توجيه ماتع، وتأصيل جامع لمسألة الردود، والخلاف بين السّلفيين، للشيخ عبيد الجابري
توجيهٌ ماتع، وتأصيل جامع لمسألة الردود، والخلاف بين السّلفيين.
لفضيلة الشيخ عبيد الجابري حفظه الله ورعاه
.
السؤال:
أحسنَ الله إليكم، يقول السائل – حفظكم الله -:
ما قولكم فيما يجري من خلافٍ بين السَّلفيين هذه الأيام؟ وما موقِفُ السَّلفِ منها؟
الجواب:
أوَّلًا: إنَّ سلَفَ أهل السُّنة وخلفَهم لا يُطلقِونَ الكلامَ إِطلاقا، ولا يهجمونَ هجومًا، بل هم منضبطون بميزانِ الشَّرع، فينظرون؛
أولًا: إلى المُخالَفات.
وثانيًا: إلى المُخالِف.
فالمُخالَفاتُ التي تجري في العالم، المخالفات التي تجري في الساحة العلمية؛ هي على ضربَيْن:
* أحدهما: ما هو مجالٌ للاجتهاد ومسرحٌ للرأي والنِّزاع؛ هذا في الأحكام، فالنَّظر في هذا إلى الأدلة، فإذا كان كِلَا الفريقَيْن عنده من أدلة الشرع ما يُسوِّغُ مذهبه، فلا يُثرِّب أحدهما على الآخر، وهذا يكون للسلفيين منه نصيب، حتى الصحابة - رضي الله عنهم - فإن حَمَلَ أحدُ الفريقيْن على الآخر - وأنا أقول هذا على سبيل الفرض - حَمَلَ أحد الفريقين على الآخر، وشنَّ عليه الحَرْبَ الضَّروس، وأصبح يُوالي ويُعادِي فيما سَوَّغ مذهبه؛ فإنه يخرجُ عن دائرة أهل السنة إلى دائرة المبتدعة، ونحنُ نعرِف وقائع كثيرة اختلف فيها أهل السُّنة، وما ثرَّب فريقٌ على الآخر،
وأكتفي هنا بمثالين؛ أحدهما: في فرعٍ عَقَدِي، والآخر: في فرعٍ فقهي؛
* فأمَّا الفرع العَقَدِي فالصحابة - رضي الله عنهم - لم يُنازِعوا في الإسراءِ والمعراج بل هم مُجمعون عليه، وكذلك تلقَّى عنهم الأئمة فأجمعوا، فإذًا؛ في ماذا الاختلاف؟ الاختلافُ في مسألةٍ فرعية وهي: هل رأى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ربَّه أو لا؟
فالصديقة بنت الصديق - رضي الله عنها وعن أبيها - تُشنِّعُ على من قال إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأى ربَّه تلكَ الليلة، فتقول: قد كذب ((من حدَّثك هذا فقد كَذَب))، وابن عباس - رضي الله عنهما - رُوِيَ عنه أنه قال: رآه؛ مُطلق، ومرةً قال: ((رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ)) فجَمَعَ أهلُ العلم بين الخَبَريْن؛ فَحَمَلوا النَّفيَ في خبرِ عائشة - رَضِيَ الله عنها - على الرؤية بالعين، ما رآه ببصره، بعينيْ رأسه، وَحَمَلوا الإثبات في خبر ابن عباس - رضي الله عنهما - على الرؤية العلمية؛ رآه بقلبه يعني.
* وأمَّا المثال الفقهي؛ فأختارُ هنا مثالًا واحدًا؛ وهو النزولُ إلى السجود، ويُسمَّى الخرورُ للسجود، بعد الرفعِ من الركوع، هل هو على اليدين أو على الركبتين؟
قولان لأهل العلم؛ أحدهما: أنَّه على اليَديْن، والآخر: على الركبتين، وما رَأَيْنا فريقًا من هؤلاء ولا من هؤلاء ولا أهل الاختلاف في المثال السابق يُثرِّبُ أحدهم على الآخر أبدًا، لكن أمام المجتهد الذي يُحسِن الاستدلال، إذا كان على سبيل المذاكرة أو السؤال؛ أن يُبيِّن ما يَراهُ راجحًا بدليله، هكذا حفظناه عن الإمام المجتهد العلامة الفقيه الأثري الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - يذكر القوليْن باختصار؛ ويقول: أَصَحُّ القولين، أرْجَحُ القولين، أصْوَب القولين؛ هو كذا ويذكر دليله.
