منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 16 Jul 2018, 02:51 PM
مكي المهداوي مكي المهداوي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jul 2018
المشاركات: 5
افتراضي القول الملائم في ذكر شيء من صفات الله وبيان متى يفرح العالم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله (الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد المتعال، الموصوف بصفات الرفعة والكمال، المنزه عن صفات النقص ودني الخصال، والصلاة والسلام على النبي المفضال، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى انقضاء الآجال، أما بعد:
فلما كانت معرفة الله تعالى أول ما يجب على الانسان في دينه، وكانت هذه المعرفة لا تتم على الوجه الأكمل إلا بمعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله في خلقه، والإيمان بتلك الأسماء والصفات والأفعال، وإقرارها، إذ بها تعرف الله إلى عباده سبحانه(1)، كان لزاما على الناس تعلمها والإيمان بها، فهي سبب لزيادة إيمان العبد، ودافع على خشية الله، وحامل على محبته وإجلاله، ومن تلكم الصفات العظيمة التي تعرف الله سبحانه وتعالى بها إلى عباده، صفة: (المحبة), وهذه الصفة ثابتة بالكتاب والسنة, وإجماع الأمة من الرعيل الأول وأئمة السلف، فالكلام فيها كالكلام في بقية الصفات الخبرية.
وبعد: إذا ثبت في كتاب الله المبين، والأخبار الصحيحة بأن الله يحب عباده المحسنين، وأنهم يحبونه، فليس لأحد كلام مع كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك هذه الآيات:
1ـ (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين). (البقرة) ـ 195.
2ـ (إن الله يحب المتقين). (التوبة) ـ 4
3ـ (ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين). (آل عمران) ـ 134.
4ـ (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم). (آل عمران) ـ 31.
5ـ (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه). (المائدة) ـ 54.
6ـ (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين). (التوبة) ـ 108.
ومن السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم:
1ـ إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ـ أو ـ كما يكره أن تؤتى معصيته. رواه أحمد في مسنده 2/108
2ـ اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني . أخرجه أحمد 6/171،182،183
3ـ إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده. رواه أحمد2/182
4ـ إن الله تعالى يحب من عباده الغيور. (2) رواه الترمذي وحسنه
وكذلك ما صح في الحديث القدسي فيما يرويه نبينا صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته) (البخاري،6502)، ولا يفوتني في هذا المقام، أن أنبه على كلام قبيح ظهر في هذه الأيام، والذي يزعم قائله أن في الحديث دليل على صفتي اليد والقدمين لله تعالى، وهذا غاية الجهل والضلال، الذي لا يصدر عن رجل متشبع بالسنة، محكم لأصولها، محيط بقواعدها، وإنما يصدر عن قلب فارغ، ورصيد علمي معدوم، وبضاعة كاسدة، وعقيدة محدثة فاسدة، فيقال جوابا على هذا الكلام الباطل: أما صفتي اليدان والقدم لله تعالى فثابتتان بأدلة قطعية في غير هذا الحديث، الذي لا يتضمن ذكر هاتين الصفتين لا تلميحا ولا تصريحا، والضمير في قوله (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به....الخ) عائد على الولي الذي تقرب إلى الله بما افترضه عليه من فرائض، ولا زال يتقرب إليه بالنوافل حتى أحبه ربه سبحانه، فهذا الذي دل عليه الحديث من صفات الرب جل وعلا وهو المحبة، وذلك في قوله: ( حتى أحبه فإذا أحببته....) ودل أيضا على صفة الكراهية وذلك في قوله: (يكره الموت وأنا أكره مساءته)، ودل الحديث أيضا على صفة التردد في قبض روح المؤمن وذلك في قوله: (وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته)، وكل ما تضمنه الحديث من الصفات نثبتها على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته، كما سيأتي بيان ذلك بعون الله تعالى، ومما يزيد الأمر وضوحا ما جاء في الرواية الأخرى في غير الصحيح وهي قوله: (فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش.....الحديث)، وأما ما قاله هذا المتعالم المفلس من العلم فهذيان لم يقل به أحد من أئمة الاسلام والسنة، بل هو قريب من قول الملاحدة الاتحادية، نسأل الله العفو والعافية، وجزى الله ناصر سنة رسول الله في البلد الحرام، فضيلة الشيخ الهمام، والناقد المتبصر المقدام، محمد بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى على ما يقوم به من دفاع عن دين الله القويم، وكشف لحال الصعافقة الجاهلين، والسعي الحثيث في نشر سنة خير المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ودونك أيها القارئ الكريم بعض أدلة الوحيين مرفوقة معززة بفهم حبر من أحبار هذه الأمة وإمام من أئمتها ألا وهو عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله، في كتابه الفذ كتاب (نقض عثمان ابن سعيد على بشر المريسي العنيد) قال رحمه الله تعالى في معرض الرد على دعوى المريسي في تفسير قوله تعالى (بل يداه مبسوطتان) على أن تفسيرها عند المريسي الضال المضل: رزقاه، رزق موسع ورزق مقتور، ورزق حلال ورزق حرام. فقال مجيبا له رحمه الله:
وقد كفانا الله ورسوله مؤنة تفسيرك هذا، بالناطق من كتابه، وبما أخبر الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
فأما الناطق من كتابه: فقوله: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)، وقوله: (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)، وقوله: (يد الله فوق أيديهم)، وقوله: (بيدك الخير)، وقوله: (وأن الفضل بيد الله)، وقوله: (تبارك الذي بيده الملك)، وقوله: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله).
فهل يجوز لك أن تتأول في جميع ما ذكرنا من كتابه، أنه رزقاه، فتقول: برزقه الخير، وبرزقه الفضل، وبرزقه الملك، ولا تقدموا بين رزق الله ورسوله؟.
وأما المأثور من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقوله صلى الله عليه وسلم: إن المقسطين على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين. إلى أن قال: عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأخذ الجبار سمواته، وأرضيه بيديه ـ وقبض كفيه، أو قال يديه فجعل يقبضهما ويبسطهما، ثم يقول: أنا الملك أنا الجبار، أين الجبارون؟ أين المتكبرون ـ ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه وعن شماله، حتى نظرت إلى المنبر من أسفل شيء منه، حتى إني أقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
فيجوز أيها المريسي أن تتأول هذا الحديث: أنه يأخذ السموات والأرضين برزقيه، بموسعه ومقتوره، وحلاله وحرامه؟.
