منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 05 May 2008, 06:29 AM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي نقل لكتاب تخليص العباد من وحشية أبي القتاد للشيخ عبد المالك رمضاني / متجدد

سأحاول - إن شاء الله - نقل الكتاب بأكمله، مجزأً، و ذلك بمشاركة يومية.
يُرجى عدم إضافة ردود؛ لضمان تسلسل عناصر الكتاب.
و من وجد خطأ فليبلغ أحد المشرفين لتصحيحه.
و الله - وحده - الموفق لخير العمل.


--------------------------------------------------------------------------------------------------------

تخليص العباد من وحشية أبي القتاد الداعي إلى قتل النسوان و فَلَذات الأكباد
ردّ على أبي قتادة الفلسطيني في استباحة دماء الأطفال و النساء من المسلمين و غيرهم و بيان أن الإسلام بريء من ذلك



بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله – عز و جل –: {و إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم و لا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم و أنتم تشهدون}.
و قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم -: "من خرج على أمتي يضرب برها و فاجرها، و لا يتحاشى من مؤمنها، و لا يفي لذي عهد عهده، فليس مني و لست منه" رواه مسلم.

و عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: {دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، و الناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه، فقال: كنا مع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – في سفر، فنزلنا منزلا، فمنا من يصلح خِباءه(1) ، و منا من ينتضل(2) ، و منا من هو في جشره(3) ، إذ نادى منادي رسول الله – صلى الله عليه و سلم -: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، و ينذرهم شر ما يعلمه لهم، و إن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها، و سيصيب آخرها بلاء و أمور تنكرونها، و تجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا، و تجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه !! فمن أحب أن يُزحزح عن النار و يُدخل الجنة فلتأته منيته و هو يؤمن بالله و اليوم الآخر، و ليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، و من بايع إماما فأعطاه صفقة يده و ثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر".
فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله ! آنت سمعت هذا من رسول الله – صلى الله عليه و سلم –؟ فأهوى إلى أذنيه و قلبه بيديه، و قال: سمعته أذناي و وعاه قلبي... رواه مسلم [1844].

وقال بن مسعود – رضي الله عنه –: (إنها ستكون أمور مشتبهات، فعليكم بالتُّؤدة؛ فإنك أن تكون تابعا في الخير خير من أن تكون رأسا في الشر).

و قال العلامة ناصر الدين الألباني – رحمه الله –: [و اليوم و التاريخ يعيد نفسه كما يقولون، فقد نبتت نابتة من الشباب المسلم، لم يتفقهوا في الدين إلا قليلا، و رأوا أن الحكام لا يحكمون بما أنزل الله إلا قليلا، فرأوا الخروج عليهم دون أن يستشيروا أهل العلم و الفقه و الحكمة منهم، بل ركبوا رؤوسهم، و أثاروا فتنا عمياء، و سفكوا الدماء في مصر، و سوريا، و الجزائر.]

و قال الحافظ بن كثير – رحمه الله –: [و هذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد !!].

المقدمة

إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، و من يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله.
أما بعد، فإنني لا أكتب للجزائر و إن كنت لأكتب للجزائر، بعد هذه الجراحات التي طال أمدها، فعسر اندمالها، و لولا غور الجرح لما أجريت فيه قلما؛ لما فيه من تجديد ثياب العار و الشنار، و لكن قوما أرغمتهم محنة الجزائر على طأطأة الرؤوس عند معاينة الهزيمة بعد الجريمة، فمدوا أعناقهم إلى غيرها من البلاد الإسلامية؛ ظنا منهم أنهم قادرون أن يتحاشوا أخطاء من سبقهم ليحققوا ما أخفق فيه أولئك !

و السعيد من وُعظ بغيره و لم يتعظ به الناس، و أنى لهؤلاء ذلك و هم لا يزالون يحسبون السراب ما بقيعة، بعد كدر الصنيعة، و الله يقول: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} [يونس 81] ؟ !

و لقد كان يسعني أن أستروح إلى التحليلات السياسية لدى الأحزاب الإسلامية اليوم، فأرمي بثقل تلك الجرائم على عاتق المخابرات؛ لأبرئ ساحات من باشرها على مرأى منا و مسمع، فأحظى بعدها بتزكية الحركات الإسلامية، التي لا يعنيها أن تصدق و تطهر بواطنها، بقدر ما يعنيها أن تستر كل من عاند السلطان و تُزَيّن ظواهرها، و لكن:
كتبت و قد أيقنت يوم كتابتي [][][][] بأن يدي تفنى و يبقى كتابها
فإن عملتْ خيرا ستجزى بمثله [][][][] و إن عملتْ شرّا عليّ حسابها

و لا يزال الحق يُمتحن بالباطل، و يُبتلى الخير بالشر، كما قال الله – تعالى –: {كذلك يضرب الله الحق و الباطل} [الرعد 17]، و أبطل الباطل قسمان:
أحدهما: الكفر،
وثانيهما: البدعة.

و قد أخبرنا الله – عز و جل – أن الكفر كلما قوي أهله لم يراعوا لأهل الحق قرابة و لا عهدا، فقال: {كيف و إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ و لا ذمّة يرضونكم بأفواههم و تأبى قلوبهم و أكثرهم فاسقون} [التوبة 8].

وكذلك شأن أهل البدع، فكم امتُحن الإسلام بهم و شُوّهت صورته الجميلة بما حرّفوا من نصوصه، و كم عانى المسلمون منهم، و ذاقوا مرّ كيدهم للسنة و أهلها !

و لو ترك أهل الحق أهل الباطل من الكفار يعربدون لذهبت معالم الإسلام، و لما فرّق الناس بين توحيد و شرك، قال الله – تعالى –: {و لولا دفعُ الله الناسَ بعضهم ببعض لهُدّمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج 40].

و لو ترك أهل الحق أهل الباطل من المبتدعة يعربدون لذهبت معالم السنة، و لما فرّق الناس بين عبادة الرسول – صلى الله عليه و سلم – و عبادة معاندِ الرسول – صلى الله عليه و سلم –، قال الله – عز و جل –: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور 63].

قال الفضيل بن عياض – رحمه الله –: [كيف بك إذا بقيت إلى زمان شاهدت فيه ناسا لا يفرقون بين الحق و الباطل، و لا بين المؤمن و الكافر، و لا بين الأمين و الخائن، و لا بين الجاهل و العالم، و لا يعرفون معروفا و لا ينكرون منكرا]. رواه بن بطة في 'الإبانة / الإيمان' (24).

أما شبهات الكفر و أهله فقد دحضها الله في كتابه و على لسان رسوله – صلى الله عليه و سلم –، و اقتدى بذاك علماء الإسلام فلم يتركوا لهم حجة إلا فنّدوها، قال الله – تعالى –: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق و لكم الويل مما تصفون} [الأنبياء 18].

و أما شبهات البدعة و أهلها فقد دحضها عصبة رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، و ذبوا عن حياض السنة بما حمدهم عليه من طابت أفئدتهم بالسنة، قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "لا تزال طائفة من أمتي قائمةً بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم و لا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله و هم ظاهرون على الناس" متفق عليه من حديث معاوية – رضي الله عنه.
و عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم و لا آباؤكم، فإياكم و إياهم !" رواه مسلم.

و من هؤلاء الذين تضرر بهم المسلمون اليوم و صاروا محنة على الإسلام: الخوارج، و هم و إن كان تاريخهم قديما، بل هم أقدم من ضل من فرق المسلمين، [فمازال الفكر التكفيري يمضي بقوة في أوساط شباب الأمة، منذ أن اختلقته الخوارج الحرورية، لا يرعوي إلا في فترات بزوغ منهج أهل السنة و تألق عقيدة سلف الأمة، و لا أكون مبالغا في القول: إنه سبب كَثرةٍ كاثرة من البلايا و الرزايا التي مُنيت بها الأمة في ماضي الزمان و حاضره، و ما هذه التفجيرات المدمرة و السيارات المفخخة و الاغتيالات الغاشمة و المذابح الماكرة للمصلين، بل للشيوخ و الأئمة، ما هذا كله و غيره من فواجع أضرمت القلب، و أمرت العيش إلا ثمرة بشعة من ثمرات الفكر التكفيري و عواقبه و لواحقه.

و مما يأخذ بالمرء في شعاب الهموم و أودية الأحزان ما نراه من بعض المنتسبين لمعاقل أهل السنة من تسرب بعض مسائل هذا الفكر إليهم، بل صاروا يؤلفون فيه و يدعون إليه، و يقذفون بالإرجاء و التعطيل و العلمنة من لم يتبدل فكره بفعل العواطف و المتغيرات، و لم يثنه عن أصول أهل السنة الحماسةُ و السياسات] من قلم الدكتور خالد العنبري في كتابه 'هزيمة الفكر التكفيري' (ص 6).

و لا ريب أن هذا الوصف هو الذي نعيشه اليوم، و بين الحين و الآخر تخرج إلينا جماعة من جماعات التكفير، و تدخل في صراع مع حكوماتها، بل و مع شعوبها، ثم يتفرق عنها جماعات، و كلما خرجت أمة لعنت أختها، و بادلتها تُهم التكفير، و ربما أدّى الأمر إلى إعمال الأيدي فيما بينها، و كلها من مشتقات الخوارج !

قال الإمام الشوكاني – رحمه الله – في 'السيل الجرّار' (4 / 584 – 585): [و ها هنا تُسكب العبرات، و يناح على الإسلام و أهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر، لا لسنة و لا لقرآن، و لا لبيان من الله و لا لبرهان، بل لما غلت به مراجل العصبية في الدين، و تمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين، لقّنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء، و السراب بقيعة، فيا لله و للمسلمين من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين، و الرزية التي ما رُزي بمثلها سبيل المؤمنين... !
و الأدلة الدالة على وجوب صيانة عِرض المسلم و احترامه يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح، فكيف إخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية ؟ ! فإن هذه جناية لا تعدلها جناية، و جرأة لا تماثلها جرأة، و أين هذا المجترئ على تكفير أخيه من قول رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "المسلم أخو المسلم، لا يظلهم و لا يُسلمه"، و قوله – صلى الله عليه و سلم –: "سِباب المسلم فسوق، و قتاله كفر"، و قوله – صلى الله عليه و سلم –: "إن دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام"].
و صدق – رحمه الله –؛ فهذه الجزائر منذ فشت فيها هذه المقالة، و هي في خراب و اضطراب، بدؤوا بالحكام، ثم تدحرجوا إلى سائر الأنام، متقربين إلى الله بتكفيرهم سرّا و علانية؛ يرجون تجارة لن تبور!

