منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 

العودة   منتديات التصفية و التربية السلفية » القــــــــسم العــــــــام » الــمــــنــــــــتـــــــدى الـــــــــعــــــــام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10 Jan 2015, 12:15 PM
أبو البراء
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي التَّنكيل بما جاء به ميلود الباتني من أباطيل في تعقُّبه على الشَّيخ الجليل (3-وبها تمام التنكيل)

فصل

ثمَّ نقل (ص/14-16) فتويين في تكفير من سبَّ الله تعالى بسبب الغضب، إحداهُما عن الشَّيخ عبد المحسن العبَّاد حفظه الله، والأخرى عن الشَّيخ محمَّد أمان الجامي رحمه الله.
والجوابُ عن كلام الشَّيخ عبد المحسن كالجواب الَّذي تقدَّم عمَّا نقله سالفًا عن بعض الأئمَّة، وهو أنَّ كلامه في حقِّ الغاضب غضبًا لم يغلَق عليه بسببه، وهذا لا شكَّ أنَّه كافر، أمَّا من أُغلق عليه فهو غير مكلَّف، فلا يشمله كلامه، وفي كلامه ـ حفظه الله ـ ما يدلُّ على هذا، فإنَّه قال في جوابه: «وهذا الإنسان لا يجد شيئًا يسبُّه عندما يغضب إلَّا الله فهذا هو الخذلان»، فالشَّيخ جعل مبنى الحكم قصدُه إلى سبِّ الله تعالى دون غيره، وهذا إنَّما يقال في حقِّ من له قصدٌ يوجهه إلى بعض من يسبُّه دون بعض، أمَّا من أُغلق عليه فلا يقال في حقِّه «وجد» ولا «لم يجد».
وقد يكون الشَّيخُ أطلق الجوابَ بغرض التَّشديد المناسب لعظمة المقام، لا باعتبار تنزيل الحكم عليه حقيقةً كما يحاوله المنتقد، وهو شيءٌ غيرُ التَّقرير العلمي الَّذي نحن فيه، وسيأتي البحثُ فيه إن شاء الله تعالى.
والشَّيخ حيٌّ موجودٌ، فيمكن أن يُستفصَل منه، لكنِّي آثرتُ أن أتكلَّم عليه بما يقتضيه النَّظر في كلامِ أهل العلمِ من حيٍّ وميِّت.
ثمَّ وقفتُ له ـ حفظه الله وأطال عمرَه في طاعته ـ على ما يدلُّ أنَّه يشترط التَّمييز والعقلَ كما هو مقتضى الأدلَّة وقول الكافَّة من أهل العلم، وذلك أنَّه سُئل: هل الرَّجل الجاهل الَّذي يسبُّ الله ﻷ نكفِّره ابتداءً كالعالم بحكم السَّبِّ، أم أنَّنا لا نكفِّره حتَّى نقيم عليه الحجَّة وبيان المحجَّة؟
فأجاب : «كيف تُقام الحجَّة على سبِّ الله؟! وكيف يقال: إنَّ هذا يجوز أو لا يجوز؟! فسبُّ الله ليس فيه جهل، فمن سبَّ الله ﻷ فهو كافرٌ، إلَّا إذا كان سبقَ لسانٍ دونَ قصدٍ فهو معذور، وأمَّا أن يتلفَّظ الإنسانُ ويتفوَّه بسبِّ الله ﻷ فليس له حجَّة، فهذا أمرٌ لا يجوز، وليس هناك أحدٌ عنده شكٌّ أنَّ سبَّ الله لا يجوز» اهـ، والجواب في دروس شرح "سنن أبي داود"، فانظر كيف بيَّن أنَّ سبَّ الله تعالى كفرٌ بمجرَّده، ولا يُنظر فيه إلى علمٍ ولا جهلٍ، ثمَّ استثنى من خرج الكلامُ منه بغير إرادةٍ منه له، كسبق اللِّسان وفي معناه الغاضبُ غضبًا أُغلق عليه بسببه، وهو عين ما قرَّره الشَّيخُ فركوس في فتواه.
وأمَّا الشَّيخ محمَّد أمان رحمه الله ففتواه صريحةٌ في أنَّ الغضب الشَّديد مع فقد الشُّعور لا يرفع حكم الكفر عن السَّابِّ، بخلاف المطلِّق فإنَّه غضب على امرأته ففد الشُّعور بسبب شدَّة الغضب فطلَّقها، فلهذا لا يقع طلاقه، لأنَّ غضبه على زوجته مشروع، بخلاف غضبه على الله فهو كفر بمجرَّده، وهذه الصُّورة لا نزاع في تكفير صاحبها، فإنَّه غضب على الله تعالى كما قال الشَّيخ في جوابه: «غضب على من؟ يعني غضب على الله فسبَّه!!»، لكن لو كان غضبه على غير الله ـ وهي المسألة موضوع البحث ـ هل يُلحق بمن غضبه على الله؟ ليس في كلام الشَّيخ ما يفيد هذا أبدًا، فبطل تعلُّقه بفتواه.