ما أراك إلا وستعلم أنك تتكلم بالمحال، لتغالط بها الجهال، وتروج عليهم الضلال.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا ..... الحديث.
إلى أن قال: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السموات بيمينه، ثم قال: أنا الملك أين الملوك.
وقال رحمه الله: عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقي آدم موسى فقال له: أنت الذي خلقك الله بيده.(3) إلى آخر ما قال رحمه الله ورفع درجاته في عليين، في إثبات هذه الصفة الذاتية العظيمة، ورد شبه الجهم والمريسي وأضرابهما فجزاه عن الاسلام والمسلمين خير ما جازى عالما عن أمته إن ربي لقريب مجيب.
ومما يتعلق بهذه المسألة أيضا ما جاء عن بعض إخواننا الفضلاء وهو الأخ عبد الحميد الهضابي المجاور بمكة زادها الله شرفا، في مقال له نشره في هذا المنتدى الطيب قبل مدة من الزمن في معرض بيان كلام العلماء على حديث عمر بن حمزة رحمه الله في صحيح مسلم، وما تيسر لنا التعليق إلا في هذه الأيام، فنسأل الله أن يوفقنا وإخواننا لسلوك سبيل النجاة إن الله قريب مجيب، قال مفيده يسر الله أمره وأعظم لنا وله الأجر والثواب بعد ذكر جملة طيبة من الأثار في بيان عقيدة أهل السنة وإثبات هذه الصفة لله عز وجل وأن كلتي يدي ربنا سبحانه يمين مباركة:
وأما الرواية الشاذة التي في صحيح مسلم التي مفادها إثبات اليسار أو الشمال لله تعالى هي مايلي :
أخرج مسلم في "صحيحه" ( 2788 ) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن عمر بن حمزة عن سالم بن عبدالله أخبرني عبدالله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يطوي الله عز و جل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟
أولا :
قد أعلّ أهل العلم هذه الرواية وآفتها عمر بن حمزة العمري وهو ضعيف وقد انفرد بها عن بقية الرواة وإليك بعض أقوال أهل العلم في ذلك :
1 ـ قال ابن خزيمة في ((كتاب التوحيد)) (1/159) : ((باب : ذكر سنة ثامنة تبين وتوضح أن لخالقنا جل وعلا يدين ، كلتاهما يمينان ، لا يسار لخالقنا عز وجل ؛ إذ اليسار من صفة المخلوقين ، فجل ربنا عن أن يكون له يسار)).
وقال أيضا (1/197) : ((000 بل الأرض جميعا قبضة ربنا جل وعلا ، بإحدى يديه يوم القيامة ، والسماوات مطويات بيمينه ، وهي اليد الأخرى ، وكلتا يدي ربنا يمين ، لا شمال فيهما ، جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار ؛ إذ كون إحدى اليدين يسارا إنما يكون من علامات المخلوقين ، جل ربنا وعز عن شبه خلقه))اهـ.
2 ـ وقال الحافظ البيهقي في ((الأسماء والصفات)) (2/55) : ((ذكر (الشِّمال) فيه ، تفرد به عمر بن حمزة عن سالم ، وقد روى هذا الحديث نافع وعبيد الله بن مقسم عن ابن عمر ؛ لم يذكرا فيه الشِّمال. وروى ذكر الشِّمال في حديث آخر في غير هذه القصة ؛ إلا أنه ضعيف بمرة ، تفرد بأحدهما : جعفر بن الزبير ، وبالآخر : يزيد الرقاشي. وهما متروكان ، وكيف ذلك؟! وصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمَّى كلتي يديه يَمِيناً)) اهـ.
وقد ضعف هذه الرواية البيهقي من ناحية الإسناد فقال : " ذكر الشمال فيه ، تفرد به عمر بن حمزة عن سالم ، وقد روى هذا الحديث نافع وعبيد الله بن مقسم عن ابن عمر ، لم يذكرا فيه الشمال " .
وضعفها كذلك رحمه الله من ناحية المتن فقال : " وكيف يصح ذلك وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى كلتا يديه يمينا " .اهـ
3 ـ قال الألباني رحمه الله : وفي القبضتين أحاديث أخرى كنت خرجتها في المجلد الأول برقم (46 - 50 ). وليس في شيء منها ذكر الشمال ؛ إلا في رواية في حديث لابن عمر في طي السموات والأرض ؛ مذكور في "صحيح الجامع " برواية مسلم وابي داود عن ، تفرد بذكره عمر بن حمزة عن سالم عنه . قال البيهقي في "الأسماء " (ص324):
"وقد روي هذا الحديث نافع ، وعبيد الله بن مقسم عن ابن عمر ، ولم يذكر فيه : "الشمال" ، ورواه أبو هريرة رضي الله عنه وغيره عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يذكر فيه أحد منهم الشمال . وروي ذكر الشمال في حديث آخر في غير هذه القصة ؛ إلا أنه ضعيف بمرة تفرد بأحدهما جعفر بن الزبير ، وبالآخر يزيد الرقاشي وهما متروكان ، وكيف يصح ذلك والصحيح عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سمى كلتا يديه يمينا ؟!.
قلت : معنى كلام البيهقي في ذكر "الشمال" في حديث ابن عمر المشار إليه أنه شاذ لمخالفته الثقات الذين لم يذكروا ذلك ؛ لا في حديث ابن عمر ، ولا في حديث أبي هريرة وغيره ، وهذا الحكم بالشذوذ إنما يصح اصطلاحا فيما لو كان عمر بن حمزة ثقة عند العلماء ، لكن الواقع أنه ضعيف ؛ كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر وغيره ، ووصفه الإمام أحمد بقوله: "أحاديثه مناكير".
