منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 18 Dec 2013, 05:41 PM
عبد الصمد سليمان عبد الصمد سليمان غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2013
المشاركات: 139
افتراضي رسالة إلى إخواننا أهل دماج وإلى كل من ساءه مصابهم

بسم الله الرحمن الرحيم


رسالة إلى إخواننا أهل دماج وإلى كل من ساءه مصابهم




الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، من أدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أما بعد:
إن مما هو معلوم من كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن هذه الدار دار ابتلاء وامتحان، وأن الله خلقها وأعدها لابتلاء خلقه فيها، بأنواع من الابتلاءات، وأصناف من الامتحانات، ليميز بها الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، والبر من الفاجر، قال الله تعالى:(الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)) سورة العنكبوت.
ومن أنواع الامتحان والابتلاء التي يَمتحنُ الله سبحانه بها الناس في هذه الدنيا: ابتلاءه سبحانه للناس بعضهم ببعض، قال الله تعالى: "وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً" سورة الفرقان من الآية 20.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله مبينا لمعنى هذه الآية في (إغاثة اللهفان ج 2 ص 881 وما بعدها) :وهذا عامٌّ في جميع الخلق؛ امتحن بعضهم ببعض:
فامتحنَ الرُّسُلَ بالمرسَل إليهم، ودعوتهم إلى الحق، والصبر على أذاهم، وتحمُّلِ المَشَاقِّ في تبليغهم رسالاتِ رَبِّهِم. وامتحن المرسَلَ إليهم بالرُّسُل؛ وهل يطيعونهم، وينصرونهم، ويصدقونهم؟ أم يكفرون بهم، ويردّون عليهم، ويقاتلونهم؟. وامتحن العلماءَ بالجهَّالِ؛ هل يعلمونهم، وينصحونهم، ويصبرون على تعليمهم، ونصحهم، وإرشادهم، ولوازم ذلك.
وامتحن الجهَّال بالعلماء؛ هل يطيعونهم، ويهتدون بهم؟.
وامتحن الملوكَ بالرَّعية، والرعية بالملوك.
وامتحن الأغنياء بالفقراء، والفقراء بالأغنياء.
وامتحن الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء.
والسادة بالأتباع، والأتباع بالسادة.
وامتحن المالك بمملوكه، ومملوكه به.
وامتحن الرجل بامرأته، وامرأته به.
وامتحن الرجال بالنساء، والنساء بالرجال.
والمؤمنين بالكفار، والكفار بالمؤمنين.
وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم، وامتحن المأمورين بهم.
ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم من أتباع الرسل؛ فتنة لأغنيائهم ورؤسائهم، امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل، وقالوا:" لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ" سورة الأحقاف من الآية 11، هَؤُلَاءِ، وقالوا لنوح عليه السلام:"أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ" سورة الشعراء من الآية 111.
قال تعالى:"وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا" سورة الأنعام من الآية 53، فإذا رأى الشريفُ الرئيسُ المسكينَ الذليلَ قد سبقه إلى الإيمان ومتابعة الرسول حمى وأنف أن يسلم فيكون مثله وقال: أُسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حد سواء....." إلخ.
قلت: فمما ذكره رحمه الله من أنواع الامتحان: امتحان المؤمنين بأعدائهم من الكافرين المشركين، والحاقدين المتربصين، الذين يعادونهم، ويتسلطون عليهم، ويحاولون النكاية بهم، بل يحاولون استئصالهم والقضاء عليهم.
كما يقع في هذه الأيام من تسلط أعداء الملّة والدّين، وأولياء الكافرين والمشركين، بل أولياء سائر الشياطين من الأنس والجن، من لقبوا بلقب زعيمهم ومؤسس نحلتهم وطائفتهم، أقصد الحوثيين المجرمين، الذين يعتدون على إخواننا اليمنيين _ من أهل صعدة ودماج _ حفظ الله أهلها من شرورهم، ورد كيد أعدائهم _ من الحوثيين وغيرهم _ في نحورهم.