لقد بدأت هذه السلسلة من الفتن عن طريق الخطب السياسية المحرضة، التي سب الحكّام فيها كتسبيح الطرائق الصوفية لا يحصيه العادّ، فإذا نهاهم الناصحون من أهل العلم عن هذا الأسلوب، لم يكن لديهم من الأخلاق ما يمنعهم من اتهامهم بأنهم أذناب سلطان، أو أنهم مجادلون عن الطواغيت !
و الذي مد في أجَل هذا الفكر و بسط سلطانه في ديار أهل السنة هو تهاون الغافلين عن التصدي له، و قد توهّموا – بمكر من متغافلين ! – أن منطق هذا الخطاب لا يتجاوز منطق القواعد من النساء، فإذا بالأمر يمتد إلى تكتيل الناس على أفكار كانت من إفرازات التهييج السياسي، و من لم يجمع قلبه على هذه الأفكار – التي غالبا ما تكون من نتاج بشري – أعملوا فيه معاول الولاء و البراء بفقه حزبي أعمى، فإذا تصدى لهم الناصحون بالنهي عن هذا التحزب رموهم بالعشوائية في العمل الإسلامي، و اتهموهم بتحريم العمل الجماعي تدليسا، و نفّقوا تحزبهم بتسميته (عملا جماعيا) تلبيسا !

ثم امتد الأمر إلى تقديم بيعة، و لو كانت في بلد مسلم عليه أمير مسلم !
فإذا وُوجِهوا بنهي الشريعة عن بيعة تحت بيعة، قالوا: لا يفقهون واقع الطواغيت !

ثم امتد الأمر إلى المطالبة السياسية في البرلمان أو المجالس النيابية، و هنا باب من يلجه لا يخرج منه إلا ضاربا أو مضروبا؛ لأن طبيعة المطالبة تدل على المغالبة !

و عندها يرخص كل شيء في سبيل الوصول إلى السلطان، يرخص الدم و العِرض و المال، بل و الدين؛ لأننا وجدنا أهله مستعدين لبذل ما يُطلب منهم من دين، عِوضا عما يُمَنَّون به من الوصول إلى رتبة السلاطين !

و هنا تنغمر الأمة الضعيفة في بحر من الفتن لا ساحل له، و تهيج النفوس، و تسكُر أشد من سُكر الكؤوس، إنّه سُكر حب السلطان، و يبغي بعضهم على بعض حتى يقتتل ذوو الأرحام...

و تتقطّع الأمة إلى شيع، عددها كما قيل: (إسراف في أطراف)، و شرّها للناس هم أهل التكفير باعتساف، ظاهرهم الغيرة على الدين، و باطنهم الكيد للمسلمين، بزعم ارتدادهم، و من ثَم استحقاقهم السيف !

و لعل القارئ لا يدري أننا نعالج فتنة قوم بدأ مرضهم بحرب كلام، و انتهى إلى استحلال المال الحرام؛ إذ قالوا بحِلّ اختلاس أموال الكفار، بل و بحِلّ دماء المسلمين الأبرار منهم و الفجّار !

و زادوا في الشطط، فدعوا إلى الخروج على السلاطين، حتى انتهى بهم الضلال إلى حمل السلاح في وجوه جميع من لم يلحق بهم من المسلمين، بل غزوا قراهم غزوا جماعيا، لا يرحمون امرأة و لا صغيرا و لا كبيرا فانيا !!

و الأغرب منه هو بروز هذه الجرائم في صورة فتاوى شرعية، تلك هي فتاوى أبي قتادة الفلسطيني !
فمن ذا الذي يُطيق السكوت على ذا ؟ !
و من ذا الذي يرغب في هذا الإسلام؟ !
فتاوى سخيفة، و عبث بالأرواح الضعيفة، فلأقولنّ له قريبا مما قيل:
أَوْسَعْتَنا يا نحسُ سُخفا و عبثْ [][][][][][] لأَنْفِيَنّك كما يُنفى الخبثْ

و قد كنت من أول يوم – قبل هجرتي من الجزائر و قبل أن يحصل هذا – أسمّي هؤلاء بالتسمية الشرعية اللائقة بهم، فأقول: (إنهم خوارج)، فكان المتظاهرون بالاعتدال و معهم طائفة من الجهّال يستعظمون علينا ذلك، و يرونه غلوّا، حتى رأوا من يتقرب إلى الله بدم أبيه و أمّه، و من ذبح من عائلته أربعة عشر نفسا لـ (وجه الله !!) فهَِم الخطاب القديم، و لقد أجاد من قال:
بَذَلتُ لهم نُصحي بمُنعرج اللّوى [][][][][][] فلم يَسْتَبينوا الرشد إلا ضحى الغدِ
و قال البخاري في 'صحيحه' (13 / 47 – الفتح): وقال ابن عيينة عن خلف بن حوشب: كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن، قال امرؤ القيس:
الحـرب أول ما تـكون فـَتـيّـة [][][][][] تسعى بـزينتها لـكـل جهـولِ
حتى إذا اشتعلت و شبّ ضِرامها [][][][][] ولت عجوزا غير ذات حليلِ
شـمـطـاء يـنـكـر لونها و تغيـرت [][][][][] مكـروهـة للـشـم و التقـبـيـلِ

و آخرون لم يفهموا الخطاب إلى الآن، استفظعوا هذه الأمور أن يقوم بمثلها مسلم، فيتكلمون بالظنون، و يتهمون من لا يعرفون، مع أنهم لو ألقوا نظرة خاطفة على تاريخ الخوارج ما تحيروا و لا تخرّصوا، لقد قاتل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – الخوارج الأُول، و كان معه أبو أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – و غيره من الصحابة، قال بن كثير في 'البداية و النهاية' (10 / 588): [قال أبو أيوب: وطعنت رجلا من الخوارج بالرمح فأنفذته من ظهره، و قلت له: أبشر – يا عدو الله – بالنار، فقال: ستعلم أيّنا أولى بها صِلِيا !!)، و انظر 'تاريخ الطبري' (3 / 122).

و أورد ابن سعد في 'الطبقات الكبرى' (3 / 39-40) قصة عبد الرحمن بن ملجم الخارجي الذي قتل عليّا – رضي الله عنه – و ذكر (أن عبد الله بن جعفر قطع يديه و رجليه فلم يجزع و لم يتكلم، فكحّل عينيه بمسمار محمّى فلم يجزع، و جعل يقول: إنك لتكحّل عيني عمِّك بمُلمُول مضٍّ(4)، و جعل يقول: {اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق}، حتى أتى على آخر السورة كلّها و إن عينيه لتسيلان، ثم أمر به فعولج عن لسانه ليقطعه فجزَع، فقيل له: قطعنا يديك و رجليك و سملنا عينيك – يا عدو الله – فلم تجزع، فلما صرنا إلى لسانك جزعت؟ !
فقال: ما ذاك مني من جزع، إلا أني أكره أن أكون في الدنيا فُوَاقاً لا أذكر الله !).
و الفُواق هنا هو على معنى الزمن الذي بين فتح يدك و قبضها على الضَّرْع، كما في 'القاموس المحيط' للفيروزآبادي مادة فوق، و معناه أن هذا المجرم الذي قتل عليّا – رضي الله عنه – جزع من أن تمر عليه اللحظة القصيرة و لا يذكر فيها الله !

و قد كانوا لا يتورّعون من عدّ أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – المبشرين بالجنة من أئمة الكفر؛ ففي 'فتح الباري' لابن حجر (8 / 426) قال: [و قد روى ابن مَرْدويه من طريق أبي عوْن عن مصعب، قال: نظر رجل من الخوارج إلى سعد (أي ابن أبي وقاص – رضي الله عنه –)، فقال: هذا من أئمة الكفر !! فقال له سعد: كذبت ! أنا قاتلت أئمة الكفر، فقال له آخر: هذا من الأخسرين أعمالا !! فقال له سعد: كذبت ! {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم} (الكهف 105) الآية].

و صدق الإمام ابن كثير إذ يقول في 'البداية و النهاية' (10 / 580): [و هذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوّع خلقه كما أراد، و سبق في قدره ذلك، و ما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج: إنهم المذكورون في قوله – تعالى –: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} (الكهف 103-105) !
و المقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، و الأشقياء في الأقوال و الأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين...]

و قد ذكر هذا – رحمه الله – بعد أن ساق بعض الحكايات الغريبة عنه، و لا بأس من سوق شيء منها لينظر القارئ التشابه بين المتقدمين و المتأخرين، و منها ما رواه عبد الملك بن أبي حرّة [أن عليّا لما بعث أبا موسى لإنفاذ الحكومة، اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فخطبهم خطبة بليغة، زهدهم في هذه الحياة الدنيا،و رغبهم في الآخرة و الجنة، و حثهم على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا – إخواننا – من هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد، إلى بعض كوَر الجبال، أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه الحكام الجائرة، ثم قام حرقوس بن زهير، فقال بعد حمد الله و لثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، و إن الفراق لها وشيك، فلا تدعونّكم زينتها و بهجتها إلى المقام بها، و لا تلفتنّكم عن طلب الحق و إنكار الظلم؛ فإن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون، فقال سنان بن حمزة الأسدي: يا قوم ! إن الرأي ما رأيتم، و إن الحق ما ذكرتم، فولّوا أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد و سناد، و من راية تحفون بها و ترجعون إليها، فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي و كان من رؤوسهم، فعرضوا عليه الإمارة عليهم فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، ثم عرضوها على حمزة بن سنان فأبى، ثم عرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسيّ فأبى، ثم عرضوها على على عبد الله بن وهب الراسبيّ فقبلها، أمّا – و الله !– لا أقبلها رغبة في الدنيا و لا أدعها فَرَقًا من الموت.
و اجتمعوا أيضا في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسيّ، فخطبهم و حثهم على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و تلا عليهم آيات من القرآن، منها قوله – تعالى –: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} الآية (سورة ص 26)، و قوله: {و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (المائدة 44)، و التي بعدها و بعدها {الظالمون} (45)، {الفاسقون} (47)، ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى و نبذوا حكم الكتاب، و جاروا في القول و الأعمال، و أن جهادهم حق على المؤمنين، فبكى رجل منهم يُقال له عبد الله بن شجرة السُّلمي، ثم حرّض أولئك على الخروج على الناس، و قال في كلامه: اضربوا وجوههم و جباههم بالسيوف حتى يُطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم و أُطيع الله كما أردتم آتاكم الله ثواب المطيعين له العاملين بأمره، و إن قتلتم فأي شيء أفضل من الصبر و المصير إلى الله و رضوانه و جنته؟ !!].
لا ريب أن هذه القصة تذكّر من عرف الخوارج اليوم كثيرا من نقاط التشابه بينهم و بين أولئك، مع ملاحظة ما أوتوا – من إعانة إبليس لهم – من أساليب خطابية ملهبة لمشاعر من قل صبره على السنة، و من الله وحده العصمة و له المنة.

