منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 05 Apr 2017, 11:43 PM
مراد قرازة مراد قرازة غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2014
الدولة: الجزائر ولاية أم البواقي
المشاركات: 438
افتراضي مذهب الأشاعرة في التعليل بين أصول الدّين وأصول الفقه



إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾،
﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً﴾،
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً﴾
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسنَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد :

فكثيرا ما كان يشغلني، ويشغل العديد من طلبة العلم، ما نعلمه عن الأشاعرة من نفيهم للتّعليل في أفعال الله عزّ وجلّ وحكمه وأمره، ثمّ ما نراه منهم في كتب الفقه وأصوله من اعتبار لهذه العلل، ولقد وجدت في نفسي همّة للبحث في كتب أهل العلم عن سرّ هذا التّناقض، وكيفية توجيهه وفهمه، فجمعت بعض الوجوه التي ذكروها، ولي طمع في أن يفيدني إخواني بأوجه أخرى لم أطّلع عليها عسى أن نستفيد، ويستفيد إخواننا ممن يقرأ هذا المقال –والله الموفق-

أ- موقف الأشاعرة العقدي:

من المعلوم عند عامة طلبة العلم أنّ مذهب الأشاعرة في الحكمة والتعليل هو نفيها عن أفعال الله ومخلوقاته وأوامره، وأنه يفعل ويأمر ويخلق لمحض المشيئة، لا لعلةّ ولا لغاية ولا لمصلحة.

قال الشهرستاني :" إن مذهب أهل الحق – يعني مذهب الأشاعرة – أن الله تعالى خلق العالم بما فيه من الجواهر والأغراض وأصناف الخلق والأنواع لا لعلة حاملة له على الفعل، سواء قدرت تلك العلة نافعة له أو غير نافعة، إذ ليس يقبل النفع والضر، أو قدرت تلك العلة نافعة للخلق، إذ ليس يبعثه على الفعل باعث، فلا غرض له في أفعاله، ولا حامل، بل علة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه" [ نهاية الإقدام في علم الكلام، للشهرستاني، ص 399.]

وقال الآمدي : "القاعدة الثانية في نفي الغرض والمقصود عن أفعال واجب الوجود: مذهب أهل الحق أن الباري تعالى خلق العالم وأبدعه لا لغاية يستند الإبداع إليها، ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها، بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع وضر لم يكن لغرض قاده إليه، ولا لمقصود أوجب الفعل بل الخلق، وأن لا خلق له جائزان وهما بالنسبة إليه سيان"[غاية المرام في علم الكلام، لسيف الدين الآمدي، ص 196]
وقال الرازي:" المسألة السادسة والعشرون : في أنه لا يجوز أن تكون أفعاله تعالى معللة بعلة البتة"[ الأربعين في أصول الدين ص249]

وقال الباقلاّني : "إن الدواعي المزعجات والخواطر والأغراض إنما تكون وتجوز على ذي الحاجة الذي يصح منه اجتلاب المنافع ودفع الضار، وذلك أمر لا يجوز إلا على من جازت عليه الآلام واللذات وميل الطبع والنفور، وكل طلك دليل على حدث من صف به، وحاجاته إليه، وهو منتف عن القديم تعالى، وكذلك الأسباب المزعجة المحركة الباعثة على الأفعال إنما تحرك الغافل وتنبه الجاهل وتخطر للخائف والراجي الذي لا يخاف الاستضرار بترك الأفعال ويرجو بإيقاعها الصلاح والانتفاع والله تعالى عن ذلك لأنه عالم بما يكون قبل أن يكون وبما تؤول إليه عواقب الأمور ويعلم السر وأخفى..." [ تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني، ص 50]

وقال : " إن العلل لا تجوز عليه لأنها مقصورة على جر المنافع ودفع المضار، ويدل على ذلك أيضا أنه لو كان تعالى فاعلا للعالم لعلة أوجبته لم تخل تلك العلة من أن تكون قديمة أو محدثة، فإن كانت قديمة أوجب قدم العالم لقدم علته، وألا يكون بين العلة القديمة وبين وجود العالم إلا مقدار زمان الإيجاد، وذلك يوجب حدوث القديم لأنه لم يكن قبل إلا بزمان أو أزمنة محدودة وجب حدوثه، لا فائدة توقيت وجود الشيء هو أنه كان معدوما تلك الحال، فلما لم يجز حدوث القديم لم يجز أن يكون العالم محدثا لعلة قديمة، وإن كانت تلك العلة محدثة فلا يخلو محدثها أن يكون أحدثها لعلة أو لا لعلة فإن كانت محدثة لعلة وعلتها أيضا محدثة وجب أن تكون علة العلة محدثة لعلة أخرى وذلك أبدا إلى غير غاية وذلك يحيل وجود العالم جملة لتعلقه بما يستحيل فعله وخروجه إلى الوجود...[ تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني، ص 50]
والنقول في مثل هذا كثيرة لا تكاد تحصى