ولو سُلِّم له بأنَّ الشَّيخ أو غيرَه من أهل العلم قال بذلك، فالعبرةُ بالأدلَّة الشَّرعية المعتبرة في مثل هذه المسائل، وهي كتاب الله وسنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وإجماع أهل العلم، وما عدا هذا من كلامِ العلماء فكلٌّ يؤخَذ من قوله ويُردُّ.

على أنَّ المنتقِد قد تشدَّق ببيان خطأين زعم أنَّ الشَّيخ وقع فيهما في هذه الفتوى، فبيَّنهما في الحاشية، ثمَّ أكَّد الإحالة على ذلك البيان في صلب الرِّسالة فقال: (ص/16): «فلا تنسى (كذا) الرُّجوع إليها».
والخطآن هما في قول الشَّيخ: «ينبغي أن ننظر إلى المسألة نظرة عقليَّة، فالَّذي يسبُّ الله أليس معنى ذلك أنَّه يكره الله»، زعم أنَّ قوله: «نظرة عقليَّة» غلطٌ ظاهرٌ، لأنَّ هذه مسألةٌ شرعيَّة متلقَّاةٌ عن الله ورسوله، فلهذا ننظر فيها نظرة شرعيَّة لا عقلية، فيُقال له: ما أبعدَ ما انتجعت، فكونُ الحكم بالكفر متلقّى من الشَّرع لا يعني أنَّه لا يكون للعقل مدخل إلى الدَّلالة على بعض لوازمه أو أسبابه، فالشَّيخ بيَّن أنَّ العقل يقتضي أنَّ السَّبَّ يستلزم أحد أسباب الكفر بالله تعالى وهو البغض، فإنَّ السَّابَّ يكره ما يسبُّه، ومن كره الله تعالى أو دينه أو أحدًا من رسله فقد كفر، فكلام الشَّيخ متعلِّق باستلزام السَّبِّ لأحد موجبات الكفر، وهذا صريح قوله: «فالَّذي يسبُّ الله أليس معنى ذلك أنَّه يكره الله»، والتَّلازم من الدَّلالات العقليَّة كما هو معلوم، فليس في كلام الشَّيخ ما يفيد أنَّه يحكم على السَّبِّ بكونه كفرًا من جهة دلالة العقل عليه، لكن يظهر أنَّ للمنتقد هوى في تغليط الشَّيخ فلذلك سبق فهمه إلى غير ما هو صريح كلام الشَّيخ.
والخطأُ الثَّاني في زعمه هو أنَّه لا يلزم أن يكون الحامل على السَّبِّ هو كُره الله تعالى، بل قد يكون سببًا آخر كالاستخفاف مثلًا، وأقول: أصاب في هذه، فالبغض واحدٌ من الأسباب الحاملة على السَّبِّ، وليس كلَّها، وكلام الشَّيخ قد يُفهم منه حصر الأسباب في البغض، وهو غير مرادٍ له إن شاء الله تعالى، بل تكلَّم الشَّيخ بحسب ما حضره من الأسباب أثناء الجواب، والجادَّةُ المسلوكةُ في مثل هذا أن ينبِّه إلى أنَّ هذا أحد الأسباب لا جميعها، من غير أن يحتاج إلى التَّغليط والتَّفخيم وتكرير الإحالة المشعر بشهوة النَّقد والتَّخطئة عنده، والله المستعان.