ومن مناكيره حديث "من أشر الناس .. الرجل يفضي إلى امرأته ثم ينشر سرها" الذي كنت تكلمت عليه في مقدمة "آداب الزفاف" الطبعة الجديدة ، ورددت فيها على ذاك المصري الجاني الذي نسبني بسبب ذلك إلى مخالفة الإجماع ! فهذا مثال آخر يؤكد ضعف عمر بن حمزة ، ومخالفته للثقات بشهادة الإمام البيهقي ، وعليه ؛ فتكون زيادته المذكورة : " الشمال " منكرة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل -رحمه الله- في ((مجلة الأصالة)) ( ع4 ، ص 68 ) ما نصه :كيف نوفق بين رواية : ((بشماله)) الواردة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في ((صحيح مسلم)) وقوله صلى الله عليه وسلم : ((وكلتا يديه يمين))؟
فأجاب بقوله :
لا تعارض بين الحديثين بادئ بدء ؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: ((000 وكلتا يديه يمين)) : تأكيد لقوله تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ؛ فهذا الوصف الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيد للتنزيه ، فيد الله ليست كيد البشر : شمال ويمين ، ولكن كلتا يديه سبحانه يمين.
وأمر آخر ؛ أن رواية : ((بشماله)) : شاذة ؛ كما بينتها في ((تخريج المصطلحات الأربعة الواردة في القرآن)) (رقم 1).
ويؤكد هذا أن أبا داود رواه وقال : ((بيده الأخرى)) ، بدل : ((بشماله))، وهو الموافق لقوله صلى الله عليه وسلم : ((وكلتا يديه يمين)) ، والله أعلم)).اهـ
4 ـ ـ قال عبد الحق الإشبيلي رحمه الله : عمر هو ابن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، من جملة من عيب على مسلم الإخراج عنه ، وقد استشهد به البخاري ، وضعفه يحيى بن معين والنسائي وغيرهما .اهـ7
قال النسائي : "ليس بالقوي" . "الضعفاء والمتروكين" الترجمة (470) .
و قال المزى : قال عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه : أحاديثه مناكير ."الكامل في الضعفاء"(5/19)
وذكره ابن حبان في الثقات وقال : "كان ممن يخطىء" (7/160) . وقال ابن عدي : "وهو ممن يكتب حديثه" . الكامل (5/20) . وقال الحافظ في التقريب : "ضعيف" .
ثانيا :
الإمام مسلم رحمه الله ذكر هذه الرواية في الشواهد لا في الأصول ،وكما هو مقرر عند أهل الحديث أن الإمام مسلم يأتي بالحديث الصحيح للإستدلال ثم يدعمه أحيانا بالشواهد التي هي دون مرتبة الصحيح للتقوية وذكر بعض الزيادات الهامة للفائدة ،قال السيوطي كما في "التدريب"(1/128): ذكر مسلم في مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام الأول ما رواه الحفاظ المتقنون والثاني ما رواه المستورون والمتوسطون في الحفظ والإتقان والثالث ما رواه الضعفاء والمتروكون وأنه إذا فرغ من القسم الأول أتبعه الثاني وأما الثالث فلا يعرج عليه.اهـ
وذكر الحافظ في " النكت " ( 1 / 433 - 434 ) رأي الحاكم والبيهقي ثم قال : " ويؤيد هذا ما رواه البيهقي بسند صحيح عن إبراهيم بن محمد ابن سفيان صاحب مسلم قال : " صنف مسلم ثلاثة كتب أحدها : هذا الذي قرأه على الناس ( يعني الصحيح )، والثاني : يدخل فيه عكرمة، وابن إسحاق وأمثالهما، والثالث : يدخل فيه الضعفاء "8
وقال العلامة أبو عمرو رحمه الله كما في "صيانة صحيح مسلم"(1/94):عاب عائبون مسلما بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء أو المتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح أيضا والجواب أن ذلك لأحد أسباب لا معاب عليه معها
وذكر منها :
أن يكون ذلك واقعا في الشواهد والمتابعات لا في الأصول وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلا ثم يتبع ذلك بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه وبالمتابعة والاستشهاد اعتذر الحاكم أبو عبد الله في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح منهم مطر الوراق وبقية بن الوليد ومحمد بن إسحاق بن يسار وعبد الله بن عمر العمري والنعمان ابن راشد أخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين والله أعلم.اهـ
وهذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
قال جامعه عفا الله عنه:
جزى الله الكاتب خير الجزاء وأعظم لنا وله الأجر والمثوبة على هذا الجمع الموفق، الذي تضمن فوائد جمة، ولنا على جمعه هذا تعقيب وتنبيه.
أما التعقيب: فعلى إيراد كلام إمام الأئمة الإمام بن خزيمة رحمه الله في هذا الموضع وهذا لا يستقيم لأمور منها:
ـ1ـ أن الكاتب حفظه الله ذكر علة الحديث، وأنه من رواية عمر بن حمزة، أي أن الكلام على السند لا على المتن، وكلام الإمام بن خزيمة على المتن كما يظهر. فإن قال قائل: التعليل يدل على عدم ثبوت الدليل. قيل: لو ساغ رد الحديث بما سبق من التعليل، ما صح في باب الأسماء والصفات دليل.
ـ2ـ أن في كلام الإمام رحمه الله متمسك لأهل البدع والأهواء من المعطلة والجهمية وغيرهم، فالحامل على التعطيل هو التشبيه. فتأمل.
ـ3ـ أن كلامه رحمه الله مخالف لما عليه أهل السنة من أن إثبات الصفات لا يلزم منه المشابهة، كما لا يخفى، فتنبه
قال الإمام محمد بن صالح العثيمين رحمه الله كما في شرحه على آخر باب من كتاب التوحيد:
ولكن إذا كانت لفظة الشمال محفوظة، فهي عندي لا تنافي كلتا يديه يمين، لأن اليد الأخرى ليست كيد الشمال بالنسبة للمخلوق ناقصة عن اليد اليمنى، فقال كلتا يديه يمين أي ليس فيها نقص، ويؤيد هذا قوله في حديث آدم: اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة، فلما كان الوهم يذهب إلى أن إثبات الشمال، يعني النقص في هذه اليد دون الأخرى، قال: كلتا يديه يمين، ويؤيده أيضا قوله: المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن، فإن المقصود بيان فضلهم ومرتبتهم، وأنهم على يمين الرحمن سبحانه، وعلى كل فإن يديه ـ سبحانه ـ اثنتان بلا شك، وكل واحدة غير الأخرى، وإذا وصفنا اليد الأخرى بالشمال، فليس المراد أنها أقل قوة من اليد اليمنى، بل كلتا يديه يمين.
