منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 22 Feb 2012, 05:52 PM
عبد العزيز بوفلجة عبد العزيز بوفلجة غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2011
المشاركات: 227
افتراضي التصويب والتوجيه لصاحب مقال النقد النزيه

بسم الله الرحمن الرحيم
التصويب والتوجيه لصاحب مقال النقد النزيه
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد فقد كنت كتبت مقالاً حول عبد القادر الراشدي المتكلم أثبتُ فيه عقيدته التفويضية استناداً إلى بعض النصوص التي أوردها من أثبت سلفية الراشدي في العقيدة, لكن بعض إخواننا ممن أثبت سلفيته, لم يرض بذلك و رد عليَّ بمقال سماه: (النقد النزيه لتنبيهات الأخ بوفلجة عل مقال قسنطينة للأخ سمير سمراد), وكاتبه: الأخ الكريم ابن أودينة أشرف جلال – حفظه الله -, فنظرت فيه فوجدته قد جانب الصواب في بعض المسائل العلمية, وقد رغب إليَّ بعض طلاب العلم إلى ضرورة البيان في كتابة ردٍّ عليه, يتضمن بعض التصويبات والتوجيهات, فأجبتهم إلى طلبهم؛ رغبةً في الأجر والثواب, وعسى أن ينتفع بها الأخ الكريم ومن يطلع عليه من المسلمين, والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
أقول مستعينا بالله العظيم: أهم الأوجه الممكنة في التصويب والتوجيه هي كالتالي:
الوجه الأول: قوله: (إنكاره على الأخ سمراد وصفه للراشدي بالمتكلم, وبيّن –جزاه الله خيرا- أنها صفة ذم وقدح لا مدح عند أئمة السلف, وهو أمر ليس على إطلاقه كما سيأتي)
قوله: (وهو أمر ليس على إطلاقه): أقول بل هو صفة ذم على إطلاقه عند أئمة السلف – رحمهم الله تعالى- ومن قال غير ذلك فقد خالف إجماع السلف قطعاً, وهذا بيانه:
علم الكلام هو من العلوم المنهي عنها شرعا وعقلا, ولذلك نهى عنه السلف نهي تحريم, وحذروا من تعاطيعه والولوج فيه, كما حذروا من أهله, والمتكلم صفة ذم على الإطلاق, وليست صفة مدح مطلقاً.
فإن المتكلم عندهم: هو من يسلك مسالك أهل الكلام في تقرير عقائد الإسلام, كمن يسلك طريقة الحدوث والأعراض في إثبات وجود الرب – عزوجل – وربوبيته, وأسمائه وصفاته.
وهذه نصوص السلف متضافرة على التنفير منه ومن أهله, وكتب السنة والعقائد مليئة بذلك, فهذا هو الأصل في هذا الباب عند أئمة السلف – رحمهم الله -, فالقول بأن وصف المتكلم ليست صفة ذم على الإطلاق مخالف لإجماع السلف – رحمهم الله -.
فالسلف – رحمهم الله – كانوا يطلقون وصف المتكلم على من اشتغل بعلم الكلام المنهي عنه, فكل متكلم عندهم فهو من أهل الأهواء والبدع, فيقولون عمرو بن عبيد المتكلم , وواصل بن عطاء المتكلم, وأبو الهذيل العلاَّف المتكلم, وأبو الحسن الأشعري المتكلم, وأمثال ذلك, فهذا هو الأصل في إطلاق هذا الوصف عند أئمة السلف - رحمهم الله -؛ لأن هذا اللفظ الاصطلاحي من الأمور المحدثة المبتدعة, والذي يحمل معانٍ باطلة.
قال الإمام الأصولي إمام المالكية في وقته ابن خويز منداد في تأويل قول الإمام مالك – رحمه الله -: (لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء): (أهل الأهواء عند مالك, وسائر أصحابنا هم أهل الكلام, فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع, أشعريا كان أو غير أشعري, ولا تقبل لهم شهادة في الإسلام, ويهجر ويؤدب على بدعته, فإن تمادى عليها, استتيب منها) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/942).
فتأمل أخي القارئ – رحمك الله - قول الإمام السلفي الأثري ابن خويز منداد: (فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع) فلفظ كل من صيغ العموم كما هو معلوم في علم اللغة والأصول, فكل متكلم سلك مسلك المتكلمين في تقرير العقيدة الإسلامية فهو من أهل الأهواء والبدع.
لكن خالف هذا الأصل من جاء بعدهم, فوقع في بعض كتب التراجم وغيرها من وصف بعض الأعلام المشهورين بالسنة بالمتكلم, وهذا هو الذي استند إليه الأخ الفاضل في دعواه أن وصف المتكلم ليس وصف ذم على الإطلاق, وهذا له وجهان:
- أحدهما: أن يوقع هذا الوصف رجل من أهل الكلام على إمام من أئمة السنة, كما فعل ذلك عبد القاهر البغدادي الأشعري (ت 428ه) في كتابه (أصول الدين ص 333) – طبعة دار الكتب العلمية - فقد عقد فصلا طويلا ترجم له بقوله (المسألة العاشرة من هذا الأصل: ترتيب أئمة الدين في علم الكلام) فبدأها بزمن الصحابة, وزعم أن أول متكلمي أهل السنة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ثم ذكر أول متكلمي أهل السنة من التابعين, وهلمَّ جرا إلى زمنه الذي كان فيه, وكما فعل مثل ذلك صاحب (معجم المؤلفين) من المتأخرين المعاصرين فقد توسع في إطلاق هذا الوصف على أئمة أعلام مشهورين بالسنة والحديث.
يقول الأخ جلال – وفقه الله للصواب -: «وقد وصف بها صاحب معجم المؤلفين خلقا من أهل السنة السلفيين كوصفه ابن بطة العكبري الحنبلي بالفقيه، المحدث، المتكلم وكذا وصفه لأبي سعيد عثمان الدارمي بالمحدث، الحافظ، المتكلم ولو جمعنا وصفه لأمة السنّة بالمتكلمين لجاء في رسالة لطيفة فهل يلزم من وصفه لهم بالمتكلمين أن يكون كذلك هذا» الجواب: نعم لا يلزم من وُصف بذلك من هؤلاء الأئمة أن يكون متكلماً, لكن لا أحد من أهل العلم المعتبرين يوافق صاحب معجم المؤلفين - عمر رضا كحالة هذا الرجل المعاصر المتوفي سنة (1987م) - على إطلاقه هذا الوصف المذموم على هؤلاء الأئمة, فهذا الرجل لا يعرف حاله ومنهجه, وليس هو من مشاهير أهل العلم المحققين, بل هو مؤرخ جامع فقط, فكيف نترك الأصل الذي هو معلوم ظاهر عند أئمة السلف إلى قول هذا الرجل المؤرخ المعاصر المجهول الحال.
فلو كان هؤلاء الأئمة أحياء وسمعوا من أطلق عليهم هذا الوصف, لعنفوا عليه, ولما رضوا بذلك, ولتبرؤوا مما وصفوا به؛ إذ كان المتقرر عند هؤلاء الأئمة الأعلام أن هذا اللقب إنما هو وصف ذم وقدح, ولا مدح فيه ألبتة, فهل بمجرد إطلاق هؤلاء القوم على أولئك الأعلام أنهم من المتكلمة يوجب أن نخرج على الأصل الذي مشى عليه السلف؟.
فلتعلم أخي القارئ – وفقك الله لكل خير - أن أولئك القوم إنما أطلقوا ذلك الوصف على أولئك الأعلام, حتى يوهموا الناس أن هذا العلم من جملة العلوم الشرعية, وليس داخلاً في الذم, إذ هم قد أوجبوه على الأمة, بل قد أوجبوه حتى على المرأة البلهاء, وراعي الغنم, والصبي الذي ناهز الحلم, بل قد كفَّروا من لم يتعلمه, ومنهم من اكتفى بالتعصية إن كانت له الأهلية, ونحوها من الأقوال الخارجة عن منهج الإسلام, وقالوا: كل العلوم هي فرع عن علم الكلام, فهو الأصل وما دونه فرع عليه, ونحو ذلك من عبارات التبجيل لهذا العلم الفاسد شرعا وعقلا, والتي فيها مغالطة ظاهرة, وتلبيس على الناس.
وهذه النسبة قد أدركها أئمة السلف وأبطلوها, بل دفعوها عن أنفسهم ابتداءً, كما قال الشافعي: (لو أردت أن أضع على كل مخالف لي كتابا كبيرا لفعلت, ولكن الكلام ليس من شأني, ولا أحب أن ينسب إلي منه شيء)انظر: المقرئ في أحاديث ذم الكلام (ص 92), والهروي في ذم الكلام (4/308).
فهذا الإمام يدفع عنه نفسه تهمة قد ينسبها إليه من يريد إمرار مذهبه, وذكر رحمه الله أنه لا يحب أن ينسب إليه منه شيء و(شيء ) نكرة تفيد العموم, فرحمه الله من إمام ذو فقه وفهم, فتأمل أخي القارئ كلام هذا الإمام الهمام, فهم القوم لا يشقى جليسهم.
وقال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي: (وقد سمعت بعض المتهمين يقول: وما الكلام؟! كل ما خرج من الفم من النطق فهو كلام!
فهو والله حمق ظاهر أن يكون يلبسه بالشافعي الإمام المطلبي باعتزائه الكذب عليه, وزعمه الباهت عليه, وهو من أشد خلق الله تعالى على المتكلمين...ثم هذا المرواغ يدعي أنه لا يدري ما الكلام, وهؤلاء أئمة الإسلام وكل هذا التحذير وإيذانه قديما وحديثا). ذم الكلام (4/427).
فانظر – رحمك الله – كيف تنبه الإمام الهروي لمقصود ذلك الأحمق الذي أراد التلبيس والتغطية على من لا يعرف حقيقة مذهب هؤلاء, بنسبة هذا العلم الباطل إلى الإمام الشافعي وهو من أشد الناس على أهل الكلام, حتى يمرر مذهبهم الفاسد على عوام الناس, فيحسن الظن بهذا العلم وبأهله.
وتأمل أخي القارئ – رحمك الله - قول الهروي عن الإمام الشافعي أنه: (من أشد خلق الله على المتكلمين) فمنهم المتكلمون؟ المتكلمون هم أهل الكلام الذين تكلموا في ذات الله بما يخالف الكتاب والسنة, فالمتكلم إذاً وصف ذم مطلقا, فلم يستثن منهم أحدا, فالشافعي – رحمه الله – كان من أشد الناس على كل من وصف بالمتكلم؛ إذ كان المتقرر عندهم أن هذا الوصف هو وصف ذم وقدح, ولا ينصرف إلا لهؤلاء القوم, فتنبه!.