فإذا عُلم أن الابتلاء واقع، ما له من دافع، فيجب على كل مبتلى من المسلمين أن يعلم ما هو الواجب عليه عند وقوعه، وما هو المطلوب منه عند حلوله؟ وهذا هو الذي أردت بيانه، وتذكير إخواننا المبتلين به، من باب المواساة بما نقدر عليه من النصيحة والتذكير، إذا لم يكن لنا إسهام في الغزو والنفير.
فأقول: إن الواجب على من ابتلاه الله بنوع من أنواع البلاء: الصبر، فليس لمن قد فُتِنَ بفتنةٍ دواءٌ مثل الصبر ، ولهذا أشار الله إليه، ونبه عليه، بعد أن ذكر سبحانه وتعالى ما قدره من ابتلاء بعض الناس ببعض:"وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)" سورة الفرقان.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ج 2 ص 883 وما بعدها:
قال الله تعالى:"إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)" سورة المؤمنون؛ فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم، كما قال تعالى:"وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ" سورة الفرقان من الآية 20.
قال الزجاج: أي: أتصبرون على البلاء، فقد عرفتم ما وجد الصابرون.
قلت: قرن الله سبحانه الفتنةَ بالصبر ههنا، وفي قوله:"ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا" سورة النحل من الآية 110، فليس لمن قد فُتن بفتنةٍ دواءٌ مثلُ الصبر، فإن صَبَرَ كانت الفتنةُ مُمَحِّصَةً له، ومُخَلِّصَةً من الذنوب، كَمَا يُخَلِّصُ الكِيرُ خَبَثَ الذَهَبِ وَالفِضَّة.
فالفتنةُ كيرُ القُلُوبِ، وَمَحَكُّ الإيمانِ، وبها يَتَبَيَّنُ الصادق من الكاذب.
قال تعالى:" وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)" سورة العنكبوت.
فالفتنةُ قَسَمت النَّاسَ إلى صادقٍ وكاذبٍ، ومؤمن ومنافق، وَطَيِّبٍ وخبيث، فمن صبر عليها؛ كانت رحمةً في حقه، ونجا بصبره من فتنةٍ أعظم منها، ومن لم يصبر عليها؛ وقع في فتنة أشد منها.
فالفتنةُ لا بدَّ منها في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:"يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)" سورة الذاريات، فالنَّارُ فتنةُ من لم يصبر على فِتنةِ الدنيا، قال تعالى في شجرة الزَّقّوم:"إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)" سورة الصافات.....
والكافر مفتون بالمؤمن في الدنيا، كما أن المؤمن مفتون به، ولهذا سأل المؤمنون ربّهم أن لا يجعلهم فتنةً للذين كفروا، كما قال الحنفاء:"إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)" سورة الممتحنة من الآية 4 والآية 5، وقال أصحاب موسى عليه السلام:"فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)" سورة يونس.
قال مجاهد: المعنى لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك؛ فيقولوا: لو كان هؤلاء على الحق؛ ما أصابهم هذا.
وقال الزجاج: معناه: لا تظهرهم علينا؛ فيظنوا أنهم على حق، فيفتنوا بذلك.
وقال الفراء: لا تظهر علينا الكفار؛ فيروا أنهم على حق، وأنَّا على باطل.
وقال مقاتل: لا تُقَتِّر علينا الرّزق وتبسطه عليهم؛ فيكون ذلك فتنة لهم.
وقد أخبر الله سبحانه أنه قد فتن كلا من الفريقين بالفريق الآخر فقال:"وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا" فقال الله تعالى:"أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)" سورة الأنعام..." انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
- فإذا علمت أن الصبر لا بد منه لمن افتتن وامتحن فاعلم أن الصبر على البلاء يهونه معرفة أمور:

الأمر الأول: معرفة فضل الصبر

- قال الإمام ابن القيم رحمه الله في عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 129 وما بعدها :
قال الإمام أحمد رحمه الله: ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعاً.انتهى.
ونحن نذكر الأنواع التي سيق فيها الصبر، وهي عدة أنواع:
أحدها: الأمر به كقوله:"وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ" سورة النحل من الآية 127، "وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ" سورة الطور من الآية 48 .
الثاني: النهي عما يضاده كقوله:"وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ" سورة الأحقاف من الآية 35، وقوله:"وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا" سورة آل عمران من الآية 139، وقوله:"وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ" سورة القلم من الآية 48.
وبالجملة فكل ما نهي عنه فإنه يضاد الصبر المأمور به.
الثالث: تعليق الفلاح به كقوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)" سورة آل عمران؛ فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور.
الرابع: الإخبار عن مضاعفة أجر الصابر على غيره، كقوله:"إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" سورة الزمر من الآية 10، قال سليمان بن القاسم: كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر، قال الله تعالى:"إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" سورة الزمر من الآية 10، قال: كالماء المنهمر.
الخامس: تعليق الإمامة في الدين به وباليقين، قال الله تعالى:"وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)" سورة السجدة، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
السادس: ظفرهم بمعية الله سبحانه لهم، قال تعالى:"إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" سورة البقرة من الآية 153، قال أبو علي الدقاق: فاز الصابرون بعزِّ الدارين؛ لأنهم نالوا من الله معيَّتَه.
السابع: أنه جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم، وهي: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إيّاهم، قال تعالى:"وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)" سورة البقرة: 155- 157، وقال بعض السلف _ وقد عزِّي على مصيبة نالته _ فقال:"مالي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها" .
الثامن: أنه سبحانه جعل الصبر عوناً وعدّة وأمر بالاستعانة به، فقال:"وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ" سورة البقرة من الآية 45، فمن لا صبر له لا عون له.
التاسع: أنه سبحانه علّق النصر بالصبر والتقوى، فقال تعالى:"بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)" سورة آل عمران. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"واعلم أن النصر مع الصبر" .
العاشر: أنه سبحانه جعل الصبر والتقوى جُنَّة عظيمة من كيد العدو ومكره، فما استجن العبدُ من ذلك بجنَّةٍ أعظم منهما، فقال تعالى:" وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا " سورة آل عمران من الآية 120.
الحادي عشر: أنه سبحانه أخبر أن ملائكتَه تُسلِّمُ عليهم في الجَنَّةِ بصبرهم كما قال:"وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)" سورة الرعد: 23- 24.
الثاني عشر: أنه سبحانه أباح لهم أن يعاقبوا على ما عوقبوا به، ثم أقسم قسماً مؤكداً غاية التوكيد أن صبرهم خير لهم، فقال:"وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)" سورة النحل، فتأمل هذا التأكيدَ بالقسمِ المدلولِ عليه بالواو ثم باللام بعده ثم باللام التي في الجواب.
الثالث عشر: أنه سبحانه رتّب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح، فقال:"إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)" سورة هود.
وهؤلاء ثنية الله من نوع الإنسان المذموم الموصوف باليأس والكفر عند المصيبة، والفرح والفخر عند النّعمة، ولا خلاص من هذا الذم إلا بالصبر والعمل الصالح، كما لا تُنال المغفرة والأجر الكبير إلا بهما.
الرابع عشر: أنه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور، أي: مما يعزم عليه من الأمور التي إنما يعزم على أجلّها وأشرفها، فقال:"وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)" سورة الشورى، وقال لقمان لابنه:"وَأمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" سورة لقمان من الآية 17.
الخامس عشر: أنه سُبْحَانَه وعدَ المؤمنين بالنصر والظفر، وهي كلمتُه التي سبقت لهم، وهي الكلمةُ الحسنى، وأخبر أنه إنما أنالهم ذلك بالصبر، فقال تعالى:"وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا" سورة الأعراف من الآية 137.
السادس عشر: أنه سبحانه علّق محبته بالصبر، وجعلها لأهله، فقال:"وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)" سورة آل عمران.
السابع عشر: أنه سبحانه أخبر عن خصال الخير أنه لا يلقّاها إلا الصابرون في موضعين من كتابه:
في سورة القصص في قصة قارون، وأن الذين أوتوا العلم قالوا للذين تَمَنَّوا مثل ما أوتي:"وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ" سورة القصص من الآية 80.
وفي سورة حم السجدة، حيث أمر العبد أن يدفع بالتي هي أحسن، فإذا فعل ذلك صار الذي بينه وبينه عداوة كأنه حبيب قريب ثم قال:"وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)" سورة فصلت.
الثامن عشر: أنه سبحانه أخبر أنه إنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبَّار الشكور، فقال تعالى:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)" سورة إبراهيم.
وقال تعالى في لقمان:"أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)" سورة لقمان.
وقال تعالى في قصة سبأ:"فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ" سورة سبأ من الآية 19.
وقال تعالى:" وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)" سورة الشورى.
فهذه أربع مواضع في القرآن تدل على أن آيات الرب إنما ينتفع بها أهل الصبر والشكر.
التاسع عشر: أنه أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره، فقال:"إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" سورة ص من الآية 44، فأطلق عليه قوله:"نِعْمَ الْعَبْدُ" بكونه وجده صابراً، وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلى فإنه بئس العبد.
العشرون: أنه سبحانه حكم بالخسران حكماً عاماً على كل من لم يؤمن، ولم يكن من أهل الحق والصبر، وهذا يدل على أنه لا رابح سواهم فقال تعالى:"وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)" سورة العصر. ولهذا قال الشافعي: لو فكر الناس كلهم في هذه الآية لوسعتهم.
وذلك أن العبد كماله في تكميل قوّتيه: قوة العلم وقوة العمل، وهما الإيمان والعمل الصالح. وكما هو محتاج إلى تكميل نفسه، فهو محتاج إلى تكميل غيره، وهو التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وآخِيَةُ ذلك وقاعدته وساقه الذي يقوم عليه إنما هو الصبر.
الحادي والعشرون: أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الذين قامت بهم هاتان الخصلتان، ووصوا بهما غيرهم، فقال تعالى:"ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)" سورة البلد.
وهذا حصر لأصحاب الميمنة فيمن قام به هذان الوصفان، والناس بالنسبة إليهما أربعة أقسام: هؤلاء خير الأقسام، وشرهم من لا صبر له ولا رحمة فيه، ويليه من له صبر ولا رحمة عنده، ويليه القسم الرابع وهو من له رحمة ورقة ولكن لا صبر له.
الثاني والعشرون: أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلِّها: فقرنه بالصلاة، كقوله:"وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ" سورة البقرة من الآية 45. وقرنه بالأعمال الصالحة عموماً، كقوله:"إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" سورة هود من الآية 11. وجعله قرين التقوى، كقوله:"إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ" سورة يوسف من الآية 90. وجعله قرين الشكر، كقوله:"إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ" سورة إبراهيم من الآية 5. وجعله قرين الحق، كقوله:"وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" سورة العصر من الآية 3. وجعله قرين المرحمة، كقوله تعالى:"وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ" سورة البلد من الآية 17. وجعله قرين اليقين، كقوله:"لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ" سورة السجدة من الآية 24. وجعله قرين الصدق، كقوله:"وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ" سورة الأحزاب من الآية 35.
وجعله سببَ محبته ومعيَته ونصره وعونه وحسن جزائه، ويكفي بعض ذلك شرفاً وفضلاً والله أعلم.