والواجب علينا أن نقول: إن ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نؤمن بها ولا منافاة بينها وبين قوله: كلتا يديه يمين كما سبق، وإن لم تثبت فلن نقول بها.
قال جامعه عفا الله عنه:
فتبين من كلامه رحمه الله أن الكلام على ثبوت لفظة الشمال وعدم ثبوتها، وأنها إن ثبتت فلا منافاة بين الأحاديث والحمد لله، ومن الأئمة من صحح لفظة الشمال، وجمع بين الأحاديث، وعلى رأسهم في هذا الزمن شيخ الاسلام عبد العزيز بن عبد الله بن باز فقال رحمه الله:
كلها أحاديث صحيحة عند علماء أهل السنة، وحديث بن عمر مرفوع صحيح، وليس موقوفا، وليس بينهما اختلاف، فالله سبحانه توصف يداه باليمين والشمال من حيث الاسم، كما في حديث بن عمر، وكلتاهما يمين مباركة من حيث الشرف والفضل، كما في الأحاديث الصحيحة الأخرى. ا.هـ من المجموع ( 126 ـ25 ).
وأما التنبيه: فعلى قوله يسر الله أمره وأعظم لنا وله الأجر والمثوبة:
الإمام مسلم رحمه الله ذكر هذه الرواية في الشواهد لا في الأصول ،وكما هو مقرر عند أهل الحديث أن الإمام مسلم يأتي بالحديث الصحيح للإستدلال ثم يدعمه أحيانا بالشواهد التي هي دون مرتبة الصحيح للتقوية وذكر بعض الزيادات الهامة للفائدة ،قال السيوطي كما في "التدريب"(1/128): ذكر مسلم في مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام الأول ما رواه الحفاظ المتقنون والثاني ما رواه المستورون والمتوسطون في الحفظ والإتقان والثالث ما رواه الضعفاء والمتروكون وأنه إذا فرغ من القسم الأول أتبعه الثاني وأما الثالث فلا يعرج عليه..... الخ
قال جامعه عفا الله عنه:
وهذا نقل موفق طيب ولكن لا يستقيم تنزيله على حديث عمر بن حمزة لأن مسلما روى له في الأصل كما في كتاب النكاح ـ باب تحريم إفشاء سر المرأة ـ قال رحمه الله: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا مروان ابن معاوية عن عمر ابن حمزة العمري حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها.
وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب قالا: حدثنا أبو أسامة عن عمر بن حمزة عن عبد الرحمن بن سعد قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها. وقال بن نمير: إن أعظم. اهـ (1437).
وليس في الباب إلا هذين الحديثين الذين هما من رواية عمر بن حمزة العمري وهذا احتجاج قطعا، ولعل هذا الذي حمل أئمة الشأن على عدم ذكر هذه العلة في توهين هذا الحديث، مع سعة اطلاعهم، وحدة ذكائهم، فلم يبق إلا ما نقله الكاتب جزاه الله خيرا من كلام أئمة الحديث رحمهم الله جميعا، وحفظ الشيخ الوالد المحدث الكبير والناقد النحرير الشهير، الشيخ الإمام ربيع بن هادي المدخلي أدام الله عليه الصحة والعافية، على سند الحديث وأنه ضعيف لضعف عمر بن حمزة العمري رحمه الله. والله أعلم، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
وأما الأدلة على صفة القدمين فقال عثمان بن سعيد في كتابه المشار إليه آنفا:
باب إثبات صفة القدمين لله سبحانه:
ـ ثم أنشأت أيها المريسي تطعن في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما صدقت به، وعرفت أنه قد قاله، ثم فسرته تفسيرا مخالفا لتفاسير أهل الصلاة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ـ لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه فتنزوي، فتقول قط قط ـ.
فادعيت أيها المريسي، أن الحديث حق، ومعناه عندك: أنها لا تمتلئ، حتى يضع الجبار فيها قدمه. فقلت: معنى ـ قدمه ـ أهل الشقوة، الذين سبق لهم في علمه أنهم صائرون إليها، كما قال بن عباس، بباطل زعمك في تفسير قول الله تعالى: (وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) قال: ما قدموا من أعمالهم.
فقد روينا أيها المريسي عن الثقات، الأئمة المشهورين، عن بن عباس رضي الله عنهما، في تفسير القدم خلاف ما ادعيت من تأويلك هذا.
حدثناه عبد الله بن أبي شيبة، ويحي الحماني، عن وكيع، عن سفيان، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير عن بن عباس رضي الله عنهما، قال: الكرسي: موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل.
فهذا الذي عرفناه عن بن عباس صحيحا مشهورا، فما بالك تحيد عن المشهور المنصوص من قوله؟ وتتعلق بالمغمور منه الملتبس الذي يحتمل المعاني؟.(4)
إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وقد يقول قائل هلا اكتفيت بذكر الأدلة من الكتاب والسنة، حتى أطلت بذكر كلام الإمام الدارمي رحمه الله؟ فيحسن بنا جوابا على ذلك أن نتبع كلام الإمام الدارمي بكلام الإمام بن القيم رحمه ليكون أبلغ في دحر المعطلة، قال رحمه الله: قد علم أن كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام والصحابة والتابعين رضي الله عنهم ليس عندكم حجة في هذه المسألة، إذ غاية أقوالهم عندكم أن تكون ظواهر سمعية، وأدلة لفظية معزولة عن اليقين، متواترها يدفع بالتأويل، وآحادها يقابل بالتكذيب، فنحن لم نحتج عليكم بما حكيناه، وإنما كتبناه لأمور:
منها: أن يعلم بعض ما في الوجود، ويعلم الحال من هو بها جاهل.
ومنها: أن أهل الإثبات أولى بالله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأئمة الاسلام وطبقات أهل العلم والدين من الجهمية المعطلة.
ومنها: أن نعرف الجهمي النافي: لمن خالف من طوائف المسلمين؟ وعلى من شهد بالتشبيه والتمثيل؟ وعلى من أسجل بالتفكير؟ وعرض من مزق من الأئمة؟.
