منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 09 Feb 2008, 10:45 PM
أم جهان أم جهان غير متواجد حالياً
وفقها الله
 
تاريخ التسجيل: Oct 2007
المشاركات: 118
افتراضي إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان

إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان



إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان

ص -25- إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن قيم الجوزية
الحمد لله الحكيم الكريم العلي العظيم السميع العليم الرءوف الرحيم الذي أسبغ على عباده النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب عضبه فهو ارحم بعباده من الوالدة بولدها كما هو اشد فرحا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين وارحم الراحمين الذي تعرف إلى خلقه بصفاته وأسمائه وتحبب إليهم بإحسانه وآلائه واشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ختم به



ص -26- النبيين وأرسله رحمة للعالمين وبعثه بالحنيفية السمحة والدين المهيمن على كل دين فوضع به الإصار والإغلال وأغنى بشريعته عن طرق المكر والاحتيال وفتح لمن اعتصم بها طريقا واضحا ومنهجا وجعل لمن تمسك بها من كل ما ضاق عليه فرجا ومخرجا فعند رسول الله السعة والرحمة وعند غيره الشدة والنقمة فما جاءه مكروب إلا وجد عنده تفريج كربته ولا لهفان إلا وجد عنده إغاثة لهفته فما فرق بين زوجين إلا عن وطر واختيار ولا شتت شمل محبين إلا عن إرادة منهما وإيثار ولم يخرب ديار المحبين بغلظ اللسان ولم يفرق بينهم بما جرى عليه من غير قصد الإنسان،



ص -27- بل رفع المؤاخذة بالكلام الذي لم يقصده بل جرى على لسانه بحكم الخطأ والنسيان او الاكراه والسبق على طريق الاتفاق فقال فيما رواه عنه أهل السنن من حديث عائشة أم المؤمنين : "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" رواه الإمام احمد وأبو داود



ص -28- وابن ماجه والحاكم في صحيحه وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه قال ابو داود "في غلاق" ثم قال : والغلاق أظنه الغضب وقال حنبل : سمعت ابا عبدالله - يعني احمد بن حنبل - يقول : هو الغضب ذكره الخلال أبو بكر عبد العزيز ولفظ احمد : يعني الغضب . قال أبو بكر سالت أبا محمد وابن دريد وأبا عبد الله وأبا طاهر النحويين عن قوله "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" قالوا : يريد الإكراه لأنه إذا اكره انغلق عليه رأيه ويدخل في هذا المعنى المبرسم "مكرر" والمجنون فقلت لبعضهم والغضب أيضا فقال :



ص -29- ويدخل فيه الغضب لان الإغلاق أحدهما الإكراه والآخر ما دخل عليه مما ينغلق به رايه عليه وهذا مقتضى تبويب البخاري فإنه قال في صحيحه : باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون يفرق بين الطلاق وفي الإغلاق وبين هذه الوجوه وهو أيضا مقتضى كلام الشافعي فانه يسمي نذر اللجاج والغضب يمين الغلق ونذر الغلق



ص -30- هذا اللفظ يريد به نذر الغظب وهو قوله غير واحد من أئمة اللغة والقول بموجبه وهو مقتضى الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وأئمة الفقهاء ومقتضى القياس الصحيح والاعتبار وأصول الشريعة . أما "الكتاب" فمن وجوده : "احدها" قوله تعالى : {لا يؤاخذهم الله باللغو في ايمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} قال ابن جرير في تفسيره حدثنا ابن وكيع "ثنا" مالك بن إسماعيل عن خالد عن عطاء بن رستم عن ابن عباس قال : لغو اليمين أن تحلف وأنت عضبان حدثنا ابن حمبد "ثنا" يحيى بن واضح "ثنا" أبو حمزة عن عطاء عن طاووس قال : كل يمين حلف عليها



ص -31- رجل وهو غضبان فلا كفارة عليه فيها لقوله {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} وهذا احد الأقوال في مذهب مالك ان لغو اليمين هو اليمين في الغضب وهذا اختيار اجل المالكية وأفضلهم على الإطلاق وهو : القاضي إسماعيل بن اسحق فانه ذهب إلى أن الغضبان لا تنعقد يمينه ولا تنافي بين هذا القول وبين قول ابن عباس وعائشة ان لغو اليمين هو قول الرجل لا والله وبلى والله وقول عائشة وغيرها أيضا : انه يمين الرجل على الشيء يعتقده كما حلف عليه فيتبين بخلافه فان الجميع من لغو اليمين والذي فسر لغو اليمين بأنها يمين الغضب يقول بان النوعين الآخرين من اللغو وهذا هو الصحيح فإن الله سبحانه جعل لغو اليمين مقابلا لكسب القلب ومعلوم أن الغضبان والحالف على الشيء يظنه كما حلف عليه والقائل : لا والله وبلى والله من غير عقد



ص -32- اليمين لم يكسب قلبه عقد اليمين ولا قصدها والله سبحانه قد رفع المؤاخذة بلفظ جرى على اللسان لم يكسبه القلب ولا يقصده فلا تجوز المؤاخذة بما رفع الله المؤاحذة به بل قد يقال : لغو الغضبان اظهر من لغو القسمين الآخرين : لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
فصل
"الوجه الثاني" من دلالة الكتاب قوله سبحانه {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وفي تفسير ابن ابي نجيح عن مجاهد : هو قول الإنسان لولده وماله إذا عضب عليهم "اللهم لا تبارك فيه والعنه" فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب في الخير لأهلكهم . انتهض الغضب مانعا من انعقاد سبب الدعاء الذي تاثيره في الإجابة أسرع من تأثير الأسباب في أحكامها فان الله سبحانه يجيب دعاء الصبي والسفيه والمبرسم ومن لا يصح طلاقه ولا عقوده فإذا كان الغضب قد منع كون الدعاء سببا لان الغضبان لم يقصده بقلبه فان عاقلا لا يختار أهلاك نفسه وأهله وذهاب ماله وقطع يده ورجله وغير ذلك بما يدعو به فاقتضت رحمة العزيز العليم أن لا يؤاخذه بذلك ولا يجيب دعاءه لأنه عن غير قصد منه بل الحامل له عليه الغضب الذي هو من الشيطان . "فإن قيل" إن هذا ينتقض عليكم بالحديث الذي رواه ابو داود عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : "لا تدعوا على أولادكم ولا على أموالكم ولا تدعوا على خدمكم لا توافقوا من الله ساعة لا يسال فيها شيئا إلا أعطاه".



ص -33- "قيل" : لا تنافي بين الآية والحديث . فان الآية اقتضت الفرق بين دعاء المختار و دعاء الغضبان الذي لا يختار ما دعا به والحديث دل على : أن لله سبحانه أوقاتا لا يرد فيها داعيا ولا يسال فيها شيئا إلا اعطاه . فنهى الأمة إن يدعوا احدهم على نفسه أو أهله أو ماله خشية أن يوافق تلك الساعة فيجاب له ولا ريب أن الدعاء بالشر كثيرا ما يجلب الدعاء بالخير والإنسان



ص -34- يدعو على غيره ظلما وعدوانا مع ذلك فقد يستجاب له لكن اجابة دعاء الخير من صفة الرحمة وإجابة ضده من صفة الغضب والرحمة تغلب الغضب والمقصود ان الغضب مؤثر في عدم انعقاد السبب في الجملة ومن هذا قوله تعالى : {وَيَدْعُ الإنسان بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} وهو الرجل يدعو على نفسه واهله بالشر في حال الغضب
فصل
"الوجه الثالث" قوله تعالى {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ووجه الاستدلال بالآية : ان موسى "صلوات الله عليه" لم يكن ليلقي الواحا كتبها الله تعالى فيها كلامه من على راسه الى الارض فيكسرها اختيارا منه لذلك ولا كان فيه مصلحة لبني اسرائيل ولذلك جره بلحيته وراسه وهو اخوه وانما حمله على ذلك الغضب فعذره الله سبحانه به ولم يعتب عليه بما فعل اذ كان مصدره الغضب الخارج عن قدرة العبد واختياره فالمتولد عنه غير منسوب الى اختياره ورضاه به يوضحه "الوجه الرابع" وهو قوله [/color[color=#FF4040]]{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ} فعدل سبحانه عن قوله سكن الى قوله "سكت" تنزيلا للغضب منزلة السلطان الآمر الناهي الذي يقول لصاحبه : افعل لا تفعل فهو مستجيب لداعي الغضب الناطق فيه المتكلم على لسانه فهو أولى بان يعذر من المكره الذي لم يتسلط عليه غضب يأمره وينهاه كما سياتي تقريره بعد هذا ان شاء الله وإذا كان الغضب هو الناطق على لسانه


