٌ بأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلاَّ دُفِنَ حَيْثُ قُبِضَ»، كما يجوز على بعضهم أنْ لا يتفطَّن إلى هذا المعنى لغلبة معنًى آخَرَ في الرأي، فيشير إلى دفنه بالبقيع لعلَّةِ أنه كان كثيرًا ما يستغفر لهم فيُدفن مع أصحابه، أو يشير بعضهم إلى دفنه في مسجده أو عند منبره لعلَّة موضع خطابته وصلاته وإمامته بالناس مع غياب المعنى الأوَّل، وهو -بلا شكٍّ- قولٌ موقوفٌ على اجتهاد صحابيٍّ لم يعيِّنه الحديث مع احتمال أنه لم يبلغه التحريم، وخاصَّةً أنَّ أحاديث التحريم كانت قريبة العهد بوفاته صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يَلزم من سكوت الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الوقت سكوتُهم في أيِّ وقتٍ وإقرارُهم على مبلغ اجتهاده، فهُم أعلم بذلك الظرف ومناسبته لمقام الإنكار فيه من عدمه، علمًا بأنَّ جمهور الصحابة رضي الله عنهم قد بيَّنوا الحكمَ بيانًا يُسقط وجوب الإنكار فيما نقلوا من أحاديثَ مرفوعةٍ ومتواترةٍ وصريحةٍ في تحريم بناء المساجد على القبور، وهي نصٌّ في المسألة. ويؤيِّد قيامَ الإنكار من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما روى ابن سعدٍ بسندٍ صحيحٍ عن الحسن (وهو البصري) قال: «ائتَمروا(23) أن يدفنوه صلَّى الله عليه وسلَّم في المسجد فقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان واضعًا رأسه في حجري إذ قال: «قَاتَلَ اللهُ أَقْوَامًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»، واجتمع رأيهم أن يدفنوه حيث قُبض في بيت عائشة»(24).
- وفي قول دار الإفتاء -هداها الله-: «وبتأمُّلنا إلى دفنه صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك المكان، نجد أنه صلَّى الله عليه وسلَّم قُبض في حجرة السيِّدة عائشة رضي الله عنها…».
فجوابه من وجوه:
• الوجه الأوَّل: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يُدفن في مسجده، إذ المسجد بناه صلَّى الله عليه وسلَّم في حياته، وإنما دُفن حيث قُبض في أحد بيوته صلَّى الله عليه وسلَّم، وهي حجرة عائشة رضي الله عنها التي كانت بجوار المسجد وخارجةً عنه، يفصل بينهما جدارٌ فيه بابٌ، وإنما دفنه الصحابة رضي الله عنهم في ذلك المكان عملاً بمقتضى الحديث، وحتى لا يتركوا مجالاً لمن بعدهم أن يتَّخذ قبره عيدًا ومسجدًا.
• الوجه الثاني: أنَّ توسيع مسجده صلَّى الله عليه وسلَّم كان في عهد خلافة عمر بن الخطَّاب ثمَّ في خلافة عثمان بن عفَّان رضي الله عنهما ولم يُدخِلاَ القبر فيه، وإنما تَمَّ توسيعهما للمسجد من الجهات الأخرى دون تعرُّضٍ للحجرة الشريفة عملاً بمقتضى الأحاديث الناهية عن اتِّخاذ القبور مساجدَ، وإنما أُدخلت الحجرة النبوية في المسجد في أواخر القرن الأوَّل في عهد خلافة الوليد بن عبد الملك الذي أمر بهدم المسجد النبويِّ وإضافة حُجَرِ أزواج رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إليه، وذلك سنة ثمانٍ وثمانين من الهجرة (88ه)، كما صرَّح بذلك الطبري(25) وابن كثيرٍ(26)، وعليه يتجلَّى بوضوحٍ أنَّ إدخال الحجرة الشريفة في المسجد ليس ممَّا أجازه الصحابة رضي الله عنهم، ولا أجمعوا عليه كما تدَّعي دار الإفتاء المصرية -هداها الله-، إذ لم يكن -آنذاك بالمدينة النبوية- أحدٌ من الصحابة على قيد الحياة، وكان آخرهم موتًا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سنة ثمان وسبعين (78ه)، ومع ذلك أنكر هذا العمل بعض كبار التابعين كسعيد بن المسيِّب رحمه الله(27).
قال الحافظ محمَّد بن عبد الهادي: «وإنما أُدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، بعد موت عامَّة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان من آخرهم موتًا جابر بن عبد الله، وتُوفِّي في خلافة عبد الملك، فإنه تُوفِّي سنة ثمانٍ وسبعين، والوليد تولَّى سنة ستٍّ وثمانين، وتُوفِّي سنة ستٍّ وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك، وقد ذكر أبو زيدٍ عمر بن شبَّة النميري في كتاب «أخبار المدينة» مدينة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن أشياخه عمَّن حدَّثوا عنه أنَّ عمر بن عبد العزيز لَمَّا كان نائبًا للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب، وهدم حجرات النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه»(28)، فأين حصل إجماع الصحابة رضي الله عنهم المزعوم يا ترى ؟!
- وقول دار الإفتاء -هداها الله-: «والسيِّدة عائشة رضي الله عنها تعيش في هذه الحجرة، وتصلِّي فيها صلواتِها المفروضةَ والمندوبة، ألا يُعدُّ هذا فعْلَ الصحابة وإجماعًا عمليًّا لهم».