ب- الموقف الأصولي :

وبخلاف موقف الأشاعرة العقدي من التّعليل فإنّهم في كتب الفقه وأصوله مثبتون له، قائلون بالقياس معتبرون لعلل الأحكام ومقاصد التشريع.

قال الآمدي في الإحكام : " أئمة الفقه مجمعة أن أحكام الله تعالى لا تخلو من حكمة ومقصود " [الإحكام: 3/ 411.]

وقال : " المقصود من شرع الحكم إنما هو تحصيل المصلحة أو دفع المضرة، فذلك إما أن يكون في الدنيا أو في الآخرة " [المصدر نفسه ص3/760]

وقال: " المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين " [المصدر نفسه ص3/765]

وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن : " لا خلاف بين الفقهاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية" [تفسير القرطبي ص2/64]

ويقول العز بن عبد السلام: "إن الشريعة كلها مصالح: إما درء مفاسد وإما جلب مصالح" [قواعد الأحكام ص1/9]

قال الشاطبي: "المعلوم من الشريعة، أنها شرعت لمصالح العباد، فالتكليف كله، إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أولهما معا" [الموافقات 1/199].

ويقول ابن الحاجب: "الأحكام شُرعت لمصالح العباد بدليل إجماع الأمّة" [ منتهى السُّول والأمل لابن الحاجب ص184].

محاولات التوفيق بين الموقفين:

ولقد حاول الدارسون لموضوع التعليل رفع هذا الاشكال الذي وقع فيه الأشاعرة، وذلك بمحاولة تفسيره وكشف حقيقته قدر الإمكان، بإيراد جملة من التفسيرات منها:

الأوّل : أنّ حكم المتكلّمين صوري وأنّ الفرق بين قول الأشاعرة وغيرهم لفظي :

ومعنى ذلك أنّ الأشاعرة مقرّون بالتّعليل، غير أنّهم ينكرون تسميته بالغرض، وممن قال بهذا محمد الطاهر بن عاشور في كتابه "التّحرير والتّنوير"، قال: " وفي هذا تعليل للخلق وبيان لثمرته وفائدته فتثار عنه مسألة تعليل أفعال الله تعالى وتعلقها بالأغراض والمسألة مختلف فيها بين المتكلمين اختلافا يشبه أن يكون لفظيا فإن جميع المسلمين اتفقوا على أن أفعال الله تعالى ناشئة عن إرادة واختيار وعلى وفق علمه وأن جميعها مشتمل على حكم ومصالح وأن تلك الحكم هي ثمرات لأفعاله تعالى ناشئة عن حصول الفعل فهي لأجل حصولها عند الفعل تثمر غايات، هذا كله لا خلاف فيه وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها أغراضا وعللا غائية أم لا؟ فأثبت ذلك جماعة استدلالا بما ورد من نحو قوله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" [الذاريات:56]، ومنع من ذلك أصحاب الأشعري .."
وقد علّل هذا التّناقض أيضا بكونه مجرّد اطّرادا ومجاراة في المناظرة، قال" ويترجح عندي أن هاته المسألة اقتضاها طرد الأصول في المناظرة، فإن الأشاعرة لما أنكروا وجوب فعل الصلاح والأصلح أورد عليهم المعتزلة أو قدروا هم في أنفسهم أن يورد عليهم أن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لغرض وحكمة ولا تكون الأغراض إلا المصالح فالتزموا أن أفعال الله تعالى لا تناط بالأغراض ولا يعبر عنها بالعلل وينبىء عن هذا أنهم لما ذكروا هذه المسألة ذكروا في أدلتهم الإحسان للغير ورعي المصلحة" [التحرير والتنوير 1/380-381].