ص -35- الأمر الناهي له لم يكن ما جرى على لسانه في هذا الحال منسوبا الى اختياره ورضاه فلا يتم عليه أثره . "الوجه الخامس" قوله تعالى {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} في ثلاثة مواضع من القران . وما يتكلم به الفضبان في حال شدة غضبه من طلاق و أو شتم ونحوه هو من : نزغات الشيطان فإنه يلجئه إلى ان يقول ما لم يكن مختارا لقوله : فإذا سرى عنه علم ان ذلك من القاء الشيطان على لسانه مما لم يكن يرضاه واختياره والغضب من الشيطان واثره منه كما في الصحيح ان رجلين استبا عند النبي حتى احمر وجه احدهما وانتفخت أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اني لاعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد : "اعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وفي السنن ان النبي صلى الله عليه وسلم قال "ان الغضب من الشيطان وان الشيطان من النار وانما تطفأ النار بالماء فإذا غضب احدكم فليتوضأ" .



ص -36- وإذا كان هذا السبب واثره من الجاء الشيطان لم يكن من اختيار العبد فلا يترتب عليه حكمه
فصل
فاما دلالة السنة فمن وجوه احدهما حديث عائشة المتقدم وهو قوله "لا طلاق ولا عتاق في اغلاق" . وقد اختلف في الاغلاق فقال اهل الحجاز : هو الاكراه . وقال اهل العراق : هو الغضب وقالت طائفة : هو جمع الثلاث بكلمة واحدة . حكى الأقوال الثلاثة صاحب كتاب مطالع الانوار وكان الذي فسره بجمع الثلاث اخذه من التغليق وهو ان المطلق غلق طلاقه كما يغلق صاحب الدين ما عليه وهو من غلق الباب فكأنه اغلق على نفسه باب الرحمة بجمعه الثلاث فلم يجعل له الشارع ذلك ولم يملكه اياه رحمة به انما ملكه طلاقا يملك فيه الرجعة بعد الدخول وحجر عليه في وقته ووضعه وقدره . فلم يملكه اياه في وقت الحيض ولا في وقت طهر جامعها فيه ولم يملكه ان يبينها بغير عوض بعد الدخول فيكون قد غير صفة الكلام وهذا عند الجمهور فلو قال لها : انت طالق طلقة لا رجعة لي فيها أو طلقة بائنة لغا ذلك وثبتت له الرجعة وكذلك لم يملكه جمع الثلاث في



ص -37- مرة واحدة بل حجر عليه في هذا وهذا وكان ذلك من حجة من لم يوقع الطلاق المحرم و لا الثلاث بكلمة واحدة لانه طلاق محجور على صاحبه شرعا وحجر الشارع يمنع نفوذ التصرف وصحته كما يمنع نفوذ التصرف في العقود المالية فهذه حجة من اكثر من ثلاثين حجة ذكروها على كلام وقع الطلاق المحجور على المطلق فيه . والمقصود هاهنا ان هؤلاء فسروا الاغلاق بجمع الثلاث لكونه اغلق على نفسه باب الرحمة الذي لم يغلقه الله عليه الا في المرة الثالثة "واما الآخرون" فقالوا : الإغلاق مأخوذ من إغلاق الباب وهو ارتاجه واطباقه فالأمر المغلق ضد الأمر المنفرج والذي أغلق عليه الأمر ضد الذي فرج له وفتح عليه فالمكره "مكرر" الذي اكره على أمر إن لم يفعله وإلا حصل له من الضرر ما اكره عليه قد أغلق عليه باب القصد والإرادة لما اكره عليه فالإغلاق في حقه بمعنى أغلاق أبواب القصد والإرادة له فلم يكن قلبه منفتحا لإرادة القول والفعل الذي اكره عليه ولا لاختيارهما فليس مطلق الإرادة والاختيار بحيث إن شاء طلق وان شاء لم يطلق وان شاء تكلم وان شاء لم يتكلم بل أغلق عليه باب الإرادة إلا للذي قد اكره عليه . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن



ص -38- شئت ولكن ليعزم المسالة فان الله لا مكره له" فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لا يفعل إلا إذا شاء بخلاف المكره الذي يفعل ما لا يشاؤه فانه لا يقال يفعل ما يشاء إلا إذا كان مطلق الدواعي وهو المختار وأما من الزم بفعل معين فلا ولهذا يقال المكره غير مختار ويجعل قسيم المختار لا قسما منه ومن سماه مختارا فانه يعني أن له إرادة واختيارا بالقصد الثاني فانه يريد الخلاص من الشر ولا خلاص له إلا بفعل ما اكره عليه فصار مريدا له بالقصد الثاني لا بالقصد الأول والغضبان الذي يمنعه الغضب من معرفة ما يقول وقصده فهذا من أعظم الاغلاق وهو في هذا الحال بمنزلة المبرسم والمجنون والسكران بل أسوأ حالا من السكران لان السكران لا يقتل نفسه ولا يلقي ولده من علو والغضبان يفعل ذلك وهذا لا يتوجه فيه نزاع انه لا يقع طلاقه والحديث يتناول هذا القسم قطعا . وحينئذ فنقول الغضب ثلاثة أقسام :



ص -39- "احدها" إن يحصل للإنسان مبادئه وأوائله بحيث لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه ويعلم ما يقول وما يقصده فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه وعتقه وصحة عقوده ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردده فكره "القسم الثاني" أن يبلغ به الغضب نهايته بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة فلا يعلم ما يقول ولا يريده فهذا لا يتوجه خلاف في عدم وقوع طلاقه كما تقدم والغضب غول العقل فإذا اغتال الغضب عقله حتى لم يعلم ما يقول فلا ريب انه لا ينفذ شيء من أقواله في هذه الحالة فإن أقوال المكلف إنما مع علم القائل بصدورها منه ومعناها وإرادته للتكلم بها . "فالأول" يخرج النائم والمجنون والمبرسم والسكران وهذا الغضبان "والثاني" يخرج من تكلم باللفظ وهو لا يعلم معناه البتة فإنه لا يلزم مقتضاه "والثالث" يخرج من تكلم به مكرها وان كان عالما بمعناه . "القسم الثالث" من توسط في الغضب بين المرتبتين فتعدى مبادئه ولم ينته إلى أخره بحيث صار كالمجنون فهذا موضع الخلاف ومحل النظر والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده التي يعتبر فيها الاختيار والرضا وهو فرع من الاغلاق كما فسره به الأئمة وقد ذكرنا دلالة الكتاب على ذلك من وجوه . "وأما دلالة السنة" فمن وجوه "أحدهما" حديث عائشة وقد تقدم ذكر وجه دلالته . "الثاني" ما رواه احمد والحاكم في مستدركه من حديث عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين" .



ص -40- وهو حديث صحيح وله طرق وجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم الغي وجوب الوفاء بالنذر إذا كان في حال بالغضب مع أن الله "سبحانه وتعالى" اثنى على الموفين بالنذور وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناذر لطاعة الله بالوفاء بنذره . وقال "من نذر أن يطيع الله فليطعمه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه".