ومنها: أن نعرف عساكر الاسلام والسنة وأمراءها، وعساكر البدع والتجهم، ليتحيز المقاتل إلى إحدى الفئتين على بصيرة من أمره، (ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم).
ومنها: أن نعرف الجهمي النافي: لمن قد بارز بالعداوة، وبغى الغوائل، وأسعر نار الحرب، ونصب القتال؟ أفيظن أفراخ المعتزلة ومخانيث الجهمية ومقلدوا اليونان، أن يضعوا لواء رفعه الله تعالى، وينكسوا علما نصبه الله تعالى، ويهدموا بناء شاده الله ورفعه، ويقلقلوا جبالا راسيات شادها وأرساها، ويطمسوا كواكب نيرات أنارها وأعلاها؟ هيهات هيهات بئسما منتهم أنفسهم لو كانوا يعقلون (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون)،(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون*هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) اهـ من اجتماع الجيوش الاسلامية.
هذا ونحن إذ نثبت لله عز وجل هذه الصفات وغيرها من الصفات التي أثبتها الله سبحانه لنفسه وأثبتها له نبيه صلى الله عليه وسلم (كالسمع، والبصر، والوجه، والساق، والنفس، والفرح، والضحك) وغيرها، مما هي صفات ذات أو صفات فعل، فإننا نبرء إلى الله تعالى مما عليه المعطلة النافون من معتزلة وجهمية، وأشاعرة وماتوريدية، وكلابية، وغيرهم، ومما عليه المشبهة الغالون من شيعة وصوفية وغيرهم، ونأبى إلا أن ندين لله بالدين القويم الذي كان عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان من سلف هذه الأمة إلى يوم الدين، كما تقدم، فهم أهل السنة والجماعة, وهم الطائفة الناجية المنصورة, وإن رغمت أنوف أهل البدع والأهواء، كيف لا وهم الذين توسطوا في كل أبواب الشريعة، والتجأوا في كل أمورهم إلى حصون السنة المنيعة، ودانوا لله في باب الأسماء والصفات، بالذي جاء في كتاب رب الأرض والسماوات، فقالوا: إن من الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (5). (الشورى) ـ11
وهذا هو الدين القويم، والصراط المستقيم، الذي كان عليه أئمة الاسلام، وعلى رأسهم الصحابة الكرام، فما نقل عنهم في باب الأسماء والصفات خلاف البتة بل هم بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا، ولم يبدوا لشيء منها إبطالا، ولا ضربوا لها أمثالا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا، وأجروها على سنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها عضين، وأقروا بعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه.(6)
فصل:
و من الأمور التي يحبها الله عز وجل ما تقدم ذكره في الآيات من أنه سبحانه: (يحب المحسنين)، و(يحب المتقين)، و(يحب المطهرين)، وما سبق ذكره أيضا في أحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من أنه سبحانه: يحب العفو، ويحب أن تظهر آثار نعمه على خلقه، ويحب من عباده الغيور، إلى غيرها من الأمور التي ثبت في النصوص أن الله يحبها، وجماع الأمر أن يقال: إن الله عز وجل يحب أن يعمل العباد بما شرعه وأمر به, ويجتنبوا ما نهى عنه وحذر منه، كما في قوله عليه الصلاة والسلام المتقدم: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ـ أو ـ كما يكره أن تؤتى معصيته ـ فهو سبحانه وتعالى يحب مكارم الأمور ويبغض دنيها.
ومما يدخل فيما يحبه الله تعالى ويرضاه:
1ـ أن يحبه عباده، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) (المائدة) ـ 54.
فمن صفاتهم التي أوجبت لهم محبة الرب سبحانه وتعالى محبتهم له، ومنها أيضا أنهم (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) ثم بين سبحانه أن هذا الذي حصل منهم من أعمال ترتبت عليها محبة الله لهم هو من محض تفضله وتوفيقه، فقال: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم). (المائدة) ـ 54.
وقال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) (البقرة) ـ 165، فذم الله سبحانه المشركين على ما بدر منهم من المساواة بينه جل وعلا وبين معبوديهم في المحبة، ومدح المؤمنين بتوحيده، وشدة محبتهم له سبحانه وتعالى, فدلت الآية الكريمة على أن المحبة عبادة، والعبادة كما هو معلوم لا تنفع صاحبها إلا بشرطي قبولها وهما: الإخلاص والمتابعة، فهؤلاء الذين ذكرهم الله أخبر أنهم يحبون الله ويحبون غيره فما نفعتهم هذه المحبة الشركية، وهذا كقوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)(الكهف) ـ 103ـ ولهذا قال طائفة من أهل العلم: المحبة المتعلقة بالله ثلاثة أنواع:
1ـ النوع الأول: محبة الله على الوجه المشروع على النحو الذي وصفنا، وهذا نوع من العبادات الجليلة، ويجب إفراد الله جل وعلا بها.
2ـ النوع الثاني: محبة في الله، وهو أن يحب الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن يحب الصالحين في الله، وأن يحب في الله، وأن يبغض في الله.
3ـ النوع الثالث: محبة مع الله، وهذه محبة المشركين لآلهتهم، فإنهم يحبونها مع الله ـ جل وعلا ـ فيتقربون إلى الله رغبا ورهبا نتيجة محبة الله، ويتقربون إلى الآلهة رغبا ورهبا نتيجة لمحبتهم لتلك الآلهة، ويتضح المقام بتأمل حال المشركين، وعبدة الأوثان، وعبدة القبور في مثل هذه الأزمنة، فإنك تجد المتوجه لقبر الولي في قلبه من محبة ذلك الولي وتعظيمه ومحبة سدنة ذلك القبر ما يجعله في رغب ورهب، وفي خوف وطمع، وفي إجلال حين يعبد ذلك الولي، أو يتوجه إليه بأنواع العبادة لأجل تحصيل مطلوبه، فهذه هي محبة العبادة التي صرفها لغير الله جل وعلا شرك به، بل هي عماد الدين، بل هي عماد صلاح القلب، فإن القلب لا يصلح إلا بأن يكون محبا لله جل وعلا وأن تكون محبته لله جل وعلا أعظم من كل شيء، فالمحبة التي هي محبة الله وحده ـ يعني: محبة العبادة ـ هذه من أعظم أنواع العبادات، وإفراد الله بها واجب، والمحبة مع الله محبة العبادة هذه شركية، فمن أحب غير الله جل وعلا محبة العبادة فإنه مشرك الشرك الأكبر بالله جل وعلا.