فجوابه: أنَّ حجرة عائشة رضي الله عنها كانت مفصولةً عن قبرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بجدارٍ بينهما، ويدلُّ عليه ما أخرجه أحمد في «مسنده» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أدخل بيتي الذي دُفن فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبي فأضع ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلمَّا دُفن عمر معهم فوالله ما دخلتُ إلاَّ وأنا مشدودةٌ عليَّ ثيابي حياءً من عمر رضي الله عنه»(29).
فالحديث يشير إلى أنَّ عائشة رضي الله عنها كانت تدخل حجرتها بعدما فُصلت بجدارٍ عن قبر النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: إذ لا يستقيم في العادة أن تبقى مشدودةً عليها ثيابُها فلا تضعها ولو في وقت راحتها. ويؤيِّده ما أخرجه ابن سعدٍ في «الطبقات الكبرى» أنَّ مالك بن أنسٍ قال: «قُسم بيت عائشة باثنين: قسمٌ كان فيه القبرُ، وقسم كان تكون فيه عائشة، وبينهما حائطٌ، فكانت عائشة ربَّما دخلت حيث القبر فُضُلاً، فلما دُفن عمر لم تدخله إلاَّ وهي جامعةٌ عليها ثيابها»(30).
• الوجه الثالث:
والذين أدخلوا القبر النبويَّ في المسجد مع يعترفون بمخالفة الهدي الصريح في النهي عن بناء المساجد على القبور، ومخالفة سنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، وسيرة الصحابة الكرام؛ لذلك حاولوا تقليل المخالفة ما وَسِعهم بالمبالغة في الاحتياط درءًا للفتنة وصيانةً لجناب التوحيد لئلاَّ يُتَّخذ قبرُه عيدًا ووثنًا يُعبد.
قال ابن رجبٍ رحمه الله: «قال القرطبي: بالغ المسلمون في سدِّ الذريعة في قبر النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فَأَعْلَوْا حيطان تربته، وسَدُّوا المداخل إليها، وجعلوها محدقةً بقبره صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ خافوا أن يُتَّخذ موضع قبره قبلةً إذ كان مستقبل المصلِّين، فتتصوَّر إليه الصلاة بصورة العبادة، فبنَوْا جدارين من ركنَيِ القبر الشماليَّين، وحرفوهما حتى الْتقيا على زاوية مثلَّثٍ من ناحية الشمال حتى لا يتمكَّن أحدٌ من استقبال قبره، ولهذا المعنى قالت عائشة: ولولا ذلك لأُبرز قبره»(31).
فهذا الاحتياط المبالغ فيه حيالَ القبر الشريف وقبرَيْ صاحبيه إنما هو استجابة دعائه صلَّى الله عليه وسلَّم: «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»(32)، فحماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه.
وضمن هذا المعنى يقول ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا لَمَّا أُدخلت الحجرة في مسجده المفضَّل في خلافة الوليد بن عبد الملك -كما تقدَّم- بنَوْا عليها حائطًا وسنَّموه وحرَّفوه لئلاَّ يصلِّيَ أحدٌ إلى قبره الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي موطَّإ مالكٍ عنه أنه قال: «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمِ مَسَاجِدَ»، وقد استجاب الله دعوته فلم يُتَّخذ -ولله الحمد- وثنًا كما اتُّخذ قبر غيره، بل ولا يتمكَّن أحدٌ من الدخول إلى حجرته بعد أن بُنيت الحجرة، وقبل ذلك ما كانوا يمكِّنون أحدًا من أن يدخل إليه ليدعوَ عنده ولا يصلِّيَ عنده، ولا غير ذلك ممَّا يُفعل عند قبر غيره، لكنْ من الجهَّال من يصلِّي إلى حجرته، أو يرفع صوته أو يتكلَّم بكلامٍ منهيٍّ عنه، وهذا إنما يُفعل خارجًا عن حجرته لا عند قبره، وإلاَّ فهو -ولله الحمد- استجاب الله دعوتَه فلم يُمَكَّن أحدٌ قطُّ أن يدخل إلى قبره فيصلِّيَ عنده أو يدعوَ أو يُشركَ به كما فُعل بغيره اتُّخِذ قبرُه وثنًا، فإنه في حياة عائشة رضي الله عنها ما كان أحدٌ يدخل إلاَّ لأجلها، ولم تكن تمكِّن أحدًا أن يفعل عند قبره شيئًا ممَّا نهى عنه، وبعدها كانت مغلقةً إلى أن أُدخلت في المسجد فسُدَّ بابُها وبُني عليها حائطٌ آخَرُ، كلُّ ذلك صيانةً له صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُتَّخذ بيتُه عيدًا وقبرُه وثنًا، وإلاَّ فمعلوم أنَّ أهل المدينة كلَّهم مسلمون، ولا يأتي إلى هناك إلاَّ مسلمٌ، وكلُّهم مُعظِّمون للرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وقبورُ آحاد أُمَّته في البلاد معظَّمةٌ، فما فعلوا ذلك ليُستهان بالقبر المكرَّم، بل فعلوه لئلاَّ يُتَّخذ وثنًا يُعبد ولا يُتَّخذَ بيتُه عيدًا، ولئلاَّ يُفْعَل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم»(33).
وفي هذا السياق نختم بقول ابن القيِّم -في نونيَّته- وهو من أشدِّ الناس إنكارًا على شبهات الشرك كشيخه ابن تيمية -رحمهما الله تعالى- قال:

