قال الذهبي:
(كلام الأقران بعضِهم في بعضٍ لا يُعبأ به، لا سيّما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم اللـهُ، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردتُ من ذلك كراريسَ، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم.)
[ميزان الاعتدال 111/1]
مقدمة
سُئل العلامةُ ابنُ باز : هل قال البخاري - رحمه اللـه - (بأن القرآن ليس مخلوقًا وهو كلام اللـه، ولكن التلفظ به مخلوق)؟.
فأجاب: القرآن هو كلام اللـه، والبخاري وغيره يقولون: هو كلام اللـه منزّل غير مخلوق، ولكن إذا قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ هذا فيه احتمال، ولهذا رأى الأئمةُ تركَ ذلك، وإذا أراد صوتَه فصوتُه مخلوق، أما إذا أراد لفظي يعني ملفوظي والذي يتكلم به هو القرآن، هذا غلط، ولهذا كره بعض أهل العلم من يقول هذا الكلامَ؛ لأنه يوهم، إذا قال: صوتي مخلوق، أما القرآن فهو كلام اللـه، وأوضحَ الأمرَ فلا حرج، ولهذا كره إطلاقَ هذه الكلمة بعضُ أهل العلم لأنه يوهم، وبعضُهم أجاز ذلك على نية الصوت، أما المتلفَّظُ به وهو القرآنُ فهو كلام اللـه منزّل غير مخلوق، سواء في قلبك أو تلفظت به أو كتبته هو كلام اللـه غير مخلوق.)
قال الذهبي : (وَقَالَ الحَاكِمُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بنُ أَبِي الهَيْثَمِ المُطَّوِّعِيُّ بِبُخَارَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ الفَِـرَبْرِيُّ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيْلَ يَقُوْلُ: أَمَّا أَفْعَالُ العِبَادِ فمَخْلُوْقَةٌ؛ فَقَدْ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللـهِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّـه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللـهَ يَصْنَعُ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ" . وَبِهِ قَالَ: وَسَمِعْتُ عُبَيْدَ اللـهِ بنَ سَعِيْدٍ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ سَعِيْدٍ يَقُوْلُ: مَا زِلْتُ أَسمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُوْلُوْنَ: إِن أَفْعَالَ العِبَادِ مَخْلُوْقَةٌ. قَالَ البُخَارِيُّ: حَرَكَاتُهُم وَأَصْوَاتُهُم وَاكتِسَابُهُم وَكِتَابَتُهُم مَخْلُوْقَةٌ، فَأَمَّا القُرْآنُ المَتْلُوُّ المُبَيَّنُ المُثْبَتُ فِي المَصَاحِفِ، المسطورُ المَكْتُوْبُ المُوعَى فِي القُلُوْبِ، فَهُوَ كَلاَمُ اللـهِ لَيْسَ بِمَخْلُوْقٍ ، قَالَ اللـهُ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُوْرِ الَّذِيْنَ أُوْتُوا العِلْمَ} [الْعَنْكَبُوت:49])
سياق محنة الإمام من دخوله نيسابورَ حتّى خروجه منها
1- دُخولُه نيسابورَ
دخل الإمام البخاريُّ مدينة نيسابورَ سنة خمسين ومائتين كما ذكر ذلك الحاكم في تاريخه وهي من المدن الكبيرة في خراسان، وكان رأسُ علماءِ نيسابور الإمامَ محمدَ بنَ يحيى الذهليَّ ، وكان رأسًا متبوعًا مطاعًا ليس في نيسابور وحدها بل في خراسان كلِّها.
وقد فرح به أهلها فرحًا عظيمًا على عادة الناس في تلك القرون الخيِّـرة؛
قال ابن حجر: (وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ حَاتِمُ بنُ أَحْمَدَ [الكِنْدِيُّ] : سَمِعْتُ مُسْلِمَ بنَ الحَجَّاجِ يَقُولُ: لَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ نَيسَابُورَ مَا رَأَيتُ وَالِيًا وَلَا عَالِمًا فَعَلَ بِهِ أَهْلُ نَيسَابُورَ مَا فعلُوا بِهِ، اسْتَقبلُوهُ مرحلَتَينِ من البلد أو ثَلَاث ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى فِي مَجْلِسِهِ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَقبلَ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيلَ غَداً فليستقبِلْهُ، فَإِنِّي أستقبلُه. فَاسْتقبلَهُ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى وَعَامَّةُ العُلَمَاءِ، فَنَزَلَ دَارَ البُخَاريّينَ. قَالَ : فَازدحمَ النَّاسُ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ، حَتَّى امتلأَ السّطحُ وَالدَّارُ.)
2- انصرافُ أهلِ العلم إليه يأخذون منه
وكان احتفاءُ علماءِ نيسابورَ به أعظمَ من فرح العامة، إذ ما كاد يستوطن المدينة حتى أقبلوا إليه ينهلون من علمه؛
قال الذهبي: (وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بنُ عَدِيٍّ: ذَكَرَ لِي جَمَاعَةٌ مِنَ المَشَايِخِ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ إِسْمَاعِيلَ لَمَّا وَردَ نَيسَابُورَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيهِ.)