الأمر الثاني: معرفة عظم جزاء البلاء

- عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني في الصحيحة رقم 146.
- عن أبي عبيدة بن حذيفة عن عمته فاطمة أنها قالت:" أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعوده في نسائه، فإذا سقاء معلق نحوه يقطر ماؤه عليه من شدة ما يجد من حر الحمى، قلنا: يا رسول الله لو دعوت الله فشفاك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" رواه أحمد وغيره وحسنه الألباني في الصحيحة رقم 145 ثم قال رحمه الله تعليقا على هذا الحديث: وفي هذه الأحاديث دلالة صريحة على أن المؤمن كلما كان أقوى إيمانا، ازداد ابتلاء وامتحانا، والعكس بالعكس، ففيها رد على ضعفاء العقول والأحلام الذين يظنون أن المؤمن إذا أصيب ببلاء كالحبس أو الطرد أو الإقالة من الوظيفة ونحوها أن ذلك دليل على أن المؤمن غير مرضي عند الله تعالى! وهو ظن باطل، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل البشر، كان أشد الناس حتى الأنبياء بلاء، فالبلاء غالبا دليل خير، وليس نذير شر، كما يدل على ذلك أيضا الحديث الآتي:" إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط".
- عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك عليه قطيفة فوضع يده فوق القطيفة، فقال: ما أشد حماك يا رسول الله، قال:" إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر"، ثم قال: يا رسول الله من أشد الناس بلاء؟ قال:" الأنبياء"، قال: ثم من؟، قال:" العلماء"، قال: ثم من؟، قال:" الصالحون كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ولأحدهم كان أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء" صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم 3403 وقال: رواه ابن ماجة وابن أبي الدنيا في "كتاب المرض والكفارات" والحاكم واللفظ له وقال: صحيح على شرط مسلم وله شواهد كثيرة.
- عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يود أهلُ العافيةِ يوم القيامة حين يعطى أهلُ البلاءِ الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت بالمقاريض" رواه الترمذي وغيره وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم 3404.
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلِّغه إيّاها" رواه أبو يعلى وابن حبان وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم 3408.
- عن محمد بن خالد عن أبيه عن جده وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده أو ماله أو في ولده ثم صبر على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل" رواه أحمد وغيره وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم 3409.
- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" رواه البخاري تحت بَاب مَا جَاءَ فِي كَفَّارَةِ الْمَرَضِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } من كِتَاب الْمَرْضَى.