وقد ردَّ ابن تيمية على الرافضي الذي ادَّعى أن علياً رضي الله عنه كان يعرف علم الكلام, فقال: «فصل: قال الرافضي وأما علم الكلام فهو أصله ومن خطبه تعلم الناس وكل الناس تلاميذه.
والجواب: أن هذا الكلام كذب لا مدح فيه فإن الكلام المخالف للكتاب والسنة باطل, وقد نزه الله عليا عنه, ولم يكن في الصحابة والتابعين أحد يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام ويثبت حدوث الأجسام بدليل الأعراض والحركة والسكون والأجسام مستلزمة لذلك لا تنفك عنه وما لا يسبق الحوادث فهو حادث ويبنى ذلك على حوادث لا أول لها, بل أول ما ظهر هذا الكلام في الإسلام بعد المائة الأولى من جهة الجعد بن درهم والجهم بن صفوان ثم صار إلى أصحاب عمرو بن عبيد كأبي الهذيل العلاف» منهاج السنة (8/5).
فتأمل أخي القارئ – رحمك الله – قول ابن تيمية جيدا: «أن هذا الكلام كذب لا مدح فيه؛ فإن الكلام المخالف للكتاب والسنة باطل, وقد نزه الله عليا عنه», فوصفُ الرافضي لعلي رضي الله عنه أنه كان يعرف علم الكلام - وكما وصفه أيضا بذلك عبد القاهر البغدادي وزعم أن عليًّا رضي الله عنه أول متكلمي أهل السنة – هو كذبٌ على عليٍّ رضي الله عنه أولاً, ثم ثانيا لا مدح فيه مطلقاً؛ فاللام هنا هي لام النفي, وما بعدها نكرة, فهي تفيد العموم؛ ولأن علم الكلام علم باطل مطلقا.
- وأما الوجه الثاني: وهم من أطلق وصف المتكلم ممن هو منتسب للسنة على بعض أعلام السنة والحديث, كما مثل له الأخ الكريم جلال – حفظه الله - ببعض من أطلق ذلك: كإطلاق ابن العماد الحنبلي المتأخر المتوفي سنة (1089ﻫ) على ابن قيِّم الجوزية أنه متكلم, فليس مرادهم قطعا أنهم قرروا مسائل العقيدة بطريقة أهل الكلام, فهذا الطريق محرم إجماعا, فالمعتمد عند أهل السنة والجماعة في تقرير العقائد والأحكام هو الكتاب والسنة والإجماع, لكن مرادهم بذلك أنهم استعملوا مصطلحات أهل الكلام في الرد على أهل الكلام, لأن تعلم مصطلحات القوم ومعرفتها للرد عليهم جائز شرعا, بل قد يكون واجبا وجوبا كفائيا على من تصدى للرد على أهل الأهواء والبدع, فليس مجرد إطلاق ابن العماد الحنبلي على ابن القيم أنه متكلم يوجب الخروج على الأصل في هذا الباب, وكما قيل في صنيع عمر رضا كحالة – رحمه الله - في عدم الموافقة على إطلاقاته تلك, فكذلك يقال هنا في صنيع ابن العماد الحنبلي – رحمه الله -.
ثم هل ابن القيِّم يرضى بهذا الوصف؟ قطعا لن يرضى بذلك؛ لأن المتقرر عند ابن القيم السلفي أن هذا اللقب هو وصف ذم وقدح, فهذا هو الأصل, ولأن الإمام الشافعي إمام أهل السنة – كما سبق النقل عنه - قال: (ولا أحب أن ينسب إلي منه شيء), وهكذا هو الحال عند أئمة السلف, ومن سار على طريقتهم.
فالواجب إذاً أن لا يطلق على أئمة السنة مثل هذه الأوصاف؛ لأن فيها إيهام على الناس, ومغالطة ظاهرة, ووصف إمام من أئمة السنة بأنه متكلم لا مدح فيه, بل هو كذب محض إن كان المراد بالإطلاق أنه سلك مسلك المتكلمين في تقرير العقيدة.
وأمَّا قول الأخ جلال – وفقه الله لكل خير -: «وقد أورد ابن القيم شيخ الإسلام تحت باب علماء الكلام في كتابه الحافل اجتماع الجيوش, فهلا بن تيمية متكلم بدعي»
وقال في موضع آخر – في الرد التفصيلي -: « ومثال ذلك قول الإمام ابن القيم : في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية في ذكر أقوال أئمة الكلام من أهل الإثبات المخالفين للجهمية والمعتزلة والمعطلة:
قول متكلم السنة إمام الصوفية في وقته أبي العباس أحمد بن محمد المظفري : المختار الرازي صاحب كتاب فرع الصفات في تقريع نفاة الصفات ، وهو على صغر حجمه كتاب جليل غزير العلم قال فيه بعد حكاية مذاهب الناس وقالت الحنابلة وأصحاب الظواهر والسلف من أهل الحديث : إن الله على العرش ".-بل ذكر بعده شيخ الإسلام ابن تيمية وصنفه تحت هذا الباب كما في ص285 من الكتاب.»
هذا الكلام مبني على مقدمات باطلة, فالنتائج باطلة لا معنى لها, وسيكون الجواب أولا على ما ذكره في نسبة ابن تيمية إلى علماء الكلام, ثم الجواب ثانيا على قول ابن القيم في أبي العباس الصوفي المتكلم أنه «متكلم السنة».
أولا: راجعت كتاب ابن القيم «اجتماع جيوش الإسلامية», فوقفت على الباب الذي أحال إليه الأخ, فلم أجده صنف شيخه تحت علماء الكلام, فلا أدري من أين أوتي الأخ جلال – أصلحه الله -, حتى نسب إلى ابن القيم أنه أدرج شيخ الإسلام ابن تيمية تحت علماء الكلام؟!. فابن القيم ينقل عن شيخه - تحت قول عبد الله بن سعيد بن كلاب في مسألة العلو – كلاما يتعلق بتحول الأشعري عن مذهب الاعتزال وسلوكه لطريقة ابن كلاب, ويذكر مذهبه ومذهب من سلك طريقة ابن كلاب في مسألة الصفات, فهو لم ينقل عن ابن تيمية ما يتعلق بمسألة العلو, والعناوين التي عقدها ابن القيم تدل على ذلك, فهو يعنون بقوله: قول فلان, وقول فلان, وقول فلان, وعلى هذا المنوال كانت كل العناوين التي عقدها ابن القيم في كتابه كلِّه من أوله إلى آخره, ولم يشذَّ عن ذلك شيء, لكن لما أورد كلام ابن تيمية تحت قول عبد الله بن سعيد بن كلاب قال: «قال ابن تيمية», ولم يقل «قول ابن تيمية», وأنا أورد النص الذي اعتمده الأخ جلال في دعواه تلك, حتى يقف عليه القارئ الكريم, وينظر فيه نظرة تأمل, ويعلم مدى الغلط الذي وقع فيه الأخ جلال.
يقول ابن القيم: «
أقوال أئمة الكلام من أهل الإثبات المخالفين للجهمية والمعتزلة والمعطلة
قول الإمام أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب
إمام الطائفة الكلابية كان من أعظم أهل الإثبات للصفات والفوقية وعلو الله على عرشه منكرا لقول الجهمية وهو أول من عرف عنه إنكار قيام الأفعال الاختيارية بذات الرب تعالى وأن القرآن معنى قائد بالذات وهو أربع معان ونصر طريقته أبو العباس القلانسي وأبو الحسن الأشعري وخالفه في بعض الأشياء ولكنه على طريقته في إثبات الصفات والفوقية وعلو الله على عرشه كما سيأتي حكاية كلامه بألفاظه
قال ابن كلاب في بعض كتبه: " وأخرج من الأثر والنظر من قال أن الله سبحانه لا داخل العالم ولا خارجه حكاه عنه شيخ الإسلام في عامة كتبه الكلامية"
وحكى عنه أبو الحسن الأشعري أنه كان يقول: " إن الله مستو على عرشه كما قال وأنه فوق كل شيء هذا لفظ حكاية الأشعري عنه" ....- إلى أن قال -:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه:
ولما رجع الأشعري من مذهب المعتزلة سلك طريق ابن كلاب ومال في أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها وكان القدماء من أصحاب أحمد كأبي بكر بن عبد العزيز وأبي الحسين التميمي وأمثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق الموافق للسنة في الجملة ويذكرون رده على المعتزلة وأبدى تناقضهم ثم ذكر ما بين الأشعري وقدماء أصحابه وبين الحنابلة من التآلف لا سيما بين القاضي أبي بكر بن الباقلاني وبين أبي الفضل بن التميمي حتى كان ابن الباقلاني يكتب في أجوبته في المسائل كتبه محمد بن الطيب الحنبلي ويكتب أيضا الأشعري قال وعلى العقيدة التي صنفها أبو الفضل التميمي اعتمد البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب أحمد لما ذكر عقيدة أحمد قال وأما ابن حامد وابن بطة وغيرهما فإنهم مخالفون لأصل قول ابن كلاب قال والأشعري وأئمة أصحابه كابن الحسن الطبري أبي عبد الله بن المجاهد والقاضي أبي بكر متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليدين وإبطال تأويلها وليس للأشعري في ذلك قولان أصلا ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين ولكن لأتباعه قولان في ذلك ولأبي المعالي الجويني في تأويلها قولان أولها في الإرشاد ورجع عن التأويل في رسالته النظامية وحرمه ونقل إجماع السلف على تحريمه وأنه ليس بواجب ولا جائز.
قول أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري
إمام الطائفة الأشعرية نذكر كلامه فيما وقفنا عليه من كتبه كالموجز والإبانة والمقالات وما نقله عنه أعظم الناس انتصارا له الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الكتاب الذي سماه تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري ذكر قوله في كتاب الإبانة ذكر في أصول الديانة
قال أبو القاسم ابن عساكر إذا كان أبو الحسن مستصوب المذهب عند أهل العلم والمعرفة والانتقاد فوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد فلا بد أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة ونجتنب أن نزيد فيه أو ننقص منه تركا للخيانة لتعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة فاسمع ما ذكره في كتابه الذي سماه بالإبانة فإنه قال...». اجتماع الجيوش الإسلامية – مكتبة دار البيان, تحقيق: بشير مماد -(ص 210- 213), وانظر: طبعة دار الكتب العلمية(ص 179- 182).
فأين الدلالة على كون ابن القيم أدرج شيخه تحت علماء الكلام, فلماذا أيها الأخ جلال - حفظك الباري - اجترأت على ذلك دون نظر وتأمل, قاتل الله العجلة, فالعجلة من الشيطان.