أما النوع الثاني من أنواع المحبة: وهي المحبة المتعلقة بغير الله من جهة المحبة الطبيعية، فقد أذن بها الشرع وأجازها، لأن المحبة فيها ليست محبة العبادة، وإنما هي محبة للدنيا وذلك كمحبة الوالد لولده، والولد لوالده، والرجل لزوجته، والأقارب لأقاربهم، والتلميذ لشيخه، والمعلم لأبنائه، ونحو ذلك من الأحوال، هذه محبة طبيعية لا بأس بها، بل جعلها الله جل وعلا غريزة في الإنسان.(7)
2ـ ومنها: محبة ما يحبه الله من الأعمال القولية والفعلية والقلبية، تحب الذي يحبه الله، فهذا يجعلك تحب الله، لأن الله يجازيك على هذا أن يضع محبته في قلبك, فتحب الله إذا قمت بما يحب، وكذلك تحب من يحب، والفرق بينهما ظاهر، الأخيرة من الأشخاص، والأولى من الأعمال، لأننا أتينا ب(ما) التي لغير العاقل من الأعمال والأماكن والأزمان، وهذه (من) للعاقل من الأشخاص، تحب النبي عليه الصلاة والسلام، تحب ابراهيم، تحب موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، تحب الصديقين، كأبي بكر، والشهداء وغير ذلك ممن يحبهم الله، فهذا يجلب لك محبة الله، وهو أيضا من آثار محبة الله فهو سبب وأثر.(8)
وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم حافلة بما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان رضاه وغضبه ومحبته وكراهيته، تبعا لرضى ربه وغضبه، ومحبته وكراهيته، فكان إذا انتهكت حرمات الله غضب واحمر وجهه، وانتفخت أوداجه، وتغيرت ملامحه، حتى كأنه منذر قوم، وإذا رأى من الناس حسن عبادة، وحسن خلق وسيرة، تهلل وجهه وظهر فرحه صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي مسعود قال: قال رجل: يا رسول الله، إني لأتأخر عن صلاة الفجر مما يطيل بنا فلان فيها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب في موضع أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال: يا أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أم الناس فليجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة.
وجاء عنده أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها.
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، تعني أنه كان يتأدب بآدابه، ويتخلق بأخلاقه، فما مدحه القرآن كان فيه رضاه، وما ذمه القرآن كان فيه سخطه.
وجاء في رواية عنها، قالت: كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى أو سمع ما يكرهه الله، غضب لذلك وقال فيه ولم يسكت.
وقد دخل بيت عائشة فرأى سترا فيه تصاوير، فتلون وجهه، وهتكه وقال: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور.
ولما شكي إليه الإمام الذي يطيل بالناس صلاته حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه، غضب واشتد غضبه، ووعظ الناس وأمر بالتخفيف.
ولما رأى النخامة في المسجد، تغيظ وحكها، وقال: إن أحدكم إذا كان في الصلاة، فإن الله حيال وجهه، فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة.(9)
وروى الشيخان عن أنس رضي الله عنه: أن أبا بكر كان يصلي بالناس في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي توفي فيه، فلما كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤيته، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف ظنا منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر وتوفي من يومه.
وكذلك كان صحابته رضي الله عنهم، كانوا أحرص الناس على رضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة رضي الله عنه: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف من بعده أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقهم، وحسابهم على الله؟
فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا أو عقالا كانوا يؤدونها ـ أو يؤدونه ـ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على ذلك.
قال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق، أخرجاه في الصحيحين. (10)
وروى أبو داود في سننه من حديث النعمان بن بشير: قال: استأذن أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة عاليا، فلما دخل تناولها ليلطمها، وقال: لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجزه، وخرج أبو بكر مغضبا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر: (كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟) فمكث أبو بكر أياما، ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد فعلنا، قد فعلنا).
وهذا عمر رضي الله عنه شدته في دين الله وحرصه على رضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم خصال لا تكاد تخفى على أحد من المسلمين، أخرج بن سعد في طبقاته 3ـ291 عن أنس بن مالك رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشد أمتي في الله عمر).
وروى البخاري في الصحيح برقم: 4629ـ من حديث بن عباس عن عمر رضي الله عنه: والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله عز وجل فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم، قال: فبينا أنا في أمر أتأمره، إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا، قال: فقلت لها: مالك ولما هاهنا، فيما تكلفك في أمر أريده، فقالت لي عجبا لك يا بن الخطاب ما تريد أن تراجع، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يضل يومه غضبان، فقام عمر فأخذ رداءه مكانه حتى دخل على حفصة، فقال لها: يا بنية إنك لتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يضل يومه غضبان؟ فقالت حفصة والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين: أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله، يا بنية لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ـ يريد عائشة ـ قال: ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت أم سلمة: عجبا لك يا بن الخطاب، دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد، قال: فخرجت من عندها، وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر، ونحن نتخوف ملكا من ملوك غسان، ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، قد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب فقال: افتح افتح، فقلت: أجاء الغساني؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه، فقلت: أرغم الله أنف حفصة وعائشة، فأخذت ثوبي فأخرج حتى جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشربة له، يرقى عليها بعجلة وغلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس الدرجة، فقلت: قل: هذا عمر بن الخطاب، فأذن لي، قال عمر: فقصصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، فلما بلغت حديث أم سلمة تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء وتحت رأسه وسادة أدم حشوها ليف، وإن عند رجلي قرظا مصبورا، أو قال مصبوبا، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال: (ما يبكيك؟)، فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة).(11)
وقال حذيفة: كنت واقفا مع عمر بن الخطاب بعرفات، وإن راحلتي لبجنب راحلته، وإن ركبتي لتمس ركبته، ونحن ننتظر الشمس أن تغرب فنفيض، فلما رأى تكبير الناس ودعاءهم وما يصنعون أعجبه ذلك، فقال: كم ترى هذا يبقى للناس؟ فقلت: على الفتنة باب، إذا كسر أو فتح خرجت، ففزع فقال: وما ذاك الباب، وما كسر باب أو فتحه؟ فقلت: رجل يموت أو يقتل، فقال: يا حذيفة من ترى قومك يؤمرون بعدي؟ فقلت: رأيت الناس أسندوا أمرهم إلى عثمان بن عفان.(12)
وكذلك جاء في سيرة عثمان وعلي رضي الله عنهم، وإخوانهم من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من علماء المسلمين، مواقف طيبة تدل على عظيم حرصهم على هداية الخلق وحب الخير لهم، والفرح برؤية طاعة الله والاستقامة على دينه، وموافقة ما يحبه الله ويرضاه، وبغضهم لما يبغضه الله ويأباه، وهي كثيرة جدا لا يحصيها كثرة إلا الله العليم، يكفينا منها في هذا المقام ما ذكرنا، ومن أراد مزيد اطلاع فليرجع إلى كتب السير والتاريخ وفضائل الصحابة رضي الله عنهم.