فصل

ثمَّ نقل في تمام تقريره لإبطال القياس المذكور عن القاضي عياض رحمه الله قوله: «لا يُعذر أحدٌ في الكفر بالجهالة، ولا بدعوى زلل اللِّسان، ولا بشيءٍ مما ذكرنا إذا كان عقله في فطرته سليمًا، إلَّا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان»، وعلَّق عليه بقوله: «فانظر إلى هذا التَّقرير كيف ينفي العذر بالجهل عمَّن اقترف الكفر تحت أيِّ دعوى، ولم يستثن إلَّا ما استثناه الله ـ جلَّ وعلا ـ في كتابه..».
فسبحان الله الكريم الَّذي يهَبُ الإنصاف وتحرِّي الصَّواب لمن يشاء، ويضلُّ عنه من يشاء!
ففي كلام القاضي ما يفيد المعنى الَّذي تقرَّر من أوَّل هذه المباحث، وهو أنَّ كلام العلماء منزَّل على المكلَّف الَّذي بقي معه من العقل ما يجري عليه به قلم التَّكليف، أمَّا من خرج عن هذا الطَّور فلا تكليف في حقِّه، ولهذا قال: «إذا كان عقله في فطرته سليمًا»، فالكلام من الأساس مفروضٌ في صحيح العقل سليمِه، ولهذا يُستثنى المكرَه، لأنَّ شرط التَّكليف ـ وهو ثباتُ العقل وصحَّة القصد ـ موجودٌ فيه، أمَّا من ليس كذلك فهو خارجٌ عن محلِّ الكلام، ويأبى المنتقد أن يعقل هذا مع وضوحه ونقله هو ما يفيده من كلام العلماء، فإنَّا لله.