لكن قد يقال: إن الأخ جلال – حفظه الله - اعتمد على نسخة تحرفت فيها لفظة (قال) إلى (قول), فإن كان هذا واقعاً, فالسياق يأباه ولا يدل عليه؛ لأن ابن القيم لم ينقل عن شيخه فيما يتعلق بالعلو, ونص ابن تيمية الوارد لا يتعلق بذلك, بل إنما هو متعلق بحكاية مذهب ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما.
ثم ما كان للتلميذ البار أن يدرج قول شيخه تحت أقوال أئمة الكلام, فإنه من الظلم الذي يُنزه عنه ابن القيم الإمام السلفي, فليس الإمام ابن تيمية من علماء الكلام قطعا, وليس الإمام ابن القيم من الذين لا يدركون حقيقة علماء أهل الكلام, ويغفلون عن هذا الأمر.
ثانيا: قول ابن القيم في أبي العباس الصوفي المتكلم «متكلم أهل السنة», فالجواب: أن مراد ابن القيم بمتكلم أهل السنة أنه من أهل الإثبات المنتسبين للسنة, الذين فارقوا المعطلة من المتفلسفة والجهمية والمعتزلة وغيرهم, فأثبتوا العلو, وباقي الصفات الأخرى الخبرية الذاتية, عدا الصفات الاختيارية فهم متفقون جميعا على نفيها, وابن قيِم الجوزية لما عقد هذا العنوان وهو «أقوال أئمة الكلام» يعرف ما يتضمنه هذا العنوان, فهو لم يورد أقوال إلا من علم أنه من أهل الكلام, وأهل الكلام مشهورون لدى العام والخاص, وقد سبق التعريف بهم سابقاً, كعبد الله بن سعيد بن كلاب, وكأبي الحسن الأشعري, وكابن الباقلاني, وكالحسين بن أحمد, وكالفخر الرازي, وكأبي العباس الصوفي, وهؤلاء هم الذين أوردهم ابن القيم تحت علماء الكلام وذكر أقوالهم في مسألة العلو, و كلهم من أهل الكلام المذمومون عند أئمة السلف.
وكذلك نجد ابن تيمية يطلق هذا الوصف على المنتسبين للسنة, والذين كانوا من أهل الكلام, ومراده بذلك متكلمة أهل الإثبات المنتسبين للسنة, كما ذكر ذلك في معرض كلامه على مسألة تكلم الله بالقرآن فقال: « وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ قَدِيمٍ قَائِمٍ بِهِ» مجموع الفتاوى (12/580).
وهذا الذي حكاه ابن تيمية عن متكلمة أهل السنة ليس هو قول السلف وأئمة الحديث, بل هو من الأقوال المبتدعة, ومذهب السلف أن الله يتكلم بصوت وحرف متى شاء كيف شاء, فكلامه قديم النوع, حديث الآحاد, لكن أولئك أرادوا مناقضة من قال إن الله يتكلم بصوت لكن ليس الصوت بقديم, وهم طوائف من الحنابلة المنتسبين للسنة.
وكذلك قوله في مسألة زيادة الصفات على الذات: « ومن قال من متكلمة أهل السنة : ( إن الصفات زائدة على الذات )....» درء التعارض (1/434).
فليس مراده أئمة السلف وأهل السنة والجماعة؛ بل مراده متكلمة أهل الإثبات المنتسبين إلى أهل السنة؛ لأن قول القائل: «إن الصفات زائدة على الذات» من الألفاظ المجملة التي لم تكن تجري على لسان السلف, ومذهبهم في ذلك هو الاستفصال, وهذا القول هو مشهور من مذهب الأشاعرة أنهم يقولون الصفات زائدة على الذات؛ يردون بذلك على المعتزلة, وأن هذه الصفات زائدة على مسمى الذات, فليست الذات مجردة عن الصفات, وهذا يدركه من له خبرة بهذه المسائل.
ويوضح ذلك أكثر قول ابن تيمية: «وكذلك متكلمة أهل الإثبات, مثل الكلابية, والكرامية, والأشعرية.....» مجموع الفتاوى (4/12).
وقال أيضا:«وأمَّا متكلمة أهل الإثبات؛ من الكلابية, والكرامية, والأشعرية, مع الفقهاء والصوفية وأهل الحديث, فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف, بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم» مجموع الفتاوى(4/156).
ففسر ابن تيمية متكلمة أهل الإثبات: بأنهم طوائف المتكلمين من الكلابية والكرامية والأشعرية, وغيرهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث, المخالفين لمتكلمة النفاة, كالجهمية والمعتزلة وغيرهم من طوائف المعطلة, ثم ذكر أنهم يوافقون السلف في أكثر جمل مقالاتهم, لا في كلها, ولا في التفاصيل فتنبه!.
ويكثر في كلام ابن تيمية استعمال هذا اللفظ «متكلمة أهل الإثبات», ويقابلهم «متكلمة النفاة», ومقصوده كما سبق تقريره, يوضحه سياق كلامه, والمسائل التي يذكرها عنهم, يدرك ذلك طلاب العلم المتمرسين.
فالمقصود أن هؤلاء الذين وصفوا بأنهم من متكلمة السنة, أو متكلمة أهل الإثبات أن الذم واقع عليهم لسلوكهم طريقة أهل الكلام, مع انتسابهم للسنة, وقربهم من السلف في الإثبات, وخاصة الحنابلة منهم, كابن عقيل, وابن الجوزي, والقاضي أبي يعلى, وابن الزاغوني, والتميمين, وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي.
فالواجب على طالب العلم أن يعتني بالمصطلحات العلمية التي تجري على لسان السلف, وعلى لسان المخالفين لهم, ولا يكون ذلك إلا بكثرة الممارسة, والنظر الطويل في كتب أهل العلم, ككتب ابن تيمية وغيره من أهل العلم المحققين, ولا يعجل بالحكم على الشيء إلاَّ بعد الممارسة الطويلة, والتأمل الدقيق.
الوجه الثاني: قوله: (ثم جزم الأخ صاحب التنبيهات أن الراشدي علم من أعلام الأشعرية المفوضة بناء على من وصفه من المترجمين بالمتكلم).
أقول: أنا لم أجزم بأن الراشدي علم من أعلام الأشعرية المفوضة بناءً على من وصفه من المترجمين بالمتكلم, بل الكلام على كونه متكلم شيء, والكلام على كونه مفوض أشعري شيء آخر؛ لأن وصف المتكلم وصف عام يدخل فيه الأشعري والمعتزلي والماتريدي, وغيرهم من طوائف المتكلمين, ويدخل فيه المفوض, والمتأول, وقد اعترف من ترجم له أنه متكلم.
فالمقصود أنني قررت أنه متكلم أولا, فإذا تقرر أن الراشدي متكلم سلك مسلك المتكلمين في تقرير عقائدهم, كفانا ذلك في التنفير منه ومن مذهبه.
ثمَّ إني بعد ذلك قررت أن الراشدي مفوض أشعري بناء على النصوص الواردة في هذه المسألة, سواء ممن ترجم له, أو من النصوص الواردة عنه, وكل النصوص الواردة عن الراشدي في هذا الباب لم يتعقبها الناقد, ولم يعلق عليها, اللهمَّ إلاَّ إشارات يسيرة, وهي المقصود الأول من التنبيه والرد.
ثمَّ إن قول الأخ: « وهي ألقاب يطلقها كثير من المتأخرين على من له عناية بأصول الدين والعقائد, ولا يلزم كون الموصوف بها متكلما»
أقول: هؤلاء المتأخرون هم طوائف أهل الكلام, وأكثرهم ممن سلك مذهب الأشاعرة, وهم يكثرون من إطلاق هذا اللقب على أئمة السنة المحضة, ليلبسوا على الناس, ولا يلزم كون الموصوف بها متكلما, لكن إطلاقاتهم لا عبرة بها, بل العبرة بإطلاقات السلف – رحمهم الله -, وأما عن مسمى أصول الدين, ومسمى العقائد, فهذه المسميات يراد بها عند القوم علم الكلام, وقد أدخلوا في تلك المسميات من المسائل الباطلة, والدلائل الفاسدة الشيء الكثير, فلا عبرة بإطلاقات القوم؛ إذ العبرة بالحقائق والمعاني, لا بالألفاظ والأسماء.
يقول ابن تيمية: « وأما ما يدخله بعض الناس في هذا المسمى من الباطل, فليس ذلك من أصول الدين, وإن أدخله فيه مثل المسائل والدلائل الفاسدة مثل : نفي الصفات والقدر ونحو ذلك من المسائل ومثل الاستدلال علي حدوث العالم بحدوث الأعراض التي هي صفات الأجسام القائمة بها : إما الأكوان وإما غيرها, وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل....- إلى أن قال -: فهذه داخلة فيما سماه هؤلاء أصول الدين ولكن ليست في الحقيقة من أصول الدين الذي شرعه الله لعباده» درء التعارض (1/38- 41).
وأمَّا قوله أني حكمت على الراشدي بأنه متكلم:« بناء على تعليق الراشدي على كتب المتكلمين وهي الكتب الشائعة الذائعة في المغرب والأندلس في ذلك الزمن »
أقول: لماذا التهوين من هذا المسلك الذي سلكه الراشدي, والتهوين من الاعتناء بكتب أهل الكلام, ولو كان على سبيل التعليق.
فالراشدي لم يعلق عليها فحسب, بل قد اعتنى بها تفسيرا وشرحا, حتى قيل فيه «عضد زمانه», وقد دلل الأخ سمير – حفظه الله – على كون الراشدي متكلما, -وذلك بعد مقدمة يسيرة نبه فيها على أن علم الكلام من العلوم المحدثة, التي نهى عنها أئمة الإسلام – بالكتاب الذي ألفه في شبيبته في شرح سادسة العقائد للسنوسي, ثم لما ضاع منه الكتاب ألف كتابه «متسعة الميدان» تعرض فيه لمباحث علم الكلام, ثم كَتبَ حاشية على شرح المواقف, ثم كتب رسالة علق فيها على أفعال العباد من شرح المقاصد.
ثم ذكر الأخ سمير بعد ذلك أن الراشدي برع في علم الكلام وفي الجدليات, وقال: من طالع كتابه «متسعة الميدان» أدرك ذلك, ثم ينقل عن عبد الله الحمادي أن الراشدي تربى على فلسفة الكلام والجدل.