و قد تصدّيتُ لهذه الكتابة لقلة المتصدين لها على الرغم من اشتداد البلاء بهذه الجماعات، و انتشار سُمّها في جسد الأمة، مع كثرة المنخدعين بها، و كذا المدافعين عنها من خارجها، أو الساكتين عنها: أولئك النافخون في كير الفتنة.
و قد قرأت لبعض الغيورين كتابات دعوية عظيمة، دعموها بفتاوى الأئمة الكبار؛لدحض حجج أولئك الأغرار، فكان لها الأثر الطيب في ذلك، و اشتهر عند الناس رأي أولئك: الألباني و ابن باز و ابن عثيمين – رحمهم الله –، واغتاظ التكفيريّون بها أشد الغيظ، و هم يرون أنه قد اتحدت كلمتها و اشتد عودها، و أشد ما غاظهم فيها أن يجتمع سواد الأمة على الرجوع إلى هؤلاء الجبال الثلاثة و من معهم من أهل العلم، فكادوا لهم، و حركوا غيرهم هنا و هناك، بعد أن كاد يُقطع نسل هذه الجماعة !
و في الوقت الذي يشيّع الناس جنازتها، و يهيلون التراب على جدثها، كتب أقوام من الأحداث كتبا في اتهام المجاهدين لها – من أهل السنة بل من أئمة السنة – بالإرجاء، فذرّت قرنها، و رفعت عقيرتها، و قد رأت أن صار لها مراجع... !
من أجل هذا جرّدت قلمي، و أنا راج من الله أن يكتبني في المجاهدين، كما قال ابن القيّم – رحمه الله – في 'التبيان في أقسام القرآن' (ص 132): [القلم الجامع هو قلم الرد على المبطلين و رفع سنّة المحقين و كشف أباطيل المبطلين، على اختلاف أنواعها و أجناسهاّ، و بيان تناقضهم و تهافتهم، و خروجهم عن الحق، و دخولهم في الباطل، و هذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام، و أصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل، المحاربون لأعدائهم، و هم الداعون إلى الله بالحكمة و الموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال، و أصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل، و عدو لكل مخالف للرسل، فهم في شأن، و غيرهم من أصحاب الأقلام في شأن].

هذا و لم أتوسع في مراجع الرجل، و إنما اعتمدت في نقل أغلب كلامه على ثلاثة:
الأول: مقالاته التي ينشرها في مجلة الأنصار الصادرة في لندن، و قد أحيلُ أحيانا إلى كتبه 'الجهاد و الاجتهاد' الذي جُمع فيه جلّ أبحاث مجلته هذه.
الثاني: خطبة جمعة له في لندن، في حكم ما قامت جماعة في الجزائر من قتل للنساء و الأطفال، و هي مشهورة متداولة.
الثالث: حوار أجرته معه جريدة 'الحياة'، العدد (13219)، في (ص 6)، بتاريخ: (الثلاثاء 3 صفر 1420 هـ)، و الموافق لـ (18 أيار مايو 1999 م).
و قد صورت جميع الوثائق التي استقيت منها المعلومات بحسب الإمكان، و جعلتها في أماكنها من الكتاب حتى تكون قريبة من عين القارئ، فبلغت أكثر من ثلاثين وثيقة.

و لا بأس من تذكير القارئ الكريم بأنني كتبت في الموضوع ثلاثة كتب:
الأول: 'مدارك النظر في السياسة بين التطبيقات الشرعية و الانفعالات الحماسية'، و قد جعلته خاصا بباب السياسة.
الثاني: 'فتاوى العلماء الأكابر فيما أُهدر من دماء في الجزائر'، و قد جعلته خاصا بباب الدماء، و كلاهما قد طبع و الحمد لله.
و الثالث: هو هذا، و هو في موضوعه تابع لسابقه، ثم لمّا طال الكتاب، جعلته قسمين: قسم هو هذا، جعلته خاصا بالدماء، و قسم خاص بالأعراض و الأموال، سمّيته 'تنبيه النبيه على لصّ بسمت فقيه'.

و أتقدم بالشكر الجزيل لجميع الإخوة الذين أمدوني بمراجع القوم، و أسال الله لهم السداد في القول و العمل، و الثبات على الإسلام و السنة، و أن يلحقنا و إياهم بالصالحين.
و أسأله – تعالى – أن يحقن دماء إخواني، و أن يحشرنا إليه إخوانا على سرر متقابلين، و أن يكتب لي القبول عنده فيما أكتب؛ فإن الله إن رضي عن عبده هانت عليه مساخط غيره، إنه نِعم المولى و نعم النصير.

المدينة في 29 ربيع الأول 1422 هـ.


----------------------------------------------------

(1) أحد بيوتات العرب، يكون من وبر أو صوف، وقيل من شعر أيضا.
(2) من المناضلة: و هي المراماة بالنّشّاب.
(3) هي الدواب التي ترعى و تبيت مكانها.
(4) أسند الحربيّ بعض هذه القصة في 'غريب الحديث' (1 / 331)، و قال في (1 / 337): [هو الميل الذي يُكتحل به]، و في 'لسان العرب' لابن منظور عند مادة مض: (و كحلَه بملمول مضٍّ، أي حار).

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 06 May 2008, 07:45 AM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

مدخل

فيه ثلاثة أصول:
الأول: وجوب العمل بالشريعة الإسلامية.
الثاني: التحذير من تكفير المسلم.
الثالث: حرمة دم المسلم.

وجوب العمل بالشريعة الإسلامية

المسلم الذي يؤمن بالله و رسوله لا يتردّد في العمل بأمر الله – عز و جل – و أمر رسوله – صلى الله عليه و سلم –؛ لأن ذلك من مقتضى إيمانه، قال الله – تعالى –: {إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعوا إلى الله و رسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا و أطعنا و أولئك هم المفلحون (51) و من يطع الله و رسوله و يخش الله و يتّقْه فأولئك هم الفائزون} (النور 51-52)، و الناس في تشريعاتهم يختارون لأنفسهم الأصلح في ظنهم، و لا أصلح مما اختاره الله لهم في شريعته حيث يقول: {أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} (المائدة 50)، و كل شريعة غير شريعة الله فنحن منهيّون عن اتباعها؛ لأن الله قد قال – و لا قول مع قول الله –: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18) إنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئا و إن الظالمين بعضهم أولياء بعض و الله ولي المتقين (19)} (الجاثية).

و لهذا فإنه يستحيل أن يختار المسلم لنفسه حكما غير الله ذي الحكمة و العدل، و هو يقرأ قول الله – عز و جل –: {أفغير الله أبتغي حكما و هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا و الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين} (الأنعام 114)؛ و ذلك لأن كلام الله إما خبر و إما حكم، فخبره – عز و جل – صدق، و حكمه عدل، و لذلك قال عقِب هذه الآية: { و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم} (الأنعام 115).

عن هانئ بن زيد – رضي الله عنه –: أنه لما وفد إلى رسول الله – صلى الله عليه و سلم – مع قومه سمعهم يكنّونه بأبي الحَكَم، فدعاه رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فقال: "إن الله هو الحكم و إليه الحكم، فلم تكنّى بأبي الحكم؟" فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟" فقال: لي شريح و مسلم و عبد الله، قال: "فمن أكبرهم؟" قال: شُريح، قال: "فأنت أبو شريح". رواه أبو داود (4955)، و النسائي (8 / 226-227) بإسناد صحيح.

و كيف لا يكون الأمر كذلك، و قد أعطى الله – تعالى – الحقوق لأهلها من غير حيف و لا نسيان، كما قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه" الحديث، أخرجه الترمذي، و صححه الألباني في 'صحيح الجامع' (1720).

فما كان من خبر القرآن و السنة صدّق به المؤمن، و أيقن به قلبه و لو لم يبلغه عقله، قال الله – تعالى –: {و منأصدق من الله قيلا} (النساء 122).

و ما كان من حكم القرآن و السنة تحاكم إليه المؤمن منشرح الصدر، و لو كان فيه ذهاب شيء من حظه العاجل، قال الله – تعالى –: {فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما} (النساء 65).

ذكر ابن القيم – رحمه الله – في 'مدارج السالكين' (2 / 171-172) الحديث الذي رواه مسلم (34) بلفظ: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، و بالإسلام دينا، و بمحمد رسولا"، و الحديث الذي رواه مسلم أيض (386) بلفظ: "من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربا، و بالإسلام دينا، و بمحمد رسولا، غُفرت له ذنوبه"، ثم قال: [و هذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين، و إليهما ينتهي، و قد تضمنّا الرضا بربوبيته سبحانه و ألوهيته، و الرضا برسوله و الانقياد له، و الرضا بدينه و التسليم له، و من اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقا، و هي سهلة بالدعوى و اللسان، و هي من أصعب الأمور عند حقيقة الامتحان، و لا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس و مرادها، من ذلك تبين أن الرضا كان لسانه به ناطقا، فهو على لسانه لا على حاله...

و أما الرضا بنبيه رسولا: فيتضمن كمال الانقياد و التسليم المطلق إليهن بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، و لا يحاكِم إلا إليه، و لا يحكّم عليه غيره، و لا يرضى بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب و صفاته و أفعاله، و لا في شيء من أذواق حقائق الإيمان و مقاماته، و لا في شيء من أحكام ظاهره و باطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، و لا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمُه غيرَه من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة و الدم، و أحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يُتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور.

و أما الرضا بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى، رضي كل الرضا، و لم يبق في قلبه حرج من حكمه، و سلّم له تسليما، و لو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها، أو قول مقلده و شيخه و طائفته.
و ههنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم، فإياك أن تستوحش من الاغتراب و التفرد، فإنه – و الله! – عين العزة و الصحبة مع الله و رسوله، و روح الأنس به، و الرضا به ربا و بمحمد – صلى الله عليه و سلم – رسولا و بالإسلام دينا.

بل الصادق كلما وجد مسّ الاغتراب، و ذاق حلاوته، و تنسم روحه قال: اللهم زدني اغترابا و وحشة من العالم و أنسا بك، و كلما ذاق حلاوة هذا الاغتراب و هذا التفرد، رأى الوحشة عين الأنس بالناس، و الذل عين العز بهم، و الجهل عين الوقوف مع آرائهم و زبالة أذهانهم، و الانقطاع عين التقيد برسومهم و أوضاعهم، فلم يؤثر بنصيبه من الله أحدا من الخلق، و لم يبع حظه من الله بموافقتهم فيما لا يُجدي عليه إلا الحرمان.

و غايته مودة بينهم في الحياة الدنيا، فإذا انقطعت الأسباب، و حقت الحقائق، و بعثر ما في القبور، و حصل ما في الصدور، و بليت السرائر، لم يجد من دون موالاة الحق من قوة و لا ناصر، تبين له حينئذ مواقع الربح و الخسران، و ما الذي يخف أو يرجح به الميزان، و الله المستعان و عليه التكلان".
و من صفات المنافقين إرادة التحاكم إلى غير شريعة رب العالمين، قال الله – تعالى –: {أم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) و إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله و إلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا (61)} (النساء 60-61).

