--------------------------------------------------------------------------------
ـ وإما طعن في الأمراء، فلا يزال الأمر بهم يشتدّ حتى ينكروا عليهم بطريقة الخوارج، التي أول علاماتها التشهير بأخطائهم على المنابر، ونهايتها التي لا مناص منها الخروج عليهم، وفي ذلك مخالفة صريحة للهدي النبوي في الإنكار عليهم، قال ابن أبي عاصم في » كتاب السنة 171 \: " باب كيف نصيحة الرعية للولاة "، وأسند فيه عن شريح بن عبيد الحضرمي وغيره قال: جلد عياض بن غنم صاحبَ دار حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه، ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع النبي يقول: » إن مِن أشد الناس عذابا أشدهم عذابا في الدنيا للناس «، فقال عياض بن غنم: " يا هشام بن حكيم قد سمعنا ما سمعتَ ورأينا ما رأيتَ، أو لم تسمع رسول الله يقول: »"" مَن أراد أن يَنصح لسلطان بأمر فلا يُبْدِ له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيَخْلُو به، فإن قَبِلَ منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه له «، وإنك يا هشام لأنت الجريء إذ تجتريء على سلطان الله، فهلاّ خشيتَ أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى؟!".
وحتى لا يَعظم عليك أن نسبتُ مخالفي هذا المنهج إلى مسلك الخوارج، فإنني أورد هنا ما رواه الترمذي وغيره عن زياد بن كُسيب العدوي قال: كنتُ مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر، وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق، فقال أبوبكرة: اسكت؛ سمعتُ رسول الله e يقول: » من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله «.
قال الذهبي: " أبو بلال هذا هو مرداس بن أُدَيّة، خارجيّ، ومن جهله عدَّ ثياب الرجال الرقاق لباس الفساق! ".
ومثله ما رواه سعيد بن جُمْهان قال: أتيتُ عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر، فسلّمت عليه، قال لي: مَن أنت؟ فقلت: أنا سعيد ابن جمهان، قال: فما فعل والدك؟ قلت: قتلَتْه الأزارقة، قال: " لعن الله الأزارقة! لعن الله الأزارقة! حدَّثنا رسول الله e أنهم » كلاب النار «، قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بلى الخوارج كلها، قال: قلت: فإن السلطان يظلم الناسَ ويفعل بهم، قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة ثم قال: " ويحك يا ابن جمهان! عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فأْتِهِ في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قَبِل منك وإلا فدَعْهُ؛ فإنك لست بأعلم منه ".
فائدة: روى عبدالله بن أحمد بإسناده الصحيح إلى سعيد بن جمهان أنه قال: " كانت الخوارج تدعوني حتى كدتُ أن أدخل معهم، فرأت أخت أبي بلال في النوم أن أبا بلال كلب أهلب أسود، عيناه تذرفان، قال: فقالت: بأبي أنت يا أبا بلال! ما شأنك أراك هكذا؟ قال: جُعِلْنا بعدكم كلاب النار، وكان أبو بلال من رؤوس الخوارج ".
وعلى كل حال فإن مجرَّد التحريض على السلطان المسلم ـ وإن كان
فاسقا ـ صنعة الخوارج، قال ابن حجر في وصف بعض أنواع الخوارج:
" والقَعَدية الذين يُزَيِّنون الخروجَ على الأئمة ولا يباشِرون ذلك "، وقال عبد الله بن محمد الضعيف: " قَعَدُ الخوارج هم أخبث الخوارج ".
قلت: فأيّ الخطباء اليوم سَلِم من هذه اللوثة؟! ولاسيما منهم الذين يخطبون من الناس جمهرتهم والشهرة عندهم! فاللهم سلِّم!!