فالراشدي اعتنى بكتب أهل الكلام شرحا وتفسيرا حتى قيل فيه «عضد زمانه» وهذه النسبة إلى هذا الرجل هي نسبة ذم وقدح, فالإيجي من أئمة المتكلمين والفلاسفة, وكتابه «المواقف» من أبرز كتبه الكلامية الفلسفية, ووصف الراشدي بأنه «عضد زمانه» معناه أنه اعتنى بتقرير العقيدة بعلم الكلام, فهذا الذي يظهر من هذه النسبة, ومن ادعى خلاف ذلك فقد خالف ما هو ظاهر بين.
فهذه هي طريقة الراشدي وهذا منهجه ومسلكه كما قرره الأخ سمير وفق المنهج العلمي, فكيف يهون الأخ جلال – حفظه الله - من هذا الأمر, ويغالط الناس بعبارات وألفاظ تهون من هذا المسلك الكلامي الفلسفي الذي سلكه الراشدي, وتربى عليه منذ شبيبته, فهل تربى الراشدي على علم السلف في العقيدة, وفي غيرها, وهل اعتنى بكتب السلف, وهل علق – على حد تعبير جلال – أو شرح كتابا واحدا من كتب أئمة السنة في العقائد؟. (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) البقرة (111).
ثمَّ هل تاب من علم الكلام وأظهر توبته وأعلنها, أم استمر على ذلك كما يدل عليه كتاب «متسعة الميدان», الذي من طالعه أدرك حذقه في الكلاميات والجدليات, على حدِّ قول الأخ سمير؟.
وهذه قصيدته المعتمدة عند الإخوة موجودةٌ بين أيدينا, فهل فيها شيء يدل على أنه تاب من علم الكلام, وأعلن فيها براءته من هذا العلم المحرم شرعاً وإجماعاً, والذي قد تربى عليه منذ شبيبته, وألف فيه وشرح وعلَّق, فهل تاب من ذلك كلِّه وأظهر توبته وأعلنها في هذه القصيدة؟!.
ثمَّ هذا رجلٌ من علماء «زواوة» أشعري العقيدة, أشار إليه الأخ سمير في الحاشية رقم (31) (ص 47) من مجلة الإصلاح العدد (25), قال عنه سمير: له مخطوط, حطَّ فيه من الراشدي, وقال: من جددَّ لنا الإيمان بغير مذاهب الأشعرية نبذناه, ثمَّ هو مع ذلك يقول عن الراشدي: الشيخ عبد القادر شيخنا ومعتقدنا.
يا ترى لماذا حطَّ منه, وردَّ عليه, ثم هو مع ذلك يقول: شيخنا ومعتقدنا؟!.
لو لم يكن الراشدي على عقيدة الأشاعرة في باقي مسائل الدين والعقيدة, أيجرأ هذا الأشعري أن يجعل الراشدي معتقده؟ الجواب: قطعا لا, فالعداوة بين الأشاعرة وأهل السنة السلفيين ظاهرة معلومة لدى العام والخاص, فهذا الأشعري يدرك أن الخلاف في مسألة التأويل قائم بين الأشاعرة أنفسهم, لكن هو لم يمنعه من كونه على مذهبه واعتقاده أن يرد عليه في مسألة التأويل, فالأشاعرة مختلفون فيما بينهم يرد بعضهم على بعض, ويحط بعضهم من بعض؛ لأنه لا وازع إيماني عندهم, بل عندهم الانتصار للنفس, وهذه سمة أهل الأهواء والبدع, تجدهم مختلفون في الكتاب, مخالفون للكتاب, يتبعون المتشابه من الكلام, ويلبسون على جهال الناس, كما وصفهم بذلك الإمام أحمد في مقدمة كتابه (الرد على الجهمية).
ثم قولك أيها الأخ الكريم جلال – حفظك المولى - بعد ذلك: (وهي الكتب الشائعة....) أسألك بالله عليك: إلى ماذا تريد أن تصل بهذا الكلام؟ أتريد أن تسوغ هذا المسلك الكلامي, والاعتناء بكتب المتكلمين إن كانت شائعة في وقت من الأوقات, فلا أخالك ذلك الرجل, أم ماذا تريد إذاً؟!.
فانتشار مثل هذه الكتب في المغرب وفي غيرها, وظهورها على كتب أئمة السلف ليس مسوغا شرعيا للاعتناء بها, أو التعليق عليها, فإن كانت هذه الكتب الكلامية ظاهرة بالكلية – وهذا لم يقع إطلاقا؛ لأن الحق ظاهر إلى أن تقوم الساعة – فالواجب هو الاعتناء بكلام الله عزوجل, وبكتب السنة, كصحيح البخاري وصحيح مسلم, والكتب الأربعة في السنة, كالسنن للترمذي, وسنن ابن ماجة, وسنن أبي داود, وسنن النسائي, وكالمسانيد, وكالموطأ, وغيرها من الكتب الحديثية السَّلفية التي هي مليئة بتقرير عقائد السلف.
الوجه الثالث: قوله: «وقد فات الأخ صاحب التنبيهات-وفقه الله- عناية الراشدي بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم بل وصفه ببعض من ترجم له بالمحّدث بل ذكر الكتاني في فهرسه تقريظ الراشدي لكتاب الذخيرة في السيرة النبوية الذي قرظه ومدحه أعلام عصر مؤلفه بالحجاز ومصر وتونس وغيرها من بلاد افريقية, وكذا مجالسه الحافلة بتفسير كتاب الله عزّ وجل, بل لشهرته بالحديث استجازه الزبيدي مراسلة»
الجواب: أنه لم يفتني ما ذكرته, لكن أطرح على الأخ الكريم جلال سؤالاً : ماذا تقول أيها الأخ الفاضل في أبو سليمان الخطابي, وأبي حاتم بن حبان البُستي, و ابن فورك, و البيهقي, والقاضي عياض, وابن حزم الظاهري, وابن الجوزي, وابن عقيل, وغيرهم من أعلام الحديث الذين لهم عناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكتبهم الحديثية مشتهرة منتشرة, يستفيد منها العام والخاص, وهم علماء فضلاء, أعلى منزلة وقدرا من عبد القادر الراشدي؟!.
فهل بمجرد اعتنائهم بحديث رسول الله يلزم منه أنهم سلكوا مسلك في السلف – رحمهم الله – في تقرير العقائد, فهذا ليس بلازم قطعا, كيف وقد سلك هؤلاء الأعلام مسلك النفاة المعطلة في تعطيل أحاديث الرسول الكريم من صفات الرب – عزوجل -, وكتبهم الحديثية طافحة بالتعطيل والتأويل.
فهؤلاء الأعلام الفضلاء مع ما لهم من المكانة والمنزلة في نفوس كثيرٍ من الناس, إلاَّ أنهم سلكوا مسلك النفاة المعطلة في كثير من مسائل الصفات, كالصفات االختيارية وغيرها من الصفات الخبرية الذاتيةالواردة في أخبار الآحاد وغيرها, فعطلوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة في الصفات, ونفوا دلالتها الظاهرة, وتأولوها كما تأولتها الجهمية, بل ادعوا دعوى باطلة, وهي أن أحاديث الآحاد لا تفيد العلم واليقين في العقائد, ولا يثبت بها صفة من صفات الرب؛ لأنها ظنية, والعقائد عندهم لا تثبت بأخبار الآحاد, فهل بمجرد اعتناء هؤلاء بحديث الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام جمعا وترتيبا وشرحا – مع ما في شرحهم من الأمور الباطلة – يستلزم منه القول بأنهم على عقيدة السلف؟!.
يقول ابن تيمية مبينا مسلك الخطابي وأبي حاتم البستي: «قلت: وقد أنكره – يعني الحد - من أهل الفقه, والحديث, ممَّن يسلك مسلك ابن كُلاَّب, والقلانسي, وأبي الحسن – يعني الأشعري -, ونحوهم في هذه المعاني, ولا يكاد يتجاوز ما أثبته هؤلاء, مع ماله من معرفة بالفقه, والحديث؛ كأبي حاتم هذا, وأبي سليمان الخطابي, وأمثاله من الكلام ما يظن أنه متناقض؛ حيث يتأول تارة, ويتركه تارة أخرى, وليس بمتناقض؛ فإن أصله: أن يثبت الصفات التي في القرآن, والأخبار الموافقة له, أو ما في الأخبار المتواترة, دون ما في الأخبار المحضة, أو دون ما في غير المتواترة, وهذه طريقة ابن عقيل, ونحوه, وهي إحدى طريقي أئمة الأشعرية, كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني, وهم مع هذا يثبتونه صفات معنوية» انظر: بيان تلبيس الجهمية (3/36).
وأما عن ابن فورك المحدث فكتابه «مشكل الحديث» كتاب حديثي, سلك فيه مسلك الجهمية في نفي صفات الرب – عزوجل-, وأكثر التأويلات الموجودة فيه هي بعينها تأويلات بشر المريسي.
وكذلك البيهقي المحدث سلك هذا المسلك كما في كتابيه «الأسماء والصفات», و«الاعتقاد» وهما كتابان في العقيدة على طريقة المحدثين, وغير هؤلاء.
وهذا الذي ذكره الأخ الكريم هاهنا تحت هذا الوجه يذكرني باعتراض أورده ابن تيمية على لسان المعترض, وهو يقرر – رحمه الله – أن النفاة المعطلة لا معرفة لهم بالحديث, فأورد على لسان المعترض أن في النفاة من له معرفة بالحديث, فكيف يقال أن في النفاة من لا خبرة له بالحديث؟.
يقول ابن تيمية: « فإن قيل : قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين وما بلغوه عن الرسول ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك؟
قيل : هؤلاء أنواع :
نوع ليس لهم خبرة بالعقليات بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل و يعتقدونها براهين قطعية وليس لهم قوة على الاستقلال بها بل هم في الحقيقة مقلدون فيها وقد اعتقد أقوال السلف أولئك فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك بل إما أن يظنوه موافقا لهم وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه
وهذه حال مثل أبي حاتم البستي, وأبي سعد السمان المعتزلي, ومثل أبي ذر الهروي, وأبي بكر البيهقي, و القاضي عياض, وأبي الفرج بن الجوزي, وأبي الحسن علي بن المفضل المقدسي وأمثالهم.
والثاني : من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها كما غلط غيره فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة مع أنه لا يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة من هذا الباب ما كان لأئمة السنة وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما, وهذه حال أبي محمد بن حزم, وأبي الوليد الباجي, والقاضي أبي بكر بن العربي وأمثالهم, ومن هذا النوع بشر المريسي, ومحمد بن شجاع الثلجي وأمثالهما.
ونوع ثالث: سمعوا الأحاديث والآثار وعظموا مذهب السلف وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة, والحديث لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها و ضعيفها ولا من جهة الفهم لمعانيها وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية ورأوا ما بينهما من التعارض, وهذا حال أبي بكر بن فورك, والقاضي أبي يعلى, وابن عقيل وأمثالهم.