فاحذر من الإعراض عما أنزله الله من حكم في كتابه و على قلب رسوله – صلى الله عليه و سلم –، فقد يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرا، فتخرج من ملة الإسلام، و تخسر الدنيا و الآخرة، فلا تسعد في الدنيا بالحكم البشري الذي اخترته على حكم الله و فضلته عليه أو ساويته به؛ إذ لا سعادة إلا في ظل ما أنزل الله، و لا تسعد في الآخرة؛ إذ كنت في عِداد أعداء الله الذين قال فيهم: {و الذين كفروا فتعسا لهم و أضل أعمالهم (8) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (9)} (محمد 8-9).

و لا تزال الأمم في معيشة ضنك ما أعرضت عن الوحي، قال الله – تعالى –: {و من أعرض عن ذكري فإن به معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تُنسى (126)} (طه 124-126).

و ما نراه في مجتمعات المسلمين من اختلاف الرأي و تفكك الأواصر و لعن بعضهم بعضا هو نتيجة حتمية لبعد الناس عن العمل بالكتاب و السنة، أخبرنا بذلك رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فقد أخرج بن ماجه (4019)، و الحاكم (4/540)، و صححه الألباني في 'الصحيحة' (106) عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: أقبل علبنا رسول الله – صلى الله عليه و سلم – بوجهه، فقال: "يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، و أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، و لم ينقصوا المكيال و الميزان إلا أُخذوا بالسنين و شدة المؤنة و جَوْر السلطان عليهم، و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، فلولا البهائم لم يُمطروا، و لم ينقضوا عهد الله و عهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، و ما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، و يتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله باسهم بينهم"

قال ابن تيمية عقب إيراده موضع الشاهد من هذا الحديث: [وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول، كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة، في زماننا و غير زماننا، و من أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيده الله و نصره، و يتجنب مسلك من خذله الله و أهانه] من 'مجموع فتاواه' (35/388).

فهيهات هيهات أن يعز قوم ولّوا شريعة ربهم ظهورهم، أخرج أحمد في 'الزهد' (ص 142) و أبو نعيم في 'الحلية' (1 / 216-217) بسند صحيح عن جبير بن نفير قال: (لمّا فُتحت قبرص فُرّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام و أهله؟ فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله – عز و جل – إذا أضاعوا أمره؛ بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى!).

و على هذه الحال جرت سنة الله في دول الإسلام، قال الشيخ إسماعيل الحسيني في كتابه 'تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن' (ص 84-85): [و كذلك الشام، كان أهله في أول الإسلام في سعادة الدنيا و الدين، ثم جرت فتن، و خرج الملك من أيديهم، ثم سُلّط عليهم المنافقون الملاحدة و النصارى بذنوبهم، و استولوا على بيت المقدس و قبلا الخليل، وفتحوا البناء الذي كان عليه و جعلوه كنيسة، ثم صلح دينهم فأعزهم الله و نصرهم على عدوهم لمّا أطاعوا الله و رسوله و اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم.

و كذلك أهل الأندلس كانوا رقودا في ظلال الأمن و خفض العيش و الدعة، فغمطوا النعمة، و قابلوها بالأشر و البطر، فاشتغلوا بمعاصي الله – تعالى –، و أكبّوا على لهوهم و لم يتقوا مواقع سخط ربهم و مقته، ففعل الله بهم ما لا يحصره قلم كاتب، و لا يحصيه حساب حاسب، بتسليط عدوهم عليهم حتى مزقهم الله كل ممزق، و فرقهم أيادي سبا، و ارتد بعضهم على عقبه؛ ركونا إلى الدنيا الفانية و الحظوظ العاجلة، و من قرأ تاريخهم علم ما كان القوم عليه، و ما صاروا إليه، و في التاريخ أكبر عبرة لمن اعتبر].

و مقابلة سريعة بين ما وصل إليه أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – من العز مع القلّة، و ما وصل إليه غيرهم من الذلة مع الكثرة، تنبيك بالفارق الكبير بين صاحب الطاعة و صاحب المعصية، قال الشيخ اسماعيل الحسيني في كتابه السابق (ص 79): [ألا ترى أن الصحابة – رضي الله عنهم – بعد وفاة نبيهم – صلى الله عليه و آله و سلم – فتحوا ما فتحوا من الأقاليم و البلدان، و نشروا الإسلام و الإيمان و القرآن في مدة نحو مائة سنة، مع قلة عدد المسلمين و عُدَدهم و ضيق ذات يدهم، نحن مع كثرة عددنا و وفرة عُدَدنا و هائل ثروتنا و طائل قوتنا، لا نزداد إلا ضعفا و تقهقرا إلى وراء، و ذلة و حقارة في عيون الأعداء].

هذا ما تيسر جمعه، و إنما أردت تنبيه المسلمين جميعا إلى سبب ما حل بديارهم من محن، و لم أرد به تخصيص الأمراء بالأمر بإقامة الدين؛ لأن الخلق كلهم مأمورون بإقامة دين الله.
و من أراد تخصيص الأمراء بهذا، ففي عرينهم، و بلين القول لهم، مع مراعاة حكمة الشرع في ذلك، كما قال الله – تعالى – لموسى و هارون – صلى الله عليهما و سلم –: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)}.

التحذير من تكفير المسلم

البلاء موكول بالمنطق، و اللسان مركب خطر من مراكب العَطَب، و قد حذرنا اللهم من شره ف آيات كثيرة جدا من كتابه؛ لأن المرء مسؤول يوم القيامة عما قاله في الدنيا، قال الله – عز و جل –: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} (ق 18).
و من الآفات اللسانية التي يسال عنها: تكفير المسلم بغير حق، كاتباع الظن أو المبالغة في رد عدوانه إلى حد تكفيره بلا مسوّغ، أو جعل كبائره نواقضَ لإيمانه، قال الله – تعالى –: {و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا} (النساء 94).
و في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "إذا قال الرجل لأخيه: (يا كافر!) فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال و إلا رجعت عليه".
و فيهما عن أبي ذر أنه سمع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يقول: "من دعا رجلا بالكفر أو قال: (عدو الله!) و ليس كذلك إلا حار عليه".
و قال – صلى الله عليه و سلم –: "من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله" رواه الطبراني من حديث هشام بن عامر، و صححه الألباني في 'صحيح الجامع الصغير' (6269).

و على هذا فينبغي للناصح لنفسه أن يتجنب أعراض المسلمين، ففي الصحيحين أن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – قال: "سباب المسلم فسوق و قتاله كفر".

و إنما كان إثم التكفير عائدا على صاحبه إذا لم يكن المُكَفَّر أهلا لذلك؛ لأن الجزاء من جنس العمل، و قد ذكر بن رجب في 'النصيحة' (ص 21) أنه لمّا ركب ابن سيرين الدَّيْن و حٌبِس به، قال: (إني أعرف الذنب الذي أصابني هذا؛ عيرت رجلا منذ أربعين سنة، فقلت له يا مفلس!).
هذه كلمة قالها صاحبها منذ أربعين سنة فلم ينسها؛ لأن السلف لم يكونوا عن أنفسهم غافلين، فكيف إذا كان المرء يَلُوك كلمة (يا كافر!) – التي هي شر من (يا مفلس!) – صباح مساء؟!
و عن أبي سفيان قال: (سألت جابرا و هو مجاور بمكة، و كان نازلا في بني فهر، فسأله رجل: هل كنتم تزعمون أحدا من أهل القبلة مشركا؟ فقال: معاذ الله! و فزع لذلك، فقال: هل كنتم تدعون أحدا منهم كافرا؟ قال: لا) رواه ابو يعلى (2317)، و أحمد (3 / 389 – مختصرا) و أبو نعيم 'صفة النفاق' (137 – بنحوه) و الطبراني كما في 'مجمع الزوائد' (1 / 107)،و صححه ابن حجر في 'المطالب العالية' (3294).

و عن حذيفة – رضي الله عنه – قال:قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "إن أخوف ما أخاف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رُئِيت بهجته عليه و كان ردءا للإسلام، انسلخ منه و نبذه و راء ظهره، و سعى على جاره بلسيف، و رماه بالشرك، قلت: يا نبي الله! أيهما أولى بالشرك: الرامي أو المرمي؟ قال بل الرامي" رواه البخاري في 'التاريخ' (2907) و ابن حبان (81)، و حسنه الألباني في'الصحيحة' (3201).


حرمة دم المسلم

قال الله – تعالى –: {و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} (الأنعلم 151)، و قال – تعالى –: {و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما} (النساء 93).
و لعظم شان الدماء كان قتل نفس واحدة كقتل أنفس، و إحياء نفس واحدة كإحياء ـنفس، قال الله – تعالى –:{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} (المائدة 32)، قال مجاهد – رحمه الله –: (و من أحياها و لم يقتل أحدا فقد حيَّ الناس منه) رواه ابن أبي شيبة (9 / 363) و ابن جرير في 'تفسيره' (10 / 11784-11785).

و بهذا المعنى فهم الآية عثمان بن عفان – رضي الله عنه –، فقد آثر أن يموت وحده يوم الدار حيت اجتمع الثوار لقتله؛حقنا لدماء المسلمين و إحياء لهم، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: (دخلت على عثمان – رضي الله عنه – يوم الدار، فقلت: يا أمير المؤمنين طاب الضرب، جئت أقاتل معك، فقال: يا أبا هريرة! أيسُرُّك أن تقتل الناس جميعا و إياي معهم؟ قال: قلت: لا، قال: فإنك – و الله! – لئن قتلت رجلا واحدا لكأنما قتلت الناس جميعا، قال: فرجعت و لم أقاتل) رواه سعيد بن منصور في 'سننه' (2937) و نُعيم بن حماد في 'الفتن' (437) و ابن سعد في 'الطبقات' (3 / 70) و الخطيب في 'الكفاية' (ص 183)، و هو صحيح.

قلت: هذا نفَس من نفس طيبة، جاد بدمه لحفظ غيره، مع أنه أحق الناس بالنصرة، و الانتصار لعثمان ذي النورين – رضي الله عنه – انتصار لحق محقق، مع ذلك فقد آثر أن يموت هو ليحيا غيره، فكيف عمي أهل التكفير عن هذا؟!
بلى! إنه يبصره الراسخون، و يعمى عنه الماسخون؛ لأن الله يقول: {قل هل يستوي الذي يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} (الزمر 9).

أم كيف عمي عنه رجل يزعم أن له يدا على الأفغان؛ بسبب ما قدم لجهادهم من أموال، ثم لمّا دار الأمر بين أن يُسجن أو يُقتل و بين أن يُقتل الشعب الأفغاني، شحّت نفسه بما جادت به نفس ذي النورين المخلصة، حتى قُتل من أجله أمة عظيمة من هذا الشعب المسلم من قبل عدو غاشم يفرحه عناد مطلوبه؛ ليصل إلى مرغوبه؟!!
أيُعقل أن يُفدى رجل بشعب، ثم يُنسب هذا المفدّى إلى الغيرة على الإسلام و المسلمين؟!
و لئن كن بالأمس قد حمى هذا الشعب من استعمار الروس الغاصبين، فلقد قدمه اليوم لقمة سائغة لأعداء عِطاش إلىدماء المسلمين!!