* الثاني: من المخالفات، هو ما ليسَ فيه مجالٌ للاجتهاد، في أصولِ الدين وفروعِه التي ثبتت بنص، أو نص وإجماع، ليس فيها مجال، وهذا من كان سلفيًّا، الوصف الثاني: قُحًّا، الثالث: متظلعًا بالعلم لا يخالف إخوانه في هذا، بل لو حَدَثَتْ منهُ زلَّةُ قَدَمَ وبَلَغَه، فإنَّه يَرْجِع.
وأمَّا تقعيدُ الغريب، والمفاريد، والتأصيل المُبايِن لمسلك السلف؛ فهذا لا يسلكه سلفيٌّ أبدًا، أبدًا لا يسلكه، فالسَّلفي لماذا سُميَّ سلفًا؟ لأنه لا يأتي الناس بالغرائب والمفاريد والشواذ، ويؤصِّل أصولًا من عنده؛ لا، بل يقفُ أثر السلف الصالح، الذين بنوْا أحكامهم على الكتابِ والسُّنة، هذا أمر.
الأمر الآخر: المخالفة التي ثَبَتَ خلافُها بنصٍّ أو إجماع لا يقبلها أهل السُّنة بحال، لأنهم لا يَزِنونَ ما يَرِد عليهم ويَفِدُ إليهم من أقوالِ الناس وأعمالهم؛ بمنظارِ العقل، بل بميزان الشرع النص والإجماع، فما وَافَقَ نصًّا أو إجماعًا قَبِلوه، وما خالَفَ نصًّا أو إجماعًا ردُّوه، مهما تَكُن منزلةُ صاحبه، ثُمَّ المخالِف إن كان من أهل الأهواء فإنهم يُشنِّعون عليه، ويُثرِّبون عليه، ويصيحون عليه من كلِّ حَدَبٍ وصَوْب، ويَجِدُّون في أن يحولوا بينه وبين الأمة حتى لا يُفْسِد عليهم دينهم، وهذا إِذَا قوِيَت شوكتهم، ورَجَحَت كِفَّتهم، وكانت الغَلَبَة لهم، أمَّا في حال الضَّعف؛ فإنهم يردُّون المخالفات، ويسكتون عن المخالف مُداراة، كأن يكون وزير الشئون الإسلامية في الدولة، أو رئيس القضاة في البلد، أو غير ذلك من المكانات، وأمَّا البِدَع فلا يقبلونها بحال.
وأُنَبِّه هاهنا إلى أمر؛ وهو: ما الذي يسلكه أهل السُّنة في ردِّ المخالفات؟
أهلُ السُّنة أهلُ اعتدال وعَدِل، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فيهم: "هُم أعرفُ النَّاسِ بالحق، وهُم أَرْحمُ النَّاسِ بالخلق" فيسلكون نفس المَسَار الذي تصِلُ المخالفة من خلاله إليهم، فلا يُجاوزونها، فإذا كانت المخالفة في مجلس؛ فهاهنا حالتان:
إحداهما:
إحداهما: أن يكون الرَّاد المتصدِّي حاضرًا، فيُبيُّنها بالدَّليل مع حِكْمَة، يُبيّنها بالدليل للناس حتى لا يتفرَّق الناس عليها، وإن كان الناقلُ إليه المخالفة؛ فهذا النَّاقل إمِّا أن يكون ثقة أو غير ثقة؛
· فإن كان غير ثقة يُطلُّ قوله يُرمى، يُلقى.
· وإن كانَ ثقة؛ فلا مانع أن يستخبر يستزيد علمًا ويسأله؛ هل أنت سَمِعتها - يستوثق - فإن قال: لا نُقِلَت إليّ، من نقلها إليك؟ فقال: فلان، ثقةً عندك، نعم مادام ثقةً عندي، خلاص أَقْبَل.