ولذلك قال الشيخ صالح السدلان فيهم: " .. فالبعض من الإخوان قد يفعل هذا بحسن نية معتقدا أن الخروج إنما يكون بالسلاح فقط، والحقيقة أن الخروج لا يقتصر على الخروج بقوة السلاح، أو التمرد بالأساليب المعروفة فقط، بل إن الخروج بالكلمة أشد من الخروج بالسلاح؛ لأن الخروج بالسلاح والعنف لا يُرَبِّيه إلا الكلمة فنقول للأخوة الذين يأخذهم الحماس، ونظن منهم الصلاح إن شاء الله تعالى عليهم أن يتريثوا، وأن نقول لهم رويدا فإن صلفكم وشدتكم تربي شيئا في القلوب، تربي القلوب الطرية التي لا تعرف إلا الاندفاع، كما أنها تفتح أمام أصحاب الأغراض أبوابا ليتكلموا وليقولوا ما في أنفسهم إن حقا وإن باطلا.
ولا شك أن الخروج بالكلمة واستغلال الأقلام بأي أسلوب كان أو استغلال الشريط أو المحاضرات والندوات في تحميس الناس على غير وجه شرعي أعتقد أن هذا أساس الخروج بالسلاح، وأحذر من ذلك أشد التحذير، وأقول لهؤلاء: عليكم بالنظر إلى النتائج وإلى من سبقهم في هذا المجال، لينظروا إلى الفتن التي تعيشها بعض المجتمعات الإسلامية ما سببها وما الخطوة التي أوصلتهم إلى ما هم فيه، فإذا عرفنا ذلك ندرك أن الخروج بالكلمة واستغلال وسائل الإعلام والاتصال للتنفير والتحميس والتشديد يُرَبِّي الفتنة في
القلوب ".
قال عمر بن يزيد: سمعتُ الحسن ـ أي البصري ـ أيّام يزيد بن المهلب قال: وأتاه رهطٌ فأمَرَهم أن يَلزَموا بيوتَهم ويُغلِقوا عليهم أبوابَهم، ثم قال: " والله! لو أنّ الناس إذا ابتُلُوا مِن قِبَل سلطانهم صبروا، ما لبِثوا أن يرفع اللهُ ذلك عنهم؛ وذلك أنهم يَفزَعون إلى السيف فيوكَلُوا إليه! ووالله! ما جاؤوا بيوم خير قطّ!"، ثم تلا:{وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَني إسْرَائِيلَ بِما صَبَرُوا ودَمَّرْنا مَا كان يَصْنَعُ فِرعَوْنُ وقومُه وما كانوا يَعْرِشُون} ".
هـ ـ جهلهم بالطريقة التي تُغربَل بها الأخبار، وليس ثم إلا طريقة أهل الحديث، ألا ترى كيف يكتب السلف التاريخ ويُسندون؟ ذلك لأن الله قال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}. ولا شك أن أنباء وسائل الإعلام الكافرة أكذب من نبإ الفاسق، وهؤلاء يعتمدونها لمعرفة الواقع! فلا يَسْلَمون من شرّ البواقع؛ لأن هذه الوسائل قد سيطر عليها اليهود عليهم من الله الذِّلَّة، وخبر الكافر مردود باتفاق أهل الملة، ومن الغفلة بمكان أن يَتصوّر المسلم عدوَّه يُهدي إليه مخططاته من خلال نشرات علنية، كما فعل سفر الحوالي في نشرة الأخبار التي جمعها في كتاب أسماه » وعد كيسنجر «، وحسِب نَشرته علماً! وأضاع معها عمراً نفيساً بلا طائل، بل أضاع بها أعمار الغمر من الشباب؛ فقد جاءت نَشْرتُه نُشرةَ تخبيب بين طلبة العلم وأهله أصحاب الفضائل، فضلاً عمَّا فيها من إغراء الأمراء بالعلماء مما يوقع بينهم وَحشة، والتجربة تدلّ على ذلك.
والحق أن الاطلاع على أسرار الكفار مِن إسرارهم لا من إعلانهم أمر مطلوب من ذوي الاجتهاد، وعلى هذا بوَّب البخاري في » صحيحه « لقصة حاطب بن أبي بلتعة آنفة الذكر بقوله: " باب من نظر في كتاب مَن يُحذَر على المسلمين ليستبين أمره "، فتدبّر الفرق يرحمك الله.