ص -41- فإذا كان النذر الذي أثنى الله من أوفى به وأمر رسوله بالوفاء بما كان منه طاعة قد اثر الغضب في انعقاده لكون الغضبان لم يقصده وإنما حمله على بيانه الغضب فالطلاق بطريق الأولى و الأخرى فإن قيل : فكيف رتب عليه كفارة اليمين "قيل" ترتب الكفارة عليه لا يدل على ترتب موجبه ومقتضاه عليه والكفارة لا تستلزم التكليف ولهذا تجب في مال الصبي والمجنون إذا قتلا صيدا أو غيره وتجب على قاتل الصيد ناسيا أو مخطئا وتجب على من وطئ في نهار رمضان ناسيا عند الأكثرين فلا يلزم من ترتب الكفارة اعتبار كلام الغضبان وهذا هو الذي يسميه الشافعي نذر الغلق ومنصوصه عدم وجوب الوفاء به إذا حلف به بل يخير بينه وبين الكفارة . وحكى له قول آخر بتعين الكفارة عينا وقول آخر بعين الوفاء به إذا حنث كما يلزمه الطلاق والعتاق وهذا قول مالك واشهر الروايتين عن أبي حنيفة



ص -43- "الثالث" ماثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال : "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" ولولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينهه عن الحكم حال الغضب وقد اختلف الفقهاء في صحة حكم الحاكم في حال غضبه على ثلاثة أقوال سنذكرها بعد إن شاء الله
فصل
"وأما آثار الصحابة" فمن وجوه "أحدها" ما ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس انه قال الطلاق عن وطر والعتق ما ينبغي به وجه الله فحصر الطلاق فيما كان عن وطر وهو الغرض المقصود والغضبان لا وطر له وهذا في الطلاق عن ابن عباس نظير قوله وقول أصحابه لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان "الوجه الثاني" أن الزهري روى عن أبان بن عثمان عن عثمان انه رد طلاق



ص -44- السكران ولا يعرف له مخالف من الصحابة وهذا هو الصحيح وهو الذي رجع إليه الإمام احمد أخيرا قال في رواية أبي طالب والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر الطلاق قد أتى خصلتين حرمها عليه وأحلها لغيره فهذا خير من هذا وانا اتقي جميعها وقال في رواية عبدالله الميموني قد كنت أقول : ان طلاق السكران يجوز حتى تبينته فغلب علي انه لا يجوز طلاقه لان لو اقر لم يلزمه ولو باع لم يجز بيعه "قال" : والزمه الجناية وما كان من غير ذلك فلا يلزمه . قال ابو بكر : وبهذا أقول وقال في رواية ابي الحرث : ارفع شيء في حديث



ص -45- الزهري عن أبان بن عثمان عن عثمان : ليس لمجنون ولا سكران طلاق وهو اختيار الطحاوي وابي الحسن الكرخي وإمام الحرمين وشيخ الإسلام ابن تيمية واحد قولي الشافعي وإذا كان هؤلاء لا يوقعون طلاق السكران لأنه غير قاصد للطلاق فمعلوم ان الغضبان كثيرا ما يكون أسوأ حالا من السكران.



ص -46- والسكر نوعان : سكر طرب وسكر غضب وقد يكون هذا اشد وقد يكون الآخر اشد فإذا اشتد به الغضب حتى صار كالسكران كان أولى بعدم وقوع الطلاق منه لانه يعذر ما لا يعذر السكران ويبلغ به الغضب اشد ما يبلغ به السكران كما يشاهد من حال السكران الغضبان
فصل
"واما الاعتبار وأصول الشريعة" فمن وجوه : "الأول" : ان المؤاخده إنما ترتبت على الأقوال لكونها أدلة على ما في القلب من كسبه وارداته كما قال تعالى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} فجعل سبب المؤاخذة كسب القلب وكسبه هو إرادته وقصده ومن جرى على لسانه الكلام من غير قصد واختيار بل لشدة غضب وسكر أو غير ذلك لم يكن من كسب قلبه ولهذا لم يؤاخذ الله سبحانه الذي اشتد فرحه بوجود راحلته بعد الاباس منها فلما وجدها أخطأ من شدة الفرح وقال : "اللهم انت عبدي وانا ربك" فجرى هذا اللفظ على لسانه من غير قصد فلم يؤاخذه كما يجري الغلط في القران على لسان القارىء ولكن قد يقال هذا قصد الصواب فأخطأ فلم يؤاخذ إذا كان قصده ضد ما تكلم به بخلاف الغضبان إذا طلق فانه قاصد للطلاق . "قيل" لا كلام في الغضبان العالم بما يقول القاصد المختار لحكمه دفعا لمكروه



ص -47- البقاء مع الزوجة وانما الكلام في الذي اشتد غضبه حتى الجاه الشيطان إلى التكلم بما لم يكن مختارا للتكلم به كما يلجئه إلى فعل ما لم يكن لولا الغضب يفعله يوضحه "الوجه الثاني" وهو : ان الإرادة فيه هو محمول عليها ملجأ اليه كالمكره بل المكره احسن حالا منه فان له قصدا وإرادة حقيقة لكن هو محمول عليه وهذا ليس له قصد في الحقيقة فإذا لم يقع طلاق المكره فطلاق هذا أولى بعدم الوقوع . يوضحه "الوجه الثالث" وهو : ان الامر الحامل المكره على التكلم بالطلاق يشبه الحامل للغضبان على التكلم به فان المتكلم مكرها انما يقصد الاستراحة من توقع ما اكره به ان لم يباشر به أو من حصوله ان كان قد باشره بشيء منه فيتكلم بالطلاق قاصدا لراحته من الم ما اكره به وهكذا الغضبان فإنه إذا اشتد به الغضب يألم بحمله فيقول ما يقول ويفعل ما يفعل ليدفع عن نفسه حرارة الغضب فيستريح بذلك وكذلك يلطم وجهه ويصيح صياحا قويا ويشق ثيابه ويلقي ما في يده دفعا لألم الغضب وإلقاء لحمه منه وكذلك يدعو على نفسه واحب الناس اليه فهو يتكلم بصيغة الطلب والاستدعاء والدعاء وهو غير طالب لذلك في الحقيقة فكذلك يتكلم بصيغة الانشاء وهو غير قاصد لمعناها ولهذا يأمر الملوك وغيرهم عند الغضب بأمور يعلم خواصهم انهم تكلموا بها دفعا لحرارة الغضب وانهم لا يريدون مقتضاها فلا يمتثله خواصهم بل يؤخرونه فيحمدونهم على ذلك إذا سكن غضبهم وكذلك الرجل وقت شدة الغضب يقوم ليبطش بولده أو صديقه فيحول غيره بينه وبين ذلك فيحمدهم بعد ذلك كما يحمد السكران والمحموم ونحوهما من يحول بينه وبين ما يهم بفعله في تلك الحالة "الوجه الرابع" : ان العاقل لا يستدعي الغضب ولا يريده بل هو اكره شيء اليه وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "جمرة في قلب ابن ادم اما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أوداجه"

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09 Feb 2008, 10:46 PM
أم جهان أم جهان غير متواجد حالياً
وفقها الله
 
تاريخ التسجيل: Oct 2007
المشاركات: 118
افتراضي

ص -48- والعاقل لا يقصد القاء الجمرة في قلبه فهو ناشئ فيه بغير اختياره وإذا كان هو السبب الحامل على المتكلم بالطلاق وغيره لم يكن ذلك أيضا مضافا إلى اختياره وإرادته وهذا كما ان إرادة السبب إرادة للمسبب فكراهة السبب وبغضه كراهة للمسبب يوضحه "الوجه الخامس" وهو : انك تقول للغضبان إذا اشتد غضبه ففعل ما لم يكن يفعله أو تكلم بما لم يكن يتكلم به قبل الغضب : هل اردت ذلك أو قصدته ? فيحلف انه ما اراده ولا قصده ولا كان له باختيار ويحلف انه وقع بغير اختيار ولا تنكر هذا فانك تجده من نفسك وتحقيق الأمر ان له فيه إرادة هو : محمول عليها حملة عليها الغضب فهي : كإرادة المكره بل المكره ادخل في الإرادة كما تقدم وهذا يدل على ان الغضبان أولى بعدم الوقوع من المكره . يوضحه "الوجه السادس" وهو : ان الخوف في قلب المكره كالغضب في قلب الغضبان لكن المكره مقهور بغيره من خارج والغضبان مقهور بغضبه الداخل فيه وقهر الاكراه يبطل حكم الأقوال التي اكره عليها ويجعلها بمنزلة كلام النائم والمجنون دون حكم الأفعال فانه يقتل إذا قتل ويضمن إذا تلف فكذلك قهر الغضب يبطل حكم أقوال الغضبان دون أفعاله حتى لو قتل في هذه الحالة قتل أو أتنلف شيئا ضمنه هذا كله في الغضبان الذي يكره ما قاله حقيقة فما من هو مريد له على تقدير عدم غضبه لاقتضاء السبب ذلك فليس من هذا الباب كمن زنت امراته فغضب فطلقها لانه لا يرى المقام مع زانية فلم يقصد بالطلاق إطفاء نار الغضب بل التخلص من المقام مع زانية فهذا يقع



