ما أشبه الباطل بالباطل في كل عصر، وما أشبه أعوانه بأعوانه! وما أشبه الحق بالحق في كل عصر وما أشبه أتباعه بأتباعه
ما أشبه الباطل بالباطل في كل عصر، وما أشبه أعوانه بأعوانه! وما أشبه الحق بالحق في كل عصر وما أشبه أتباعه بأتباعه!
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
ألا فليعلم القارئ الكريم أن الباطل هو الباطل ولو تعددت صوره، والحقَ هو الحق ولو تنوعت طرقه، يكاد الباطل ينطق بمافيه ولو لم يؤت بيان، ويكاد الحق يضيئ* للناس ولو لم تمسسه نار؛ ولكن هناك عوارض تعرض لهما فتغيرهما في الدهن لا في الخارج، فيُرى الباطلُ حقا والحقُّ باطلا؛ لاختلال في التصور والتفكر، ومن أشد هذه العوارض على القلوب عارضان قاتلان يرجع أحدها إلى الذات نفسها؛ فهو لازم لها لايفارقها مالم تتعاط أسباب النجاة؛ كسكرة الهوى، وقسوة القلب وفساد التصور.
والأمر الآخر* خارج عنها مفارق لها يعود إلى من تعتقد فيه الصلاح من متبوع ومرؤوس؛ فهي تقلده تقليدا تاما لما ترى فيه من تقدم وتفضل، ولو خالف في نفس الأمر وجادل وعاند وضلل.!!
نعم، هو راجع إلى العارض الأول من جهة قبوله وتمكنه منه واستساغته، وإنما قصدت المخالفة وفرقت بينهما؛ للمباينة الحاصلة في أصل نشأته وبدايته.
ففي الأول قال تعالى: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون" الجاثية 23
وفي الثاني قال سبحانه: "وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا" الأحزاب 67
وقال: " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" الزخرف 23
والقرآن مليئ بهما...
ثم إنا رأينا هؤلاء في ظلمهم على قسمين اثنين؛ منهم من يتوب إلى الله قبل الفوت، فيغفر الله له بمنه وكرمه مامضى وكان، ومنهم من يبقى في غيه وظلمه، فينتقم الله منه ويذيقه أنواع الذل* والهوان.
وكل من الصنفين قد قص الله علينا منهم في القرآن،
واخبرنا بنهايتهما؛ لنعمل بما يستوجب علينا بحكايتهما؛ فنكون حيث لابد أن نكون.
وبعد:* فهذه بعض أمثلة الصنف الأول من صور* الباطل في بدايته مقرونا بنهايته؛ ممن تاب ورجع فأحسن، نتبعه - بعد ذلك- ببعض أمثلة الصنف الثاني من صور الباطل في بدايته مقرونا بنهايته الأليمة ممن ركب رأسه فتكبر وعاند وتجبر.!!
الصنف الاول:
قال تعالى حاكيا عن قارون:"فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما اوتي قارون انه لذو حظ عظيم". القصص 79
* وفي النهاية قال تعالى:*" وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منَّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون" القصص 82
وهذه هي كلمة كل تابع لمتبوعه إذا رأى مصرعه وهلاكه؛
فإن كان هؤلاء الذين أرادوا الحياة الدنيا قد اتعضوا بقارون لما عاينوا هلاكه، فإن قارون لم يتعض عند الخسف والهلاك بأحد!
وإن السعيد لمن وعظ بغيره..!
قال إخوة يوسف عليه السلام في بداية قصتهم معه:" اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين." يوسف 9
وفي النهاية قالوا:
(تا الله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين" يوسف 91. قالوها بعد أن رفعه الله عليهم حين جاؤوه قائلين: " يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاه فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين" يوسف 88
وكذلك قد قالت امرأة العزيز في بداية الفتنة: "ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم" يوسف 25
فحصل ما خططت له* من سجنه فقد قال تعالى عنه : "ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين" يوسف 35
ُ
لكنها في النهاية ماكان لها إلا أن تقول:" الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين".يوسف 51
فجزاه الله بعد ذلك* أن قال ملكهم :
" وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي، فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين" يوسف 54
وفي سورة يوسف وحدها من العبر الشيئ الكثير في هذا.