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار, وتارة يفوضون معانيها ويقولون : تجري على ظواهرها كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك, وتارة يختلف اجتهادهم فيرجحون هذا تارة وهذا تارة كحال ابن عقيل وأمثاله.
وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع ولا يعرفون أنه موضوع وما له لفظ يدفع الإشكال مثل أن يكون رؤيا منام فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج.
ومن الناس – وهذا النوع الرابع -: من له خبرة بالعقليات المأخوذة عن الجهمية وغيرهم وقد شاركهم في بعض أصولها ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة كمسألة القرآن والرؤية فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث : أن القرآن كلام الله غير مخلوق وإن الله يرى في الآخرة فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية التي ظنها صحيحة ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه والحديث وأقوال الصحابة ما لأئمة السنة والحديث فذهب مذهبا مركبا من هذا وهذا وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض
وهذه طريقة الأشعري وأئمة أتباعه كالقاضي أبي بكر وأبي إسحاق الإسفراييني وأمثالهما ولهذا تجد أفضل هؤلاء كالأشعري يذكر مذهب أهل السنة والحديث على وجه الإجمال ويحكيه بحسب ما يظنه لازما ويقول : إنه يقول بكل ما قالوه وإذا ذكر مقالات أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم حكاها حكاية خبير بها عالم بتفصيلها» درء التعارض (7/32- 33).
وقل مثل ذلك فيما ذكره من اعتناء الراشدي بالتفسير, فعلماء التفسير الذين اعتنوا بالتفسير كثيرون جدا, وفيهم خلق كثير فسروا كلام الله عزوجل على غير مراده ولا مراد رسوله صلى الله عليه وسلم, فنفوا الصفات, وعطلوا معاني الآيات الواردة في هذا الباب عن معانيها الحقة, والأمثلة على ذلك كثيرة جدا, فخذ على سبيل المثال: تفسير الزمخشري والذي حشا تفسيره ببدع لا ينتبه لها خواص أهل العلم فضلا عمن دونه, و كذلك التفسير الكبير للرازي, وتفسير الجلالين, بل وحتى تفسير أبي عبد الله القرطبي الأشعري, على جلالته وعلمه, إلا أنه سلك مسلك الأشاعرة في مسائل الصفات, وغير هؤلاء كثير.
أفيصح بعد هذا أن يستدل على سلفية الراشدي بأنه اشتغل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبتفسير كلام رب الأرباب, وبنحو ذلك؟!.
الوجه الرابع: قال الأخ جلال- حفظه الله -« التنبيه على قول الأخ سمراد: «إنهم لا يكادون يخرجون عن الطرائق المعهودة في تقريريه, والموحد عندهم هو المتكلم»
قال صاحب التنبيهات: هذه التسمية ظهرت مبكراً, وليس في عصره, فأئمة الكلام ورؤوسه من المعتزلة الأوائل كانوا يسمون علم الكلام توحيدا...
أقول :أوّل من سمّى علم الكلام توحيداً الماتُرِيديُّ في كتابه التوحيد كما أفاد بذلك محدث المدينة العلامة حمّاد الأنصاري –رحمه الباري -.»
الجواب: أسأل الأخ الكريم جلال: من هم الأسبق في الظهور أهم المعتزلة, أتباع واصل بن عطاء الغزَّال المتوفي سنة (131ﻫ), الذين سلكوا مسلك الجهمية في نفي الصفات, أم أبو منصور الماتريدي المتوفي سنة (333ﻫ)؟!.
أدع الجواب للقارئ الفطن!.
ثم قال الأخ جلال – أصلحه الله - بعد كلامه السابق: « وقد ذكرني هذا الإلزام بحال من جزم بأشعرية ابن باديس لأنه طبع كتاب «العواصم من القواصم» وأثنى عليه وعلى مؤلِّفه ابن العربي المالكي وطريقتِه فيه, وتدريس الجمعية متن ابن عاشر وغير ذلك من الشبه التي أجاد عالم الجزائر الشيخ محمد علي فركوس في إبطالها في مقاله الموسوم بتبرئة الشيخ ابن باديس وأسلاف الجمعية من الانتساب إلى الأشاعرة والصوفية»
الجواب: قياس الأخ جلال – وفقه اهمو - بما ألزمتهم به من اعتناء الراشدي بكتب أهل الكلام والفلسفة تفسيرا وشرحا, لا على سبيل النقد والإبطال, وبين من حكم بأشعرية ابن باديس لأنه طبع كتاب «العواصم من القواصم», وأثنى عليه, وعلى مؤلفه ابن العربي المالكي الأشعري, وتدريس الجمعية لمتن ابن عاشر, هو قياس مع الفارق, بيانه:
أن الراشدي متكلم, اعتنى بهذه الكتب الكلامية شارحا لها, مفسرا لمعانيها, وهي كتب كلامية محضة, تقرر عقائد المتكلمين, محشوة بالبدعة والضلالة, فيها التعطيل والنفي على طريقة الجهمية والفلاسفة, ولم يذكر من ترجم له أنها انتقدها وأبطلها, بل ذكروا أنه اعتنى بها مقررا لما فيها, حتى قيل فيه «عضد زمانه», فلا لوم عليَّ إذ أنا حكمت على الراشدي بأنه متكلم, بما هو ظاهر لا خفاء فيه عند من له أدنى علم وإنصاف.
وابن باديس سلفي العقيدة, له رسائل وكتب في تقرير العقيدة السلفية, والنقول عنه في تقرير أصل السلف في العقيدة كثيرة جدا, و كتاب ابن العربي المالكي هذا كتاب صنفه في الرد على السوفسطائية, والباطنية, والفلاسفة, و الرافضة, و غيرها من الطوائف الخارجة عن منهج الإسلام, وهذا أمر يحمد عليه ابن العربي, كما قد أثنى شيخ الإسلام ابن تيمية, وغيره على متقدمي الأشاعرة الذين ردوا على الباطنية بطوائفها الخارجة عن الإسلام, وردوا على الفلاسفة, وردوا على الجهمية والمعتزلة, وحمد صنيعهم في هذا الباب, فموقف ابن باديس إذاً يشبه تماما موقف ابن تيمية وغيره ممن أثنى على أولئك فيما وافقوا فيه الحق, وحمدوهم على صنيعهم ذلك, فإن هذا من العدل الذي أمرنا به.
فليس كتاب ابن العربي هذا هو كتاب فلسفي محض, ولا من الكتب الكلامية المحضة التي تقرر عقائد المتكلمين والفلاسفة, ككتاب المواقف للإيجي, وإن كان صاحبه- أعني ابن العربي - سلك مسلك الأشاعرة في نفي الصفات, وزعم أنه يرد على ظاهرية العقائد, وظاهرية العقائد يدخل فيها المجسمة, كمتقدمي الروافض, كهشام بن الحكم الرافضي, وغيره, وكالكرامية ونحوهم, ويدخل فيها في مسمى هؤلاء القوم أهل السنة والجماعة, فإنهم ينبزونهم بهذه الألقاب كما هو معلوم من طريقتهم.
ثمَّ هاهنا جواب آخر عن هذه الشبهة أجاب به القائمون على موقع الشيخ فركوس – حفظه الله -, ووفق القائمين عليه لكل خير, جاء في نص جوابهم قولهم: (طبع الشيخ ابن باديس – رحمه الله – لكتاب «العواصم من القواصم», وثناؤه عليه, وعلى مؤلفه ابن العربي المالكي, وطريقته فيه؛ إنما كان قديماً, وهذا في سنة (1345ﻫ), الموافق (1926م), ثمَّ نجد الشيخ – رحمه الله – بعد ذلك بسنوات, وإلى قبل وفاته بقليل يخالف ذلك, فيتبرأ من علم الكلام وأهله, في غير ما موضع, ويقرر عقيدة السلف بالمنطوق الصريح, الذي لا يدخله أي احتمال) نقلا من موقع الشيخ فركوس – تحت عنوان تبرئة الشيخ وأسلافه الجمعية من الانتساب إلى الأشاعرة والصوفية -.
فالسؤال إذاً: هل تبرَّأ الراشدي من علم الكلام وأهله؟ وهل حذر من كتبه الكلامية التي اعتنى بها شرحا وتأليفا؟ وهل وتاب منها, وأظهر توبته وأعلنها؟ وهل قرر عقيدة السلف بصريح منطوقه, الذي لا يدخله أي احتمال؟.
أسئلة لم نقف على أجوبة لها لحدِّ الساعة, فالقياس إذاً باطل لا معنى له.
وكذلك القول في تدريس الجمعية لمتن ابن عاشر, فمتن ابن عاشر متن فقهي على طريقة المالكية, وليس هو كتاب عقدي, وإن كان في مقدمته أفصح عن عقيدته, فلا لوم على الجمعية إن قامت بتدريسه.
الوجه الخامس: يقول الأخ جلال: « هذا وقد حمل على ما جاء من تفويض في كلامه على تفويض المعنى لا الكيفية جازما بذلك ,ومن المعلوم أن متأخرة الأشعرية تخير مريديها بين التأويل والتفويض وتناهض الإثبات وترمي أصحابه بالتجسيم والتشبيه كما أن الأشعرية المؤولة والمفوضة تسلكان نفس المسلك في إثبات صفات المعاني مع اختلافهم في باقي الصفات الخبرية بين التأويل والتفويض والتخيير بين الأمرين.
وصاحبنا يذم التأويل مطلقا وتقديم العقل على النقل أصلا
كما اعتمد الأخ بوفلجة على نقل أشعري حاقد في الشبكة من جزء للراشدي مخطوط من قبل أن يقف على الكتاب ويثبت نسبته إلى مؤلفه علما أنّ نسبة الراشدي انتحلها خلق ممن ينتسبون إلى العلم وعاب علينا قبول خبر العلامة مبارك الميلي وهو ثقة عندنا واعترض بأن في كلامه تحفظا مع أن كلامه واضح بيّن وغير ذلك من الأمور»
الجواب: ما أورده الأخ جلال في كلامه هذا يتضمن أربعة مسائل:
المسألة الأولى: قوله: « هذا وقد حمل على ما جاء من تفويض في كلامه على تفويض المعنى لا الكيفية جازما بذلك» وقال أيضا في الرد التفصيلي: « حمل الأخ صاحب التنبيهات قول الراشدي:فالحق البقاء مع الظاهر وتفويض علم حقيقته إلى الله تعالى".وقول الورتيلاني: "ويصحح القول باليد حقيقة غير أنها لا يعلمها إلاَّ الله"على تفويض الخلف وهو تفويض المعنى بعد التأويل الإجمالي من غير دليل جازم, علما أنّ تفويض السلف هو إثبات المعنى مع تفويض الكيفية .وهذا يحتاج إلى زيادة بحث ونظر»
المسألة الثانية: قوله: « ومن المعلوم أن متأخرة الأشعرية تخير مريديها بين التأويل والتفويض, وتناهض الإثبات وترمي أصحابه بالتجسيم والتشبيه, كما أن الأشعرية المؤولة والمفوضة تسلكان نفس المسلك في إثبات صفات المعاني مع اختلافهم في باقي الصفات الخبرية بين التأويل والتفويض والتخيير بين الأمرين.».