فأقول حدَّثني فلان عن فلان الثقة؛ معروف، وإن كان مجهول؛ أقول: هذا مجهول لا أعرفه، من يزكِّيه لك؟ فإذا لم تثبت يتركها، فإذا ثبتت بالنقل في مجلس، يقول: هذا خطأ، والصوابُ كذا، بلِّغ فلان، ولا مانع أن يقول: بلغه منِّي السَّلام، وما قالَهُ خطأ، لا ينشره، خطأ هذا، هذا مخالف لِكذا، يُبيِّن؛ وإن كانت في كتاب وانتشر الكتاب بين الناس ردَّها بما يستطيع من تسجيل صوتي أو كتاب، حتى يزيل أثره، وإن كانت في أشرطه من تسجيلاتٍ مأمونة، ونقلها إليه ثقات مأمونون؛ وَجَبَ رَدُّها، فمن لم يَرَدّها من أهل العلم الذين بلغتهم؛ شابهوا أهل الكتاب في كَتْمِ الحق، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾، فلابُدَّ من الرَّد الذي يُزيل أثرَ المُخالفة، فَتَلَخَّص لكم:
أولًا: ثبوتها؛ الثبوت ما طريقُه؟ طريقُه ثلاثة أمور عندنا:
- الأول: صِحَّة النقل، صِحَّةُ الإسناد.
- الثاني: خَطُّ يَدِهِ، تكون في كتاب، هذا لا مجال لرَدّه.
- الثالث: التسجيل المأمون.
فإذا ثَبَتت المخالفة؛ التي لا مجالَ للاجتهاد، ولا للنزاعِ، ولا للرأي فيها؛ وَجَبَ رَدُّها.
وهذا له شواهد؛ منها: قول ابن عباس – رضي الله عنهما -: ((تحدث البدعة في المشرق أو المغرب فيحمِلُها الرَّجلُ إليّ، فإذا انتهت إليّ قَمَعْتُها بالسُّنة))، وقال عمر – رضي الله عنه -: ((إيَّاكُم وأهلَ الرأي، أعداءَ السُّنَن الذين أعْيَتهُم أحاديث رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – أن يحفظوها؛ فقالوا بالرأي فضلُّوا وأَضَلُّوا)) وما المفاريدُ، والغرائبُ، والشواذ من القواعد والتأصيلات إلَّا من الرأي الفاسد، وأُسْوَة هؤلاء وسلفهم رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم –، ومن المحفوظ في سُنَّته؛ ((يَحمِلُ هذا العلم من كُلِّ خلفٍ عُدُولُه، فيُنفونَ عنهُ تحريفَ الغالين، وانتحال المُبطلين، وتأويل الجاهلين))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ مَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ)) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة في مُقدِّمة صحيحه، وحَسَّنه البغوي - رحم الله الجميع -.
، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ)) يُفتِّش عن صاحب السُّنة، قولًا وعملًا واعتقادًا وتقريرًا وتعليمًا، حتى يتأسَّى بأهلِ السُّنة، عن طريق هذا الخليل المُصاحب، وقال محمد ابن سيرين - رحمه الله -: "إنَّ هذا العِلمَ دين، فانظروا عمَّن تأخذونَ دينكم" بهذا النَّقل ثَبَتَ.
أولًا: دليلُ الرَّادّين على المُخالفين في هذا العصر.