وهذا ولا شكّ كلام من لم يعرف أصول الأشاعرة، ولا خبر مذهبهم، ولا عرف شأن هذه المسألة عند المتكلمين قاطبة، فإنّ هذه المسألة متعلّقة بالكثير من أبواب العقيدة، فعليها مبنى القول بالقضاء والقدر، والصفات الاختيارية، والتسلسل ونحوها .....

قال شيخ الإسلام:" هذه المسألة كبيرة من أجَلِّ المسائل الكبار التي تكلم فيها الناس وأعظمها شعوبا وفروعاً، وأكثرها شبهاً ومحارات، فإن لها تعلقاً بصفات الله تعالى وبأسمائه وأفعاله، وأحكامه من الأمر والنهي والوعد والوعيد، وهي داخلة في خلقه وأمره، فكل ما في الوجود متعلق بهذه المسألة، فإن المخلوقات جميعها متعلقة بها وهي متعلقة بالخالق سبحانه وكذلك الشرائع كلها الأمر والنهي والوعد والوعيد متعلقة بها، وهي متعلقة بمسائل القدر والأمر، وبمسائل الصفات والأفعال، وهذه جوامع علوم الناس، فعلم الفقه الذي هو الأمر والنهي متعلق بها.‏

‏‏ وقد تكلم الناس في تعليل الأحكام الشرعية والأمر والنهي، كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل والصلاة والزكاة والصيام والحج، والنهي عن الشرك والكذب والظلم والفواحش، هل أمر بذلك لحكمة ومصلحة وعلة اقتضت ذلك‏؟‏ أم ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة‏؟‏ وهل علل الشرع بمعنى الداعي والباعث أو بمعنى الأمارة والعلامة‏؟‏ وهل يسوغ في الحكمة أن ينهى الله عن التوحيد والصدق والعدل، ويأمر بالشرك والكذب والظلم أم لا ‏؟‏
وتكلم الناس في تنزيه الله تعالى عن الظلم، هل هو منزه عنه مع قدرته عليه‏؟‏ أم الظلم ممتنع لنفسه لا يمكن وقوعه‏؟‏
وتكلموا في محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه، هل هي بمعنى إرادته‏؟‏ أو هي الثواب والعقاب المخلوق‏؟‏ أم هذه صفات أخص من الإرادة‏؟‏
وتنازعوا فيما وقع في الأرض من الكفر والفسوق والعصيان، هل يريده ويحبه ويرضاه كما يريد ويحب سائر ما يحدث‏؟‏ أم هو واقع بدون قدرته ومشيئته، وهو لا يقدر أن يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً‏؟‏ أم هو واقع بقدرته ومشيئته‏؟‏ ولا يكون في ملكه ما لا يريد، وله في جميع خلقه حكمة بالغة، وهو يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يريده الإرادة الدينية المتضمنة لمحبته ورضاه، وإن إرادة الإرادة الكونية التي تتناول ما قدره وقضاه‏.‏
وفروع هذا الأصل كثيرة لا يحتمل هذا الموضع استقصاءها" [جموع فتاوى ابن تيمية , كتاب الإيمان والقدر ص84/4]‏

وبعد كلّ هذا يسوّغ قائل لنفسه أن يقول أنّها مسألة شكلية؟؟؟؟
فهذا والله كلام يكفي في نقضه ذكره –والله المستعان-

الثاني : أنّ العلة باعثة على فعل المكلّف لا لأمر الشّارع :

