منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم مشاركات اليوم Right Nav

Left Container Right Container
 

العودة   منتديات التصفية و التربية السلفية » القــــــــسم العــــــــام » قــســـــــــــم الأخــــــــــــوات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14 Jul 2019, 08:00 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي طَعَامُ القَلْبِ وَشَرَابُه.








طَعَامُ القَلْبِ وَشَرَابُه


لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (كتبها بقلعة دمشق في آخر عمره).

قال الله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [سورة الأنعام: 14]

(وَهُوَ يُطْعِمُ) يتناول إطعامَ الأجساد ما تأكل وتشرب، وإطعامَ القلوب والأرواح ما تغتذي به وتتقوَّتُ به من العلم والإيمان والمعرفة والذِّكْر، وأنواع ذلك ممّا هو قوتٌ للقلوب، فإنّه هو الذي يُقِيتُ القلوبَ بهذه الأغذية، وهو في نفسه عالمٌ لم يُعلِّمْه أحدٌ ، هادٍ لم يَهدِه أحد، متّصف بجميع صفات الكمال، قيّوم لا يزول، ولا يُعطيه غيرُه شيئا من ذلك.

بيان ذلك ما في الصحاح

من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما نهاهم عن الوِصال قالوا: إنّك تُواصِل، قال: «إنّي لست كأحدكم، إنّي أَبِيتُ» - ورُوي: «أَظَلُّ - عند ربي يُطعِمني ويَسقيني». وأظهر القولين عند العلماء أن مرادَه ما يُطعِمه ويَسقِيه في باطنه، من غير أن يكون أكلاً وشربًا في الفم...

وقد وَصفَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالطّعم والذّوق والوجد والحلاوة ما في القلوب من الإيمان، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن العباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذاقَ طعمَ الإيمان مَن رَضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا». فهذا ذائق طَعْمَ الإيمان، وهو ذوق بباطن قلبه، يَظهر أثرُه إلى سائر بدنِه، ليس هو ذوقًا لشيء يَدخلُ من الفم، وإن كان ذوقًا لشيء يدخل من الأذن. ولهذا يقال: البهائمُ تَسْمَنُ من أقواتِها، والآدمي يَسمن من أذنه.

وفي الصحيحين عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: «ثلاث من كُنَّ فيه وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، من كان الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، ومَن كان يُحبُّ المرءَ لا يُحبُّه إلاّ لله، ومَن كان يكره أن يَرجع في الكفر بعدَ إذ أنقذَه الله منه، كما يكره أن يُلقَى في النار».

فأخبر أنّ مَن كانت فيه هذه الثلاث وَجَدَ حلاوةَ الإيمان، والحلاوة ضدُّ المرارة، وكلاهما من أنواع الطعوم. فبيَّن أنّ الإنسان يجد بقلبه حلاوة الإيمان ويذوق طَعْمَ الإيمان، والله سبحانه هو الذي يُذِيقه طَعْمَ الإيمان، وهو الذي يجعلُه واجدًا لهذه الحلاوة.

فالمؤمنون يذوقون هذا الطّعم، ويجدون هذا الوجد، وفي ذلك من اللّذّة والسّرور والبهجة ما هو أعظم من لذّة أكل البدن وشربه.



والرَبُّ تعالى له الكمال الذي لا يَقدِرُ العبادُ قَدْرَه في أنواع علمِه وحكمته ومحبّته وفرحه وبهجته، وغير ذلك ممّا أخبرت به النّصوص النّبوية، ودلَّتْ عليه الدلائل الإلهية، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وهو في كل ذلك غنيٌّ عن كلِّ ما سواه، فهو الذي يجعل في قلوب العباد من أنواع الأغذية والأقوات والمسارّ والفرح والبهجة مالا يجعله غيره، وهو إذا فرح بتوبة التائب فهو الذي جَعَله تائبًا حتّى فَرِحَ بتوبته، لم يحتج في ذلك إلى أحدٍ سواه.

والتعبيرِ بلفظ القوت والطّعام والشّراب ونحو ذلك عمّا يُقِيتُ القلوبَ ويُغذِّيها كثيرٌ جدًّا، كما قال بعضهم: أَطعمَهم طعامَ المعرفة، وسقاهم شرابَ المحبّة.