فصل

في (ص/18ـ 26) جعل يعيبُ على من يتوسَّعون في العذر، ويفصِّلون في كلِّ شيء حتَّى في مثل هذه المسائل العظيمة، كأنَّهم يدلُّون النَّاس على المخارج، قال: «كما فعل الدُّكتور فركوس في فتواه هذه»، ولوَّح ـ سامحه الله ـ برمي مخالفيه في هذه المسألة بالإرجاء.
قلت: ما أراد تقريرَه في هذا الفصل ـ في جملته ـ صحيحٌ، فتعظيمُ العلم والشَّرع في قلوب العامَّة شيءٌ مطلوب، ولهذا تقرَّر في طريقة أهل السُّنَّة والجماعة في التَّرهيب أن لا يفسِّروا نصوصَ الوعيد، بل يقرُّونها على ما جاءت.
لكن هذا كلُّه مبنيٌّ على المصلحة، ولهذا إذا احتاجوا إلى الرِّد على المخالفين من الوعيديَّة فإنَّهم يفسِّرونها ويبيِّنون وجهها، وجريَها وفق الأصول الشَّرعيَّة المقرَّرة في مواضعها.
وعلى هذا فقوله: «كما فعل الدُّكتور فركوس..» هكذا بإطلاق ـ مع فيه من الإخلال بأدب الخطاب ـ ظلمٌ للشَّيخ، لأنَّه قد يكون لحظ معنًى من المعاني الَّتي توجب التَّفصيل، كأن يكون فصَّل ليعلَم الواقفُ عليه أنَّ السَّابَّ وإن كان يكفر عينًا إلَّا أنَّ ذلك مضبوطٌ بضوابط الشَّرع، فقد يسارع الجاهل إلى تكفير من لا يستحقُّ التَّكفير، كأن يكون تكلَّم بلفظٍ ليس سبًّا في عادته ومجتمعه، أو يكون أُغلق على قلبه من شدَّة الغضب، وهذه مقاصدُ صحيحةٌ لا مانع من مراعاتها.
فإن رآى المنتقدُ أنَّها لا تكفي للتَّفصيل فذاك شأنُه، وللشَّيخ أن يرى ويختار على حسب ما تقتضيه مصلحةُ البيان، ولا يسوغ لمن لحَظَ معنى معتبرًا في الشَّرع أن يُلزم به النَّاس جميعًا إذا كان مبناه على المصلحة الَّتي يختلف النَّاس في الأخذ بها، وتختلف بحسب مقام الكلام.
فكما أنَّ تساهل النَّاس في سابِّ الله تعالى منكرٌ عظيمٌ يجبُ حسمُ مادَّته فكذلك تساهلُ النَّاس في تنزيل الأحكام على كلِّ أحدٍ يجب التَّنبُّه إلى ما فيه من الضَّرر والخطر وحسم مادَّته، بأن يعلم النَّاس أنَّه حتَّى المسائل الَّتي يكفر الواقع فيها عينًا لعدم العذر فيها بالجهل فإنَّ لها أحوالًا خاضعةً لقواعد الشَّرع العامَّة في رفع المآخذة فيها على حسب ما فصَّل الشَّيخ ـ حفظه الله ـ في فتواه المشار إليها.
وطريقةُ أهل العلم في هذا النَّوع من المسائل الَّتي لا يرَون فيها التَّصريح بما يُخشى منه سوءُ فهمِ العامَّة وتذرُّعهم بكلامهم إلى المحذور أن يتواصَوا بمراعاة تربية النَّاس وأخذهم بما هو الأصلح لهم في دينهم، لا الإنكار والردُّ ومعاملة هذه المسائل كما يعامَل الخطأُ في تقرير مدلولات النُّصوص وأحكام الشَّرع، والرَّجل قد خلط بين المقامين، فجرى في هذه على ما يليق بالأخرى، وعامل الشَّيخَ معاملةَ من أخطأ في تقرير المسائل من حيث أصلُ دلالة النُّصوص، لا من حيث مراعاة مصلحة النَّاس، فضلًا عن مناقضته نفسَه حيث يتكلَّم في مقامٍ بهذا الاعتبار، وفي مقامٍ آخر باعتبار أنَّ النُّصوص دلَّت على خلاف ما قرَّر الشَّيخ.
هذا كلُّه على التَّسليم له أنَّ استثناءَ الشَّيخ مُذهِبٌ هيبةَ المسألة من أصلها، وإلَّا فإنَّ الشَّيخ قد افتتح الفتوى ببيان خطرِ هذا الجُرم الكبير، وعظَّمه في نفس القارئ تعظيمًا لائقًا بمنزلته من الدِّين، على حسب ما اقتضته النُّصوص الشَّرعيَّة، لا على حسب الهوى والاستحسان المجرَّد عن قيد الشَّرع، فارجع إليها لتعلم أنَّ هذا المنتقد قد تحامَل على الشَّيخ تحاملًا بيِّنًا.