وقد انتقد الشيخُ الألباني قولَ ناصر العمر ـ وهو يعدِّد مصادر ( فقه
الواقع ) ـ: " المصادر السياسية والمصادر الإعلامية، وهي من أهم المصادر المعاصرة، سواء أكانت مسموعة أم مقروءة أم مرئية، مِن أبرزها الصحف والمجلات والدوريات، نشرات وكالات الأنباء العالمية، الإذاعات، التلفزيون، الأشرطة والوثائق وغير ذلك من الوسائل الإعلامية المعاصرة ". قال أحد الحضور للشيخ: ما رأيك في هذا المصدر؟
قال الشيخ الألباني: " مزالق! كلنا يعلم أنهم لا ينشرون على العالم الإسلامي إلا ما يكيدون به لهم، فكيف يكون هذا سببا لمعرفة الواقع؟! يجب أن يقال: ينبغي أن يكون هناك ـ يعني ماذا يسمَّون؟ ـ مراسلين مثلا أو إخباريين أو إعلاميين: صحفيين إسلاميين، الذين يدرسون الواقع دراسة في حدود عقيدتهم ودينهم، ولا ينبغي أن نكون عالة كما أنت أشرت، كيف؟ هذا لا يلتقي مع هذا؛ الذي أشرتَ إليه لا يلتقي مع هذه المصادر الأخيرة التي أشرتَ إليها! ".
فاعترض عليه ناصر العمر بأنه وضع ضوابط لذلك ومحاذير، وذكر منها:
ـ" أولا: الالتزام بالأصول الشرعية والمنطلقات العلمية والعقلية في وصف الواقع وتوقّع النتائج ورؤية المستقبل.
ـ ثانيا: التثبت في نقل الأخبار وتلقيها، وذكرتُ هذه القضية، وبيَّنتُ هذا الأمر: حسن التعامل وتجنّب المخاطر والمزالق، ذكرت أن الأخذ من هذه الأشياء لا بد من هذه الضوابط ".
قال الشيخ: " لكن هذا لا يمكن ( تضبيطه )، أنت وضعت ضوابط نظرية، لا تتم هذه إلا بالاختراع السابق، هذه ( شَغْلة ) الحكومة، وليس بفرد من الأفراد أو بجماعة، كما نسمع أن إذاعة لندن ليست إذاعة حكومية، إنما هي الجمعية مثلا أم ماذا يسمونها؟ " فقيل له: هي شركات خاصة.
قال الشيخ: " يجب أن يكون هناك إذا ما قامت ما تعهدت الدولة بالقيام بهذا الواجب الكفائي المساعد على فهم فقه الواقع، إذا لم تقم الدولة ـ وهي أولى وأحق وأقوى من يستطيع أن يقوم بهذا الواجب الكفائي ـ فيجب أن يكون هناك شركات مؤلفة من أشخاص من الإسلاميين الغيورين، وأن يوظِّفوا أشخاصا لنقل الأخبار، كما يفعل الكفار، وحينئذ لا نكون نحن عالة في تلقي الأخبار من أعدائنا وخصومنا، ثم نحاول أن نطبق القيد الذي ذكرته أنت. لا يستطيع أي إنسان إذا أراد أن يتأكد من صحة بعض هذه الأخبار، ما يستطيع أن يتأكد من ذلك؛ لأن مصادرها أجنبية، تماما لو أردنا أن نتأكد من صحة بعض الأخبار في التوراة والإنجيل، ليس عندنا وسيلة لمعرفة الأخبار التي في التوراة والإنجيل: ما هو صحيح مما ليس بصحيح، إلا بمقابلتها بأخبار أهل صدق وثقة و... الخ، فإذا هؤلاء لم يكونوا موجودين ذهبت أدراج من يريد فقه الواقع معرفة حقيقية اعتمادا منه على الأخبار التي ترِدنا من بلاد الكفر والضلال والفسق والفجور، لا يمكن حينئذ تحقيق ما ألمحتَ إليه من التثبت، ولذلك ( فقه الواقع ) هذا الآن نظري، ولا يمكن أن يكون واقعيا إلا بإيجاد شركة توظِّف أناسا لنقل الأخبار بطرق موثوقة ينطبق عليها تماما علم مصطلح الحديث.