وعلى رأسهم الإمام مسلم -رحمه اللـه-؛
قال الذهبي: (قَالَ الحاكمُ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَعْقُوبَ الحَافِظَ يَقُولُ: لَمَّا اسْتوطَنَ البُخَارِيُّ نَيسَابُورَ أَكْثَرَ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ الاخْتِلَافَ إِلَيهِ.)
وكان توافدهم عليه بتشجيع من إمامِ نيسابورَ محمّدِ بنِ يحيى الذُّهليِّ؛
قال ابن حجر: (قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد اللـه فِي تَارِيخه: قدم البُخَارِيّ نيسابور سنة خمسين وَمِائَتَينِ فَأَقَامَ بهَا مُدَّة يحدث على الدَّوَام، قَالَ: فَسمِعت مُحَمَّد بن حَامِد الْبَزَّار يَقُول سَمِعت الْحسن بن مُحَمَّد بن جَابر يَقُول: سَمِعت مُحَمَّد بن يحيى الذهلي يَقُول: اذْهَبُوا إِلَى هَذَا الرجل الصَّالح الْعَالم فَاسْمَعُوا مِنْهُ قَالَ فَذهب النَّاس إِلَيهِ فَأَقْبَلُوا على السماع مِنْهُ، حَتَّى ظهر الْخلَل فِي مجْلِس مُحَمَّد بن يحيى، فَحَسَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ.)
بل كان الإمامُ الذهليُّ نفسُه يأتيه ويسأله؛
قال ابن حجر: (وَقَالَ أَحْمد بنُ حَمدونٍ الْحَافِظُ : رَأَيتُ البُخَارِيّ فِي جنَازَة وَمُحَمّدُ بنُ يحيى الذهلي يسْأَله عَن الْأَسْمَاء والعلل وَالْبُخَارِيّ يمر فِيهِ مثل السهْم كَأَنَّهُ يقْرَأ {قل هُوَ اللـه أحد})
3- تغيّرات موقفِ الإمام محمد بن يحيى الذهلي منه
تطوّر موقفه عبر مراحل توضِّحُها الرواياتُ الآتيةُ:
أوَّلًا: قال الذهبي: (وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ حَاتِمُ بنُ أَحْمَدَ الكِنْدِيُّ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بنَ الحَجَّاجِ يَقُولُ: لَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ نَيسَابُورَ مَا رَأَيتُ وَالِيًا وَلَا عَالِمًا فَعَلَ بِهِ أَهْلُ نَيسَابُورَ مَا فعلُوا بِهِ، اسْتَقبلُوهُ مرحلَتَينِ وَثَلَاثَة ... فَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى: لَا تسأَلُوهُ عَنْ شِيءٍ مِنَ الكَلَامِ، فَإِنَّهُ إِنْ أَجَابَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَقَعَ بَينَنَا وَبَينَهُ، ثُمَّ شَمِتَ بِنَا كُلُّ حَرُورِيٍّ، وَكُلُّ رَافضيٍّ، وَكُلُّ جَهْمِيٍّ، وَكُلُّ مُرْجِئٍ بِخُرَاسَانَ.)
نأخذ من هذه الرواية حِرصَ الإمام الذهليّ على الاستفادة من البخاريّ، وتخوّفَه من ظهور الخلاف في مسألة اللـفظ التي كان بعض أهل بغداد قد وشَوْا إلى الذهلي أنّ البخاريّ يقول بها؛ كما في:
لا شكّ في براءة هذا الإمام من القول بخلق القرآن وبراءته من مذاهب أهل البدع كلّها لذا كان يُبيِّنُ لمن سأله ما يراه في هذه المسألة -أعني مسألةَ اللـفظ- وأن الأمر ليس كما يُذاع عنه،
5- دفاعُ الإمام مسلمٍ وأحمدَ بنِ سلمة عن شيخهما البخاري
قال الخطيب البغدادي: (وكان مسلمٌ يناضلُ عن البخاريّ حتّى أوحشَ ما بينه وبين محمّدِ بنِ يحيى الذهليّ بسببه.)
