لقد جاء في ترجمة الشيخ العلامة محمد الامين الشنقيطي انه تلرك الفتيا في اخر حياته وذلك مع رسوخه في العلم ، وقد وقفت على قصة يرويها الشيخ عطية سالم ، رحم الله الجميع ، يظهر من خلالها تمكن الشيخ الشنقيطي من العلوم الشرعية وخاصة التفسير: فال الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله في شرحه على بلوغ المرام في كتاب الصيام وذلك في المسجد النبوي :
سألت والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- في هذا المسجد، في رمضان، بعدما انتهى من الدرس، وقد ذهب الناس، تقدمت إليه وقلت له: يا شيخ! أنا لي سؤال من زمان يتردد على لساني ولم أستطع أن أقوله.
قال: وما هو؟ و
كان -رحمة الله تعالى علينا وعليه- يعطيني شيئاً من السعة قليلاً، قلت له: منذ أن جئتَ إلى هذه البلاد وأنت مقتصر على تدريس التفسير وأصول الفقه، ما غيرت، مع أنك بحر في علوم العربية: نحو، صرف، بلاغة، أدب، وكل ما يتعلق بها، والفقه ما أظن مسألة في مذهب مالك في تخوم وبطون الكتب إلا وهي في دماغك، والحديث ما أعتقد أنه يعجزك معرفة رواة الحديث ومعاني متون الحديث، والتوحيد نسمع منك فيه الشيء الكثير.. وهكذا.
فقال لي: ما الذي حملك على هذا السؤال؟!
قلت: الذي حملني عليه أن هذا السؤال ورد على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فقرأت عنه أنه قيل له: يا أبا حنيفة ! أنت في زمن تدوين الحديث، وما رأيناك تشتغل بالرواية! وأنت في زمن اشتهر فيه علم الكلام، وما رأيناك تتكلم في علم الكلام -يعني: التوحيد والعقائد، ومعلوم أنه في ذاك الوقت كانت العلوم متوافرة من فقه وحديث وفقه وتوحيد وتفسير- ورأيناك تشتغل بالفقه فقط!
قال: نعم، أما رواية الحديث فإن هناك رجالاً يتتبعون الرواة، وهم علماء الرجال، فيتتبعون أحوال كل راوٍ من مولده إلى موته، فإن وجدوا عليه هفوة تركوه، وصارت سبة فيه إلى الأبد، وأنا لست في حاجة إلى هذا.
أما علم الكلام فلو أن شخصاً سمع منك هفوة بدون قصد في التوحيد رماك بالزندقة، وأنا في غنىً عن هذا.
وأما التفسير فالقرآن ميسر، وعلماء التفسير كثيرون.
أما الفقه فإني نظرت فإذا العامة والخاصة والغني والفقير والرجال والنساء في أمس الحاجة إليه؛ فاشتغلت به.
فقال رحمه الله: والله! معه الحق في هذا.
قلت: وأنت؟
قال: أقول لك: أما علم العربية الذي ذكرت فهو وسيلة وليس بغاية.
وفعلاً علوم العربية بأجمعها ليست غاية، فلا ينبغي لإنسان أن يضيع عمره كله في أن المبتدأ مرفوع، والخبر مرفوع، والجملة الفعلية والجملة الاسمية، ولكن تكون دراسة علم اللغة لمعاني كلمات القرآن، وللبلاغة، فهي وسيلة وليست بغاية.
قال: وأما علم الكلام فليس علماً يثار على الحاضرين على اختلاف طبقات عقولهم وأفهامهم؛ لأن فيه من الشبهات وفيه من المزالق ما تزل فيه أقدام الفحول، فكيف يثار على عوام الناس! فليس عملياً.
وأما علم الحديث فهو تتبع الرواة وعدالتهم وقبولهم وتصحيحهم، وتتبع المتن في فقهه ومعارضته، ومطلقه ومقيده، وعامه وخاصه، وناسخه ومنسوخه... إلخ.