ومع أنَّه في هذا الفصل قد رامَ ما حاصله يوافَق عليه في الجملة، إلَّا أنَّه قد شابَهُ ببعض الغلط أو المغالطة، ومن ذلك أنَّه نقَلَ في (ص/26) عن الحافظ ابن رجب رحمه الله قولَه: «فأمَّا ما كان من كفرٍ أو ردَّة أو قتل نفسٍ أو أخذ مالٍ بغير حقٍّ ونحو ذلك فهذا لا يشكُّ مسلمٌ أنَّهم ـ أي من رفع اللَّوم عن الغاضب من السَّلف ـ لم يريدوا أنَّ الغضبان لا يُؤاخذ به، وكذلك ما يقع من الغضبان من طلاقٍ وعتاقٍ ويمينٍ، فإنَّه يُؤاخذ بذلك كلِّه بغير خلاف»، وزعم أنَّ هذا من ابن رجبٍ ردٌّ على من جعل الغضب مانعًا من الموانع، وعلَّق عليه بقوله: «فانظر أيُّها القارئ إلى هذا العالم كيف جعل ما صدر من الغضبان ممَّا كان من كفرٍ أو ردَّة أو قتل نفسٍ أو أخذ مالٍ بغير حقٍّ ونحو ذلك أنَّه مؤاخذٌ به ولا عذر له فيما جنى على نفسه».
قلت: فإذا كان الحافظُ ابن رجبٍ أراد الردَّ على من جعل الغضب سببًا مُسقطًا للمؤاخذة ولو مع الإغلاق، فالمنتقد نفسُه لا يسلِّم به، فإنَّه مقرٌّ بالخلاف في المسألة، وقد سبق البحثُ معه في إبطاله إلحاقَ السَّابِّ بالمطلِّق في الغضب.
بل الظَّاهرُ أنَّ كلام ابن رجبٍ في مطلق الغضب، لا في الغاضب الَّذي أُغلق عليه، والدَّليل على ذلك واضحٌ في أوَّل كلامه وفي آخره، ففي أوَّله ذكَرَ حديث النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّما أنا بشرٌ أرضى كما يرضى البشر، وأغضبُ كما يغضب البشر، فأيُّما مسلمٍ سببتُه أو جلدتُّه فاجعلها له كفَّارة»، ولا شكَّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حاله الَّذي يغضبُ لا يكون في حال إغلاق.
ثمَّ في آخر كلامه يقول: «يؤاخَذ بذلك كلِّه بغير خلاف» أي: في طلاقه وعتقه ويمينه، ويبعُد أن يحكيَ الإجماع في هذه المسألة مع علمه بخلاف من خالفَ فيه، وقد سبقت الحكاية عن شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله أنَّه جزم بأنَّه لا يقع طلاقُه بلا ريبٍ في بعض صور الغضب، وهو المرتبة الأولى من مراتبه على ما سبق شرحه، وهذا شيخُه ابن القيِّم ـ أعني شيخَ الحافظ ابن رجبٍ ـ قد شحَن تصانيفَه بهذه المسألة، ذكرَها وانتصرَ لها في «زاد المعاد» وفي «إغاثة اللَّهفان» وفي «إعلام الموقِّعين» وفي غيرها أيضًا، بل أفردها بالتَّصنيف، فصنَّف فيها رسالته المشهورة «إغاثة اللَّهفان في حكم طلاق الغضبان»، ومع هذا فقد أجمل ابنُ رجبٍ وأطلقَ المؤاخذة بالغضب، فدلَّ على أنَّه أراد مطلقَ الغضب الَّذي لا يذهب معه عقل الغاضب وتصوُّره، ولذلك سوَّى بينَه وبين الضَّجِر والمريض، ومعلوم أنَّ الضَّجِر والمريضَ لا يفسد عقلهما وقصدهما.
وأكبرُ ظنِّي أنَّ ابن رجبٍ أرادَ الرَّدَّ على ما اختاره ابن القيِّم في رسالته «إغاثة اللَّهفان»، فإنَّ ابن القيِّم قد صرَّح فيها بأنَّ صاحبَ الدَّرجة الثَّانية من الغضب وهو الَّذي لا يفقد عقله وتمييزه ولكن يُخرجه الغضب إلى ما لا يريد أن يفعله فيفعله كأنَّه مكرهٌ محمولٌ عليه، وهذه المسألة قد تقدَّم أنَّه حكى عن ابن تيميَّة أنَّها محلُّ اجتهاد، وقد وافقه على القول بعدم وقوع الطَّلاق فيها مفتي الدُّنيا في وقته الشَّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، صرَّح بذلك في مواطنَ كثيرةٍ من فتاويه، منها قريبٌ من عشرة مواطن في فتاوى «نور على الدَّرب»، منها ما في (3/1667، 1669، 1670، 1673، 1675، 1677، 1678)، يقرِّر في جميعها أنَّه في المرتبة الأولى لا يقعُ طلاقُه عند أهلِ العلم جميعًا، وأنَّ الصَّحيح عندهم في المرتبة الثَّانية أنَّه لا يقع طلاقُه، وعزاه لابن تيميَّة وابن القيِّم رحمهما الله، وقد نزَّل الشَّيخ رحمه الله هذا التَّقسيم وما يلحقُه من أحكامٍ على سابِّ الله تعالى، في فتوى طويلةٍ أنقلُ منها الشَّاهد الَّذي يناسبُ المقام وهو قوله ـ كما في زوائد المجلَّد الأوَّل من فتاوى «نور على الدَّرب» (1/375ـ 377) ـ:
«والغضبُ عند أهل العلم له ثلاثُ مراتب:
المرتبة الأولى: أن يشتدَّ غضبه حتَّى يفقد عقله، وحتَّى لا يبقى معه تمييزٌ من شدَّة الغضب، فهذا حكمُه حكمُ المجانين والمعاتية، لا يترتَّب على كلامه حكمٌ، لا طلاقُه ولا سبُّه ولا غير ذلك، ويكون كالمجنون، لا يترتَّب عليه حكم.
المرتبة الثانية: دون ذلك، أن يشتدَّ معه الغضب، ويغلب عليه الغضبُ جدًّا حتَّى يُغيِّر فكرَه، وحتَّى لا يضبط نفسَه، ويستولي عليه استيلاءً كاملًا، حتَّى يصير كالمكره والمدفوع الَّذي لا يستطيع التَّخلُّص ممَّا في نفسه، لكنَّه دون الأوَّل، فلم يَزُلْ شعوره بالكليَّة، ولم يفقد عقلَه بالكُليَّة، لكن معه شدَّةُ غضبٍ بأسباب المسابَّة والمخاصمة والنِّزاع بينه وبين بعض النَّاس، كأهله أو زوجته أو ابنه أو أميره أو غير ذلك، فهذا اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال: حكمُه حكم الصَّاحي وحكم العاقل، فتنفذ فيه الأحكام، فيقع طلاقُه، ويرتدُّ بسبِّه الدِّينَ، ويُحكم بقتله ورِدَّته، ويُفرَّق بينه وبين زوجته، ومنهم من قال: يُلحق بالأوَّل الَّذي فقد عقله، لأنَّه أقربُ إليه، ولأنَّ مثلَه مدفوعٌ مكرَه إلى النُّطق، لا يستطيع التَّخلُّص من ذلك لشَّدَّة الغضب، وهذا قولٌ أظهرُ وأقربُ، وأنَّ حكمه حكم من فقد عقله في هذا المعنى، أي: في عدم وقوع طلاقه، وفي عدم ردَّته، لأنَّه يُشبه فاقد الشُّعور بسببِ شدَّة غضبه واستيلاءِ سلطان الغضب عليه، حتَّى لم يتمكَّن من التَّخلُّص من ذلك، واحتجُّوا على هذا بقصَّة موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، فإنَّه لمَّا وجد قومَه على عبادة العجل اشتدَّ غضبه عليهم، وجاء وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرُّه إليه من شدَّة الغضب، فلم يؤاخذه الله لا بإلقاء الألواح، ولا بجرِّ أخيه هارون، وهو نبيٌّ مثلُه، ولو ألقاها تهاونًا بها وهو يعقل لكان هذا عظيماً، ولو جرَّ إنسانٌ النَّبيَّ بلحيته أو رأسه وآذاه لصار هذا كفرًا، لكن لمَّا كان موسى في شدَّة الغضب العظيم لله ﻷ على ما جرى من قومه سامحه الله، ولم يؤاخذه بإلقاء الألواح ولا بجرِّ أخيه.
هذه من حُججِ الَّذين قالوا: إنَّ طلاق هذا الَّذي اشتدَّ به الغضب لا يقع، وهكذا سبُّه لا تقع به ردَّة، وهو قولٌ قويٌّ وظاهر، وله حججٌ أخرى كثيرةٌ بسطَها شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله والعلَّامة ابن القيِّم، واختارَ هذا القول.