إن عثمان خليفة حقا، و راشد بكل معاني الرشد صدقا، و متزوج من بيت النبوة مرتين، و من أهل الجنة بلا مَين، و مظلوم بإجماع أهل السنة، و الخارجون عليه كلاب النار بلا ريب، على الرغم من ذلك لم تطِب نفسه بأن تُفدى بغير دمه، رضي الله عن هذه النفس الطيبة المخلصة.

و كيف خفي هذا عن أصحاب الحركة الذين يرون ضرورة (حرق جيل مسلم) من أجل الدفاع عن دعاة لا عزاء فيهم؟! بل هم كما قيل:
فإن تصبك من الأيام جائحة [][][][] لا نبك منك على دنيا و لا دين

و من الأصول التي كان رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يحرص على تقريرها ما رواه مسلم (2564) و ابن ماجه (3933) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه و ماله و عِرضه".

و كان رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يجتهد في ذلك بقطع أسبابه و حسم مادته من أولها، فعن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "الملائكة تلعن أحدكم إذا أشار إلى أخيه بحديدة، و إن كان أخاه لأبيه و أمه" أخرجه مسلم (2616).

و عن أبي بكرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "إذا أشار الرجل على أخيه بالسلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتله وقعا فيها جميعا" أخرجه مسلم (2888) و أبو داود الطيالسي (925) و اللفظ له، و النسائي (4127) و ابن ماجه (3965).

و معنى "جرف": شِق الوادي، أي طرفه.
و عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزَغ في يده فيقع في حفرة من النار" أخرجه البخاري (7072) و مسلم (126).

و أبْلغُ منه في حسم مادته ما أخرجه أحمد (5 / 362) و أبو داود (5004) و غيرهما بإسناد صححه الألباني في 'غاية المرام' (447)، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (حدثنا أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم – أنهم كانوا يسيرون مع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – في مسير، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى نبل معه فأخذها، فلما استيقظ الرجل فزع، فضحك القوم، فقال: "ما يضحككم؟" فقالوا: لا، إلا أنا أخذنا نبل هذا ففرع، فقال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "لا يحل لمسلم أن يروّع مسلما".

قال المناوي – رحمه الله – في 'فيض القدير' (6 / 447): [لا يحل لمسلم أن يروع مسلما و إن كان هازلا، كإشارة بسيف أو حديدة أو أفعى أو أخذ متاعه فيفزع لفقده؛ لما فيه من إدخال الأذى و الضرر عليه، و المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده].

و من أخلاق المؤمن أنه إن قتل قتل بالحق، و في رفق و إحسان؛ فعن ابن مسعود – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – أنه قال: "أعَفّ الناس قِتْلة أهل الإيمان" رواه أحمد (1 /393) و أبو داود (2666) و ابن ماجه (2682)، و هو حسن.

قال المناوي في 'فيض القدير' (2 / 7): [أي هم أرحم الناس بخلق الله و أشدهم تحريا عن التمثيل و التشويه بالمقتول و إطالة تعذيبه؛ إجلالا لخالقهم، و امتثالا لما صدر عن صدْر النبوة من قوله: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة"،بخلاف أهل الكفر و بعض أهل الفسوق، ممن لم تذق قلوبهم حلاوة الإيمان، و اكتفوا من مسماه بقلقلة اللسان، و أُشربوا القسوة، حتى أُبعدوا عن الرحمن، و أبعد القلوب من الله القلب القاسي، و من لا يَرحم لا يُرحَم].

و عن عقبة بن عامر – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "من لقي الله لا يُشرك به شيئا، لم يتندّ بدم حرام، دخل الجنة" أخرجه أحمد (4/152) و ابن ماجه (2618)، و هو صحيح.

قال السيوطي: [لم يتندّ: أي لم يصب منه شيئا، أو لم ينله منه شيء، كأنه نال نداوة الدم]، من حاشية 'سنن ابن ماجه'.
قال أبو بكر بن العربي – رحمه الله –: [ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق و الوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي، فكيف بالمسلم، فكيف بالتقي الصالح؟!]، من 'فتح الباري' لابن حجر (12 / 196).

عن جندب بن عبد الله – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه و سلم – قال: "من استطاع منكم أن لا يحول بينه و بين الجنة – و هو يرى بابها – ملء كف من دم امرئ مسلم يقول: لا إله إلا الله، يهريقه بغير حلِّه كأنما يذبح به دجاجة، كلما تعرض لباب من أبواب الجنة حال بينه و بين المقتول ينازع قاتله إلى ربّ العالمين" رواه عبد الرزاق (10 / 26 – ببعضه) و ابن أبي عاصم في 'الديات' (ص 8) و الطبراني في 'الأوسط' (8 / 233) و في 'الكبير' (2 / 159 – ببعضه، و 160) و البيهقي في 'الشعب' (5350)، و هو صحيح.

و عند بعض هؤلاء بلفظ: عن الحسن البصري قال: (جلست إلى جندب في إمارة مصعب، فقال: إن هؤلاء القوم قد ولغوا في دمائهم و تحالفوا على الدنيا، تعلمون أني سمعت رسول الله – صلى الله عليه و سلم – يقول...) فذكره.

قال ابن حجر عقِبه في 'الفتح' (13 / 130): [و هو وعيد شديد لقتل المسلم بغير حق].

فبان أن هذه الأحاديث كانت تحجزهم عن مشاركة الناس فيما يُزعم أنه إصلاح للولاة، و لو تدبرها هؤلاء الوالغون في دماء الناس باسم (الجهاد لإقامة دولة الإسلام) لما تجرؤوا على ذلك؛ إذ هؤلاء أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، و هم أولى الناس بإمارة الناس، مع ذلك فقد كان من ورعهم ما رأيتَه.

و منه ما صح من رواية الإمام أحمد (5 / 367، 373، 376) و الطبراني (2 / 164) و البيهقي (8 / 191) عن أبي عمران الجني قال: (قلت لجند بن عبد الله: إني بايعت ابن الزبير على أن أقاتل أهل الشام، قال: لعلك تقول أفتاني جندب و أقتدي؟ قال: قلت: ما أريد ذلك، و لكني أستفتيك لتفتيني، (و في رواية إنهم يريدون أن أخرج معهم إلى الشام؟ فقال: أمسك عليك، فقلت: إنهم يأبَون)، قال: افتد بمالك، قلت: لا يُقبل مني، قال جندب: كنت على عهد رسول الله – صلى الله عليه و سلم – غلاما حَزوَّراً(1)، و إن فلانا أخبرني أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: يجيء المقتول يوم القيامة بقاتله، متعلق به، فيقول: يا رب! سله فيم قتلني؟ فيقول الله عز و جل –: فيم قتلتم هذا؟ فيقول في ملك فلان، قال جندب: فاتق لا تكون ذلك الرجل!).

فانظر إلى ورع القوم و اتقائهم الدماء، على الرغم من أن ابن الزبير – رضي الله عنه – هو الذي بويع له قبل خصمه، و هو صحابي، بل هو بن حواري النبي – صلى الله عليه و سلم – و ابن عمته!

ثم انظر إلى استدلال جندب – رضي الله عنه – بهذا الحديث الخاص بالقتال من أجل ملك الغير على قتال ابن الزبير – رضي الله عنه –، و لم يقل أحد منهم: إن هذا خذلان لأهل الحق الساعين لإقامة الدولة الإسلامية؛ و إنما شأن الدماء عظيم!

فتأمل توظيفهم لهذا الحديث و ما سبق من الأحاديث في هذا المقام، مع أن جهادهم – رضي الله عنهم – هو أصدق جهاد، و دولتهم هي أنظف دولة، و أما حديثنا عن الجهاد لتحقيق دولة الإسلام فـ {إن نظن إلا ظنا و ما نحن بمستيقنين}.

عظم شأن كلمة التوحيد و الكف عن أهلها

عن أوس بن أبي أوس الثقفي – رضي الله عنه – قال: أتيت رسول الله – صلى الله عليه و سلم – في وفد ثقيف، فكنا في قبة، فقام من كان فيها غيري و غير رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فجاء رجل فساره، فقال: "اذهب فاقتله"، ثم قال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟" قال: بلى! و لكنه يقولها تعوذا، فقال: رُدّه، ثم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها حَرمت علي دماؤهم و أموالهم إلا بحقها" رواه أحمد (4 / 8) و النسائي (7 / 80-81) وابن ماجه (3929)، و هو صحيح.

الكف عن أهل الصلاة

عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلا من الأنصار حدثه: أتى رسول الله – صلى الله عليه و سلم – و هو في مجلس، فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، فقال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى – يا رسول الله! – و لا شهادة له، قال رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "أليس يشهدان محمدا رسول الله؟ قال: بلى – يا رسول الله! – و لا شهادة له، قال: "أليس يصلي؟" قال: بلى – يا رسول الله! – و لا صلاة له، فقال النبي – صلى الله عليه و سلم –: "أولئك الذين نهاني الله عنهم" أخرجه أحمد (5 / 432 – 433) بإسناد صحيح.

قال ابن عبد البر في 'التمهيد' (10 / 153): [و في قول رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "أولئك الذين نهاني الله عنهم" رد لقول صاحبه القائل له: (بلى! و لا صلاة له، بلى! و لا شهادة له)؛ لأن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – قد أثبت له الشهادة و الصلاة، ثم أخبر أن الله نهاه عن قتلهم، يعني عن قتل من أقر ظاهرا، و صلى ظاهرا].


-----------------------------
(1) الحزوّر: إذا قارب البلوغ، كذا في 'غريب الحديث' لابن قُتَيبة (3 / 758).

التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 09 May 2008 الساعة 04:02 PM سبب آخر: تصحيح آية
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 06 May 2008, 04:51 PM
ابو عبد الله غريب الاثري ابو عبد الله غريب الاثري غير متواجد حالياً
وفقه الله
 
تاريخ التسجيل: Sep 2007
الدولة: الجزائر
المشاركات: 173
افتراضي

...

التعديل الأخير تم بواسطة ابو عبد الله غريب الاثري ; 06 May 2008 الساعة 04:55 PM
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 07 May 2008, 12:51 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

تعريف ببعض المسميات و أصحابها

تعريف ببعض الجماعات

ستجد هنا ذكرا لأسماء بعض الجماعات، فهذا تعريفها المختصر:
الجماعة الإسلامية المسلحة: هي جماعة الغلاة من التكفيريين في الجزائر، و هم الذين يرجعون إلى أبي قتادة الفلسطيني في فتاواه.

الجبهة الإسلامية للإنقاذ: حزب سياسي قام في الجزائر في حدود سنة (1409 هـ) أو قبلها بقليل، كان يترأسه الدكتور عباسي مدني، و ينوب عنه لسان الحزب علي بن حاج، تحول إلى الجيش الإسلامي للإنقاذ بعد أن أقصي من البرلمان في بداية سنة (1412 هـ).