الأمر الثالث: معرفة أصول نافعة جامعة متعلقة بنزول الشرور والمحن بالمؤمنين

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان ج 2 من: ص 920 إلى ص 929 :
وتمام الكلام في هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة:
- الأول:أن ما يصيبُ المؤمنينَ - من الشرورِ والمحنِ والأذى -: دونَ ما يصيبُ الكفارَ، والواقعُ شاهدٌ بذلك، وكذلك ما يصيبُ الأبرارَ في هذه الدنيا: دون ما يصيب الفجارَ والفساقَ والظلمة بكثير.
- الأصل الثاني: أن ما يصيبُ المؤمنين في الله تعالى: مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا فمعولهم على الصبر والاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء ومؤنته، فإنهم كلما شاهدوا العوض، هان عليهم تحمل المشاقّ والبلاء، والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله:"وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)" (النساء: 104).
فاشتركوا في الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزُّلْفَى من الله تعالى.
- الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أوذي في الله، فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه، ووجود حقائق الإيمان في قلبه، حتى يُحْمَلَ عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره، لعجز عن حمله، وهذا مِنْ دَفْعِ الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرا من البلاء، وإذا كان لا بد له من شيء منه؛ دفع عنه ثقله ومؤنته ومشقته وتبعته .
- الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه، كان أذى المحب في رضى محبوبه: مستحلى غير مسخوط، والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالك
فما الظنّ بمحبة المحبوب الأعلى، الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له، وإحسان إليه ؟.
- الأصل الخامس: أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق - من العز والنصر والجاه -: دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان، وإن كان في الظاهر بخلافه.
قال الحسن رحمه الله: إنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم النعال، إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلاّ أن يذلّ من عصاه .
- الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة.
ومعلوم: أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم:"والذي نفسي بيده؛ لا يقضي الله للمؤمن: قضاء؛ إلا كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيرا له" .
فهذا الابتلاء والامتحان: من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يبتلى المرء على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلابة؛ شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقة؛ خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن، حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة.
- الأصل السابع: أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار - من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه له في بعض الأحيان- : أمر لازم، لابدَّ منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار - حتى للأطفال، والبهائم -؛ لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين.
فلو تجردّ الخير في هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم: لكان ذلك عالما غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشرّ، والألم واللذة، والنافع والضار.
وإنما يكون تخليص هذا من هذا وتمييزه: في دار أخرى غير هذه الدار، كما قال تعالى:" لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)" سورة الأنفال.
- الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين - بغلبة عدوهم لهم، وقهرهم، وكسرهم لهم أحيانا -: فيه حِكَمٌ عظيمة، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل:
فمنها: استخراج عبوديّتهم وذلّهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائما منصورين قاهرين غالبين؛ لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوهم؛ لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة؛ فاقتضت حكمةُ أحكمِ الحاكمين: أن صرّفهم بين غلبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلبوا؛ تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غَلبوا؛ أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوّه، ونصروا أولياءه.