وهذا القول رواه تاج الدّين السّبكي عن والده وأعجب به أيّما إعجاب ، قال : " وبقي سؤال يورده الشيوخ وهو أن المشتهر عن المتكلمين أن أحكام الله تعالى لا تعلل واشتهر عن الفقهاء التعليل وأن العلة بمعنى الباعث وتوهم كثير منهم منها أنها باعثة للشرع على الحكم كما هو مذهب قد بينا بطلانه فيتناقض كلام الفقهاء وكلام المتكلمين وما زال الشيخ الإمام الوالد والدي - رحمه الله، أطال الله عمره- يستشكل الجمع بين كلاميهما إلى أن جاء ببديع من القول فقال في مختصر لطيف كتبه على هذا السؤال وسماه ورد العلل في فهم العلل لا تناقض بين الكلامين لأن المراد أن العلة باعثة على فعل المكلف مثاله حفظ النفوس فإنه علة باعثة على القصاص الذي هو المكلف المحكوم به من جهة الشرع فحكم الشرع لا علة له ولا باعث عليه لأنه قادر أن يحفظ النفوس بدون ذلك وإنما تعلق أمره بحفظ النفوس وهو مقصود في نفسه وبالقصاص لكونه وسيلة إليه فكلا المقصد والوسيلة مقصود للشارع وأجرى الله تعالى العادة أن القصاص سبب للحفظ فإذا فعل المكلف من السلطان والقاضي وولي الدم القصاص وانقاد إليه القاتل امتثالا لأمر الله به ووسيلة إلى حفظ النفوس كان لهم أجران أجر على القصاص وأجر على حفظ النفوس وكلاهما مأمور به من جهة الله تعالى
أحدهما: بقوله كتب عليكم القصاص
والثاني: إما بالاستنباط وأما بالإيماء في قوله ولكم في القصاص حياة وهكذا يستعمل ذلك في جميع الشريعة ومن هنا يتبين أن كل حكم معقول المعنى فللشارع فيه مقصودان أحدهما ذلك المعنى والثاني الفعل الذي هو طريق إليه وأمر المكلف أن يفعل ذلك الفعل قاصدا به ذلك المعنى فالمعنى باعث له لا للشارع ومن هنا يعلم أن الحكم المعقول المعنى أكثر أجرا من الحكم التعبدي فيه معنى آخر وهو أن النفس لاحظ لها فيه فقد يكون أجر الواحد يعدل الأجرين اللذين في الحكم غير التعبدي ويعرف أيضا أن العلة القاصرة سواء كانت منصوصة أم مستنبطة فيها فائدة وقد ذكر الناس لها فوائد وما ذكرناه فائدة زائدة وهي قصد المكلف فعله لأجلها فيزداد أجره فانظر هذه الفائدة الجليلة واستعمل في كل مسألة ترد عليك هذا الطريق وميز بين المراتب الثلاث وهي حكم الله بالقصاص ونفس القصاص حفظ النفوس وهو باعث على الثاني لا على الأول وكذا حفظ المال بالقطع في السرقة وحفظ العقل باجتناب المسكر فشد يديك بهذا الجواب"[ الإبهاج في شرح المنهاج لتاج الدين السبكي 3/40]

وتكفي حكاية هذا القول في ردّه، فإنّ السّبكي –رحمه الله- ما تكلّم عن غرض الشّارع من الحكم ولا فسّره، بل إنّه تكلّم عن غرض المكلّف، وليس هذا بموضوع للنّقاش، إنّما النّقاش في تعليل خطاب الشّارع، والظاهر من كلامه منعه لا إثباته –والله الموفّق-

الثالث : أنّ بعض الأحكام معلّلة دون غيرها :


ومثل هذا يفهم من كلام شمس الدين الأصفهاني في كتابه شرح المحصول للرازي قال: "ندعي شرعية الأحكام لمصالح العباد ولا ندعي أن جميع أحكام الله تعالى لمصالح العباد وذلك ليس في علم الكلام وندعي إجماع الأمة" [نقلا عن البحر المحيط لبدر الدّين الزّركشي ص 156/7]
ومثل هذا أيضا واضح البطلان، فإنّ ما سبق نقله عن أئمة الأشعرية في أصول الفقه مفاده أن جميع الشّريعة معلّلة لا بعضها، كما أنّ كلامهم في أصول الدّين يقتضي عدم جواز التّعليل مطلقا، لا في بعض الشريعة ولا حتى في مسألة واحدة منها.
أمّا قوله "وذلك ليس في علم الكلام"، فواضح فيه إقراره أنّ هناك تناقضا بين ما هو مقرر في أصول الدّين وما هو معمول به في أصول الفقه.

الرابع: التفريق بين الأحكام والأفعال:

فأفعال الله عزّ وجلّ غير معلّلة، بينما أحكامه معللة، وممن صرّح بهذا بدر الدين الزركشي في كتابه "البحر المحيط" قال :" ونقل ابن الحاجب في الكلام على السبر والتقسيم إجماع الفقهاء على أنه لا بد للحكم من علة واستشكل ذلك بالأصل المشهور أن أفعال الله لا تعلل بالغرض.
قلت : ولا منافاة بينهما لأن الأحكام غير الأفعال"[ البحر المحيط لبدر الدّين الزّركشي ص 156/7]

وهذا أيضا من أوضح الباطل، فإنّ المتكلّمين نفوا الغرض عن الله عزّ وجلّ مطلقا، وبنوا ذلك على شبه يجتمع فيها الحكم والفعل، بل إنّ المدرك لحقيقة مذهبهم يعلم أنّ الحكم والفعل كلاهما سيّان، فهما شيء واحد قديم أزلي، تبعا لقاعدتهم المشهورة في نفي الصفات الاختيارية عن الله عزّ وجل بزعم الحدوث -والله المستعان- .