وقال آخر:

لها أحاديثُ من ذِكراكَ يَشغَلُها ... عن الشَرابِ ويُغْنِيها عن الزادِ

وكثيرًا ما تُوصَف القلوبُ بـالعطش والجوع، وتُوصفَ بـالرَّيّ والشّبَع. وفي الصّحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رأيتُ كأنّي أُتِيتُ بقَدَحٍ، فشربتُ حتّى إنّي لأرى الرِّيَّ يَخرجُ من أظفاري، ثمَّ ناولتُ فَضْلِي عمرَ»، قالوا: فما أوَّلتَه يا رسولَ الله؟ قال: «العلم». فجعل العلم بمنزلة الشراب الذي يُشرَب.

وفي الصّحيحين عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنَّ مَثلَ ما بَعثنَي الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصابَ أرضًا، فكانت منها طائفة قَبلَتِ الماءَ فانبتتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها طائفة أمسكتِ الماء، فشربَ الناس وسَقَوا وزرعوا، وكانت منها طائفة إنّما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبت كلأً، فذلك مثلُ مَنْ فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثلُ مَنْ لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به».

فقد بيَّن أنّ مثلَ ما بعثه الله به من الهدى والعلم مثل الغيث الذي تشربه الأرض، فتُخرِج فنون الثّمرات، وتمسكه أرض لتنتفع به الناس، وأرضٌ ثالثة لا تنتفع بشربه ولا تمسكه لغيرها. فتبيّن أنّ القلوب تشرب ما يُنزله الله من الإيمان والقرآن، وذلك شراب لها، كما أنّ المطر شراب للأرض، والأرض تَعطَش وتَروَى، كذلك القلب يعطش إلى ما ينزله الله ويَروى به. وهو سبحانه الذي يطعمه هذا الشراب، وهو سبحانه لا يطعمه أحد شيئًا، بل هو الذي يُعلِّم ولا يتعلّم من غيرِه شيئًا.

وفي مناجاة داود: " إنّي ظَمِئْتُ إلى ذكرك كما تَظمأُ الإبلُ إلى الماء"، أو نحو هذا، لِبُعْدِ الإبل عن الماء وشدّة عطشها إليه.

وفي مراسلة يحيى بن معاذ لأبي يزيد لمّا ذكر أنّ من الناس مَن شرب براري قال أبو يزيد: لكن آخر قد سقوه بحور السّماوات والأرض، وقد أدلعَ لسانَه من العطش، يقول: هل من مزيد، أو ما يشبه هذا. وقد قال القائل: شربتُ الحبَّ كأسًا بعد كأسٍ**فما فَنِيَ الشرابُ وما رَوِيْتُ

ويُقال: فلان ريّان من العلم، ويُقال: هذا الكلام يَشفِي العليل ويُروِي الغليل، وهذا الكلام لا يَشفِي العليل ولا يُروِي الغليل.

وفي حديث مكحول المرسل: "مَنْ أخلصَ لله أربعين يومًا تفجرت ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه".

وقال ابن مسعود لأصحابه : "كونوا ينابيع العلم، مصابيحَ الحكمة، أحلاسَ البيوت، سُرُجَ اللّيل، جُددَ القلوب، أخلاقَ الثياب، تُعْرَفون في السّماء وتخفون على أهل الأرض".

وقد شبّه حياة القلوب بعد موتها بحياةِ الأرض بعد موتها، وذلك بما ينزله عليها، فيسقيها وتَحيا به، وشبّه ما أنزله على القلوب بالماء الذي ينزله على الأرض، وجعل القلوب كالأودية: واديًا كبيرًا يَسعُ ماءً كثيرًا، وواديًا صغيرًا يَسَعُ ماءً قليلاً، كما قال: أَنزَلَ من السماء ماءً فَسَالَت أودية بِقَدَرِهَا.