ص -49- طلاقة فتأمل هذا الفرق فانه حرف المسالة ونكتتها وهذا بخلاف من خاصمته امرأته وهو يعلم من نفسه إرادة المقام معها على الخصومة وسوء الخلق ولكن حملة الغضب على ان شفي نفسه بالتكلم بالطلاق كسرا لها وأطفأء لنار غضبه . يوضحه "الوجه السابع" وهو : ان الغضبان يفعل أمورا من شق الثياب واتلاف المال وغير ذلك مما لو اكره حتى يتكلم بالطلاق لم ينفذ طلاقه ولغت أقواله فإذا فعل هو هذه الأمور علم ان الذي الجأه اليها اعظم من الاكراه فإن المكره لو اكره بها لم يفعلها وهذا قد فعلها ان المقتضي لفعلها فيه أولى من اقتضاء الاكراه لفعلها والمكره لو فعل به ذلك كان مكرها فالغضبان كذلك وهذا واضح جدا "فإن قيل" : المكره إذا تكلم بما اكره عليه دفع عنه الضرر والغضبان لا يدفع عنه بهذا القول ضررا فليس كالمكره . "قيل" لا ريب انهما يفترقان في هذا الوجه ولكن لا يوجب ذلك ان يكون الغضبان مختارا مريدا لما قاله أو فعله بك اكره شيء اليه وهذا امر لا يمكن دفعه . "فإن قيل" : فما الحامل على ما يكره ويؤديه من غير ان يتوصل به إلى ما هو احب اليه منه ? "قيل" لما كان الغضب عدو العقل وهو له كالذئب للشاة قل ما يتمكن منه الا اغتال عقله فقد إزاله الغضب وأطفأ ناره وهذا مقصود صحيح في نفسه لكن لما غاب عنه عقله قصد ازالة ذلك مما فيه ضرر عليه ليخفف عن نفسه ما هو فيه من البلاء ولولا ذلك لم يفعل ما لا يفعله في الرضا ولا تكلم بما لم يكن به فهو قصد ان يستريح ويسكن ويبرد غضبه بتلك الأقوال والأفعال وان لم يدفع ذلك عنه بجملته تلك الشدة فانها تخفف وتضعف فاقتضت رحمة الشارع به ان الغي أقواله في هذه الحال ان تمكن ان لا يترتب عليها اثرها وتكون كأقوال المبرسم والمجنون الهاجر ونحوهما و اما الأفعال فلا يمكن الغاء اثرها فرتب عليه موجب فعله .



ص -50- "فإن قيل" : فيلزمكم على هذا انه لوحلف في هذه الحال ان لا تنعقد يمينه "قيل" قد قال بذلك جماعة من السلف والخلف واختاره من لا يرتاب في امامته وجلالته وكان يقرن بالأئمة الكبار اسماعيل بن اسحاق القاضي . "فان قيل" لكن المنقول عن الصحابة وجمهور التابعين والأئمة الاربعة اعتبار نذر اللجاج والغضب وان تنازعوا في موجبه فأوجب مالك واهل العراق الوفاء به كنذر التبرر وخبر الليث بن سعد والشافعي واحمد بن حنبل بين فعله وبين فعله وبين كفارة اليمين ولم يقل احد منهم : انه لا ينعقد وانه لغو . وقد ذكر الله تعالى الكفارة في الإيمان كلها ولم يحصل منها يمين الغضب دون يمين الرضا . "قيل" نعم هذا حق ولكن اليمين لما قصد صاحبها الحض أو المنع كانت الكفارة رافعة لما حصل بها من الضرر بخلاف الطلاق والعتاق فانهما اتلاف محض لملك البضع والرقبة ولا كفارة فيهما فالضرر الحاصل بوقوعهما لا يندفع بكفارة ولا غيرها وكما انه يفرق في الإكراه بين نوع ونوع فالإكراه يبيح الأقوال عندنا وعند الجمهور وكل قول اكره عليه بغير حق فانه باطل وأبو حنيفة يفرق بين نوع ونوع والإكراه على الأفعال ثلاثة أنواع . "نوع" لا يباح بالإكراه كقتل المعصوم وإتلاف أطرافه "ونوع" يبيحه الإكراه بشرط الضمان كإتلاف مال المعصوم . "ونوع" مختلف فيه كالزنا والشرب والسرقة وفيه روايتان عن الإمام احمد فما أمكن تلافيه أبيح بالإكراه كالأقوال والأموال وما كان ضرره كضرر الإكراه لم يبح به كالقتل فانه ليس قتل المعصوم بحياة المكره أولى من العكس .



ص -51- "واما الأفعال" كالقران يدل على رفع الإثم فيها . كقوله تعالى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "الوجه الثامن" : أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع للغضبان ان يقول : "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وان يتوضأ وان يتحول عن حالته فإن كان قائما فليقعد وإذا كان قاعدا فليضطجع . قال : "ان الغضب من الشيطان وان الشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" . وهذا يدل على انه محمول عليه من غيره وان الشيطان يغضبه ليحمله بغضبه على



ص -52- فعل ما يحبه الشيطان وعلى التكلم به وما يضاف إلى الشيطان مما يكره العبد ولا يحبه فلا يؤاخذ به الإنسان كالوسوسة والنسيان كما قال فتى موسى لموسى {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} فالله تعالى لا يؤاخذ بالوسوسة ولا بالنسيان اذ هما من اثر فعل الشيطان في القلب وقد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم ان الغضب من الشيطان" فيكون اثره مضافا اليه أيضا فلا يؤاخذ به العبد كأثر النسيان فإنه لو حلف ان لا يتكلم بكذا فتكلم به ناسيا لم يحنث لعدم قصده وإرادته لمخالفة ما عقد يمينه عليه وان كان قاصدا للكلام فانه لم يقع منه الا بقصده وإرادته وهذه حال الغضبان فانه لم يقصد حقيقة ما تكلم به وموجبه بل جرى على لسانه كما جرى كلام الناسي على لسانه بل قصد الناسي للتكلم اظهر من قصد الغضبان ولهذا يقول الناسي : قصدت ان أقول كذا وكذا والغضبان يحلف انه لم يقصد "الوجه التاسع" : إن المقصود في العقود معتبرة في عقدها كلها والغضبان ليس له قصد معتبر في حل عقدة النكاح كما ليس له قصد في قتل نفسه وولده واتلاف ماله فانه يفعل في الغضب هذا ويقول : هذا فإذا لم يكن له قصد معتبر لم يصح طلاقه "فإن قيل" : هذا ينقص عليكم بالهازل فانه يصح طلاقه وان لم يكن له فيه قصد "قيل" : الفرق بينهما : ان الهازل قصد التكلم باللفظ وأراده رضا واختيار منه لم يحمل على التلفظ به وغايته ان لم يرد حكمة وموجبه وذلك إلى الشارع ليس إيه فالسبب الذي اليه قد اتى به اختيارا وقصدا مع علمه به لم يحمل عليه والسبب إلى المشرع ليس اليه فلا يصح اعتبار احدهما بالآخر وكيف يقاس الغضبان على المتخذ آيات الله هزؤا وهذا من افسد القياس ?