الجماعة السلفية للدعوة و القتال: هي جماعة متأخرة الميلاد عن سابقتيها، و ليس لها من السلفية إلا الاسم؛ و إنما ظهرت لمنافسة السلفيين الحقيقيين؛ حتى تصرف الناس إليها، لا سيّما في بلاد الجزائر؛حيث أحب أهلها هذا الاسم بسبب دعوة العلامة الألباني – رحمه الله – خاصة، و غيره من أهل العلم عامة.

و قد أرادت هذه الجماعة أن تفرض وجودها في ساحة أهل السنة السلفيين و لم تفلح؛ لأن أرضها قفر من العلماء، و إنما نجحت الدعوة السلفية الحقّة لارتباطها بالعلماء، و قد قيل:
إن الأمور إذا الأحداثُ دبّروها [][][][] دون الشيوخ ترى في سيرها الخلل

و ما قيل فيها، يقال في جماعة: حماة السلفية!!

و هؤلاء و إن لم يكونوا في الوحشية مثل الجماعة الأولى، فإن ظهورهم جميعا مُثقلة بالدماء، نسأل الله العافية، و بينهم جميعا و بين الخوارج اشتقاق، و إن كانوا في عزة و شِقاق.

كما أنها ترجع في فتاواها إلى أبي قتادة الفلسطيني، و يبدو أنها لم تقنع به فهرعت إلى أبي بصير عبد المنعم مصطفى حليمة!!

روى أبو نُعيم في 'الحلية' (4 / 225) بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي قال: (كانوا يقولون و يرجون: إذا لقي الله الرجل المسلم و هو نقي الكفّ من الدم أن يتجاوز عنه و يغفر له ما سوى ذلك من ذنوبه).

من هو أبو قتادة؟

هو عمر بن محمود أبو عمر الأردني، يدعى أبا قتادة الفلسطيني؛ بالنظر إلى أصله، و هو بريطاني المهجر؛ بالنظر إلى البلاد التي اختارها الآن لنفسه، بعد هجره بلادَ المسلمين.

له في أكثر الدماء التي تُراق في العالم الإسلامي – و الإسلامي فقط! – يد، و لكنها يد دون يد؛ لأنه يحسّن لكل مبتغي دم – باسم الدين – عمله، ويزين لكل مفتون بالثورات – باسم الجهاد – (جهادَه!)، و لكنه لا يباشر شيئا من ذلك!

أدرك القتال الأفغاني في إدباره، فلَحَس ما بقي من تكفير على مائدته، حتى إذا غص بسمّه، التجأ إلى لندن عاصمة الاستعمار، و وجد عندها الظل الظليل، و الملجأ و المقيل، فتكفف منها اللجوء السياسي، وعندها وجد ضالته و بدأت المآسي!

آوته بريطانيا هو و أشكاله من الفارين من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر، و أعتدت لكل واحد منهم متكأ، فمن ظلها و ظلالها جعل ينفث في كل البلاد الإسلامية سم التكفير، بل منها يحرك أوباشه الذين في بلاد الإسلام نحو القتل و التفجير!!

وهؤلاء لا يقاتلون إلا الأمة الإسلامية، فهي الغرض المنصوب لسهامهم، و العِرض المحبوب طعنه لأقلامهم!

لم يبقوا منها لحما إلا تعرَّقوه، و لا عظما إلا هشموه!

تلك هي سيرتهم في جهادهم: أما مع المسلمين، فضرب الهام، و أما مع الكفار فحرب كلام، و لا يغرنّكم مضاء ألسنتهم في أعراض الكفار، و لاغلَيان أفكارهم بها و إن كانت كغَلي القُدور، فليس أكثر من تحريش ربات الخدور.

و لذلك كان من مصائبه تقديم مجاهدة الدول المسلمة على مجاهدة الدول الكافرة؛ بزعم ارتدادها فقد قال في حواره مع جريدة 'الحياة'،العدد (13219)، في (ص 6)، بتاريخ: (3 صفر 1420 هـ): “نحن لا نريد أن نقاتل أمريكا إلا إذا صالت علينا، و كانت هي من بدأ بالقتال، هذا بخلاف قتال الأنظمة المرتدة في بلادنا، الذي يعتبر جهادها فرض عين على كل مسلم!!“.

قلت: هذا هو مذهب الخوارج تماما، قال فيهم رسول الله – صلى الله عليه و سلم –: "يقتلون أهل الإسلام، و يدَعون أهل الأوثان" متفق عليه.

و من تأمل هذه الجماعات الثائرة على دولها هنا و هناك، يجدها لا تكاد تقاتل أمة كافرة، و لو كانت ألدّ الأعداء كاليهود، بل هم – طول عمرهم – يثيرون الفتن في البلدان المسلمة، و يريقون دماء أهلها، و عدوهم الكافر آمن، بل جاثم على ديار المسلمين لا يهيّجه أحد، و لذلك لمّا خرج من بلادهم لحقوه، بل يلعنون الكفار، و لا يكاد يهنأْ لهم عيش إلا في بلاد الكفار!

فانظر إلى رؤوس التكفير اليوم، فلن تجدهم إلا في بلاد الكفر، قال الله – تعالى –: {و من يهن الله فما له من مكرم} (الحج 18).

و تمضي عليهم السنوات، و هم هكذا حتى ينقرض جيلهم و يأتي آخر ليعيد الكرة، و هم في كل مرة يُمنُّون أنفسهم و المسلمين بتحرير فلسطين و غيرها و لكن ذلك لا يجاوز ساحة ألسنتهم!

و إنما يتباكون على فلسطين و مثيلاتها ليحظوا بتزكية الناس لهم!

و الأمة الإسلامية لا تكاد تستريح من كيد جيرانها الكفار الذين رموها عن قوس واحدة، حتى يتألب عليها من بني جلدتها من يَشغلها عن معالي أمورها، فكيف تستقر بلاد الإسلام و هي بين جار محارب، و شريك في الدار مشاغب؟!

صورة الحوار السابق

[ ]

هذا، و قد كان من فتاوى هذا المشاغب إعلان جواز اختلاس أموال الكفار؛ كي يعيش حيث يعيش، بل جواز اختلاس أموال المسلمين في بلاد المسلمين؛ كي لا يحتج عليه من أوباشه مَن هناك يعيش، ممن لم (يُكرم بالهجرة إلى مثل بلاده تلك!)، فما عجب أم يطرب لهذه الفتوى أقوام بعد مسِّ اللُّغوب، و خفة الجيوب!

و كان من فتاواه أيضا – و الرجل لا يهاب الفتوى – جواز قتل النساء و الصبيان من المسلمين، كما سيأتي!

و هذه غصّة يعسر ابتلاعها، و مأساة يلين لها الجماد بمجرد سماعها، ظلم و ظلام، و فتاوى مقنعات بقناع نصرة الإسلام، قد تبعه فيها هوام، أفزعوا العباد، و أرعبوا البلاد، و غرّقوا أرضها بالدماء، و صيّروا أهلها قطعا من الأشلاء، و يُتِّم من بقي من الولدان، و أُرمل من حفظ الله من النسوان، و قُطعت سُبل أرض شاسعة آمنة، حتى ضاقت بأهلها...!!!
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ [][][][] إن كان في القلب إسلام و إيمانُ

تلك هي أرض الجزائر اليوم: عرض مغصوب، و مال منهوب، و دم مسكوب، فأين أهل الغيرة؟!

و الرجل واسع الخَطو في دماء المسلمين، سريع العدو في أعراضهم، من أجل ذلك كنّيته في عنوان الكتاب بـ (أبي القتاد) بدلا من (أبي قتادة)، لأنه اللائق به، إذ القتاد شجر صلب له شوك كالإبر، كما في 'القاموس المحيط'، و هذا هو الذي جنته الأمة منه، و في 'مجمع بحار الأنوار' (4 /209) قال محمد طاهر الفتني: [و قد قيل: لا يجتنى من القتاد إلا الشوك، و هو شجرة لها شوك، شُبّه به، و إنه لا يصلح إلا للنار، تلميح إلى أن المشبَّه لا يصلح إلا لها].

و كيف لا يكون هذا الرجل كذلك؛ و هو نكرة ما عرّفت إلا بالمضاف و المضاف إليه؟ فيقال: مختلس أموال، سفّاك الدماء، فبها عُرف، و به عُرفت!!

و لذلك كان العلامة الناقد الألباني – رحمه الله – يشك في إسلام هذا لصنف من الناس، حيث قال حين سُئل عنهم: [و لذلك فأنا في الحقيقة في شك كبير من أمرين اثنين:
- من إسلام هؤلاء حقيقة، أي أخشى أن يكونوا من أعداء الإسلام تلبسوا بثياب المسلمين،
- و إن كانت الأخرى، و هي أنهم مسلمون فعلا، و لكنهم جاهلون في منتهى الجهالة...
إلى أن قال: [أنا أستبعد أن يكون هؤلاء مسلمين، و إنما هم من المتزيّنين بزي الإسلام، و يريدون أن يشوّهوا نصاعة الإسلام و بياضه و نقاوته، بأن ينسبوا إليه أفعالا، الإسلام و المسلمون حقا هم برآء (أبرياء) مما ينسب إليهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب]، أنظر نص الفتوى إن شئت في كتابي 'فتاوى العلماء الأكابر فيما أهدر من دماء في الجزائر' (ص 90 – 100).

من أجل هذا فإني أنعت هذا الرجل في كتابي بـ 'المشبوه'.

ثم إنني لا أكتب لهذا المشبوه بقدر من يحسِّنون الظن به، ممن استهوتهم خطبه العاطفية، و قلمه النابض بالجِراحات، و قد اتصل بي منهم جمع، من إيطاليا و بريطانيا و فرنسا و إسبانيا و الجزائر و غيرها، ممن كانوا فرائس لهذه الأخلاط القاتلة، و كلهم حسرة على ما فعلوا، و أسىً على ما عملوا، و سألني بعضهم عن حكم الأموال التي اختلسوها في بلاد الكفر، و نبتت منها لحومهم، و سكنوا بها الدور، و منهم من بنى بها شاهق القصور، و منهم.. و منهم.. و إلى الله تُرجع الأمور.

لهؤلاء خاصة أكتب هذا الكتاب؛ لعلهم يفطمون أنفسهم من مراضع الفتن، و هم الذين نرجو لهم الإفاقة من غفوتهم، و النهوض من كبوتهم، بعد أن وجدوا أنفسهم يتبعون سرابا يخدع الظامئ و لا يرويه.

كما أكتب لأولئك الذين لم يدركوا بعد خطورة هذه المسالك، و يتصورون أن تطهير سبيل المؤمنين من هؤلاء المعرقلين للدعوة الإسلامية إنما هو خدمة للطواغيت فحسب!!

و لولا هذا و ذاك ما أطلت البحث؛ فإن الرجل لا يستحق الالتفات إليه، و لا النظر فيما لديه.