المسألة الثالثة: قوله: « وصاحبنا يذم التأويل مطلقا وتقديم العقل على النقل أصلا».
المسألة الرابعة: قوله: كما اعتمد الأخ بوفلجة على نقل أشعري حاقد في الشبكة من جزء للراشدي مخطوط من قبل أن يقف على الكتاب ويثبت نسبته إلى مؤلفه علما أنّ نسبة الراشدي انتحلها خلق ممن ينتسبون إلى العلم وعاب علينا قبول خبر العلامة مبارك الميلي وهو ثقة عندنا واعترض بأن في كلامه تحفظا مع أن كلامه واضح بيّن وغير ذلك من الأمور»
فالجواب عن المسألة الأولى هو: أني حملت كلامه على تفويض المعنى كما ظاهر من نص كلامه, وكما هو ظاهر من النصوص التي أوردها من نقل مذهبه, كالنص الوارد عن الورثيلاني, وجزمت بذلك دون تردد, للأدلة الواضحة البيِّنة في هذه المسألة, فإن كان الأمر عند الأخ جلال – وفقه الله - يحتاج إلى زيادة نظر فهذا الأمر راجع إليه.
ومما يتعلق بهذه المسألة قول الأخ جلال: « هل كان الراشدي أشعريا مفوضا؟
قبل الخوض في المسألة لابد من بيان حقيقة التفويض عند الأشاعرة:-التفويض عن الأشعرية هو ” صرف اللفظ عن ظاهره مع عدم التعرض لبيان المعنى المراد منه بل يترك ويفوض علمه إلى الله....»
فهذا المعنى الذي نقله الأخ جلال في معنى التفويض هو أحد معاني التفويض, ومرادهم صرف اللفظ عن ظاهره الذي توهموه إلى معنى لا يعلمه إلا الله؛ أي أنهم يجهلون المعنى المراد, مع اتفاقهم على نفي ما يوهم التشبيه والتجسيم والجوارح والأعضاء, وهذا فيه تناقض ظاهر, فلا يعقل الادعاء بأن المعنى مما لا يعلمه إلا الله, مع الزعم بأن الظاهر غير مراد.
والمعنى الثاني للتفويض هو قول طوائف منهم: بل تجرى على ظاهرها, وتحمل على ظاهرها, ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله, فيتناقضون حيث أثبتوا لها تأويلا يخالف الظاهر, وقالوا: مع هذا إنها تحمل على ظاهرها.
وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام كما في درء التعارض (1/16), فالمقصود هنا أن التفويض عند الأشاعرة هو نفي الظاهر المستحيل المتبادر إلى أذهانهم كالتجسيم والجوارح والأعضاء, ثم البقاء مع الظواهر الجائزة, وعدم العدول عن الحقيقة إلى المجاز؛ لأنها الأصل, لكن معنى تلك الظواهر التي هي على حقيقتها مما لا يعلمه إلا الله.
وهذه نصوص الراشدي ومن نقل مذهبه أوردها مرة أخرى للتأمل دون شرح وبيان؛ إذ قد تقدم شرحها في مقالي (بعض التنبيهات المهمة حول مقال عالم قسنطينة.....):
يقول الراشدي في إنكاره على المؤولة: «بالغوا في إنكار التفويض المبني على الوقوف مع الظاهر الجائز, حتى أكفروا به زعما أنه المحال واللازم الكفر فيه».
ويقول أيضا: «فالحق البقاء مع الظاهر وتفويض علم الحقيقة إلى الله تعالى».
ويقول عبد الله بن عمر الورغيالي منشأً, الفارسي دارا -
ما أحسن الأخذ بالتفويض أخذ فتى يقبح الرأي في الكتاب والسنن
نقله الراشدي في كتابه «متسعة الميدان» كالمقرر له.
ويقول الورثيلاني:– بعد كلامٍ له -: «وهذه المسألة قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) سورة ص الآية (75) قال – يعني الراشدي -: في «اليد»: أنها حقيقة ومع ذلك إنها ليست جارحة ولا جسما, بل يستحيل ذلك لأنه يؤدي إلى الحدوث والإمكان, وقدح في التأويل لها بالقدرة, أو صفة زائدة يخلق بها الأشراف من الخلق؛ لأن التأويل محوج إلى الدليل, والخروج من الحقيقة إلى نوع من المجاز, فلم يكثرت به بالتأويل؛ إذ البقاء مع الحقيقة هو الأصل؛ لأن التأويل وإن كان صحيحا ففيه ابتغاء الفتنة...- إلى أن قال -: فقد اتفق أهل السنة قاطبة على نفي الجارحة وما يؤدي إلى الإمكان والحدوث والتجسيم, فمن قال أن له يدا حقيقة والعلم بها موكل إلى الله تعالى فلا يستلزم هذا التجسيم الذي يستلزم ما لا يليق به جل جلاله...- إلى أن قال أيضا -: فقلت حين اجتماعي بهم مجرد هذا الإطلاق – يعني إطلاق صفة «اليد» ونحوه من الصفات الخبرية الذاتية – لا يلزم عليه شيء إذ عليه أكثر الأمة, ومنهم من أولها بالقدرة, ومنهم من توقف.
فلما رآني الرسالة الموضوعة لهذا الكلام رأيتها منقحة سالمة من غير سوء الاعتقاد خصوصا التجسيم, وغايتها أنه يبطل أدلة المؤولة, ويصحح القول باليد حقيقة غير أنها لا يعلمها إلاَّ الله, لكن هذا كله بعد نفي التجسيم وما يشعر بالإمكان والحدوث» تعريف الخلف (ص 219).
فهذه النصوص كلها مما تدلنا دلالة واضحة على المسلك التفويضي الذي سلكه الراشدي, وقد بينت ما فيها من الأمور الباطلة المخالفة لعقيدة السلف في مقالي الأول, فلتراجع.
وأما الجواب عن المسألة الثانية, فأقول: متأخروا الأشاعرة مختلفون في وجوب التأويل وتحريم التفويض, وفي تحريم التأويل وتجويز التفويض أو وجوبه, وفي التخيير بين التأويل والتفويض, والذي ذهب إليه السنوسي ونصره بقوة وشدة, وذهب إليه بدر الدين ابن جماعة, ونصره اللَّقاني صاحب «جوهرة التوحيد», وتبعه على ذلك ابنه عبد السلام, والباجوري وغيرهم: هو وجوب التأويل, وهذا القول هو أحد قولي أبي حامد الغزالي, والرازي, وغيرهم ممن سار على طريقتهم, وهؤلاء يحرمون الوقوف على ظواهر نصوص الصفات؛ لأن ظواهرها مستحيلة في حقه سبحانه وتعالى؛ فهم مع قولهم بوجوب التأويل يحرمون التفويض الذي ظنوه مذهباً للسلف, وهو الوقوف مع الظواهر وتفويض علمها ومعانيها إلى الله عزوجل.
يقول اللَّقاني في شرحه على جوهرته: « فمتى ورد في الكتاب أو السنة ظاهرٌ يوهم خلاف ما وجب له تعالى, أو جاز في حقه, بأن يدل على المعنى المستحيل عليه تعالى, وجب علينا تنزيهه تعالى عمَّا دلَّ عليه ذلك الظاهر اتفاقاً من أهل الحق, وغيرهم, خلا المجسمة, والمشبهة, متمسكين في إثبات الجسمية له تعالى بتلك الظواهر الواجبة التأويل لقبولها إيَّاه؛ إذ القاطع المخالف للقواعد العقلية الذي لا يقبله يستحيل وروده إجماعاً, وبالتأويل تبطل شبهة هؤلاء الخبثاء النقلية» انظر: هداية المريد للقاني(1/ 488).
ويقول ابنه عبد السلام شارحاً قول والده الناظم «(أوِّله): وجوبا, بأن تحمله على خلاف ظاهره, والمراد أوِّله تفصيلياً مُعيِّناً فيه المعنى الخاص أخذاً من المقابل الآتي, كما هو مختار الخلف من المتأخرين...- إلى أن قال -: (أو فوِّض): علم المعنى المراد من ذلك النص تفصيليا إليه تعالى, وأوِّله إجمالاً كما هو طريق السلف».انظر: حاشية السنباوي (ص 182).
وأمَّا تحريم التأويل فهو مذهب متقدمي الأشاعرة, كأبي الحسن الأشعري, وطبقته, ومن تبعه كابن الباقلاني, والبيهقي, والقشيري, وتبعهم على ذلك الجويني في آخر قوليه, والغزالي, والرازي, وغيرهم, مع قول هؤلاء المتأخرين بجواز التفويض, أو وجوبه.
وأما التخيير بين التأويل والتفويض فهو مذهب الصاوي وقد صرح به كما في شرحه على «الخريدة البهية» (ص 42) فقال: « فارتكاب أحدهما كافٍ في العقيدة, والشخص مخير في اتباع أيهما شاء؛ لأنهما متفقان على تنزيهه - تعالى – عن المحال, وعلى الإيمان بأنه من عند الله جاء به رسول الله, لكن اختلفوا في تعيين معنى صحيح وعدم تعيينه».
والحاصل أن القوم مختلفون في الوجوب والجواز والتحريم, وأكثر متأخريهم على القول بوجوب التأويل, وتحريم الوقوف على الظواهر, وهذه أحكام شرعية تترتب عليها آثار شرعية, كالتأثيم ونحوه, والكلام كله إنما هو في الصفات الخبرية الذاتية, كالوجه, واليدين, والعينين, وغيرهما, وأما الصفات الاختيارية فكلهم من أولهم إلى آخرهم متفقون على تأويلها وجوباً؛ لأنها حوادث, والرب منزه عن الحوادث.
وأريد أن أنبه على خطأ وقع فيه الأخ جلال وهو نسبته لقب «الإمام» إلى الأشعري, كما فسره بذلك عند نقله لكلام ابن السبكي, فالإمام إذا أطلق على لسان هؤلاء القوم فهو في الغالب ينصرف إلى الإمام أبي المعالي الجويني المتوفي سنة (478ﻫ), ويدل على ذلك رسالته النظامية التي نسبها ابن السبكي للإمام.