ص -53- "الوجه ا لعاشر" ان الغضب مرض من الأمراض وداء من الأدواء فهو في أمراض القلوب نظير الحمى والوسواس والصرع في أمراض الا بدان فالغضبان المغلوب في غضبه كالمريض والمحموم والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم المغلوب في برسامه وهذا قياس صحيح في الغضبان الذي قد اشتد به الغضب حتى لا يعلم ما يقول واما إذا كان يعلم ما يقول ولكن يتكلم به حرجا وضيقا وغلقا لا قصدا للوقوع فو يشبه المبرسم والهاجر من الحمى من وجه ويشبه المكره القاصد للتكلم من وجه ويشبه المختار القاصد للطلاق من وجه فهو متردد بين هذا وهذا وهذا ولكن جهة الاختيار والقصد فيه ضعيف فإنه يعلم من نفسه انه لم يكن مختارا لما صدر منه من خراب بيته وفراق حبيبه وكونه يراه في يد غيره فان كان عاقلا لايختار هذا إلا ليدفع به ما هو اكره إليه منه أو ليحصل به ما هو أحب إليه فإذا انتفى هذا أو هذا لم يكن مختارا لذلك وهذا امر يعلمه كل إنسان من نفسه فصار تردده بين المريض المغلوب والمكره المحمول على الطلاق وأيهما كان فانه لا ينفذ طلاقه . "فان قيل" الفرق بينهما ان المريض المغلوب لا يملك نفسه في الحال والمكره وان يملك نفسه لكنه لا يملك دفع المكروه عنه وأما الغضبان فإنه يملك نفسه . كما قال النبي: "ليس الشديد بالصرعه ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب"



ص -54- "قيل" : من الغضب ما يمكن صاحبه أن يملك نفسه عنده وهو الغضب في مبادئه فإذا استحكم وتمكن منه لم يملك نفسه عند ذلك وكذلك الحزن الحامل على الجزع يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا استحكم وقهر لم يملك نفسه وكذلك الغضب يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا تمكن واستولى سلطانه على القلب لم يملك صاحبه قلبه فهو اختياري في أوله اضطراري في نهايته كما قال القائل

يا عاذلي والأمر في يده هلا عذلت وفي يدي الأمر

وهكذا السكران سبب السكر مقدور له يمكنه فعله وتركه فإذا اتى بالسبب خرج الأمر عن يده ولم يملك نفسه عند السكر فإذا كان السكر الذي هو مفرط بتعاطي أسبابه ويقدر على ملك نفسه باجتنابها قد عذر الصحابة وغيرهم من الفقهاء صاحبة إذا طلق في هذه الحال مع كونه غير مغدور في تعاطي سببه فلان يعذر سكران الغضب الذي لم يفر مع شدة سكره على سكر الخمر أولى وأحرى . "الوجه الحادي عشر" وهو أن من الناس من إذا لم ينفذ غضبه قتله غضب غضبه ومات أو مرض أو اغشي عليه كما يذكر عن بعض العرب أن رجلا سبه فأراد أن يرد على الساب فامسك جليس له بيده على فمه ثم رفع يده لما ظن أن غضبه قد سكن فقال : قتلتني رددت غضبي في جوفي ومات من ساعته فإذا نفذ مثل هذا غضبه بقتل أو ظلم لغيره لم يعذر بذلك السكران واما إذا نفذ بقول فانه يمكن اهدار قوله وان لا يترتب اثره عليه كما أهدر الله سبحانه دعاءه و لم يرتب اثره عليه ولم يستجبه له ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى انه لا يجلد القذف في حال الخصومة والغضب وانما يجلد به إذا اتى به اختيارا وقصدا لقذفه وهو قول قوي جدا ويدل عليه ان الخصم لا يعذر بجرحه لخصمه وطعنه فيه حال الخصومة بقوله : هو فاجر ظالم غاشم يحلف على الكذب ونحو ذلك : ومن يحده في هذه الحال يفرق بين قذفه وطلاقة بان القدف حق لآدمي وانتهاك لعرضه أو قدحه في نفسه فيجري مجرى اتلاف نفسه وماله فلا يعذر فيه بالغضب لا



ص -55- سيما ولو عذر فيه بذلك لامكن كل قاذف ان يقول في حال الغضب فيسقط الحد بخلاف الطلاق فانه يمكن ان يدين فيما بينه وبين الله والحق لا يعدوه . والمقصود انه إذا تكلم بالطلاق دواء لهذا المرض وشفاء له بإخراج هذه الكلمة من صدره وتنفسه بها فمن كمال هذه الشريعة ومحاسنها وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة ان لا يؤاخذ بها ويلزم بموجبها وهو لم يلتزمه . "الوجه الثاني عشر" : ان قاعدة الشريعة ان العوارض النفسية لها تأثير في القول اهدارا واعتبارا وإعمالا والغاء وهذا كعارض النسيان والخطأ والاكراه والسكر والجنون والخوف والحزن والغفلة والذهول ولهذا يحتمل من الواحد من هؤلاء من القول ما لا يحتمل من غيره ويعذر بما لا يعذر به غيره لعدم تجرد القصد و الإرادة ووجود الحامل على القول ولهذا كان الصحابة يسال احدهم الناذر : في رضا قلت ذلك ام في غضب ? فان كان في غضب امره بكفارة يمين لانهم استدلوا بالغضب على ان مقصوده الحض والمنع كالحلف لا التقرب وقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فجعل عارض السكر مانعا من اعتبار قراءة السكران وذكره وصلاته كما جعله النبي صلى الله عليه وسلم مانعا من صحة إقراره لما امر باستنكاه من اقر بين يديه بالزنا وجعله مانعا من تكفير من قال له ولأصحابه : هل انتم الا عبيد لأبي



ص -56- وجعل الله سبحانه الغضب مانعا من إجابة الداعي على نفسه واهله وجعل سبحانه الاكراه مانعا من كفر المتكلم بكلمة الكفر وجعل الخطأ والنسيان مانعا من المؤاخذة بالقول والفعل



ص -57- وعارض الغضب قد يكون أقوى من كثير من هذه العوارض فإذا كان الواحد من هؤلاء لا يترتب على كلامه مقتضاه لعدم القصد فالغضبان الذي لم يقصد ذلك أن لم يكن أولى بالعذر منهم لم يكن دونهم يوضحه "الوجه الثالث عشر" ان الطلاق في حال الغضب له ثلاث صور "أحداها" ان يبلغه عن امرأته أمر يشتد غضبه لأجله ويظن انه حق فيطلقها لاجله ثم يتبين انها بريئة منه فهذا في وقوع الطلاق به وجهان أصحهما انه لا يقع طلاقه لإنه إنما طلقها لهذا السبب والعلة والسبب كالشرط فكانه قال ان كانت فعلت ذلك فهي طالق فإذا لم تفعله لم يوجد الشرط وقد ذكر المسالة بعينها ابو الوفاء ابن عقيل وذكر الشريف ابن ابي موسى في إرشاده فيما إذا قال أنت طالق إن دخلت الدار بفتح الهمزة مرارا وهو يعرف العربية ثم تبين أنها لم تدخل لم تطلق ولا يقال هو ها هنا قد صرح بالتعليل بخلاف ما إذا لم يصرح به فان هذا لا تأثير له فإنه قد أوقع الطلاق لعلة فإذا انتفت العلة تبينا انه لم يكن مريدا لوقوعه بدونها سواء صرح بالعلة أو لم يصرح بها وغاية الأمر ان تكون العلة بمنزلة الشرط وهو لو قال انت طلق وقال اردت ان فعلت كذا وكذا دين فيما بينه وبين الله تعالى وقد ذكر أصحاب الشافعي احمد فيما إذا كاتب عبده على عوض فاداه اليه فقال : انت حر ثم تبين ان العوض مستحق لم يعتق مع تصريحه بالحرية فالطلاق أولى بعدم الوقوع في هذه الصورة . "الصورة الثانية" ان يكون قد غضب عليها لامر قد علم وقوعه منها فتكلم بكلمة الطلاق قاصدا للطلاق عالما بما يقول عقوبة لها على ذلك فهذا يقع طلاقه اذ لو يقع هذا الطلاق لم يقع اكثر الطلاق فانه غالبا يقع مع الرضا "92 مكرر" "الصورة الثالثة" : ان لا يقصد امرا بعينه ولكن الغضب حمله على ذلك وغير عقله ومنعه كمال التصور والقصد فكان بمنزلة الذي فيه نوع من السكر والجنون فليس هو غائب