قال العمر: إذا لم يوجد هذا يا شيخ، حتى يوجد هذا الأمر؟
قال الألباني: إيه! من الصعب تحقيقه.
قال العمر: ألا نستفيد يا شيخ من بعض ..
قال الألباني: يا شيخ! ـ بارك الله فيك ـ لكثرة الأخبار وكثرة المخبرين من الكفار، يضيع الباحث بين هذه الأخبار وهذه، ما يستطيع أن يتحقق إلا ما ندر جدا جدا " .
قلت: ولذلك تجد الهدهد وصف نبأه الذي أخبر به سليمان عليه الصلاة والسلام باليقين فقال:{وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}، مع ذلك ومع أن الله سخَّر لسليمان الجنّ والحيوان، فإنه لما كان الحيوان مصدرا قاصرا من مصادر التلقي، قال سليمان عليه الصلاة والسلام: {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكَاذِبِينَ}، فلا إله إلا الله! ما أعظم هذا المنهج وما أعدله وما أدقه! فاحرص على هذه الدقة التي لست واجدها إلا عند السلفية، لأنها حققت منهج أهل الحديث بجدارة، وليس مجرد انتساب لهم مع تأثّر بالغ بمناهج أخرى. وعلى هذا لا لوم على السلفية إذا كانت لا ترفع رأساً بهذه الأخبار التي ملأت أدمغة الشباب اليوم، ولا تطيب بها نفساً ولا تعوِّل عليها، مع التنبيه علىأنه قد يستفاد منها بعد تبيُّن صدقها من كذبها، وتُبنى عليها أحكام بالقرائن التي تحتفّ بها، لكن تنبَّه
ـ أخي القاريء! ـ تنبَّه إلى قول الله تعالى: {وما يَعقِلُها إلا العالِمُون}، أي لا يقدر عليها إلا من جمع الله له بين التضلّع بعلم الكتاب والسنة حتى يصير مجتهداً، وبين قوة الفراسة وصدق التوسّم كما سبق بيانه.
و ـ ومِن ثم اعتمادهم الأخبار المشوَّهة والمكذوبة، قال الله تعالى: {إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُم مَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ}.
ص ـ ومِن ثَم نسبتهم للشريعة السمحة أحكاما جائرة استنبطوها
من الأخبار المشوّهة، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " الحكم قسمان: إثبات وإلزام، فالإثبات يعتمد الصدق، والإلزام يعتمد العدل {وتمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلاً} ".
حـ ـ تكهّنهم مستقبلاً لاَحقيقة له، وقَفْوُهم سرابَ تخميناتٍ لا تختلف عن تخمينات القانونيين المعروفين باسم ( الملاحظين السياسيين )؛ فيقال لأحدهم أيام قضية الخليج: ما هو ( تكهّنكم! ) لمستقبل جزيرة العرب مع وجود القوات الأجنبية؟ فيقول: " أرى أن وعد كيسنجر تحقَّق!!"، ويقول: " إنه الاحتلال الذي قرأته من عشر سنوات في مجلة كذا الأمريكية!!".
ويقول آخر: " هذه آخر أيام تطبيق الشريعة الإسلامية، ولن تَخرج هذه القوات حتى يطبَّق القانون العالمي الجديد في الجزيرة!!".
ويقول آخر: " نحن تحت الاحتلال!!! " ...
تحَكُّم ليس عليه أثارة من علم إلا الرجم بالغيب، قد بان للذكيّ والغبيّ تكذيب الواقع لها، فعلامَ يتغافل الأتباع عن محاسبة ( شيوخهم ) عليها؟! وإن هي إلا تخرُّصات تخيَّلوها إرهاصات.