وأما الفقه فيحتاج إلى اجتهاد كثير، ولا يمكن أن تبحث مسألة بجميع أطرافها هنا في المدينة، وكنا في بلادنا نقتصر على فقه مالك ، وهنا في المدينة يأتيها أناس من كل المذاهب، ولا يتأتى لإنسان أن يتعرض لمسألة فقهية خلافية إلا إذا استوعب أقوال الأئمة الأربعة فيها؛ من أجل أن الحاضرين من أهل المذاهب الأربعة، وإذا جمعت أقوال مسألة وغبت عنها مدة، ثم رجعت إليها احتجت إلى تجديد البحث فيها مرة أخرى، فهو متعب.
أما التفسير -وهذا محل الشاهد عندي- فما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها!
ابن تيمية يقول: كنت أقرأ مائة تفسير، والشيخ الأمين يقول: ما من آية في كتاب الله إلا وعندي في حافظتي وفي ذاكرتي جميع ما قيل فيها من علماء التفسير جميعاً!
قلت: إذا كان الأمر كذلك فلك الحق في اقتصارك على تدريس التفسير، والأصول ما هو السبب في تدريسه؟
قال: نعم، أما الأصول فهو ضروري لطالب العلم؛ لأن العلماء يقولون: جهلة الأصول عوام العلماء، وقال: ثم اعلم أن التفسير يأتي فيه اللغة متناً وإعراباً وصرفاً وبلاغةً، ويأتي فيه التوحيد، فآيات التوحيد في كتاب الله كثيرة، ويأتي فيه الأحكام الفقهية، فالفقه أكثره يؤخذ من كتاب الله، ويأتي... ويأتي... وعدد كل العلوم التي تصب في كتاب الله.
والذي يهمني من هذا أن طالب العلم إذا عرضت عليه مسألة وأشكلت عليه، فلا يستنكف عن المشاورة والسؤال، بل يبحث ويجتهد، لعل الله أن يفتح عليه، فهو يقول: ما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها، يعني: لو راجعنا جميع كتب التفاسير الموجودة، والخلافات عن أئمة التفسير لوجدناه محصلاً إياها!!
وهكذا أقول: ينبغي لطالب العلم إذا تعرض لمسألة أن يجمع أكثر ما قيل فيها، ليكون على بينة من أمره.
ولكن لو عمل الجميع بهذا لما وجدنا من يستطيع أن يجلس يدرس الناس، فإذا وجدنا عُشر ذلك ففيه البركة والخير.
والله أسال أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.
أما الذي تروي حاله الآن , فهو إمام اللغة و الصرف و النحو و الاشتقاق و العروض و الشعر و المغازي و التاريخ و الفقه و الأصول و التفسير و الحديث و كلّ ما له صلة بعلوم الشرع
وإمام في البلاغة والمنطق، فهو بحقٍّ أمير المؤمنين في منقول العلوم ومعقولها، ومع ذلك ترك الفتوى في آخر عمره، فكان لا يفتي إلا بما فيه نص من القرآن والسنة، ويترك الجواب في كل مسألة دليلها التعليل أو القياس أو غير ذلك من الأدلة، حدثني بذلك عنه ألصق الناس به: شيخنا أحمد بن أحمد المختار الشنقطي رحمه الله.
ومما أذكر أن الشيخ عبد الكريم لخضير ذكره في بعض أشرطته عن أحد العلماء ولم يسمّه، أنه لم يكن يدرّس ويفتي للناس، لأنه لم يبلغ بعد النصاب!!! فلم تجب عليه زكاة علمه.
فيا حسرة على العباد. لا عشر النصاب ولا حولان الحول ويفتي للناس، بل ويطعن في أهل العلم وطلابه.
بارك الله فيك هذا علامة يترك الفتيا في علوم هو متمكن فيها لكنه تركها لمن هو أفضل فيها وهذا هو التواضع والعلم الحقيقي
البعض منا صار إذا حضر مجالس متقطعة من حلقات الدروس ظن أنه صار بإمكانه الفتيا والترجيح والإجتهاد والله المستعان