ص -58- العقل بحيث لا يفهم ما يقول بالكلية ولا هو حاضر العقل بحيث يكون قصده معتبرا فهذا لا يقع به الطلاق أيضا كما لا يقع بالمبرسم والمجنون يوضحه "الوجه الرابع عشر" ان المجنون والمبرسم والموسوس والهاجر قد يشعر احدهم بما قاله ويستحي منه وكذلك السكران ولهذا لم يشترط اكثر الفقهاء في كونه سكران ان يعدم تمييزه بالكلية بل قد قال الإمام احمد وغيره : انه الذي يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من رداء غيره وفعله من فعل غيره . والسنة الصريحة الصحيحة تدل عليه فان النبي صلى الله عليه وسلم امر ان يستنكه من اقر بالزنا مع انه حاضر العقل والذهن يتكلم بكلام مفهوم ومنتظم صحيح الحركة ومع هذا فجوز النبي صلى الله عليه وسلم ان يكون به سكر يحول بينه وبين كمال عقله وعلمه فامر باستنكاهه والمقصود ان هؤلاء ليسوا مسلوبي التمييز بالكلية وليسوا كالعقلاء الذين لهم قصد صحيح فان ما عرض لهم أوجب تغير العقل الذي منع صحة القصد فلم يبق احدهم يقصد قصد العقلاء الذي مراده جلب ما ينفع ودفع ما يضر فلم يتصور احدهم لوازم ما تكلم به ولا غاب عقله عن الشعورية بل هو ناقص التصور ضعيف القصد والغضبان في حال غضبه قد يكون اسوا حالا من هؤلاء وأشبه بالمجانين ولهذا يقول ويفعل مالا يقوله المجنون ولا يفعله "فإن قيل" فهل يحجر عليه في هذه الحال كما يحجر على المجنون "قيل" لا والفرق بينهما ان هذه الحالة لا تدوم فهو كالذي يجن أحيانا نادرا ثم يفيق فانه لا يحجر عليه نعم لو صدر منه تلك الحال قول عن غير قصد منه كان مثل القول الصادر عن المجنون في عدم ترتب أثره عليه ولا ريب انه قد يحصل للغضبان اغماء وغشي وهو في هذه الحالة غير مكلف قطعا كما يحصل ذلك للمريض فيزيل تكليفه حال الاغماء حتى ان بعض الفقهاء لا يوجب عليه قضاء الصلاة في هذه الحالة إلحاقا بالمجنون كما يقوله الشافعي واحمد يوجب عليه القضاء إلحاقا له بالنائم .



ص -59- وأبو حنيفة يفرق بين الطويل والزائد على اليوم والليلة فيحلفه بالمجنون وبين القصير الذي هو دون ذلك فيلحقه بالنوم وقد ينكر كثير من الناس ان الغضب يزيل العقل ويبلغ بصاحبه إلى هذه الحالة فإنه لا يعرف من الغضب الا ما يجد من نفسه وهو لم يعلم غضبا انتهى إلى هذه الحالة وهذا غلط فان الناس متفاوتون في الغضب تفاوتا عظيما فمنه ما هو كالنشوة ومنه ما هو كالسكر ومنه ما هو كالجنون ومنه ما هو سريع الحصول سريع الزوال وعكسه ومنه سريع الحصول بطئ الزوال وعكسه كما قسمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأقسام



ص -60- وقوى الناس متفاوته تفاوتا عظيما في ملك تقواهم عند الغضب والطمع والحزن والخوف والشهوة فمنهم من يملك ذلك ويتصرف فيه ومنهم من يملكه ذلك ويتصرف فيه "الوجه الخامس عشر" ان الغضبان الذي قد انغلق عليه القصد والرأي وقد صار إلى الجنون والعارض اقرب منه إلى العقل الثابت أولى بعدم وقوع طلاقه من الهازل المتلفظ بالطلاق في حال عقله وان لم يرده بقلبه وقد الغي طلاق الهازل بعض الفقهاء وهو احدى الروايتين عن الإمام احمد حكاها ابو بكر عبد العزيز وغيره وبه يقول بعض اصحاب مالك إذا قام دليل الهزل فلم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق ولا ريب ان الغضبان أولى بعدم وقوع طلاقه من هذا "الوجه السادس عشر" ان جماعة من اصحابنا لم يشترطوا في الجنون والمبرسم ان لا يكون ذاكرا لطلاقه وان كان ظاهر نص احمد انه متى ذكر الطلاق لزمه فانه قال في رواية ابي طالب في المجنون يطلق فقيل له لما افاق انك طلقت امراتك فقال انا ذاكر اني طلقت ولم يكن عقلي معي فقال إذا كان يذكر انه طلق فقد طلقت . قال ابو محمد المقدسي وهذا هو المنقول عن الإمام احمد فيمن كان جنونه لذهاب معرفته بالكلية وبطلان حواسه فأما من كان جنونه لنشاف أوكان مبرسما فإن ذلك يسقط حكم تصرفه مع ان معرفته غير ذاهبة بالكلية فلا يضره ذكر الطلاق ان شاء الله انتهى كلامه .



ص -61- معلوم ان الغضبان الممتلىء اسوا حالا ممن جنونه من نشاف أو برسام واقل احواله ان يكون مثله يوضحه "الوجه السابع عشر" وهو ان الموسوس لا يقع طلاقه صرح به اصحاب ابو حنيفة وغيرهم . وما ذاك الا عدم صحة العقل والإرادة منه فهكذا هذا "الوجه الثامن عشر" : انه لم يقل احد ان مجرد التكلم بلفظ الطلاق موجب لوقوعه على أي حال كان بل لابد من امر اخر وراء التكلم باللفظ وطائفة اشترطت ان ياتي به في حال التكليف فقط سواء قصده أو جرى على لسانه من غير سواء اكره عليه أو اتى به اختيارا وهذا مذهب من يوقع طلاق المكره والطلاق الذي يجري على لسان العبد من غير قصد منه وهو المنصوص عن ابي حنيفة في الموضعين وطائفة اشترطت مع ذلك ان ياتي باللفظ مختار قاصدا له وهو قول الجمهور الذين لا ينفدون طلاق المكره . ثم منهم من اشترط مع ذلك ان يكون عالما بمعناه فان تكلم به اختيارا غير عارف بمعناه لم يلزمه حكمه وهذا قول من يقول لا يلزم المكلف أحكام الأقوال حتى يكون عارفا بمدلولها وهذا هو الصواب . ومنهم : من اشترط مع ذلك ان يكون مريدا لمعناه ناويا له فان لم ينو معناه ولم يرده لم يلزمه حكمه وهذا قول من يقول : لا يلزم لصريح الطلاق النية وقول من لا يوقع الطلاق الهازل . وهو قول في مذهب الإمام احمد ومالك في المسالتين فيشترط هؤلاء الرضا بالنطق اللساني والعلم بمعناه وإرادة مقتضاه .



ص -62- ومنهم : من يشترط مع ذلك كون الطلاق مأوذنا فيه من جهة الشارع و هو قول من لا يوقع الطلاق المحرم وهو قول طائفة من السلف من الصحابة والتابعين و من بعدهم . وقال عمر بن عبدالسلام الخشني : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبدالوهاب بن عبد المجيد الثقفي حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر انه قال : في الرجل يطلق امراته وهي حائض لا يعتد بذلك وحسبك بهذا الاسناد إذا صح رواه محمد بن حزم قال : حدثنا يوسف بن عبدالله قال : حدثنا احمد بن عبدالله بن عبد الرحيم قال : حدثنا احمد بن خالد قال : حدثنا محمد بن عبدالسلام فذكره . وهذا مذهب افقه التابعين على الاطلاق سعيد بن المسيب حكاه عنه الثعلبي في تفسير سورة الطلاق .



ص -63- وهو مذهب افقه التابعين من اصحاب ابن عباس وهو طاوس قال عبدالرزاق عن جريج عن عبدالله بن طاووس عن ابيه : انه كان لا يرى طلاقا مما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وكان يقول : وجه الطلاق يطلقها طاهرا من غير جماع وإذا استبان حملها . وهذا مذهب خلاس بن عمرو قال ابن خزم : حدثنا محمد بن سعيد بن ساث قال : حدثنا عباس بن اصبع قال : حدثنا محمد بن قاسم بن محمد قال : حدثنا محمد بن عبدالسلام الخشني قال : حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبدالرحمن من مهدي قال : حدثنا هشام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو انه قال : في الرجل يطلق امراته وهي حائض فقال : لا يعتد بها . وهذا قول ابي قلابة قال ابن ابي شيبة : حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن ابي قلابة قال : إذا طلق الرجل امراته وهي حائض فلا يعتد بها . وهذا اختيار ابن عقيل في كتابه الواضح في اصول الفقه صرح به في مسالة النهي يقتضي الفساد



ص -64- وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية وهو احد الوجهين في مذهب احمد وقال ابو جعفر الباقر لا طلاق الا على بينة ولا طلاق الا على طهر من غير جماع وكل طلاق في غضب أو يمين أو عتق فليس بطلاق الا لمن اراد الطلاق والمقصود ان هؤلاء يشترطون في وقوع الطلاق اذن الشارع فيه وما لم يأذن فيه الشارع فهو عندهم لاغ غير نافذ قال شيخ الاسلام وقولهم اصح في الدليل من قول من يوقع الطلاق الذي لم يأذن فيه الله وسوله ويراه صحيحا لازما والمقصود ان احدا لم يقل ان مجرد التكلم بالطلاق موجب لترتب اثره على أي وجه كان "الوجه التاسع عشر" ان هذا مقتضى نص احمد كما تقدم تفسيره الاغلاق في رواية حنبل بالغضب وقال عبد الله ابنه في مسائلة سالت ابي عن المجنون إذا طلق في وقت زولان عقله . . . . أيجوز ? قال ابي : كل من كان صحيح العقل فزال عقله عن صحته فطلق فليس طلاقه بشيء فهذا عموم كلامه وذاك خاصة فقد جعل تغير العقل عن صحته مانعا من وقوع الطلاق ولا ريب ان اغلاق الغضب بغير العقل عن صحته .