والأدهى والأمرّ أنهم لا يزالون يعتمدون عليهم، بل لا يَرضون في السياسة وغيرها إلا بهم، رغم كثرة ترَّهاتهم! فما أشد العصبية العمياء للأشخاص على أهلها! وكان الواجب على هؤلاء أن يوَظِّفوا في دعاتهم هؤلاء قولَ الله تعالى: {ولا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِنْهُمْ أَحَداً}؛ لأنهم كما قال الله عز وجل: {إنْ يتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الأَنفُسُ ولَقَدْ جَاءَهُم مِن رَبِّهِمُ الهُدَى}.
ط ـ إغراقهم في السياسة إلى حدّ تعليمها وإسنادها إلى عامة الناس، مع أن النبي يقول: »" مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه « رواه الترمذي وهو حسن.
ولم يقف الأمر عند هذا حتى سمعتُ سلمان العودة ينْمي هذا الخطأ إلى سلفنا الصالح، فقد قال: " أما في المجال السياسي فالأمر معروف: فقد أصبحت الأمة رضيَت بألا تفكر ولا تنظر ولا تتأمّل ولا تدرس المصالح والمفاسد، ولا تستخدم عقلها، ولا سمعها لترى ولا بصرها لتسمع ( هكذا )! لأنه كما يتردّد وينقل الجميع أن الإنسان يستمتع برحلة ممتعة هادئة هانئة، وقد ترك الأمر لغيره، حتى دون أن يَسأل أو يناقش، مع أن الله تعالى جعل الأمة كلها مسئولة، ولم يجعل المسئولية العلمية ولا السياسية ولا الدعوية على شخص واحد...وهذا خطأ؛ لأنه يختصر الأمة ـ كما ذكرتُ ـ في أفراد، والله تعالى قال: {وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وقال: {وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ}، مع أن الرسول عليه السلام مؤيَّد من السماء، فالمشاورة فيها تعزيز للعقول، وتنمية للمواهب، وجَعْل الجميع يشعرون بأن الأمر لهم، وهو شأنهم وقضيتهم، وهذه لكم أنتم وليست لي، وإذا وقع خطأ فتتحمَّلونه جميعاً، لن يتحمَّله العالم وحده ولا الحاكم وحده ولا الداعية وحده!! ".
ويؤكد هذا الخطأ الفادح بقوله: " من الخطورة بمكان ـ أيها الأحبة! ـ أن تتمحور الصحوة الإسلامية حول أشخاص، أو أن تتمحور الأمة كلها على أشخاص سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد العلمي أو على الصعيد الدعوي ".
ولي على هذا الكلام الخطير ثمان ملاحظات:
1 ـ جعل الفروض الكفائية فروضا عينية حين أنكر على الأمة ـ بلا استثناء ـ عدم المشاركة في السياسة والعلم والدعوة، والذي يدل على أنه ليس سبق لسان، وإنما هو منهج له أنه أكَّده بتكراره أولاً، وباستعمال أسلوب التأكيد ثانياً حين قال: " مع أن الله تعالى جعل الأمة كلها مسئولة ... ".
قلت: وقد وجدتُ عند العلامة الشيخ عبد الله بن حُميد ـ رئيس مجلس القضاء في وقته وكذا المجمع الفقهي رحمه الله ـ كلمةً مختصرة كافية في ردّه على كاتب في جريدة » القصيم « بتاريخ (8/5/1381هـ) حيث قال: " وأما قولكم: ( لا بد أن يكون لنا كلمة في شئون ديننا، وأن الدين للجميع، وليس وقفاً على أحد دون الآخر ) فهو كما تفضلتم، ولكن لم يقل أحد بذلك، ولا أظن أن يقال هذا".
قلت: لو عاش الشيخ ابن حميد إلى زمننا هذا لوجد الكثير ممن تتابع على هذا الذي استغربه؛ فقد قال عبد الرحمن عبد الخالق: " .. وأنه لا بدّ لكل مسلم أن يَنخرط في عمل سياسي ينصر الدين!! ".