قال الذهبي: (قَالَ [أي الحاكم]: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ يَعْقُوبَ الحَافِظَ يَقُولُ: لَمَّا اسْتوطَنَ البُخَارِيُّ نَيسَابُورَ أَكْثَرَ مُسْلِمُ بنُ الحَجَّاجِ الاخْتِلَافَ إِلَيهِ. فَلَمَّا وَقَعَ بَينَ الذُّهْلِيِّ وَبَينَ البُخَارِيِّ مَا وَقَعَ فِـي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ، وَنَادَى عَلَيهِ، وَمنعَ النَّاسَ عَنْهُ [حتى هُجِرَ وخرج من نيسابور في تلك المحنة]، انْقَطَعَ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ غَيرَ مُسْلِمٍ [فإنه لم يتخلّفْ عن زيارته، فأُنْـهِيَ إلى محمّدِ بنِ يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديما وحديثا، وأنه عُوتِب على ذلك بالعراق والحجاز ولم يرجع عنه] فَقَالَ الذُّهْلِيُّ يَوماً: أَلَا مَنْ قَالَ بِاللَّفْظِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَنَا. فَأَخَذَ مُسْلِمٌ رِدَاءً فَوقَ عِمَامَتِهِ، وَقَامَ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ، وَبَعَثَ إِلَى [بابِ] الذُّهْلِيِّ [كلَّ] مَا [كان] كتبَ عَنْهُ عَلَى ظَهرِ جَمَّالٍ ، [فاستحكمت بذلك الوحشةُ، وتخلّف عنه وعن زيارته]، وَكَانَ مُسْلِمٌ يُظْهِرُ القَولَ بِاللَّفْظِ وَلَا يَكْتُمُهُ.)
وتبع الإمامَ مسلمًا رفيقُه الحافظُ أحمدُ بنُ سلمةَ؛
قال الذهبي عن قصة خروج مسلم من مجلس الذهلي: (رَوَاهَا أَحْمَدُ بنُ مَنْصُورٍ الشِّيرَازِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يَعْقُوبَ، فَزَادَ: وَتَبِعَهُ أَحْمَدُ بنُ سَلَمَةَ.)، وكان أحمدُ بنُ سلمة الوحيدَ الذي شيَّعه حين خروجه من نيسابور كما سيأتي.
رغمَ ما لاقاه البخاريُّ من الأذى إلّا أنّه لم يدعُ على خصومه كما مرّ، بل قد أخرج أحاديث الذهليّ في صحيحه؛ قال ابن حجر: (روى عنه البخاري أربعة وثلاثين حديثًا.)
وقال الناصر بن المنيِّر : (وَمن تَمام رسوخ البُخَارِيّ فِي الْوَرع أَنه كَانَ يَحلِفُ بعد هَذِه المحنة، أَن الحامد والذامَّ عِنْده من النَّاس سَوَاءٌ، يُرِيد أَنه لَا يكره ذامَّه طبعا، وَيجوز أَن يكرههُ شرعا، فَيقوم بِالْحَقِّ لَا بالحظّ، ويحقِّقُ ذَلِك من حَالِه أَنه لم يَمحُ اسْمَ الذهلي من جَامعه، بل أثبتَ رِوَايَته عَنهُ، غير أَنه لم يُوجد فِي كِتَابه إِلَّا على أحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يَقُول: " حَدثنَا مُحَمَّد " ويقتصر، وَإِمَّا أَن يَقُول: " حَدثنَا مُحَمَّد بن خَالِد "، فينسبه إِلَى جدّ أَبِيه . فَإِن قلتَ: فَمَا لَهُ أجملَه، واتّقى أَن يذكره بنسبه الْمَشْهُور؟ قلتُ: لَعَلَّه لمّا اقْتضى التَّحْقِيقُ عِنْده أَن يُبقِيَ رِوَايَته عِنْده خشيَةَ أَن يَكتمَ علمًا رزقه اللـه على يَدَيْهِ وعَذَره فِي قدحه فِيهِ بالتأويل والتعويل على تَحْسِين الظَّنّ= خشِيَ على النَّاس أَن يقعوا فِيهِ بِأَنَّهُ قد عدَّلَ من جَرَحَه، وَذَلِكَ يُوهمُ أَنه صدَّقه على نَفسه فيجرُّ ذَلِك إِلَى البُخَارِيِّ وَهْنًا، فأخفى اسْمَه وغطّى رسمَه وَمَا كتم علمَه، فَجمع بَين المصلحتين، وَاللـه أعلمُ بمراده من ذَلِك.)
خاتمة
من أسباب هذه المحنة:
- اختلاف الإماميْنِ في مسألة اللفظ بين المنع بإطلاق والتفصيل.
- أنّ الذهلي لم يَعذر البخاري.
- حَسدُ بعض شيوخ نيسابورَ للإمام البخاري.
- مكانة الإمام الذهلي في نيسابورَ.
- وشاية بعض الناس بالبخاري.
- امتحانه في هذه المسألة.
- سؤال البخاري علنًا عن هذه المسألة.
- تشغيب بعضهم على البخاري.
- مؤاخذتُه بلازم قوله.
- ثبات البخاري على قوله.
- صبره وعدم انتقامه لنفسه -رحمه اللـه-.
وصلى اللـه على محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
بوركت أخي العزيز على اختيارك الموفق هذا؛ فها نحن نعاصر جزء من محنته رحمه الله تعالى، فما زال أعداء السنة يوجهون سهامهم إليه؛ وما ذلك إلا أجر ساقه الله تعالى للإمام البخاري رحمه الله تعالى.