وثانيًا: أنَّ هذا تَظافَرَ عليه الكتاب والسُّنة، وإجماع الأئمة، ووصايا الأئمة،
لكن في الحقيقة هناك أُناس تُقْلقهم الرُّدود العلمية، وإن كانت مُبْنِيَة على الدَّليل من الكتابِ والسُّنة، وأقوالِ الأئمة، والحاملُ لهم على ذلك واحدٌ من أمرين:
الأول: العاطفة غير المُنضبطة التي استحكمت في العقل، وجعلت عليه غِشاوة؛ حتى يكون الإنسان من هؤﻻء متحيِّرًا أعمى، أعمى بصيرة، فيَعْتَقِدُون أنَّ الرَّد تبديع للمردودِ عليه، وأن الرَّادَّ يُبدِّعُه، ولهذا قالوا: لماذا يُحذِّر منه؟ هذا ليس بصحيح، حذَّرَ السلف من أناس هم على سُنَّة لكن عندهم تخليط، وعندهم تخبيط، وعندهم أمور ﻻ يرضونها، حَذّروا منهم،
الأمر الثاني: الحِزبِيَّة، فالحِزبِيَّة المَقيتَة ﻻ تَرْضَى بالرَّد، وهُنا أُقسِّم هؤﻻء الذين انزعجوا من الرّدود، وهَوَّنوا منها، وزهَّدوا الناس في النَّظَرِ فيها، والتعرف على ما احتوته من الدَّليل العلمي المُؤصَّل، هم أقسام؛
الأول: من تَرَكَ هؤﻻء الرّادِّين وسَكَت، فأصبح بعد أن كان على صِلة، أصبح على قطيعة، ومنهم من يوسوس له الشيطان، فيقول: أنا كيف أعرف، إذًا أَدَعُهُم جميعم، هذا سلفي وهذا سلفي، كيف يردون على بعض؟! فيُقال لهؤلاء: عجبًا، لماذا؟ نعطيكم أمثلة بالإضافة إلى ما سبق، الشيخ سُلَيْمان بن سحمان - رحمه الله - ردَّ على رجل من آل الشيخ، أظنه بعث إلى عمان للدعوة، ووقع في بعض الجهميات، فَقَرَّض له؛ قيل أبوه، وقيلَ عمّه، قرَّضَ الرَّد، انظروا ابنهم! يُرَد عليه ويؤيدون الرَّد،
ابن قدامه - رحمه الله - رَدَّ على ابن عقيل - رحمه الله - في أمرٍ خالف فيه، بعد أن تابَ منه، لكن لمَّا انتشر رأى أنه لابُدَّ من الرَّد، هكذا سلوكُ الرَّادين في هذا العصر، لأنَّ من جَلَسَ إلى هذا المُغْرِب المُشذِّذ في القواعد والتأصيلات تلقَّاها عنه، من تلقَّاها على أنَّها من دينِ الله، ومن أصول أهل السُّنة التي يدينون بها لله – عزَّ وجل – ولها يعتقدون، ولابُدَّ من الإزالة، فبَانَ السلف ولله الحمد أنَّه كتابٌ وسُنَّة وقول إمام.
الثاني: من يُزهِّدُ في الرّدود، ويقول: لا تشغلكم هذه الردود، ودَعُوا هذه الردود لماذا؟ وهذا كلام مجمل، لا يصدر إلَّا عن رجلين؛
- رجل صاحب هوى؛ لِعِلْمِه أنَّ الرُّدود هذه تكشِفُ سَوْءَتَه، وتُعَرِّيه وتفضَحُه، ومن ثَمَّ يمقُته الناس.
- أو إنسان مُخذِّل؛ وهذا جِسر للمبتدعة من حيث يشعر أو لا يشعر، جِسر للمبتدعة؛ مُخذِّل، والمفترض أن يقول: نعم فلان ردَّ، وهذا أخونا؛ نعم ردّه مفيد، لكن إذا رأينا الناس انشغلوا عن العلم وأصبح ما في أيديهم إلَّا كُتب الرّدود له أن يزجرهم، ويقول: دَعُوا هذه إلى وقت، انشغلوا بالعلم،
أمَّا على سبيل الدوام؛ فلا، هذا لا يصدرُ من إمام أبدًا، وإنَّ من صدرت منهم كانت نصيحة وَقْتِيَة في حال، وليس على الدوام.
الثالث: من أصبح يوالي ويُعادِي في المردود عليه، كيف يرد عليه؟ ويمقت هؤلاء الرادين، ويُشَهِّر بهم، ويُنصِبُ لهم المكائد، ويُحذِّر منهم، فهذا يصدقُ عليه ما قاله ابن تيمية - رحمه الله -: "مَن نَصَبَ للناس رَجُلًا يوالي ويعادي فيه فهو من الذين فَرَّقوا دينهم وكانوا شِيَعا" هذه المقولة أو معناها، فهو إذًا حزبي في اصطلاح هذا العصر، اصطلاحنا؛ حزبي، تحزَّب إلى هؤلاء المردود عليهم أصبح يُعْقِدُ الولاء والبراء عليهم.
الرابع: من يُعلِنُ الشَّماتة، والشَّناعة، والحَرْبَ الضَّروس على الرَّادين، فيكادُ يذكرُ أسماءَهم، يذكر عبارات تعريض من قَرَأَ الرُّدود عَرَفَ المُراد؛ فهذا مسكين مغرور.
هذا ما يَسَّر الله - سبحانه وتعالى - على الجواب، وسامحوني أَطَلْت عليكم شيئًا.