قال الأخ جلال :( قال ابن السبكي في الطبقات: ” للأشاعرة قولان مشهوران في إثبات الصفات هل تمر على ظاهرها مع اعتقاد التنزيه أو تؤول والقول بالإمرار مع اعتقاد التنزيه هو المعزو إلى السلف وهو اختيار الإمام –أي الأشعري- في الرسالة النظامية وفي مواضع من كلامه ).
فالأشعري الذي جعله الأخ الكريم جلال بين عارضتين, وفسر به لقب الإمام غلط ظاهر, فلو علم الأخ جلال أن «الرسالة النظامية» هي للجويني لما وقع في الغلط.
وأمَّا عن المسألة الثالثة وهي قوله: «وصاحبنا يذم التأويل مطلقا وتقديم العقل على النقل أصلا».
فالجواب: أنا لم أنازع في أن صاحبكم يذم التأويل, وقد قررت غير مرة أن هذا هو مذهب متقدمي الأشاعرة ومن سلك سبيلهم, كأبي المعالي, والغزالي, والرازي وغيرهم.
وأما قوله: ويذم تقديم العقل على النقل أصلا.
فجوابه: أن أئمة الأشاعرة المتقدمين كذلك لم يكونوا يقدمون العقل على النقل, بل كانوا يحتجون بالنقل والعقل عندهم عاضد له معاون, ولم يكونوا يعارضون النقل بالعقل, ولا يقولون دلالة السمع لا تفيد اليقين, ونحوها من الأقوال الباطلة التي قال بها متأخروا الأشاعرة, كالجويني, والرازي, والآمدي, والإيجي, والتفتازاني, والسنوسي, وغيرهم.
يقول ابن تيمية: «وكان الأشعري وأئمة أصحابه يقولون: إنهم يحتجون بالعقل لما عرف ثبوته بالسمع, فالشرع هو الذي يعتمد عليه في أصول الدين, والعقل عاضد له معاون.
فصار هؤلاء يسلكون ما يسلكه من سلكه من أهل الكلام المعتزلة ونحوهم فيقولون : إن الشرع لا يعتمد عليه فيما وصف الله به وما لا يوصف وإنما يعتمد في ذلك عندهم على عقلهم ثم ما لم يثبته إما أن ينفوه وإما أن يقفوا فيه
ومن هنا طمع فيهم المعتزلة وطمعت الفلاسفة في الطائفتين بإعراض قلوبهم عما جاء به الرسول وعن طلب الهدى من جهته وجعل هؤلاء يعارضون بين العقل والشرع كفعل المعتزلة والفلاسفة.
ولم يكن الأشعري وأئمة أصحابه على هذا بل كانوا موافقين لسائر أهل السنة في وجوب تصديق ماء جاء به الشرع مطلقا والقدح فيما يعارضه ولم يكونوا يقولون : ( إنه لا يرجع إلى السمع في الصفات ) ولا يقولون : ( الأدلة السمعية لا تفيد اليقين ) بل كل هذا مما أحدثه المتأخرون الذين مالوا إلى الاعتزال والفلسفة من أتباعهم وذلك لأن الأشعري صرح بأن تصديق الرسول صلى الله عليه و سلم ليس موقوفا على دليل الأعراض وأن الاستدلال به على حدوث العالم من البدع المحرمة في دين الرسل وكذلك غيره ممن يوافقه على نفي الأفعال القائمة به قد يقول : إن هذا الدليل دليل الأعراض صحيح لكن الاستدلال به بدعة ولا حاجة إليه فهؤلاء لا يقولون : إن دلالة السمع موقوفة عليه لكن المعتزلة القائلون بأن دلالة السمع موقوفة على صحته صرحوا بأنه لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات بل ولا الأفعال وصرحوا بأنه لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة وإن وافق العقل فكيف إذا خالفه ؟
وهذه الطريقة هي التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك كصاحب الإرشاد وأتباعه وهؤلاء يردون دلالة الكتاب والسنة تارة يصرحون بأنا وإن علمنا مراد الرسول فليس قوله مما يجوز أن يحتج به في مسائل الصفات لأن قوله إنما يدل بعد ثبوت صدقه الموقوف على مسائل الصفات وتارة يقولون : إنما لم يدل لأنا لا نعلم مراده لتطرق الاحتمالات إلى الأدلة السمعية وتارة يطعنون في الأخبار» درء التعارض (2/12- 13).
فهذا هي طريقة الأشعري شيخ الطائفة وأئمة أصحابه المتقدمين, وهذا موقفهم من النقل والعقل, فهل يقال أن الأشعري وأئمة أصحابه كانوا على الطريقة السلفية في باب العقائد, أم أنهم من أهل البدع المخالفين لمذهب السلف في العقيدة؟! بل هم من أهل الأهواء والبدع كما قال الإمام ابن خويز منداد: (أهل الأهواء عند مالك, وسائر أصحابنا هم أهل الكلام, فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع, أشعريا كان أو غير أشعري, ولا تقبل لهم شهادة في الإسلام, ويهجر ويؤدب على بدعته, فإن تمادى عليها, استتيب منها) جامع بيان العلم(2/942).
فهذا حالهم وهم أجل قدرا, وأعلى منزلة من الراشدي.
ثمَّ إن تقسيم مدارك العقائد التي ذكرها الراشدي في شرحه على قصيدته لا يظهر من ذكره لها أنه يذمها أو يقدح فيها؛ فكلامه يحتاج إلى تأمل أكثر؛ حيث يقول: «وقُسِّمت العقائد إلى أربعة: ما يستدل عليه بالعقل والنقل, والعقل فيه أقوى, وهو الوحدانية.
وما يستدل عليه أيضا بهما, والنقل فيهما أقوى, وهو السمع والبصر والكلام.
وما لا يستدل عليه إلا بالعقل, وهو القدرة, والإرادة, والعلم, والحياة وما لازمها.
وما لا يستدل عليه إلا بالنقل, وهو ما يرجع إلى وقوع جائز من أحوال الآخرة» نقلاً من مجلة الإصلاح (ص 51).
وهذا التقسيم الذي ذكره هنا هو نفس التقسيم الذي يذكره جمهور متأخري الأشاعرة, ولا يظهر منه أنه يقدح فيه أو يذمه.
وأمَّا إن كان يظهر منه ذمُّه لهذا التقسيم والقدح فيه فمتقدمو الأشاعرة لم يكونوا يعرفون هذا التقسيم الخاص بالصفات, وتلك الصفات – والتي يسمونها بالصفات العقلية – كانوا يثبتونها بالعقل مع ورود السمع بها, فكانوا يجعلون النقل هو الأصل في هذه الصفات, والعقل معاون له معاضد.
يقول ابن تيمية في معرض كلامه على متأخري الأشاعرة الذين فارقوا مذهب شيخهم الأول وأصحابه: «وفارقوا قول الأشعري وأئمة أصحابه, الذين لم يكونوا يقرِّون بمخالفة النقل للعقل, بل انتصبوا لإقامة أدلة عقلية توافق السمع, ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع, وأثبت بالعقل الصفات التي تعلم بالعقل والسمع, فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضا للسمع, بل ما جعله معاضدا له, وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل...» درء التعارض (7/97).
ويقول أيضا مبينا طريقة أبي عبد الله الأصبهاني الأشعري في إثباته لصفات المعاني: «ولكن المصنف سلك في ذلك طريقة أبي عبد الله الرازي, فأثبت العلم, والقدرة, والإرادة, والحياة بالعقل, وأثبت السمع, والبصر, والكلام بالسمع, ولم يثبت شيئا من الصفات الخبرية.
وأما قبل هؤلاء كأبي المعالي الجويني, وأمثاله, والقاضي أبي يعلى وأمثاله, فيثبتون جميع هذه الصفات بالعقل, كما كان يسلكه القاضي أبو بكر, ومن قبله كأبي الحسن الأشعري, وأبي العباس القلانسي, ومن قبلهم كأبي محمد بن كلاب, والحارث المحاسبي وغيرهما» شرح الأصبهاني (ص 29) – مكتبة دار المنهاج -.
فإذاً يشبه أن تكون هذه هي طريقة الراشدي في إثباته لهذه الصفات السبع, موافقة لمتقدمي الأشاعرة, على فرض الاحتمال أنه يذم تقسيم أولئك.
ثمَّ إن الراشدي قد جعل آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه, وليست آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه كما هو متقرر عند أئمة السلف, بل هي من المحكم الذي لا يقبل التأويل والتحريف.
يقول في شرحه على قصيدته: «أي يا صاحبيَّ خبِّرا عن المؤول للمتشابه بلا دليل له, سوى أوهام عقله, أني كافر بما قضته العقول؛ أي أوهامها؛ لأنها توهمت أن ما ورد من يدٍ وعين وما بقي, مثل ما للآدمي, حصر لها بهذا الوهم في الجارحة...» نقلا من مجلة الإصلاح (ص 50).
فالراشدي يجعل الصفات الخبرية من المتشابه, وينكر على من تأولها توهما منه أنها تماثل صفات الآدميين, ثم هو بعد ذلك يذكر أن الحق البقاء مع الظاهر مع تفويض علمها إلى الله عزوجل, وهذا هو بعينه مذهب التفويض.
وأما عن المسألة الرابعة وهي قوله: «كما اعتمد الأخ بوفلجة على نقل أشعري حاقد في الشبكة من جزء للراشدي مخطوط من قبل أن يقف على الكتاب ويثبت نسبته إلى مؤلفه علما أنّ نسبة الراشدي انتحلها خلق ممن ينتسبون إلى العلم وعاب علينا قبول خبر العلامة مبارك الميلي وهو ثقة عندنا واعترض بأن في كلامه تحفظا مع أن كلامه واضح بيّن وغير ذلك من الأمور»
فالجواب: ما ذكره الأخ في كلامه هذا غير صحيح إطلاقا:
فالأمر الأمر: أنا لم اعتمد على نقل ذلك الأشعري الحاقد, بل إنما أوردته استئناسا لا اعتماداً, وقد صرح الأخ جلال نفسه في موضع آخر أني استأنست بكلامه, وهذا الرجل الأشعري التونسي الحاقد ليس مجهول الحال, بل هو معروف في الأوساط المنتسبة للعلم, وقد ترجم له الأخ سمير كما في مجلة الإصلاح (ص 48) حاشية رقم (39), وله كتابات ينتصر فيها للأشعرية ليغالب بها السلفية.