ومنها: أنهم لو كانوا دائما منصورين، غالبين، قاهرين: لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول؛ فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما: لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة، وعليهم تارة، فيتميّز بذلك بين من يريد اللهَ ورسولَه، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السّراء والضّراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال، لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدانُ إلاّ بالحرّ والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنصب، وأضدادها، فتلك المحنُ والبلايا شرطٌ في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنعٌ.
ومنها: أن امتحانهم - بإدالة عدوهم عليهم -: يمحِّصهم، ويخلِّصُهُم، ويُهذِّبهم؛ كما قال تعالى في حكمةِ إدالةِ الكفار على المؤمنين يوم أحد:" وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)" ( الآيات من سورة آل عمران).
فذكر سبحانه أنواعا من الحكم التي لأجلها أديل عليهم الكفار، بعد أن ثبَّتَهم وقَوَّاهم، وبَشَّرهم بأنهم الأَعْلَوْنَ بما أعطوا من الإيمان، وسَلَّاهم بأنهم - وإن مسَّهم القَرْحُ في طاعته وطاعة رسوله -؛ فقد مَسَّ أعداءهم القَرْحُ في عداوته وعداوة رسوله .
ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولا بين الناس، فيصيب كُلًّا منها؛ كالأرزاق والآجال.
ثم أخبرهم أنّه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كَونه وبعد كونه، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعا.
ثم أخبر أنه يحب أن يتَّخذ منهم شهداء؛ فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة؛ لا تنال إلا بالقتل في سبيله، فلو لا إدالة العدوّ؛ لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد.
ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين؛ أي: تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه، واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو، وأنه - مع ذلك - يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم، وطغيانهم، وعدوانهم إذا انتصروا.
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنَّهم دخولَ الجنة بغير جهاد ولا صبر، وأنَّ حكمته تأبى ذلك، فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائما منصورين غالبين؛ لما جاهدهم أحد، ولما ابْتُلُوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم.
فهذا بعض حِكَمِهِ في نصرة عدوهم عليهم، وإدالته في بعض الأحيان.
الأصل التاسع:أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السموات والأرض، وخلق الموت والحياة، وزيَّن الأرض بما عليها: لابتلاء عباده، وامتحانهم؛ ليعلم من يريده، ويريد ما عنده، ممن يريد الدنيا وزينتها.
قال تعالى:" وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"(هود: 7).
وقال:" إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)" ( الكهف : 77 ).
وقال:" الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)" ( الملك : 2 ).
وقال تعالى:" وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)" ( الأنبياء : 35).
وقال تعالى:" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)" ( محمد : 31 ).
وقال تعالى:" الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)" ( الآيات من سورة العنكبوت ).
- فالناس - إذا أرسل إليهم الرسل - بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنت، أو لا يؤمن، بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا.
فأما من قال: آمنت؛ فلابد أن يمتحنه الرب ويبتليه، ليتبين هل هو صادق في قوله: آمنت، أو كاذب؟.
فإن كان كاذبا؛ رجع على عقبيه، وفَرَّ من الامتحان، كما يَفِّرُ من عذاب الله، وإن كان صادقا؛ ثبت على قوله، ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانا على إيمانه.
قال تعالى:" وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)" ( الأحزاب: 22 ).
وأما من لم يؤمن: فإنه يمتحن في الآخرة بالعذاب، ويفتن به، وهي أعظم المحنتين، هذا إن سَلِمَ من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها، وعقوباتها التي أوقعها الله بمن لم يَتَّبِعْ رسله وعصاهم، فلابدَّ من المحنة في هذه الدار، وفي البرزخ، وفي القيامة - لكل أحد -.
ولكن المؤمن أخفُّ محنةً وأسهلُ بليَّةً، فإن الله يَدْفَعُ عنه بالإيمان، ويحمل عنه به، ويرزقه - من الصبر والثبات والرِّضا والتسليم - ما يُهَوِّنُ به عليه محنته.