الخامس: جعل التّعليل في الأصول مجرّد اقتران غير مفهوم المعنى بين الحكم والمصلحة:

وهذا هو الذي قرّره شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- حيث قال: "وهم ـ أي الأشاعرة ـ لا يقولون أنه لا يفعل مصلحة ما، فإن هذا مكابرة، بل يقولون إن ذلك ليس بواجب عليه، وليس بلازم وقوعه، ويقولون إنه لا يفعل شيئا لأجل شيء، وإنما اقترن هذا بهذا لإرادته لكليهما، فهو يفعل أحدهما مع صاحبه، لا به ولا لأجله، والاقتران بينهما مما جرت به عادته، لا لكون أحدهما سببا للأخر، ولا حكمة له ، ويقولون : إنه ليس في القرآن في خلقه وأمره لام تعليل، وقد وافقهم على ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، مع أن أكثر الفقهاء الذين يوافقونهم على هذا في كتب الكلام ، يقولون بضد ذلك في مسائل الفقه والتفسير والحديث وأدلة الفقه ، وكلامهم في أصول الفقه تارة يوافق هؤلاء وتارة يوافق هؤلاء . " [منهاج السّنة النبوية ص1/465]

ومثله قول الرازي المحصول: "إنا لما تأملنا الشرائع وجدنا الأحكام والمصالح متقارنين، لا ينفك أحدهم عن الآخر، وذلك معلوم بعد استقرار أوضاع الشرائع، وإذا كان كذلك، كان العلم بحصول هذا مقتضيا ظن حصول الآخر وبالعكس، من غير أن يكون أحدهما مؤثرا في الآخر وداعيا إليه"[ شرح المحصول ص7/3287]

ولعلّ هذا هو الجواب الأقرب، والتفسير الأرجح لما حواه موقف الأشاعرة من تناقض، لكنّ المتأمّل فيه يعرف بسهولة أنّه تفسير خرج بالعلّة عن معناها، وأفرغها من محتواها، حتى جعل منها مجرّد وصف للمناسبة أو الاستصحاب، فاللّه عزّ وجلّ لم يرد بشرعه جلب نفع ولا دفع ضرّ، ولا قصد تحقيق مصلحة ولا ردّ مفسدة .... وإنّما جعل من هذه المصالح علامات لوجود الأحكام، كالأسباب سواء، فاقتضاء الخلق للعبادة عندهم مثلا، كاقتضاء غروب الشمس للصّلاة.

قال الرازي: " .... إن أردت بجعل الزنا علة موجبة للرجم أن الشرع قال مهما رأيتم إنسانا يزني فاعلموا أني أوجبت رجمه فهذا صحيح، ولكن يرجع حاصله إلى كون الزنا معرفا لذلك الحكم وهو غير ما نحن الآن فيه، وإن أردت به أن الشرع جعل الزنا مؤثرا في هذا الحكم فهو باطل من وجهين..." [ شرح المحصول ص7/3262]

بل إنّ الكثير من الأحكام الشّرعية، تصاحبها في الغالب عوارض غير مرغوبة للشّارع، ولم يقل أحد بأنّها علّة في الحكم، ولا قاسوا غيرها عليها، ومن أشهر هذه العوارض المشقة الملازمة للامتثال، فهل يقال أنّ من علّة الحكم إجهاد المكلّف وإحراجه وإنزال المشقة به؟؟؟

فإذا فهم هذا وما قبله، علم قطعا أنّ الأشاعرة لم يكونوا يوما مثبتين لعلل الأحكام، ولا مقرّين بوجود مقاصد للشّرع، فضلا أن يتنبّهوا للمصالح العليا والمقاصد الحميدة التي جاءت بها شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلّم، الّذي أرسله الله رحمة للعالمين.

بل غاية ما عندهم أنّهم مقلّدون لأهل الحق في اعتبار هذه المصالح، من غير إدراك لمعناها، ولا إثبات لمقتضاها، ومن غير وجود أصل عقديّ يستندون عليه فيها.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
رد مع اقتباس
 

الكلمات الدلالية (Tags)
مميز, مسائل, الأشاعرةوالتعليل, عقيدة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013