وهؤلاء سحرة فرعون الذين اجتمعوا على نصرة فرعون الذي غرهم بملكه، وجلب عليهم بخيله ورجله، يخرون سجدا لله لما شاهدوا آياته، ويتوبون للحق لما عاينوا راياته.
وما أعقلهم كذلك حين قالوا: "لن نؤثرك على ماجاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا" طه 72
وممن وصل إلى وقت الأخذ فخصهم الله دون الناس بالتأخير لأجل معلوم، هم قوم يونس الذين عصوا رسوله* في البداية فأبق - فارا منهم*ومن عذابهم الذي سيقع بهم - إلى الفلك المشحون فهدى الله قلوبهم ورفع عنهم العذاب نعمة منه وتفضلا..
قال تعالى :" فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها الا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين".* يونس98
وقال تعالى: فآمنوا فمتعناهم إلى حين. الصافات148
القسم الثاني:
وإليك الآن بعض صور الباطل في بدايته مقرونا بنهايته الأليمة ممن ركب رأسه و تكبر، وعاند في ظلمه وتجبر؛ فأخذهم الله بظلمهم:
وبالاستقراء والتتبع في القرآن نجد هذا الصنف أكثر* من الصنف الأول* فالحذر الحذر:
فهذا عبد الله ورسوله نوح عليه السلام يخبرنا الله تعالى أنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما فأسمعه قومه من قسوة الخطاب وشديد العتاب ما أسمعوه، وحين جاء بلاء الإغراق في النهاية عمهم به سبحانه إلا قليلا منهم،
قال تعالى : وما آمن معه إلا قليل. هود 40
وفي الأخير قال تعالى:* "وقيل يا ارض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضي الامر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين " هود 44
وهذا شعيب عليه السلام يدعو قومه ليل نهار فيقولون له:
" قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز" هود 91
وفي النهاية قال تعالى: "الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين" الأعراف 92
وهؤلاء قوم صالح عليه السلام:
يترجاهم نبيهم ويتلطفهم في البداية بنصحه :" قال يا قوم أرأيتم ان كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير "هود 63
وفي النهاية: " فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز،* وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين "هود 66،67
وهذا نبي الله لوط عليه السلام الذي نصح قومه خير نصح فقال في البداية:* إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون. الأعراف 81
وقال... فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد.!! هود 78
فعصوه وخالفوا أمره : قال تعالى: " لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون" الحجر 72
وفي النهاية:قال تعالى عنهم:" فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود " هود 82
وهذا فرعون الذي ذبح الأبناء واستحيا النساء وعتى، وجمع كديه في ملكه ثم أتى، يقول في نهايته بعد ان فاات الأوان وانقضى:
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين. يونس 90
فهيهات هيهات!!
فهاكه على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر وقس عليه أمثاله من الأقوام ممن ذكرهم الله في كتابه تر عجبا
وإن كنا لم نذكر عند عذاب هذا الصنف في نهايته كلاما واضحا منهم بلسان قالهم يدل على ندمهم فإننا ذكرنا مايقوم مقامه من لسان حالهم، وذلك عند أخذهم بالعذاب بغتة؛ وكأن أخذهم بغتة لم يترك لهم وقتا للتعاتب، إلا ما كان من أمر فرعون الذي قالها وقت لم ينفعه قولها ولذلك قيل له: آلآن وقد عصيت قبل...
فقد خضعوا جميعا للعاقبة التي وُعِدوها من ربهم : "عما قليل ليصبح نادمين" المؤمنون 40
فلم* نر في أعداء الرسل من أول رسول إلى آخرهم إلا خاضعا لأمر الله الذي أوجبه على نفسه سبحانه :"* إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد" غافر 51
فما للقوم عن هذه الآيات يتعامَون، وعن نهاية الباطل يتصامَون.