فتاوى أبي قتادة في إهدار دماء المسلمين


مبدأ الضلال و منتهاه

إن الضلال يبدأ واحدة واحدة، و هذه تجر إلى تلك، حتى يصبح صرحا من الانحراف، قد لا يشعر صاحبه كيف اُستدرج من أول دركاته إلى منحدر ليس بعده منحدر، و لذلك كان التحذير من اتباع خطوات الشيطان في القرآن الكريم كالتحذير من الشيطان نفسه؛ لأن من استهان بخطواته أوشك أن يرتع في حظيرته، قال الله – عز و جل –: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان و من يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء و المنكر} (النور 21).

لقد بدأ هذا الفكر بالتركيز على العمل السياسي و ملاحقة ولاة الأمور في أخطائهم و كشفها للناس؛ باسم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ثم جرهم ذلك الصراع السياسي إلى تكفير الحكام قاطبة؛ انطلاقا من المركز الذي يحومون حوله، و القبة التي يدورون بفلكها منذ أن تعرف عليهم الضلال، ألا و هو عروش الحكم، التي يستترون للوصول إليها بمسألة الحكم بما أنزل الله، و سأبين هنا أن البداية هي تكفير الحكام، ثم حاشيتهم من شرطة و جند و عساكر، ثم الحاشية الأخرى التي يحملون عليها حنقا شديدا، ألا و هي زهرة أهل العلم، ثم استباحة دماء المسلمين جميعا، من الذين لم يوافقوا أهواءهم و لم ينضموا إلى تجمعاتهم (التحزبات) و لم يخاطبوا الحكام بلهجاتهم، إما بحجة أن حكم هؤلاء هو حكم رؤوسهم؛ لأنهم لا يزالون مختلطين بهم، أو بحجة سيد قطب في أن إطاعة الكبراء في معصية الله يخرجهم من الإسلام، و لو في جزئية من الجزئيات، كما صرح بذلك في 'ظلاله' (3 / 1197) حين قال: “إن من أطاع بشرا في شريعة من عند نفسه – و لو في جزئية صغيرة! – فإنما هو مشرك، و إن كان في الأصل مسلما ثم فعلها، فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضا...!! مهما بقي بعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه، بينما هو يتلقى من غير الله و يطيع غير الله، و حين ننظر إلى وجه الأرض اليوم في ضوء هذه التقريرات الحاسمة، فإننا نرى الجاهلية و الشرك، و لا شيء غير الجاهلية و الشرك إلا من الله!! فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدعيه من خصائص الألوهية، و لم يقبل منها شرعا و لا حكما... إلا في حدود الإكراه!“.

بدأ هؤلاء بالزهد في أهل العلم، ثم التزهيد في حضور دروسهم، ثم التفتوا بأنفسهم إلى مواجهة السلطان بثلب سياسته، فالتف حولهم الجماهير الطامعة، و دلوهم بغرور، ففرحوا بتلك الأعداد التي تؤم مجالسهم، و وجدوا الفرصة سانحة للتخلص من العلماء و فصل الناس عنهم؛ ليكفروا السلطان متمكنين، فإذا لم يسايرهم أهل العلم على ذلك، نسبوهم في الغيرة على الدين إلى الفتور، و في فقه الواقع إلى القصور، فإذا وجدوا منهم مضايقة رموهم ببدعة الإرجاء، فإن لم يفِ ذلك بحاجتهم كفروهم جملة و تفصيلا؛ و قالوا: من لم يكفر الكافر فهو كافر!!

ثم تكتّلوا عسكريا، و لم يشكوا أنهم – بارتجال خطبة تحريضية – قادرون على التخلص من السلطان، فإذا خرجوا خرجت الأمور من أيديهم، و بان سوء تدبيرهم، كان منقذ يفكرون فيه حينئذ هو اللياذ بالفرار إلى البلاد الكافرة، فإذا وصلوا هناك بدأت المخالفات الصريحة لما أنزل الله: من تغيير الأسماء، و تزوير الهويات، بل و تغيير الجنسيات، من مسلمة إلى (كافرة!)، و تهاطلت الفتاوى الجريئة على ذلك ورع غائب و علم كليل، فإذا مشى الحال على هذا التزوير، و إلا فغنهم مستعدون للخروج من واقع الذل إلى خيال جهاد الكفار؛ ليفتوا أنفسهم بحِل ما حَل بأيديهم، فالاختلاس حلال، و السرقة حلال؛ لأن ذلك كله متخيٍّل (فيئا!!)، و الأعراض أيضا حلال، لأنها (سبي!!)، فانظر من أين بدؤوا، و أين انتهوا!!
أرى فتنة هاجت و باضت و فرّخت [][][][] و لو تركت طارت إليها فراخها

و إذا كان الأمر كذلك، فهذا أوان الشروع في بيان ترسم هذه الطائفة الغريبة من التكفيريين خطوات الشيطان، ثم الوقوع في شِراكه.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 08 May 2008, 07:20 AM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

فتوى أبي القتاد بتكفير جميع الحكام

نظرت في مجلة 'الأنصار' التي يكتب فيها المشبوه، فوجدته قد كفر جميع الدول المسلمة، و ذلك في العدد (119)، في (ص 10)، بتاريخ (الخميس 24 جمادى الأولى 1412 هـ)، من دولة الجزائر و المغرب و ليبيا و فلسطين و الأردن و السعودية، فكان من ضمن ما قاله في معتقد جماعته أنها: “لا ترى فرقا بين زروال الجزائري (أي الرئيس) المرتد و حكمه و نظامه، و بين الحسن الثاني المغربي المرتد، فكلاهما في الدين الله تعالى مرتد كافر، و أن حكمهما في القتل و القتال سواء... و معمر القذافي المرتد جبارا متسلط!!“.

و قال أيضا في مدح جماعته بأنها “لا ترى فرقا بين شرطة عرفات تحت راية و قيادة عرفات، و بين الجيش اليهودي و شرطة اليهود، إلا شرطا واحدا، و هو أن عرفات و حكومته أشد كفرا، فهم أشد حكما من اليهود، لكن كلاهما له القتل و القتال... و أن الملك حين مرتد في الأولى، و مرتد في الثانية، و ليس له إلا القتل و القتال، هو و شرطته وجهاز مخابراته!!“.

و قال عن جماعته مادحا لها دائما؛ لأنها “لا ترى فرقا حكومة السعوديين (آل سعود) المرتدين...!!“، و زاد دولة الكويت في العدد (134) في (ص 5)، بتاريخ: (12 رمضان 1416 هـ)، ثم في غيرها من أعداد أخرى.

إنني لا أريد أن أناقش المشبوه في التكفير؛ لأنني لا أرضى أن يتحول البحث إلى مناقشات معلومة الطول، و لكنني أريد إطلاع القرّاء على معتقد القوم؛ لما يتلوه من بحوث.

صورة المقال السابق

[ ]

صورة المقال الذي بعده

[ ]

تكفير أبي قتادة لكل عسكري في الجزائر!

بعد أن نقلت كلام المشبوه في تكفير الدول المسلمة، و أشرت إلى بعضه، أنقل هنا سحبه ذيل التكفير لعساكر هذه الدول، فأقول:
يزعم بعض من يحسِّن ظنه في ثوّار الجزائر أن هؤلاء لا يقاتلون العساكر الجزائريين على أساس تكفيرهم، و لكنهم ينطلقون من مبدأ الدفاع عن النفس، و مع أن هذا غير صحيح بهذا الإطلاق؛ لأن العساكر لم يقاتلوا هؤلاء – قتالا رسميا – إلا بعد حملهم السلاح، سواء رجعت إلى عهد المدعو (مصطفى بويعلى)، أو رجعت إلى ما بعده، عقب الإضراب العام الذي نظمته جبهة الإنقاذ في ساحة أول ماي، فيما عُرف بإضراب سنة (1991 م) فقد دُعي إلى الاغتيالات قبل الاعتقالات، و في الساحة نفسها ضُربت الأعناق قبل سجن الآفاق، أقول هذا على أساس جواز حمل السلاح في وجده السلطان؛ مقابلة له بالمثل؛ و إلا فالذي عليه أهل السنة و الجماعة أن السلطان لا يقاتَل و لو قتل؛ لأن القتل ليس كفرا، و قد علّق الرسول جواز الخروج على كفر السلطان، فقال: "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" متفق عليه، و قد بينت هذا في كتاب 'فتاوى العلماء الأكابر'، فلا أعيده.

ذكرت هذا لبيان أن ما سُمي جهادا في الجزائر قد اختلف أصحابه في تعليله:
- فمن قائل: إنهم لجؤوا إليه؛ لإلغاء الدولة نتائج الانتخابات.
- و من قائل: إنهم لجؤوا إليه؛ للدفاع عن النفس.
- و من قائل: إن داعي القتال كان قائما من قبل هذا كله؛ لأن الدولة كافرة من أول يوم.

و لا ريب أن تضارب هذه التعليقات يدل على هشاشة البنيان، واضطراب الأركان، و ما دام كلامي منصبّا على جماعة معينة فإنني أتجاوز هذا كله لأفسح المجال لأبي قتادة مفتي الجماعة نفسه ليعبر عن ذلك؛ فقد صرح بأن سبب قتال الثوار لأولئك العساكر إنما هو كفر العساكر، فقال في خطبته المشار إليها: “الآن على أرض الجزائر، اسألوا الناس: الجبهة للإنقاذ أقامت البلاغ أنها تريد (كذا)، كل جندي و كل إنسان في الجزائر – عن طريق جبة الإنقاذ – علم أن هذه الدولة ليست بإسلامية، و أن من (كلمة غير مسموعة جيدا) من جبهة الإنقاذ ثم غيرها إنما قاموا ليحكّموا الإسلام، بل إن غالب الجند الآن علموا أنهم يقاتلون (كذا) مسلمين، و يقاتلون مجاهدين، بخلاف كثير من الدول، فعلى هذا عذر الجهل لا وجود له، فكل جندي على أرض الجزائر مع الدولة و طائفتها و حكمها هو كافر بالله مشرك، خالد في جهنم!!! هو حلال الدم و حلال العرض...!!!“

ثم حاول أن يصطنع استدراكا على نفسه، ثم قال: “تبقى قضية سبايا المرتدين، هذا خلاف بين العلماء قديما و حديثا، و نحن نتحدث الآن عن طائفة ممتنعة ذات قوة، و مع ذلك فهذه طائفة كفر و ردة، بغض النظر عن أعيان أفرادها، فمن قال بكفر أعيانها فدليله قوي خاصة في الجزائر، و من قال بعدم كفر أعيانها، فكذلك يحترم قوله على أرض الجزائر، و إنما الإجماع منعقد أن الطائفة بكل من فيها تعامل كل فرد فيها معاملة الفرد الواحد أو معاملة الجماعة!!“.

قلت: فهل يبقى بعد هذا للمتصَوْلحين عذر في اصطناع ظنون حسنة للقوم، و هم يقرؤون شهادة القوم على أنفسهم؟!

تنبيه: لقد أحببت للقارئ أن ينتبه هنا لاستدلال المشبوه بجبهة الإنقاذ من جهة، و دفاعه عن 'الجماعة الإسلامية المسلحة' التي تمثل 'غلاة التكفير' في الجزائر من جهة أخرى، مع أن 'الجماعة الإسلامية' تكفر 'جبهة الإنقاذ'، و بينهما حروب طاحنة معروفة!