وبيَّن أنّه يحتمل السّيل زبدًا رابيًا، وأنّ هذا مَثَل ضربه الله للحق والباطل، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ. فالأرض تشربُ ما ينفع وتحفظه، كذلك القلوب تشرب ما ينفع وتحفظه، كما ضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله ومثل ما بعثه الله به من الهدى والعلم كغيثٍ أصاب أرضًا، فبعض الأرض قبلت الماء فشربته، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وبعض الأرض حفظته لمن يَسقِي ويزرع، وبعض الأرض قِيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأً. ثم قال: «فذلك مثل مَن فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل مَن لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به».
فجعل قبول القلوب بشربها وإمساكها، والأول أعلى، وهو حال مَن علم وعمل، والثاني حال مَن حفظ العلم لمن انتفع به. ولهذا قال: «فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا». فالماء أثّر في الأولى واختلط بها، حتّى أخرجت الكلأ والعشب الكثير، وكـالثانية لم تشربه لكن أمسكته لغيرها حتّى شربه ذلك الغير.
وهذه حال مَنْ يحفظ العلم ويؤدّيه إلى مَنْ ينتفع به، كما في حديث الحسن - وبعضهم يجعله من مراسيله - قال: «العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللّسان، فعلم القلب هو العلم النّافع، وعلم اللّسان حجّة الله على عباده».

وبعض الناس قال: إنّ الأوّل مثل الفقهاء، والثاني مثل المحدّثين.

والتّحقيق أنّ الّذين سمّاهم فقهاء إذا كان مقصودهم إنّما هو فهم الحديث وحفظ معناه وبيان ما يدلّ عليه، بخلاف المحدّث الذي يحفظ حروفه فقط، فالنّوعان مثل الممسك الحافظ المؤدّي لغيره حتّى ينتفع به، لكن الأوّل فهم من مقصود الرّسول مالم يفهمه الثاني.

وكذلك القرآن إذا كان هذا يحفظ حروفه، وهذا يفهم تفسيره، وكلاهما قد وعاه وحفظه وأدّاه إلى غيره، فهما من القسم الثاني، وإنّما القسم الأوّل مَنْ شرب قلبُه معناه فأثّر في قلبه كما أثّر الماء في الأرض الذي شربته، فحصل له به من ذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته ومحبّة الله وخشيته والتّوكّل عليه والإخلاص له، وغير ذلك من حقائق الإيمان الذي يقتضيها الكلام، فهؤلاء كالطّائفة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ولابد أن يظهر ذلك على جوارحهم كما يظهر الكلأ والعشب.


قال الحسن البصري: ليس (الإيمان بالتّمنّي ولا بالتّحلّي، ولكن ما وقَر في القلب وصدَّقه العمل).

وفي الصّحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: «ألا إنّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب». وهذا مبسوط في مواضع، مثل "كتاب الإيمان وشرح أحاديثه وآياته" وغير ذلك.

والسّلف كانوا يجعلون الفقيه اسمًا لهذا، والمتكلّم بالعلم بدون هذا يسمّونه خطيبًا، كما قال ابن مسعود:"إنّكم في زمنٍ كثيرٍ فقهاؤه قليلٍ خطباؤه، كثيرٍ معطوه قليلٍ سائلوه؛ وسيأتي عليكم زمانٌ كثيرٌ خطباؤه قليل فقهاؤُه، كثيرٌ سائلوه، قليلٌ مُعطوه".

وفي حديث زياد بن لبيد الأنصاري لما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «هذا أوانُ يُرفع العلم»، فقال له زياد: كيف يُرفع العلمُ وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنَّه ولنُقرِئنَّه أبناءَنا ونساءَنا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «إن كنتُ لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أوَ ليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنّصارى؟ فماذا يُغني عنهم؟».

وقد قال الله تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا. وقال تعالى: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ. وقال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا .

وفي الحديث: «خصلتان لا تكونان في منافق: حسنُ سَمْتٍ ولا فقهٌ في الدّين». فإنّ حُسْنَ السَّمْتِ صلاح الظاهر الذي يكون عن صلاح القلب، والفقه في الدّين يتضمّن معرفة الدّين ومحبّته، وذلك ينافي النّفاق.


وقال الكفّار لشعيب: يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ مع أن شعيبًا خطيب الأنبياء.

وفي الصّحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: «الناس معادنُ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». وهذا إنّما يكون بفهم القلب للحق، واتّباعه له.

وفي الصّحيحين عن أبي موسى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأتْرُجَّةِ طَعْمها طيّبٌ وريحُها طيّبٌ ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيّب ولا ريحَ لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيّب وطعمها مرٌّ ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرّ ولا ريحَ لها».