وَلَقَدْ نَهَانَا أَنْ نُصَيِّرَ قَبْرَهُ * عِيدًا حِذَارَ الشِّرْكَ بِالرَّحْمَنِ
وَدَعَا بِأَنْ لاَ يُجْعَلَ القَبْرُ الَّذِي * قَدْ ضَمَّهُ وَثَنًا مِنَ الأَوْثَانِ
فَأَجَابَ رَبُّ العَالَمِينَ دُعَاءَهُ * وَأَحَاطَهُ بِثَلاَثَةِ الجُدْرَانِ
حَتَّى اغْتَدَتْ أَرْجَاؤُهُ بِدُعَائِهِ * فِي عِزَّةٍ وَحِمَايَةٍ وَصِيَانِ
وَلَقَدْ غَدَا عِنْدَ الوَفَاةِ مُصَرِّحًا * بِاللَّعْنِ يَصْرُخُ فِيهِمُ بِأَذَانِ
وَعَنَى الأُلَى جَعَلُوا القُبُورَ مَسَاجِدًا * وَهُمُ اليَهُودُ وَعَابِدُو الصُّلْبَانِ
وَاللهِ لَوْلاَ ذَاكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ * لَكِنَّهُمْ حَجَبُوهُ بِالحِيطَانِ
قَصَدُوا إِلَى تَسْنِيمِ حُجْرَتِهِ لِيَمْـ * ـتَنِعَ السُّجُودُ لَهُ عَلَى الأَذْقَانِ
قَصَدُوا مُوَافَقَةَ الرَّسُولِ وَقَصْدُهُ * التَّجْرِيدُ لِلتَّوْحِيدِ لِلرَّحْمَنِ(34)
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: 28 ربيع الأول 1430ه
الموافق ل: 25 مارس 2009م