وعلى هذا فإن الواجب على كل مسلم أن يحذو حذوهم ويقفو أثرهم، في أن تكون محبته تبعا لمحبة الله ورسوله، ورضاه تبعا لرضى الله ورسوله، وبغضه تبعا لبغض الله ورسوله، كما كان أسلافه الكرام، فلا يحب أعداء الله ولا يواليهم، ولا يبغض أولياء الله ولا يعاديهم، ولا يرضى أن يعصى ربه، ولا يعين على ما فيه سخطه، ولا ...إلخ. من الأمور التي هي إما محبوب لله ورسوله فيحبه ويرضاه، وإما منكر يسخط الرب تعالى فيبغضه ويأباه.
واعلم يا طالب الحق وفقنا الله وإياك، أن العالم السلفي إنما يفرح إذا وافق طلابه ما يحبه الله ويرضاه، ويفرح بتطبيق شريعة الله، وبالتعصب لما جاء في سنة رسول الله، ولو خالفوه فيما قال، فهمه رضا ربه، ولا يجيز العالم لمن كان أهلا للنظر والاجتهاد، ولا لمن كان متبعا مريدا للحق بدليله أن يقلده، بل قول كل العلماء في مقابل ذلك وذمه وبيان فساده.
قال ابن القيم رحمه الله:
قلت: والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبيان زلة العالم ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزل ولا بد، إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، وينزل قوله منزلة قول المعصوم، فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض، وحرموه وذموا أهله، وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم، فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه وما لم يزل فيه، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ويشرعون ما لم يشرع، ولا بد لهم من ذلك إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه، فالخطأ واقع منه ولا بد.(13)
وقال علامة المغرب تقي الدين الهلالي رحمه الله:
قال أبو عمر: قال أهل العلم والنظر: حد العلم التبيين وإدراك العلم على ما هو عليه، فمن بان له شيء فقد علمه، والمقلد لا علم له ولم يختلفوا في ذلك. ومن ها هنا قال البحتري:
عرف العالمون فضلك بال علــــم وقال الجهال بالتقليد
وقال أبو عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي:
التقليد: معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع ما ثبتت عليه حجة.
وقال في موضع آخر في كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك، فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح، وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه، والاتباع في الدين مسوغ، والتقليد ممنوع. ا.هـ (14)
فصل:
واعلم يا طالب الحق، أرشدنا الله وإياك لطاعته، أن الحامل على النهي عن تقليد العلماء مطلقا، ما قد علم الله تبارك وتعالى أن العالم قد تعزب عنه بعض دلالات الكتاب والسنة، وقد لا تبلغه السنة، مع أسباب أخرى يقع بها العالم في الخطأ، فتجاوز سبحانه عن العالم وأثابه على اجتهاده المأمور به، وفرض على المخطئ أن يرجع إلى الحق إذا تبين أو بين له.(15)
ولقد بلي كثير ممن ينتسب لهذه الدعوة الطيبة في هذه الأيام، بالتقليد الأعمى، والتعصب الباطل، لمن عظمت في قلوب الناس منزلتهم من علماء أهل السنة، ويريدون حمل الناس على هذا الباطل حملا، ويجعلون مخالفة من عظموه ولو كان مخطئا، من الجرأة عليه، والطعن فيه، وقلة الأدب معه, ولو صان المتكلم عرض العالم الذي خالفه، وعزز ما ذهب إليه بالأدلة القطعية، التي تدل على الحق الذي هو عليه، بل ولا يسوغون لعالم أن يقول أخطأ فلان العالم، ويعدون هذا إقصاءا، وحدادية، وحاصله: أن أكثر الناس مغرون بتقليد من يعظم في نفوسهم والغلو في ذلك، حتى إذا قيل لهم: أنه غير معصوم عن الخطإ، والدليل قائم على خلاف قوله في كذا، فدل ذلك على أنه أخطأ، ولا يحل لكم أن تتبعوه فيما أخطأ فيه، قالوا: هو أعلم منكم بالدليل، وأنتم أولى بالخطإ منه، فالظاهر أنه عرف ما يدفع دليلكم هذا.