وأما الكافر والمنافق والفاجر؛ فتشتدُّ محنتُه وبَلِيَّتُهُ وتدوم، فمحنةُ المؤمن خفيفةٌ منقطعة، ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدةٌ متَّصلة.
فلا بدّ من حصول الألم والمحنة لكل نفس: آمنت أو كفرت؛ لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة، والكافر والمنافق والفاجر تحصل له اللذة والنعيم ابتداء، ثم يصير إلى الألم، فلا يطمع أحد أن يخلص من المحنة والألم البتَّة.
يوضحه:
- الأصل العاشر: وهو أن الإنسان مدني بالطبع، لا بدَّ له أن يعيش مع النّاس، والنّاس لهم إرادات، وتصوّرات، واعتقادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها؛ فإن لم يوافقهم آذوه وعذّبوه ، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر؛ فلا بدّ له من الناس ومخالطتهم، ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم، وفي الموافقة ألم وعذاب - إذا كانت على باطل -، وفي المخالفة ألم وعذاب - إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم -؛ ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهلُ وأيسرُ من الألم المرتَّبِ على موافقتهم.
واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم، أو فاحشة، أو شهادة زور، أو المعاونة على محرَّم، فإن لم يوافقهم؛ آذوهُ وظلمُوهُ وعادَوهُ، ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتَّقَى، وإن وافقهم - فرارًا من ألم المخالفة -؛ أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فَرَّ منه، والغالب أنهم يسلطون عليه، فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم.
فمعرفة هذا ومراعاته: من أنفع ما للعبد، فألم يسير - يعقب لذة عظيمة دائمة -: أولى بالاحتمال من لذَّة يسيرة تُعقِبُ ألما عظيما دائما، والتوفيق بيد الله.
- الأصل الحادي عشر: أنَّ البلاءَ الذي يصيبُ العبدَ في الله: لا يخرج عن أربعة أقسام؛ فإنه إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يحب:
والذي في نفسه قد يكون بتلفها تارة، وبتألمها بدون التلف؛ فهذا مجموع ما يبتلى به العبد في الله.
وأشد هذه الأقسام: المصيبة في النفس.
ومن المعلوم أن الخلق كلّهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يُسْتَشْهَدَ في الله، وتلك أشرفُ المَوْتاتِ وأسهلُها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القَرْصَةِ ، فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم.
فمن عدَّ مصيبة هذا القتلِ أعظم من مصيبة الموت على الفراش؛ فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الموتات، وأفضلها، وأعلاها؛ ولكن الفارّ يظن أنه – بفراره - يطول عمره، فيتمتع بالعيش! وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن، حيث يقول:" قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)" ( الأحزاب : 16 ).
فأخبر الله: أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلا؛ إذ لا بدّ له من الموت، فيفوته - بهذا القليل - ما هو خير منه وأنفع - من حياة الشهيد عند ربه -.
ثم قال :" قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)" (الأحزاب : 17).
فأخبر سبحانه أن العبدَ لا يعصمه أحد من الله، إن أراد به سوءًا غير الموت الذي فرَّ منه، فإنه فرَّ من الموت لمَّا كان يسوؤُه، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءًا غيرَه، لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يفرُّ ممَّا يسوؤُه من القتل في سبيل الله، فيقع فيما يسوؤُهُ مما هو أعظم منه.
وإذا كان هذا في مصيبة النفس: فالأمر هكذا في مصيبة المال والعرض والبدن؛ فإنَّ من بخلَ بماله أن يُنْفِقَه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته، سلبَه الله إيّاه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرّته عاجلاً وآجلا! وإن حبسه وادَّخره؛ منعه التَّمَتُّعَ به، ونقله إلى غيره، فيكون له مهنأُهُ، وعلى مُخَلِّفِه وزرُه!
وكذلك من رَفَّهَ بدنَه وعرضه، وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله؛ أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله ومرضاته، وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب.
قال أبو حازم: لَمَا يلقى الذي لا يَتَّقِي اللهَ من معالجة الخلق: أعظم مما يلقى الذي يتّقى الله من معالجة التّقوى.
واعتبر ذلك بحال إبليس؛ فإنه امتنع من السجود لأدم؛ فرارا أن يخضع له ويَذِلَّ، وطلب إعزاز نفسه، فصيره الله أذل الأذلين، وجعله خادما لأهل الفسوق والفجور من ذريَّتِه، فلم يرض بالسجود له، ورضي أن يخدم - هو وبنوه - فُسَّاقَ ذُرِيَّتِه.