ص -65- "الوجه العشرون" : ان الفقهاء اختلفوا في صحة حكم الحاكم في الغضب على ثلاثة أقوال : وهي ثلاثة أوجه في مذهب احمد : "احدها" : لا يصح و لا ينفذ لان النهي يقتضي الفساد "والثاني" : ينفذ "والثالث" : ان عرض له الغضب بعد فهم الحكم نفذ حكمه وان عرض له قبل ذلك لم ينفذ . فان الحاكم يجب ان يكون عالما عدلا فمن نفذ حكمه قال : الغضب لا يمنع العلم والعدل . فقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم للزبير في شراج الحرة وهو غضبان .



ص -66- ومن لم ينفذ حكمه قال الغضب يمنعه كمال المقصود وحسن القصد فيمنعه العلم والعدل ولا يصح القياس على النبي صلى الله عليه وسلم فانه معصوم في غضبه ورضاه فكان إذا غضب لم يقل الا حقا كما كان في رضاه كذلك ومن فرق قال إذا علم الحق قبل الغضب لم يمنعه الغضب من العلم و حينئذ فيمكنه ان ينفذ الحق الذي علمه وإذا غضب قبل الفهم لم ينفذ حكمه لإمكان ان يحول الغضب بينه وبين الفهم وهؤلاء يحتجون بقضية الزبير وان النبي صلى الله عليه وسلم انما عرض له الغضب بعد فهم الحكومة والمقصود ان الغضب إذا اثر عند هؤلاء في بطلان الحكم علم ان كلام الغضبان غير كلام الراضي المختار وان للغضب تاثيرا في ذلك "الوجه الحادي والعشرون" ان وقع الطلاق حكم شرعي فيستدعي دليلا شرعيا والدليل اما كتاب أو سنة أو اجماع أو قياس يستوي فيه حكم الأصل والفرع وليس شيء منها موجودا في مسالتنا وإذا شئت قلت الدليل اما نص أو معقول نص وكلاهما منتف وان شئت قلت لو ثبت الوقوع لزم وجود دليله واللازم منتف فالملزوم مثله "والوجه الثاني والعشرون" ان نكاح هذا مثبت بإجماع فلا يزول الا بالإجماع مثله وان شتت قلت : نكاحه قبل صدور هذا اللفظ منه ثابت بالإجماع والأصل بقاؤه حتى يثبت ما يرفعه . "الوجه الثالث والعشرون" : ان جمهور العلماء يقولون ان طلاق الصبي المميز العاقل لا ينفذ ولا يصح . هذا قول ابي حنيفة ومالك والشافعي واحدى الروايتين عن الإمام احمد اختارها الشيخ ابو محمد وهو قول اسحق مع كونه عارفا باللفظ وموجبه



ص -67- بكلماته اختيارا وقصدا وله قصد صحيح وإرادة صحيحة وقد امر الله سبحانه بابتلائه واختياره في تصرفاته وقد نفذ صبر عمر به الخطاب وصيته واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم قصده واختياره في التخيير بين ابويه فالغضبان الشديد الغضب الذي قد اغلق عليه باب القصد والعلم أولى بعدم وقوع طلاقه من هذا بلا ريب "فان قيل" الغضبان مكلف وهذا غير مكلف لان القلم مرفوع عنه "قيل" نعم الأمر كذلك ولكن لا يلزم من كونه مكلفا ان يترتب الحكم على مجرد لفظة كما تقدم كيف والمكره مكلف ولا يصح طلاقه والسكران مكلف والمريض مكلف ولا يلزم من كون العبد مكلفا ان لا يعرض له حال يمنع اعتبار أقواله ونقص افعاله "الوجه الرابع والعشرون" : ان غاية التلفظ بالطلاق ان يكون جزء سبب والحكم لا يتم الا بعد وجود سببه وانتفاء ما نعه وليس مجرد التلفظ سببا تاما باتفاق الأئمة كما تقدم وحينئذ فالقصد والعلم والتكليف اما ان تكون بقية أجزاء الكسب أو تكون شروطا في اقتضائه أو يكون عدمها مانعا من تاثيره وعلى التقادير الثلاثة فلا يؤثر التكلم بالطلاق بدونها وليس مع من أوقع طلاق الغضبان والسكران والمكره ومن جرى على



ص -68- لسانه بغير قصد منه الا مجرد السبب أو جزؤه بدون شرطه وانتفاء مانعه وذلك غير كاف في ثبوت الحكم والله اعلم "الوجه الخامس والعشرون" انه لو سبق لسانه بالطلاق و لم يرده دين فيما بينه وبين الله تعالى ويقبل منه ذلك في الحكم في احدى الروايتين عن احمد الا ان تكذبه قرينه والرواية الاخرى يدين ولا يقبل في الحكم وكذلك قال أصحاب الشافعي إذا سبق الطلاق إلى لسانه بغير قصد فهو لغو ولكن لا تقبل دعوى سبق اللسان الا إذا ظهرت قرينة تدل عليه فقبلوا منه في الباطن دون الحكم الا بقرينة وكذلك قال اصحاب مالك : من سبق لسانه إلى الطلاق لم يقع عليه الطلاق قالوا : ويقبل في الفتوى . وابو حنيفة لا يرى سبق اللسان مانعا من وقوع الطلاق وعنه في سبق اللسان في العتق روايتان وقرر اصحابه بان المراة تملك بضعها لسبب يستوي فيه القصد وعدم



ص -69- القصد كالسكران والمكره والهازل وكالرضاع بالاتفاق فزوال البضع لا يختلف في سببه القصد وعدم القصد بخلاف العتق فان السبب الذي يملك به نفسه يختلف فيه القصد وعدمه وروى ابو يوسف عن ابي حنيفة التسوية بينهما ثم اختلف اصحابه فقالت طائفة هما سواء في الوقوع وقالت طائفة بل هما سواء في عدم الوقوع والمقصود ان سبق اللسان إلى الطلاق من غير قصد له مانع من وقوعه عند الجمهور والغضبان إذا علم من نفسه ان لسانه سبقه بالطلاق من غير قصد جاز له الاقامة على نكاحه ويدين في الفتوى واما قبوله في الحكم فيخرج على الخلاف والأظهر انه ان قامت قرينة ظاهرة تدل على صحة قوله قبل في الحكم والغضب الشديد من اقوى القرائن ولا سيما فان كثيرا ممن يطلق في شدة الغضب يحلف بالله جهد يمينه انه لم يقصد الطلاق وانما سبق لسانه وحينئذ فالجمهور لا يوقعون عليه الطلاق كما صرح به اصحاب احمد والشافعي ومالك . وفي قوله في القضاء ثلاثة أقوال اصحها انه ان قامت قرينة ظاهرة على صحة قوله قبل والا فلا
فصل
وما يبين أن الغضبان قد يتكلم في الغضب بما لا يريده ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول سمعت رسول الله يقول: "إنما أنا بشر وإني اشترطت على ربي عز وجل أي عبد من المسلمين شتمته أبو سببته أن يكون ذلك له زكاة وأجرا"