فإن زاد المنكرون فأظهروا حسن الثناء على ذلك المتبوع كان أشد لغلو متبعيه. خطب عمار بن ياسر في أهل العراق قبل وقعة الجمل ليكفهم عن الخروج مع أم المؤمنين عائشة، فقال: والله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي. أخرجه البخاري في الصحيح من طريق أبي مريم الأسدي عن عمار، وأخرج نحوه من طريق أبي وائل عن عمار، فلم يؤثر هذا في كثير من الناس، بل روي أن بعضهم أجاب قائلا: نحن مع من شهدت له بالجنة يا عمار.(16)
فمن أراد أن يسلم له دينه، كان لزاما عليه إذا بلغه قول العالم أن يطلب دليله، لينزع ربقة التقليد من رقبته، فهذا هو سبيل المؤمنين، بل هذا الذي فطر الله عليه عباده طلب الحجة والدليل المثبت لقول المدعي، فركز سبحانه في فطر الناس أنهم لا يقبلون قول من لم يقم الدليل على صحة قوله، ولأجل ذلك أقام الله سبحانه البراهين القاطعة، والحجج الساطعة، والأدلة الظاهرة، والآيات الباهرة، على صدق رسله، إقامة للحجة وقطعا للمعذرة، هذا وهم أصدق خلقه، وأعلمهم وأبرهم وأكملهم، فأتوا بالآيات والحجج والبراهين، مع اعتراف أممهم لهم بأنهم أصدق الناس، فكيف يقبل قول من عداهم بغير حجة توجب قبول قوله؟ والله تعالى إنما أوجب قبول قولهم بعد قيام الحجة وظهور الآيات المستلزمة لصحة دعواهم، لما جعل الله في فطر عباده من الانقياد للحجة، وقبول قول صاحبها، وهذا أمر مشترك بين جميع أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم الانقياد للحجة وتعظيم صاحبها، وإن خالفوه عنادا وبغيا فلفوات أغراضهم بالانقياد، ولقد أحسن القائل:
أبن وجه قول الحق في قلب سامع***ودعه فنور الحق يسري ويشرق
فيؤنسه رشدا وينسى نفاره***كما نسي التوثيق من هو مطلق
ففطرة الله وشرعه من أكبر الحجج على فرقة التقليد.(17)
فليس بعد هذا البيان الشافي لمنصف عري عن الهوى، أن يقول إن وصف العالم بأنه غير معصوم وأنه يخطئ ولا بد، وأن الحق أكبر منه، وينبغي لكلامه من دليل يعزز ما نصره وذهب إليه، طعن؟ ومن ادعى لواحد من الأئمة انتفاء الخطأ والغلط والزلل عنه، فقد ادعى له العصمة، وكفى بذلك خروجا عن الاسلام. (18)
وأما اغتنام تبجيل أهل السنة لعلمائهم، ومحبتهم واحترامهم، ليجعل منه سلما للطعن على المحترمين، وسببا لزيادة الغلو في المحترمين، والقول بأنهم يخافون من الكلم والذم، ودافعه الخور والجبن، فيقال: إن هذا من رفيع الأدب الذي خلت منه أخلاقكم وتعاملكم مع من هو من خيرة علمائكم، من أمثال العلامة محمد بن هادي حفظه الله والشيخ العلامة محمد علي فركوس والشيخ عبد المجيد والشيخ سليمان الرحيلي والشيخ الوالد المربي الأزهر سنيقرة حفظ الله الجميع إذ بلغ الأمر ببعض سفهائكم أن حذروا من نشر كتبهم والتحذير من مجالسهم وهذه أبرز علامات أهل البدع والأهواء، وما حالنا وإياكم إلا كما قيل:
ملكنا فكان العفو منا سجية***فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما***غدونا عن الأسرى نعف ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا***وكل إناء بالذي فيه ينضح.
ونقول جوابا على هذا الكلام القبيح الساقط: إن أهل السنة (لا يخافون في الله لومة لائم) (المائدة) ـ 54.
بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين, وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم، فإن ضعيف القلب ضعيف الهمة، تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين، وتفتر قوته عند عذل العاذلين(19)، فهذا ما تعلمناه من علمائنا، وهذا هو التوحيد الخالص الذي ينبغي لكل مسلم أن يدين لله به، فلا يسلم من التعبد لغير الله، حتى لا يخاف في الله لومة لائم.(20)


والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وكتب العبد الفقير إلى عفو ربه أبو عبد الرحمن عمر مكي التيهرتي غفر الله له
ولولديه وللمسلمين. يوم الاثنين 3 ذو القعدة 1439للهجرة بتيهرت حرسها الله وبلاد المسلمين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين




(1)ـ الصفات الإلهية للشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله ـ ص 37.
(2)ـ المصدر السابق ـ ص 348ـ349 بتصرف.
(3)ـ أنظر ص 157 فما بعدها من (نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد) ط دار النصيحة.
(4)ـ المصدر السابق من ص 281 وما يليها.
(5)ـ السبيكة الذهبية حلية العقيدة الواسطية للشيخ زيد رحمه الله ـ ص 147.

(6)ـ إعلام الموقعين للإمام بن القيم رحمه الله ـ ج 1ـ 42.
(7)ـ التمهيد لشرح كتاب التوحيد للشيخ صالح آل الشيخ ـ ص 345ـ346. بتصرف يسير
(8)ـ شرح العقيدة الواسطية للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ـ ص. 157
(9)ـ جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله ـ ج 1 ـ ص 463ـ464. بتصرف.
(10)ـ مرآة الزمان لسبط بن الجوزي رحمه الله ـ ج 5ـ 20ـ21.
(11)ـ محض الصواب، لابن المبرد رحمه الله ـ ج 1 ـ ص 251ـ252ـ253.
(12)ـ مرآة الزمان في تواريخ الأعيان ـ ج 5ـ392ـ394.
(13)ـ إعلام الموقعين لابن القيم رحمه الله ـ ج1
(14)ـ الحسام الماحق لشيخ تقي الدين الهلالي ـ ص 50ـ51 ـ 48.
(15)ـ التنكيل لعبد الرحمن ابن يحي المعلمي رحمه الله ـ ج 19 ص 315.
(16)ـ المصدر السابق ـ ج1ـ ص 16.
(17)ـ إعلام الموقعين للإمام ابن القيم رحمه الله ـ ج 2ـ 180ـ182.
(18)ـ مجموع آثار عبد الرحمن ابن يحي المعلمي ـ ج 19 ص 315.
(19)ـ تفسير الإمام عبد الرحمن ابن ناصر السعدي الآية 54 من سورة المائدة.
(20)ـ المصدر السابق.


التعديل الأخير تم بواسطة يوسف عمر ; 16 Jul 2018 الساعة 04:08 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17 Jul 2018, 07:07 AM
عز الدين بن سالم أبو زخار عز الدين بن سالم أبو زخار غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2015
الدولة: ليبيا
المشاركات: 548
افتراضي

جزاك الله خيرا أخانا الفاضل مكي.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 17 Jul 2018, 09:36 AM
مكي المهداوي مكي المهداوي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jul 2018
المشاركات: 5
افتراضي

وأنت جزاك الله خيرا أخي عز الدين على هذا المرور الطيب
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013