فهذا قارىء القرآن يسمعه الناس وينتفعون به وهو منافق، وقد يكون مع ذلك عالماً بتفسيره وإعرابه وأسباب نزوله، إذ لا فرق بين حفظه لحروفه وحفظه لمعانيه، لكن فهم المعنى أقرب إلى أن ينتفع الرجل به، فيؤمن به ويحبّه ويعمل به، ولكن قد يكون في القلب موانع من اتّباع الأهواء والحسد والحرص والاستكبار، التي تَصُدُّ القلب عن اتبّاع الحق، قال تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِندَ اللَّـهِ الصُّمُّ البُكمُ الَّذينَ لا يَعقِلونَ 22وَلَو عَلِمَ اللَّـهُ فيهِم خَيرًا لَأَسمَعَهُم وَلَو أَسمَعَهُم لَتَوَلَّوا وَهُم مُعرِضونَ 23.

فهؤلاء لا خير فيهم يقبلون الحق به إذا فهموا القرآن، فهو سبحانه لا يُفهِمهم إيّاه، ولو علم فيهم خيرًا لأفهمهم إيّاه، ولمّا لم يكن فيهم خير فلو أفهمهم إيّاه لتولّوا وهم معرضون، فيحصل لهم نوع من الفهم الذي يعرفون به الحق، لكن ليس في قلوبهم قصدٌ للخير والحق وطلبٌ له، فلا يعملون بعلمهم ولا يتّبعون الحق.



وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبُيِّن أنّ مثلَ هذا العلم والفهم الذي لا يقترن به العمل بموجبه لا يكون تامًّا، ولو كان تامًّا لاستلزم العمل، فإنّ التّصوّر التّام للمحبوب يستلزم حبَّه قطعًا، والتّصوّر التّام للمخوف يوجب خوفه قطعًا، فحيث حصل نوع من التّصوّر ولم تحصل المحبّة والخوف لم يكن التّصوّر تامًّا.



قال بعض السلف: مَنْ عرف الله أحبَّه.

ولهذا قال السلف: كلّ مَنْ عصى الله فهو جاهل.

وقال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلاً.

وقيل للشعبي: أيّها العالم! فقال: إنّما العالم مَنْ يخشى الله.

وهذا مبسوط في مواضع. ولهذا قال تعالى: هُدًى للمتّقينَ، وقال: ليُنذِرَ مَن كاَنَ حَيًا، وقال: سَيَذَّكَرُ مَنْ يَخْشَى، إلى أمثال ذلك.

ولهذا يجعل الرّسول نفس الفقه موجبًا للسّعادة، كما يجعل عدمَه موجبًا للشّقاء، ففي الصحيحين أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «النّاس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا». فجعل مسمّى الفقه موجبًا لكونهم خيارًا، وذلك يقتضي أنّ العمل داخل في مسمّى الفقه لازم له.

وفي الصّحيحين أنّه قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ به خيرًا يفقِّهه في الدّين»، فمَن لم يفقّهه في الدّين لم يُرِد به خيرًا، فلا يكون من أهل السّعادة إلاّ مَنْ فقّهه في الدّين.

والدِّينُ يتناول كلَّ ما جاء به الرّسول، كما في الصحيحين لما جاء جبريل في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: «هذا جبريل جاءكم يعلّمكم دينكم». فجعل هذا كلَّه دينًا.

والمقصود هنا كان الكلام في أنّ الله يُطعِم القلوب ويسقيها، وقد قال الله تعالى في حق عُبَّاد العجل: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ، أي أُشرِبوا حُبَّه. فإذا كان المخلوق الذي لا تجوز به محبّته قد يحبّه القلب حبًّا يجعل ذلك شرابًا للقلب، فحبّ الربّ تعالى أن يكون شرابًا يشربه قلوب المؤمنين أولى وأحرى. قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ.

ووَصْفُ الشّعراءِ وغيرهم أنّ القلوب تشربُ المحبّة، وضَرْبُهم المثلَ في ذلك بالشّراب الطّاهر، وأنّ شرب المحبّة أعلى الشرابين كثير جدًّا. وهو سبحانه الّذي يُطعِم عباده المؤمنين، ويسقيهم شراب معرفته ومحبّته والإيمان به، وهو غني عن جميع خلقه في معرفته ومحبّته وإيمانه - إذ كان من أسمائه "المؤمن" -، وفي توحيده وشهادته وسائر شئونه، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظّالمون علوًّا كبيرا.