ص -70- وفي مسند الإمام احمد من حديث مسروق عن عائشة قالت : "دخل على النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فاغلظ لهما وسبهما قالت فقلت : يا رسول الله لمن اصاب منك خير ما اصاب هذان منك خير قالت فقال "أو ما علمت ما عاهدت عليه ربي عز وجل قلت ايما مؤمن سببته أو جلدته أو لعنته فاجعلهما له مغفرة وعافية" وفي الصحيحين من حديث ابي هريرة انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم ايما عبد مؤمن سببته فاجعل ذلك قربة اليك يوم القيامة" وفي بعض الفاظ الحديث "انما انا بشر ارضى كما يرضى البشر واغضب كما يغضب البشر فايما مؤمن سببته أو لعنته فاجعلها له زكاة" فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم مريدا لما دعا به في الغضب لما شرط على ربه وساله ان يفعل بالمدعو عليه ضد ذلك اذ من الممتنع اجتماع إرادة الضدين وقد صرح بإرادة احدهما مشترطا على ربه فدل على عموم إرادته لما دعا به في الحال الغضب هذا وهو النبي صلى الله عليه وسلم معصوم الغضب كما هو معصوم الرضا وهو مالك لفظه بتصرفه فكيف بمن لم يعصمه في غضبه وتمليكه ويتصرف فيه غضبه ويتلاعب الشيطان به فيه وإذا كان الغضبان يتكلم بما لا يريده ولا يريد مضمونه فهو بمنزلة المكره الذي يلجا إلى الكلام أو يتكلم به باختياره ولا يريد مضمونه والله اعلم . "فان قيل" : ما ذكر ثم معارض بما يدل على وقوع الطلاق فان الغضبان اتى بالسبب اختيارا واراد في حال الغضب ترتب اثره عليه ولا يضر عدم إرادته له في حال



ص -71- رضاه اذ الاعتبار بالإرادة انما هو التلفظ بخلاف المكره فانه محمول على التكلم بالسبب غير مريد لترتب اثره عليه وبخلاف السكران المغلوب عقله فإنه غير مكلف والغضبان مكلف مختار فلا وجه لإلغاء كلامه . "فالجواب" : ان يقال ان اريد بالاختيار رضاه به وايثاره له فليس بمختار وان اردتم انه يوقع بمشيئته وإرادته التي هو غير راض بها ولا باثرها فهذا بمجرده لا يوجب ترتب الاثر فان هذا الاختيار ثابت للمكره والسكران فانا لا نشترط في السكران ان لا يفرق بين الأرض والسماء بل المشترط في عدم ترتب اثر أقواله انه يهذي ويخلط في كلامه وكذلك المحموم والمريض وابلغ من هذا الصبي المراهق للبلوغ إذ هو من أهل الإرادة والقصد الصحيح ثم لم يترتب على كلامه أثره وكذلك من سبق لسانه بالطلاق ولم يرده فانه لا يقع طلاقه وقد أتى باللفظ في حال الاختيار غير سكره ولكن لم يقصده والغضبان وان قصده فلا حكم لقصده في حال الغضب لما تقدم من الأدلة الدالة على ذلك وقد صرح أصحابنا بان من كان جنونه لنشاف أو برسام لا يقع طلاقه ويسقط حكم تصرفه إن كانت معرفته غير ذاهبة بالكلية ولا يضره ان يذكر الطلاق وانه أوقعه وما ذكرناه من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ربه ان يجعل سبه لمن سبه في حال غضبه صريح في انه مريد له إذ لو أراده واختار لم يسأل ربه أن يفعل بالمدعو عليه ضد ما دعا به عليه إذ لا يتصور إرادة ضدين في حالة واحدة وهذا وحده كاف في المسالة فهذا ما ظهر في هذه المسألة بعد طول التأمل والفكر ونحن من وراء ا لقبول والشكر لمن رد ذلك بحجة يجب المصير إليها ومن وراء الرد على من رد ذلك بالهوى والعناد والله المستعان وعليه التكلان "وصلى الله على سيد المرسلين" وخاتم النبيين وعلى اله وأصحابه وعترته وأنصاره صلاة دائمة بدوام ملك الله عز وجل تم نسخها على يد حامد بن أديب التقي لقبا الأثري مذهبا في أواخر رمضان سنة 1327



ص -73- المطلقة
قصيدة لاديب العراقي معروف افندي الرصافي في الانتصار لمذهب المؤلف وشيخه عليهما رحمة الرحمة والرضوان .

بدت كالشمس يحضنها الغروب فتاة راع نضرتها الشحوب

منزهة عن الفحشاء خود من الخفرات انسة عروب

نور تستجد بها المعالي وتبلى دون عفتها العيوب

صفا ماء الشباب بوجنتيها فحامت حول رونقه القلوب

ولكن الشوائب ادركته فعاد وصفوه كدر مشوب

ذوي منها الجمال الغض وجدا وكاد يجف ناعمه الرطيب

اصابت من شيبتها الليالي ولم يدرك ذؤابتها المشيب

وقد خلب العقول لها جبين تلوح على اسرته النكوب

الا ان الجمال إذا علاه نقاب الحزن منظره عجيب



حليلة طيب الاعراق زالت به عنها وعنه بها الكروب

رعى ورعت فلم تر قط منه ولم ير قط منها ما يريب

توثق حبل ودهما حضورا ولم ينكث توثقه المغيب

فغاضب زوجها الخلطاء يوما بامر للخلاف به نشوب

فاقسم بالطلاق لهم يمينا وتلك النية خطا وحوب

وطلقها على جهل ثلاثا كذلك يجهل الرجل الغضوب

وافتى بالطلاق طلاق بت ذوو فتيا تعصبهم عصيب

فبانت عنه لم تات الدنايا ولم يعلق بها الذام المعيب



ص -74- فظلت وهي باكية تنادي بصوت منه ترتجف القلوب

لماذا يا نجيب صرمت حبلي وهل اذنبت عندك يا نجيب

ومالك قد جفوت جفاء قال وصرت إذا دعوتك لا تجيب

ابن ذنبي الي فدتك نفسي فاني عنه بعدئذ اتوب

اما عاهدتني بالله ان لا يفرق بيننا الا شعوب

لئن فارقتني وصددت عني فقلبي لا يفارقه الوجيب

وما ادماه ترتع حول روض ويرتع خلفها رشا ربيب

فما لفتت اليه الجيد حتى تخطفه بازمتيه ذيب

فراحت من تحرقها عليه بداء مالها فيه طبيب

تشم الارض تطلب منه ريحا وتنجب والبغام هو النحيب

وتمزع في الفلاة لغير وجه وأونة لمصرعه تؤوب

باجزع من فؤادي يوم قالوا برغم منك فارقك الحبيب



فاطرق راسه خجلا واغضى وقال ودمع عينيه سكوب

نجيبة اقصري عني فاني كفاني من لظي الندم اللهيب

وما والله هجرك باختياري ولكن هكذا جرت الخطوب

فليس يزول حبك من فؤادي وليس العيش دونك لي يطيب

ولا اسلو هواك وكيف اسلو هوى كالروح في له دبيب

سلي عني الكواكب و هي تسري بجنح الليل تطلع أو تغيب

فكم غالبتها بهواك سهدا ونجم القطب مطلع رقيب

خذي من نور "رنتجن" شعاعا به للعين تنكشف الغيوب

والقيه بصدري وانظريني ترى قلبي عليك به ندوب

وما المكبول القى في خضم به الامواج تصعد أو تصوب

فراح يغطه التيار غطا إلى ان تم فيه له الرسوب

باهلك يا ابنة الامجاد مني إذا أنا لم يعد بك لي نصيب



ص -75- الا قل في الطلاق لموقعيه بما في الشرع ليس له وجوب

غلوتم في ديانتكم غلوا يضيق ببعضه الشرع الرحيب

اراد الله تيسيرا وانتم من التعسير عندكم ضروب

وقد حلت بامتكم كروب لكم فيهن لا لهم الذنوب

وهي حبل الزواج ورق حتى كاد إذا نفخت له يذوب

كخيط من لعاب الشمس ادلت به في الجو هاجرة حلوب

يمزقه من الافواه نفث ويقطعه من النسم الهبوب

فدى "ابن القيم" الفقهاء كم قد دعاهم للصواب فلم يجيبوا

ففي "اعلامه" للناس رشد ومزدجر لمن هو مستريب

نحا فيما اتاه طريق علم نحاها شيخه الحبر الاديب

وبين حكم دين الله لكن من الغالين لم تعه القلوب

لعل الله يحدث بعد امرا لنا فيخيب منهم من يخيب
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09 Feb 2008, 10:51 PM
أم جهان أم جهان غير متواجد حالياً
وفقها الله
 
تاريخ التسجيل: Oct 2007
المشاركات: 118
افتراضي min almawki3

min almawki3

rouh al islam
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013