وهذا القولُ أرجحُ عندي، وهو الَّذي أُفتي به، لأنَّ من اشتدَّ غضبُه ينغلقُ عليه قصده، ويشبه المجنونَ بتصرُّفاته وكلامه القبيح، فهو أقرب إلى المجنون والمعتوه منه إلى العاقل السَّليم، وهذا قولٌ أظهرُ وأقوى.
ولكن لا مانع من كونه يُؤدَّبُ بعضَ الأدب إذا فعل شيئاً من أسباب الرِّدَّة، أو من وجوه الرِّدَّة، وذلك من باب الحيطة، ومن باب الحذر من التَّساهل بهذا الأمر، أو وقوعه منه مرَّة أخرى إذا أُدِّب بالضَّرب أو بالسِّجن أو نحو ذلك، وهذا قد يكون فيه مصلحةٌ كبيرةٌ، لكن لا يُحكم عليه بحكم المرتدِّين من أجل ما أصابه من شدَّة الغضب الَّتي تُشبه حالَ الجنون، والله المستعان.
المرتبة الثَّالثة: فهو الغضب العادي، الَّذي لا يزول معه العقل، ولا يكون معه شدَّةٌ تُضيِّق عليه الخناق، وتُفقده ضبطَ نفسِه، بل هو دون ذلك، غضبٌ عاديٌّ يتكدَّر ويغضبُ، ولكنَّه سليمُ العقل، سليمُ التَّصرف، فهذا عند أهل العلم تقعُ تصرُّفاته، ويقع بيعُه وشراؤه وطلاقُه وغيرُ ذلك، لأنَّ غضبَه خفيفٌ لا يُغيِّر عليه قصدَه ولا قلبَه، والله أعلم» اهـ كلامه رحمه الله، وقد تضمَّن ممَّا نحنُ فيه فائدتين اثنتين:
الأولى: حكايتُه إجماعَ العلماء على أنَّ الغاضب غضبًا فقدَ معه عقلَه وتمييزه غيرُ مؤاخَذٍ، ثمَّ تنزيلُه ذلك على الطَّلاقِ و السَّبِّ وغير ذلك من تصرُّفاته، وهذا بعينه هو الَّذي أفتى به الشَّيخ فركوس حفظه الله، فخالفَه المنتقدُ فيه وردَّه عليه، فخالف بذلكَ النُّصوصَ والإجماعَ والقواعدَ، وضمَّ إليها الجناية على من قال بالحقِّ ونطق بالصِّدق.
الثَّانية: تنزيلُه مذهبَ ابن القيِّم في الطَّلاق على حكمِ السَّابِّ، وهي مسألةٌ عظيمةٌ، ليس غرضي منها تقرير ما ذهب إليه الشَّيخ فيها، ولكن الإبانة عن موافقةِ الشَّيخ فيها لابن القيِّم، ونسبته إلى ابن تيميَّة، وهو واردٌ على إطلاق ابن رجبٍ الَّذي استنَدَ إليه المنتقدُ، فكان عليه أن يقفَ عند ذلك الإطلاقِ وقفةَ منصفٍ متحرٍّ للصَّواب، لا أن ينظر فيه نظرَ من يخطف ما يراهُ مؤيِّدًا لمذهبه ومقالته، لا يلوي على غير ذلك، كما هو دأبُ أهلِ الزَّيغ من متتبِّعي المتشابهِ قديمًا وحديثًا.
هذا آخرُ ما أردت التَّنبيه عليه من الخطأ والإيهام والمناقضة في تعقُّب المنتقد على الشَّيخ أبي عبد المعزِّ، أرجو أن يكون فيه كفايةٌ ومعتبر، وإلَّا فإنَّ الكلام يحتمل أكثر من هذا، وفي الوُسع بسطُ القول بأضعافِ ما هاهنا، وسأرجع إليه إن أُحوجت إلى ذلك.
والغرض إنَّما هو التَّنبيهُ فقط:
تنبيهٌ على مثالٍ من الأمثلة الدَّالة على أنَّ الشَّيخ على الهدى، وعلى طريقةِ أهل العلم وأئمَّة الدِّين، مفتيًا معلِّمًا، ومربِّيًا ناصحًا واعيًا.
وتنبيهٌ على ما عند المشغِّبين المعترضين على الشَّيخ وإخوانه من أشياخِ السُّنَّة من البضاعة المزجاة الَّتي يتكثَّرون بها عند من لا يعرف حقيقة الحال، وأنَّها لا تعدو أن تكون قعقعةَ ألفاظٍ، ونقولًا لا يعون مراميَها، ولا يدرون ما وراءها.
والله المسؤول أن يُصلح أقوالنا وأعمالنا ونيَّاتِنا إنَّه كريم مجيب.
والحمدُ لله أوَّلًا وآخرًا.
22/2/1436
ـــــــــــــــــــــ
وهذا رابط الحلقة الأولى: http://www.tasfiatarbia.org/vb/showthread.php?t=14837
وهذا رابط الحلقة الثانية: http://www.tasfiatarbia.org/vb/showthread.php?t=14935