وهذا عدو الله الأول إبليس يقول لما قضي الأمر" إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم." إبراهيم 22
وهو القائل عند التلاوم في نفس الآية:
"فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي..." إبراهيم 22
وفي القرآن أمثال هذا التلاوم كثير جدا ليس هذا محل جمعها ولعله يصلح أن يكون مقالا قائما بنفسه...
وهذه السنن هي نفسها التي شاهدها أتباع الأنبياء عليهم السلام وعاينوها من زمن الصحابة إلى اليوم، فهي التي قرأناها في سيرتهم وسيرة التابعين وتابعيهم ولنستحضر في ذلك سيرة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومن معهم من الصحابة الكرام، إلى مالك والشافعي وأحمد إلى ابن تيمية رحمهم الله وصولا إلى من عاصرنا من الصالحين؛ نجد التاريخ يعيد نفسه في جملته، ويكرر المِثلَ على مماثله.
قال تعالى: " استكبارا في الارض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا". فاطر 43
فإذا كنت أيها القارئ في ريب من هذا الذي أنت فيه من الفرقة؛ فما عليك إلا أن تنظر في هاتين الصورتين، وهاذين المثالين؛ بين الصالح والظالم منهما، ثم انظر في صورة من تعاصرهم من أشباههما وما عليك إلا أن تطابق بينهما في صفاتهما يغنيك ذلك عن كثير من الظن.
ثم كن حيث يمليه عليك العلم مستحضرا نهاية كل منهما.
فهو أحرى بأن تثبت على أمر.
ثم فلتتأمل!!؟
هل هناك دليل على صدق الصادق هو أكبر في الوضوح* من دعوته إلى التحاكم لكتاب الله وإلى سنة رسوله عند أهل العلم* بالحجة والحق.
وهل هناك دليل على كذب الكاذب هو أكبرُ*في الوضوح من فراره من ذلك* وحيدته عنه .!
قال تعالى:
يدعَون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون.
ولتتأمل كذلك:
هل هناك دليل على صدق الصادق أفضل وضوحا* من بقاء المظلوم- في جميع أحواله- على شرط العلم والتقوى والصدق في الخطاب.!!
وهل هناك دليل على كذب الكاذب أفضل في الوضوح من خروج الظالم عن شرط العلم- في أغلب أحواله-* إلى السب والشتم والتنابز بالألقاب.
قال تعالى:* وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون* وإن يكن لهم الحق يأتوا اليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون، إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون. النور 50
ثم إنك إذا نظرت في سيرة من ذكرهم الله في كتابه من الصنفين السابقين ستجد أهل الباطل منهم قد بدؤوا جميعا من مقام قوة متجهين نحو الضعف،
وتجد أهل الحق منهم متجهين من ضعف إلى قوة صابرين محتسبين؛ حتى يصلوا إلى زمن النصر.
وهذه هي سنة الله في كل من ذكرهم لنا في كتابه؛ فقس هذا كله على ماتراه اليوم أمامك من فرقة تجد ثيابها قد نسجت على أبدانهم ، وسننه قد وقعت على آثارهم بالسوية ؛ هي هي لم تتبدل فيها سوى الأسماء والأبدان!!
قال تعالى:* "فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو، وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين " النمل 42
وكذلك نقول بقولها - ونحن نرى عرش الحق والصدق منتقلا من زمان إلى زمان، لا من مكان إلى مكان - : كأنه هو !!.
إيه أستاذ وليد! جزاك الله خيرا على ما خطت أناملك وسطرت يمينك في هذه المقالة الماتعة والموعظة المؤثرة ، فحقا ما أشبه الباطل بالباطل في كل زمان ومكان وما أشبه الحق بالحق في كل زمان ومكان.
نسأل الله أن يثبتنا على الحق حتى نلقاه.
ما أشبه الباطل بالباطل في كل عصر، وما أشبه أعوانه بأعوانه! وما أشبه الحق بالحق في كل عصر وما أشبه أتباعه بأتباعه
العرض العادي