وأمَّا عن كتاب «عقيدة السلف» قد أثبت نسبته إلى الراشدي الأخ سمير سمراد – حفظه الله -, وذكر عن المؤرخ سليمان الصيد أنه وصفه بقوله: «رسالة في التوحيد في غاية النفاسة» مجلة الإصلاح العدد (25) ص (47).
وأما مسألة التشكيك بذكر أن الراشدي نسبةٌ قد انتحلها كثيرون, فهذا أمر سهل يحسنه كل أحد, فإن كانت هذه النسبة قد انتحلها خلق ممن ينتسبون إلى العلم, فلماذا إذاً حكمتم على سلفيته في العقيدة, فالواجب عليكم ابتداءً أن لا تنشروا كتاباتكم إلا بعد التأكد من هذه النسبة, وأنا إنما نبهت على ما نشر في مجلة الإصلاح, وعلى ما نشر في المنتديات, بيانا للحق, ونصرة لدين الله عزوجل, والتحذير من عقائد المتكلمين وكتبهم, فيما ظهر لي.
ثم إن الأخ سمير سمراد – حفظه الله - قد اطلَّع على كلام هذا الأشعري التونسي, وقام بتفنيد شبهته, وهذا بحسب ما فهمه وظنه أنه شبهة أوجبت منه التفنيد, وأنا رأيت رأيا وهو أن هذا الأشعري التونسي الحاقد صادق في دعواه, والنص الذي أورده إن صح ثبوته عن الراشدي فهو لا يدع مجالاً للشك في أشعرية الراشدي, ولعل الله ييسر الوقوف على كتابه «عقيدة السلف» مستقبلاً ليتأكد الأمر أكثر.
هذا وقد نبهت في الحاشية في مقالي السابق على أنني لم اطلع على كلام هذا التونسي الأشعري إلا بعد أن وقفت على النصوص الواردة في هذه المسألة, فأوردت كلامه مستأنسا به لا معتمداً عليه, فحكمت على الراشدي بأنه مفوض بناءً على النصوص الواردة في هذه المسألة, وليس بناءً على ما قرره التونسي نزار.
والأمر الثاني: أنا لم أعب على الأخ جلال – حفظه الله -, ولا على غيره فيما اعتمدوه من نقل الميلي, فأين في كلامي ما يدل على أنني عبت عليهم ذلك, بل قلت إنني لم أنازع أحدا في أن الراشدي انتصر للسلفيين في مسألة التأويل, لكن قلت: لا يلزم عليه القول بأنه انتصر للسلفيين في كل مسائل العقيدة, وهذا ظاهر بيِّن.
فهل انتصر للسلفيين في الصفات الاختيارية, وكل الأشاعرة متقدميهم ومتأخريهم على نفيها؟ وهل انتصر للسلفيين في مسائل الإيمان, والأسماء والأحكام, والوعد والوعيد؟ وهل انتصر للسلفيين في مسائل القدر, والأسباب والحكمة والتعليل؟ بل هل انتصر للسلفيين في أعظم مسائل الدين, وهو توحيد الإلهية والعبادة, وحذر من الشرك ومظاهره؟ وأمثال ذلك من مسائل العقيدة التي تتميز بها العقيدة السلفية من غيرها.
فالشيخ مبارك الميلي – رحمه الله - إنما يتكلم على مسألة تأويل أحاديث الصفات وآياتها, وقد قسم أهل السنة في المغرب كما في كتابه «تاريخ الجزائر (3/338)» إلى سلفيين, وإلى أشاعرة, فالسلفيون: يؤمنون بآيات وأحاديث الصفات كما جاءت, ولا يعتمدون على الكلام, وأما الأشاعرة: فيعتمدون على الكلام, ويؤولون بعض آيات وأحاديث الصفات, ثم ذكر بعدها بأسطر أن السلفية احتجبت بسقوط دولة صنهاجة, فلم ينصرها بعدهم من أهل العلم إلا أفراد قليلون, فقال: وللشيخ عبد القادر الراشدي أبيات في الانتصار للسلفيين طالعها....
فكلام الشيخ الميلي إنما هو منصب على مسألة التأويل, كما يدل عليه سياق كلامه, ويدل عليه القصيدة التي أوردها مباشرة بعد كلامه, والتي فيها ذم للتأويل وأهله.
ولا يلزم عليه القول بأن مبارك الميلي قصر في هذا الباب, فهو قد تكلم بحسب علمه, كيف وكلامه لا يدل على المطلوب, وليس في كلامه ما يدل على أن غاش للمسلمين, وغيرها من اللوازم الفاسدة, والتي لا تخطر ببال أحد من الناس, كما قد ألزمني بذلك بعض الإخوة المتحمسين – أصلحهم الله -.
ثم قال الأخ جلال في آخر كلامه: «فالجزم بكونه أشعريا مفوضا لابد من الوقوف على كتبه ودراسة معتقده بالتفصيل فإن صح ذلك وجب البيان والبراءة ولا نكتفي بما سبق بيانه من كونه وصف بالمتكلم أو بشرحه لكتب المتكلمين وغيرها من الإلزامات التي سبق بيانها والله أعلم».
الجواب: أوافق الأخ جلال على أن الجزم بكون الراشدي أشعريًّا مفوضاً لا بد من الوقوف على كتبه, ودراسة معتقده بالتفصيل, كما أن الجزم بكونه سلفي العقيدة لا بد من الوقوف على كتبه ودراسة معتقده بالتفصيل, لكن الذي جعلني أحكم على أن الرجل متكلم هو اعتناؤه بكتب الكلام و الفلسفة, ككتاب المواقف للإيجي, وكاعتنائه بعقائد السنوسي الأشعري, وكشرحه لأفعال العباد من كتب شرح المقاصد للتفتازاني, وكذلك كلام من ترجم له, ووصفه بأنه متكلم, وبأنه تربى على فلسفة الكلام والجدل, وأن كتابه «متسعة الميدان» من كتبه الكلامية, الذي من طالعه علم حذقه في الكلاميات, فحكمي السابق بناءً على ما تقدم: حكم وجيه له محل من النظر العلمي.
وكذلك حكمي عليه بأنه مفوض بناءً على النصوص الواردة عنه في هذه المسألة, أو من النصوص التي نقلها عنه من اعتنى بترجمته, كالنصوص التي أوردها الورثيلاني, فحكمي وجيه وله محل من النظر العلمي.
وأنا لم أحكم عليه بأنه مفوض أشعري بناءً على أنه متكلم اعتنى بكتب أهل الكلام شرحا وتفسيرا, بل أنا حكمت عليه بأنه متكلم أولاً لما سبق, وهذا وحده كاف في التنفير من مذهبه, ثم حكمت عليه ثانيا بأنه مفوض لما سبق.
ثم قولك أيها الأخ: (ولا نكتفي بما سبق بيانه من كونه وصف بالمتكلم أو بشرحه لكتب المتكلمين) أقول: والله إنَّا لنكتفي بذلك, فيما هو ظاهر عندنا, والبواطن موكلة إلى خالقها, فعلم الكلام علم باطل, وهو يدل على باطل, ولم يكن الصحابة, ولا التابعون, ولا من تبعهم بإحسان من أئمة الدين والعلم والفقه يعرفون علم الكلام, أو يشرحون كتب أهل الكلام, بل كانوا يحذرون من الكلام وأهله أشد التحذير, ويعادونهم العداوة الظاهرة التي لم تكن تخفى على أحد, ويحرمون النظر في كتبهم, والسماع لكلامهم, وكلامهم في هذا الباب أكثر من أن يحصر.
لكن الذي حكم عليه بالسلفية إنما كان عمدته هو ما قاله المبارك الميلي بأنه انتصر للسلفيين قولاً مجملاً لا مفصلاً, فأين هو البيان والتفسير؟ وأنا لا أنازع المبارك الميلي وغيره من أن الراشدي انتصر للسلفيين في مسألة تحريم التأويل لآيات وأحاديث الصفات, بل قد انتصر للسلفيين في مسألة تحريم التأويل أعلام هم أجل قدرا من الراشدي, كأبي المعالي الجويني, وأبي حامد الغزالي, وأبي عبد الله الرازي, بل قد حرم تأويل آيات وأحاديث الصفات الخبرية أعلام هم أجل قدرا من الجويني, والغزالي, والرازي, كأبي الحسن الأشعري شيخ الطائفة وطبقته, كأبي العباس القلانسي, وكتلامذته وأصحابه الذين أخذوا عنه؛ كأبي عبد الله بن مجاهد, وأبي الحسن الباهلي, وكتلامذة هؤلاء؛ كابن الباقلاني, وابن فورك, وأبي إسحاق الإسفرائيني, وأبي الحسن الطبري, وغيرهم كثير, بل قد حرم التأويل أعلام أجلاء أعظم قدرا ممن سبق, كعبد الله بن سعيد بن كلاب, وطبقته, الذين كانوا أقرب إلى السلف من الأشعري ومن جاء بعده, وغيرهم كثير, فهل كون هؤلاء حرموا التأويل يجعلنا نحكم عليهم حكما كليا بسلفيتهم في العقيدة؟!.
فكيف إذاً نحكم على الراشدي حكما عاما كليا, لكونه انتصر للسلفيين في مسألة التأويل, كيف وقد اعترف المُترجم الأخ سمير بأن الراشدي لم يهتد إلى حقيقة مذهب السلف, وهذا وحده كاف في التشكيك في مذهب الراشدي وعقيدته, وهو الفارقة في الكلام حول هذا الرجل.
يقول الأخ سمير – وفقه الله للصواب – في آخر مقاله: «تنبيه: وأنبه الأخ القارئ في ختام هذه الترجمة, أنه بدا لي أن الراشدي وإن كان أبطل التأويل, ودعا إلى عقيدة السلف, لم يهتد إلى معرفة مذهب السلف على حقيقته, وحصل له التباس فيه» مجلة الإصلاح (ص 51).
فالراشدي إذاً لم يهتد إلى معرفة مذهب السلف على حقيقته, وحصل له التباس, وهذه خاتمة المبحث, على لسان الأخ سمير سمراد – حفظه الله – فلتحفظ.
فهذا ما يسر الله جمعه في هذه المادة العلمية, فإن كان من صواب فمن الله وحده لا شريك له, وإن كان من خطأ وزلل فمن نفسي والشيطان, وأستغفر الله وأتوب إليه, والحمد لله رب العالمين.

وكتبه أبو عبد الله بوفلجة بن عباس
بالمدينة النبوية ليلة الأربعاء 23 ربيع الأول 1433ﻫ


التعديل الأخير تم بواسطة عبد العزيز بوفلجة ; 28 Aug 2012 الساعة 01:20 PM
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
منهج, مميز, ردود, سميرسمراد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013