وكذلك عُبَّادَ الأصنام؛ أنفوا أن يتَّبعوا رسولا من البشر، وأن يعبدوا إلها واحدا سبحانه، ورضوا أن يعبدوا إِلَهًا من الأحجار. وكذلك كل من امتنع أن يَذِلّ لله، أو يبذل مالَه في مرضاته، أو يتعب نفسه وبدنه في طاعته؛ لا بدَّ أن يَذِلَّ لمن لا يسوى، ويبذل له مالَهُ، ويُتْعِبَ نَفْسَهُ وَبَدَنَهُ في طاعته ومرضاته؛ عقوبة له، كما قال بعض السلف: من امتنع أن يمشي مع أخيه خطوات في حاجته، أمشاه الله تعالى أكثر منها في غير طاعته" انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
- وأخيرا هذه رسالة لكل من ساءه حال إخوانه من المبتلين في اليمن وغيرها:
إذا كنت _ أيها المستاء مما يقع لإخواننا في اليمن وغيرها _ لا تستطيع إعانتهم بمالك ونفسك، فلا أقل من أن تعينهم بدعائك وسؤالك، والذي هو من أيسر الأمور وأسهلها عليك، وهذا لا يعجز عنه إلا عاجز فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام" رواه الطبراني وغيره وصححه العلامة الألباني في الصحيحة رقم 601.
ثم اعلم رحمك الله أن الدعاء من أعظم الأسباب التي يُحَصَّلُ بها الخير ويدرأ بها الشر، ومن الخير الذي يُحصَّل بالدعاء: الأمن والرخاء، والنصر على الأعداء.
وبخاصة إذا كان الدعاء من قلب رجل ضعيف مخلص لله عز وجل، فإنه ينفع غاية النفع، وفي هذا أحاديث:
- فعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ" رواه البخاري رحمه الله تحت بَاب مَنْ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِي الْحَرْبِ من كتاب الجهاد.
- وعن أَبي الدَّرداءِ عُويمر - رضي الله عنه -، قَالَ: سمعتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول:" ابْغُوني الضُّعَفَاء، فَإنَّمَا تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ، بِضُعَفَائِكُمْ" رواه أَبُو داود وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة رقم 779 وفي غيرها.
وقال العلامة الألباني رحمه الله عند تخريجه للحديث المتقدم: واعلم أنه قد جاء تفسير النصر المذكور في الحديث، وأنه ليس نصرا بذوات الصالحين، وإنما هو بدعائهم وإخلاصهم وذلك في الحديث الآتي:" إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم"....
- عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ:" إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاَتِهِمْ وَإِخْلاَصِهِمْ" رواه النسائي تحت باب الاستنصار بالضعيف من كتاب الجهاد رقم 3187 وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح سنن النسائي.
فالله الله في الدعاء لإخوانكم، فإنه من أنفع ما يأتيهم من قبلكم، فابذلوا فيه جهدكم، فهو لا يكلفكم إلا الرجاء بقلوبكم، وتحريك ألسنتكم.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنتَ اللهُ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ؛ أَن تُثَبّتَ إِخْوَانَنَا المُبْتَلِينَ، وَتَحْقنَ دِمَائهُم، وَتُحصّنَ أَعرَاضهُم.
اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهزِم الحُوثِيّين وَانْصُرْ إِخْوَاننَا عَلَيْهِمْ.
اللَّهُمَّ أَلْقِي الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِم، وَشَتِّتْ صُفُوفَهُم، وردَّ كَيدَهُم فِي نُحُورِهِم، وَزَلزِل الأَرْضَ مِن تَحْتِ أَقْدَامِهِم، وَدَمِّرهُم وَدَمِّر مَن يُنَاصِرُهُم وَيُشايعُهُم.
اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وكتبه:
العبد الفقير إلى الله العلي القدير
عبد الصمد سليمان
يوم: الأربعاء: 14 صفر 1435 هـ


التعديل الأخير تم بواسطة أبو معاذ محمد مرابط ; 19 Dec 2013 الساعة 09:02 AM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 19 Dec 2013, 09:10 AM
أبو معاذ محمد مرابط
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

أهلا بك أخي عبد الصمد

سعدنا بتواجدك معنا فبأمثالك يرتفع شأن هذا المنتدى أكثر فأكثر

وبارك الله فيك على أول مشاركة مباركة مفيدة

وفقك الله وسددك خطاك
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 20 Dec 2013, 10:14 AM
عبد المالك البودواوي عبد المالك البودواوي غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 123
افتراضي

بارك الله فيك أخي
نسأل الله أن يفرج كرب الإخوة في اليمن ويحقن دمائهم وان شاء الله يصبروا على هذا البلاء ويجاهدوا هؤلاء الانذال بالقلم والسلاح
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
منهج, مميز, دماج, دعوة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013