لكن صدق الشيخ ابن حميد ـ رحمه الله! ـ؛ فإنه لا يُعلم أحد من العقلاء سبقه هو وسلمان وعبد الرحمن إلى هذا فضلاً عن أهل العلم! خاصة في هذه المجالات الثلاثة الخطيرة، التي أجمع أهل العلم على عدم فرضها على الأعيان، وإليك بيان ذلك في إلماعة سريعة؛ لأن مظانها لا تخفى على صغار طلبة العلم:
ـ أما السياسة: فقد بيَّنتُ أدلة حصر ممارستها في أولي الأمر: العلماء والأمراء، فلا أعيده.
ـ وأما العلم: فقد نصّ الله تعالى بأنه لم يفرض طلبه إلا على طائفة من المسلمين، أما الآخرون فيكفيهم أن يعْلموا منه ما يقيمون به دينهم ودنياهم، قال الله عز وجل:{ومَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
قال القرطبي: " وفي هذا إيجابُ التفقّه في الكتاب والسنة وأنه على الكفاية دون الأعيان ".
ـ أما الدعوة: فقد أمر الله عز وجل بها طائفةً،ولم يُلزِم الجميع بها، فقال: {ولْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ}، قال ابن كثير: " والمقصود من هذه الآية أن تكون فِرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن ... " ، ثم أشار إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الناس؛ كل بحسَبه.
2 ـ إيغاله العوام فيها يوَرِّطهم في ثلاث فتن هي:
ـ أنه يُرَبِّي فيهم التجرّؤ على الفتيا.
ـ ويدفعهم إلى التجنّي على أهل العلم إذا لم يفهموا مسالكهم، وتَعْظم الفتنة بهم في القضايا السياسية، بل يفتِنون حتى دعاتهم، ألم ترهم في قضية الخليج كيف كانوا بفهوم العوام محصورين، وتحت ضغوط مطالبهم مأسورين؟
ـ وتهييجهم على الأمراء، والجنوح بهم إلى التكفير، ومَن جرَّب جماعة التكفير عرف كيف احتوى الجهال الدعوة، والأمرلله.
3 ـ دعوته الأمة إلى دراسة المصالح والمفاسد من أكبر مزالقه؛ لأن تبيُّن المصلحة ـ التي فيها الأمن ـ من المفسدة ـ التي فيها الخوف ـ لا يَقدر عليه إلا الراسخون في العلم: أهل الاستنباط، ويظهر هذا الحصر في قوله تعالى: {وإذَا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
4 ـ كثيرا ما تجد المهيِّجين من المراهقين السياسيين يُشَرِّكون العامة فيما يسمونه واقع الأمة، حتى إذالم ينتج عن تحليلاتهم شيء من غُنْمها، شرَّكوهم في غُرْمها، ولم يقع اللوم عليهم وحدهم، كما صرَّح به هنا سلمان حين قال: " فتتحمَّلونه جميعاً، لن يتحمَّله العالم وحده، ولا الحاكم وحده، ولا الداعية وحده!! ".
وهذا يفسِّر تصرُّف علي بن حاج في استشارته العوام لإحداث أول مسيرة! تلك المسيرة المشئومة التي ذهب ضحيتها في عشية واحدة مئات الشباب في مقتبل العمر وبراءة المُحَيّا، حتى اضطر إلى أن يقول في الجمعة التي تلَتْها: " أنا لم أدعُ إلى مسيرة، ولكنني دعوتُ إلى الجلوس في ساحة كذا لنسمع مطالب الشعب!!! " .
قلتُ: سبحان الله! ليتَه لم يجمع قَتْل أنفُسٍ وكذباً!!
كما تجد هذه الطريقة في الفرار من المسئولية عند كلام سفر الحوالي الآتي عن أحداث الجزائر؛ حيث يقول: " القضية التي نتكلم عنها ليست مجرد فلان ولا فلان، إن كان من أولياء الله فالله وليّ المتقين، وسينصرهم ولو بعد حين، وإن كانوا غير ذلك فقد جاءهم: عُجِّلت إليهم بعض ذنوبهم ".
يتبع
التعديل الأخير تم بواسطة أحمد سالم ; 23 Jul 2010 الساعة 04:58 AM
|