وأهل الشِّرْك الّذين يعبدون غير الله ومَن ضاهاهم من أهل البدع، الّذين اتّخذوا من دون الله أوثانا يحبّونهم كحبّ الله، لهم شراب من محبّتهم وذوق ووجد، لكن ذلك من عبادة الشّيطان لا من عبادة الرّحمن، فلهذا وقعت باطلاً. فإنّ البدن كما يتغذّى بالطّيّب والخبيث، كذلك القلوب تتغذّى بالكلم الطيب والعمل الصّالح، وتتغذى بالكلم الخبيث والعمل الفاسد، ولها صحّة ومرض، وإذا مرضت اشتهتْ ما يضرّها وكرهتْ ما ينفعها.

وقد ضرب الله مثل الإيمان الّذي هو كلمة طيِّبة بشجرة طيّبة، ومثل الشِّرْك الذي هو كلمة خبيثة بشجرة خبيثة، فهذا أصله كلمة طيّبة في قلبه وهي كلمة التّوحيد، وهذا أصله كلمة خبيثة في قلبه وهي كلمة الشِّرْك، فهذا يتغذّى بهذه الكلمة الطّيّبة، وهذا يتغذّى بهذه الكلمة الخبيثة، كما تتغذّى الأبدان بالطّيّب والخبيث. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.

فـالتّوحيد والإيمان كلمة طيّبة، مثلها مثل الشّجرة الطّيّبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء. والشِّـرْكُ والكفر كلمة خبيثة اجتُثَّتْ من فوق الأرض مالها من قرار، ليس لها أصلٌ راسخ ولا فرع باسق. ولهذا كان أهل الشّـِرْك والضلال لهم مواجيد وأذواق وأعمال بحسب ذلك، لكنّها باطلة لا تنفع، إذ هم في جهل بسيط يعملون بهواهم بلا اعتقادٍ ونظرٍ ، أو في جهلٍ مركّب، يحسبون أنّهم على هدى وهم على ضلال، والمؤمنون يعملون بعلم وهدًى من الله. ولهذا قال تعالى: الله نُورُ اَلسَّمَاوَاتِ والأرض مثل نوره كمشكاة الآية إلى قوله: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ثم قال: في بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ إلى آخر الآية.

ثم ضرب للكفّار مثلين للجهل المركب والبسيط فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا الآية. فهذا مثل الجهل المركب، وهو الاعتقادات الفاسدة. ثم قال: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا. وهذا مثل الجهل البسيط.

المقصود هنا أنّ الربّ تعالى هو الذي يُقيت عباده، ويغذّيهم لأرواحهم وأجسادهم، وهو مستغنٍ عن عبادِه من كل وجهٍ ، فهو بنفسه عالم قادر، وكلُّ ما يعلمه العباد فهو من تعليمه وهدايته، وما يقدرون عليه فهو من إقدارِه. وهو سبحانه وتعالى كما قال: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيء من علمِه إلاّ بما شاء، وهو الذي خلق فَسَوَّى، وقَدَّرَ فَهَدَى... والله أعلم، الحمد لله وحده.
------------------------------------------------------------------
المصدر:

كتاب "جامع المسائل" لابن تيمية ص 122 وما بعدها

بنقل الأخ الفاضل أبي راشد جزاه الله خيرًا.




الصور المصغرة للصور المرفقة
اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	العلم بالله أصل العلوم.png‏
المشاهدات:	1246
الحجـــم:	557.0 كيلوبايت
الرقم:	6883   اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	الله نور السماوات والأرض.png‏
المشاهدات:	1316
الحجـــم:	113.5 كيلوبايت
الرقم:	6884  
الصور المرفقة
نوع الملف: jpg العلم طعام القلب وشرابه.jpg‏ (105.5 كيلوبايت, المشاهدات 2359)
نوع الملف: jpg لذة العلم بالله.jpg‏ (107.1 كيلوبايت, المشاهدات 1523)
نوع الملف: jpg نقصان الخوف من الله.jpg‏ (127.5 كيلوبايت, المشاهدات 1191)
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013