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10 Jan 2015, 12:30 PM
يوسف بن عومر يوسف بن عومر غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jan 2013
الدولة: الجزائر-ولاية سعيدة
المشاركات: 594
افتراضي

جزاك الله خيرا، وحفظ الله الشيخ: "فركوس" من كلِّ سوء.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10 Jan 2015, 04:12 PM
أبو عبد الله حيدوش أبو عبد الله حيدوش غير متواجد حالياً
وفقه الله
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
الدولة: الجزائر ( ولاية بومرداس ) حرسها الله
المشاركات: 757
افتراضي

جزاك الله خيراً أستاذ " خالد حمودة "
رفع الله قدرك وحفظك ورعاك. ...
وزادك من فضله. ...
وبارك الله لنا في شيخنا الجليل أبي عبد المعز محمد علي فركوس-حفظه الله -
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10 Jan 2015, 04:46 PM
أبو عبد السلام جابر البسكري أبو عبد السلام جابر البسكري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2014
المشاركات: 1,229
إرسال رسالة عبر Skype إلى أبو عبد السلام جابر البسكري
افتراضي

جزاك الله خيرا أبا البراء
ونفع الله بعلمك ، وسدد الله خطاك وجعل ماتكتب وتذب به عن العلامة الشيخ فركوس في ميزان حسناتك.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10 Jan 2015, 05:00 PM
أبوعبد الله مهدي حميدان السلفي أبوعبد الله مهدي حميدان السلفي غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Dec 2012
الدولة: الجزائر /باتنة /قيقبة
المشاركات: 590
افتراضي

جزاك الله خيرا أستاذ خالد وبارك فيك
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 12 Jan 2015, 01:09 AM
فتحي إدريس
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أسأل الله تعالى أن يزيد الشَّيخ أبا عبد المعز رفعة في الدنيا ويبوءه في الآخرة عالي الدرجات، وأن يجزي أبا البراء خيرَ الجزاء وأوفاه على هذه الحلقات المتواليات.
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 17 Jan 2015, 10:31 PM
أبو عبد الرحمن أسامة أبو عبد الرحمن أسامة غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Oct 2011
المشاركات: 509
افتراضي

جزاك اللهُ خيرًا شيخ خالد .. حلقاتٌ مُباركات ..

أسألُ الله أن يحفظَ شيخنا العلاَّمة مُحمّد عليّ فركوس ..
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 20 Jan 2015, 05:22 PM
أبو أسامة عيسى الشلفي أبو أسامة عيسى الشلفي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2014
المشاركات: 92
افتراضي

زادكم الله فطنة و علما بمكائد أهل الباطل و الفجور أيها الفاضل
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
منهج, ميلودالباتني, ردود

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013