(1) «موطَّأ مالك» بشرح «تنوير الحوالك» للسيوطي (1/ 229-231).
(2) «التمهيد» لابن عبد البرِّ (24/ 398-399).
(3) «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 552).
(4) «تهذيب التهذيب» لابن حجر (12/ 117).
(5) المصدر السابق نفسه (11/ 250).
(6) المصدر السابق (9/ 375)، و«تقريب التهذيب» لابن حجر (2/ 196).
(7) «سنن ابن ماجه» (1/ 520) (رقم: 1628).
(8) «مسند البزَّار» (1/ 70) (رقم: 18).
(9) «مسند أبي يعلى» (1/ 45، 46) (رقم: 22، 23).
(10) «دلائل النبوَّة» للبيهقي (7/ 260).
(11) «مسند أبي بكر» (66) (رقم: 26، 27).
(12) «السيرة النبوية» لابن هشام (2/ 663).
(13) «البداية والنهاية» لابن كثير (5/ 266).
(14) انظر: «ميزان الاعتدال» للذهبي (1/ 537)، «تهذيب التهذيب» (2/ 341) و«تقريب التهذيب» (1/ 176) كلاهما لابن حجر.
(15) «ضعيف سنن ابن ماجه» للألباني (127-128)، وقال: «لكنَّ قصَّة الشقَّاق واللاحد ثابتةٌ»، وكذلك قوله: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ…».
(16) «تنوير الحوالك» للسيوطي (1/ 230).
(17) «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 552).
(18) انظر: «ميزان الاعتدال» للذهبي (1/ 19)، «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 31).
(19) «تقريب التهذيب» لابن حجر (1/ 231).
(20) «البداية والنهاية» لابن كثير (5/ 267).
(21) «تهذيب التهذيب» لابن حجر (2/ 341-342).
(22) أخرجه البخاري (1/ 333) كتاب «الجنائز»، باب ما جاء في قبر النبيِّ وأبي بكرٍ وعمر، ومسلم (1/ 239) كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(23) أي: تشاوروا. انظر: «النهاية» لابن الأثير (1/ 66).
(24) «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 516).
(25) «تاريخ الطبري» (5/ 222-223).
(26) «البداية والنهاية» لابن كثير (9/ 74-75).
(27) المصدر السابق (9/ 75).
(28) «الصارم المنكي» لابن عبد الهادي (136-137).
(29) أخرجه أحمد (6/ 202)، والحاكم في «المستدرك» (3/ 63)، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 57): «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح»، ووافقه الألباني في «المشكاة» (1/ 554).
(30) «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 553).
(31) «فتح الباري» لابن رجب (3/ 217).
(32) أخرجه أحمد (2/ 246)، وأبو يعلى في «مسنده» (1/ 312)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيقه ل «مسند أحمد» (13/ 88)، والألباني في «تحذير الساجد» (22).
(33) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (27/ 327-328).
(34) «الكافية الشافية» لابن القيِّم (2/ 352-354).


منقول من موقع العلاّمة الشيخ فركوس حفظه الله تعالى.

التعديل الأخير تم بواسطة حميد جبار ; 15 Dec 2014 الساعة 07:06 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15 Dec 2014, 07:49 AM
أبو معاذ محمد مرابط
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

http://www.tasfiatarbia.org/vb/showthread.php?t=10118
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15 Dec 2014, 07:02 PM
حميد جبار حميد جبار غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2012
المشاركات: 41
افتراضي

و بارك الله فيك أخانا محمد
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
منهج, مميز, مسجد, ردود, صلاة, ضريح

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013