و ها هو الدليل بين يديك على أن الرجل يعير مرة إلى هؤلاء، و مرة إلى هؤلاء، قال في العدد (119) السابق تصويره من مجلة الأنصار: “في الجزائر تزعم جماعتان الجهاد، (أو لِنقُل بتغييب بعض الحقائق كالشمس: إعلاميا):
- جماعة اسمها (الجماعة الإسلامية المسلحة).
- و جماعة أخرى اسمها (الجيش الإسلامي للإنقاذ).
فكيف يستطيع المرء أني فرق بين جهاد الموحدين و جهاد المبتدعة الوصوليين؟
الجماعة الإسلامية المسلحة: نحن نقاتل حتى نعيد الحق إلى نصابه، و أن نرجع الضائع إلى أصحابه، و الحق هو حكم الله –تعالى...
والجماعة الأخرى المزعومة إعلاميا تقول: نحن نقاتل حتى نعيد خيار الشعب، و نعيد الناس إلى المسار الانتخابي، فقتالنا لمن سرق خيار الشعب.
{فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون (82) (الأنعام)“.

و بهذا يدرك القراء أن المشبوه قد قسم ولاءه على الجميع؛ ليحظى بالزلفى من الجميع، كصنيع السياسيين اليوم، و هو مسلك معلوم لديهم، كم أنه طبع مركوز في دعوة المشبوه، و لذلك كان من غريب الموافقات أن كل جماعة من هذه الجماعات الخارجة تستدل به، مع أنكل واحدة منها تلعن أختها!!

و فيما يأتي ترى طعن أبي قتادة على الدعوة السلفية التي يتظاهر لقوم بالاعتزاز إليها؛ و ذلك في تمهيده لصرف الناس عنها، حتى يكون هو المرجع الوحيد لهم!

و بعد أن نقلت لك تكفير المشبوه للدولة، ثم تكفيره لعساكرها، فأنقل الآن إليك طعنه على أهل العلم، بدءا بصفوتهم: علماء الدعوة السلفية!!

و قبل هذا كله أنقل إليك تقعيده الخطير في التنفير من الرجوع إلى العلماء المعاصرين، بل و من الرجوع إلى العلماء المتقدمين، الذين جاؤوا بعد القرن الثالث!!

التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 08 May 2008 الساعة 07:21 AM سبب آخر: خطأ في كلمة
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 09 May 2008, 04:08 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

أبو قتادة ينفر من العلماء

لقد أمر الله في كتابه بالرجوع إلى أهل العلم عند الجهل بالمسائل المتباحث فيها، فقال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل 43)، كما أمر النبي – صلى الله عليه و سلم – بذلك، فروى أبو داود (336) و غيره عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قال: أصاب رجلا جرح في عهد رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، ثم احتلم، فأُمر بالاغتسال فاغتسل فمات، فبلغ ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فقال: "قتلوه قتلهم الله؛ ألم يكن شفاء العي السؤال"، و صححه الألباني في المصدر المذكور.

هذا فيمن تسبب في قتل رجل واحد، و هو بعيد عن جمهور أهل العلم؛ لأن ذلك في غزوة، فكيف بمن قتل أمة بفتاوى ارتجلها، و العلماء متوافرون، و هم بفتاواهم متظاهرون؟!

و هذه المسائل التي نحن بصددها هي أصعب بكثير من مسألة صاحب الجُرح؛ لأنها من مسائل النوازل، و قد أمرنا الله بردها إلى العلماء الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، فقال: {و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم و لولا فضل الله عليكم و رحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} (النساء 83)، و هذا الطراز من أهل العلم لا يخلو منه زمان؛ لأن الرسول – صلى الله عليه و سلم – قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" رواه أبو داود (4291) و الحاكم (4 / 522)، و صححه الألباني في "الصحيحة" (599).

و قد حسم ابن القيم – رحمه الله – الكلام في صفة هذا العالم، فقال في 'إعلام الموقعين' (4 / 212): [العالم بكتاب الله و سنة رسوله و أقوال الصحابة فهو مجتهد في النوازل، فهذا النوع الذي يسوغ لهم الإفتاء، و يسوغ استفتاؤهم، و يتأدى بهم فرض الاجتهاد]، ثم ذكر الحديث السابق.

إذاً خرج بهذا التعريف صنفان من المتسلقين:
الأول: المقلدة، و هم الذين يملؤون الساحة اليوم بالحديث عن دولة الإسلام، و ليسوا على ثغر الاجتهاد كما ترى، و دولة الإسلام بحاجة إلى مجتهدين.

الثاني: المتفلّتون من أمثال المشبوه؛ فإنهم لا يعرجون على التعرف على خلاف العلماء، بل يهجمون على الكتب من غير التفات إلى مجتهدي عصرهم، بل لا يرجعون إليهم إلا إذا وافقوهم، على أنهم يعتمدون أحيانا على الخلاف، أو يتعمدون اختراعه إذا وجدوا فيه تسليكا لشذوذاتهم!

ثم هذا العالم يعرف عن طريق علماء عصره؛ لأن العلماء لا ينقرض وجودهم؛ لقوله – صلى الله عليه و سلم –: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين" متفق عليه، و قد اتفقت كلمة السلف على أنهم أهل العلم، فالله زكى رسله فقال – سبحانه –: {الله يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس إن الله سميع بصير} (الحج 75)، و هؤلاء الرسل يزكون حوارييهم، و هؤلاء يزكون تلاميذهم، ثم هؤلاء يزكون من بعدهم، فهي سلسلة لا تنفصم عراها، و هي أمان من الدخلاء كأمثال المشبوه، فإذا حاولوا التسرب في صف هؤلاء الصفوة، قيل لهم: (سموا لنا رجالكم!)، و لذلك نقل صاحب 'عون المعبود شرح سنن أبي داود' (11 / 263) قول بعض أهل العلم الآتي: [و لا يُعْلم ذلك المجدد إلا بغلبة الظن ممن عاصره من العلماء بقرائن أحواله و الانتفاع بعلمه؛ إذ المجدد للدين لا بد أن يكون عالما بالعلوم الدينية الظاهرة و الباطنة، ناصرا للسنة، قامعة للبدعة، و أن يعم علمه أهل زمانه].

و ذكر الذهبي في 'تذكرة الحفاظ' (4 / 1332) عن ابن عساكر – رحمه الله – أنه قال: [لمّا عزمت على التحديث و الله المطلع أني ما حملني على ذلك حب الرياسة و التقدم، بل قلت: متى أروي كل ما سمعت؟ و أي فائدة في كوني أخلِّفه صحائف؟ فاستخرت الله، و استأذنت أعيان شيوخي و رؤساء البلد، و طفت عليهم، فكلهم قالوا: من أحق بهذا منك؟ فشرعت في ذلك منذ ثلاث و ثلاثين و خمس مائة].

هذا هو التقعيد الصحيح الذي يعرفه العقلاء، و يسلكه العلماء، و به تحفظ الأمة في الكليات الخمس، إلا أن المشبوه لم يرض به، بل قعّد تقعيدا غريبا لهدمه،و ذم من يأخذ العلم من أفواه أهله، و مدح من يكتفي بأخذه من الصحف، فقال في (ص 248 – 249) من 'الجهاد و الاجتهاد': “قولهم: إن العلماء على الدوام رفضوا اسم العلم أن يلتصق بفرد أو جماعة أخذت علمها من مصدر البيان مباشرة، بل لا بد من أفواه العلماء، و الجلوس على الركب أمامهم، و هذا دليل على أن تواصل العلم عن طريق الرجال مشافهة، و لا شيء غير ذلك.

و قولهم لا يعدو أن يكون حيدة عن موضوع البحث، لأن هذا القول هو في البداية حجة تراثية، و الخصومة حولها و عليها، و الاختلاف يدور حول حجية التراث و التاريخ، و الأمر الآخر هو أن هذا – الذي قيل – وُجِد في السنة ما ينقضه و يبدده، خاصة حين يصبح و يصير لكل طائفة رجالا (كذا)، تتخذهم والطائفة قدوة و أئمة، و تزعم أن مجرى الهدى على محياهم، و منبع النور من أفواههم، فلا بد من قطع علائق الفتن بالعودة إلى الأصل و هو: البيان مضافا إلى النموذج الأول“.

قلت: يقصد بكلامه الأخير الاستغناء عن الرجوع إلى العلماء المعاصرين بالاكتفاء بالرجوع إلى النصوص و النموذج الأول، الذي هو العصر الأول!

و انطلاقا من التقعيد الأخير ذهب من لا يحسن يتهجى، ببُرد أهل العلم يتسجى، و حصل من هذه الاستقلالية شر كبير، منه ذلك الزخم من الجثث المسلمة البريئة التي سقطت في أرض الجزائر، بعد أن أفتى المشبوه و جماعته بحل دمائها، غير عابئين بمخالفة جبال أهل العلم!

ثم جعل يستدل لهذا الضلال منطلقا من استقلالية دائما، فقال وبعد فقرته الأخيرة: “و السنة التي مدحت العودة إلى الورق دون النظر إلى الشخوص و المثل هي القاطعة لحجة هذا الفريق، هذه السنة هي قوله – صلى الله عليه و سلم – لأصحابه يوما: "أي الخَلق أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا الملائكة، قال: و كيف لا يؤمنون و هم يأتيهم الوحي؟! قالوا: نحن، فقال: و كيف لا تؤمنون و أنا بين أظهركم؟! قالوا فمن يا رسول الله؟ قال: قوم يأتون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بها"، و في بعض ألفاظه "بل قوم من بعدكم، يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به، و يعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا"، و في لفظ آخر "يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا"، انظر 'الباعث الحثيث' بتعليق أحمد شاكر، هامش ص 125، فالحديث بوضوحه يمدح أخذ العلم عن طريق الورق المعلّق، بل جعل هؤلاء القوم هم أعظم الناس أجرا، و أفضل أهل الإيمان إيمانا، و هذا يدل على أن العصمة عند اختلاف الزمان و سقوط النماذج الفاسدة الحاملة لاسم العلم و العلماء زورا و بهتانا، هو العودة إلى الورق، و لن يضر هؤلاء المتمرِّدون (كذا) قول فلان و علان!!!“.

النقد

1- هذا الحديث الذي – استدل به المشبوه على تقعيده الفاسد ذاك – قال فيه الحافظ ابن حجر في 'الفتح' (7 / 6): [إسناده ضعيف فلا حجة فيه]، و ضعفه الألباني بجميع رواياته في 'السلسلة الضعيفة' (647 – 649)، لكن جاء من روايات كثيرة، أذكر منها ما يأتي:
أ- رواية عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –: رواها الطيالسي في 'مسنده' كما في 'التمهيد' لابن عبد البر (20 / 248)، و إسحاق بن راهويه كما في 'المطالب العليا' لابن حجر (3210)، و أبو يعلى (1 / 147 – دار المأمون) و البزار (288 – 289) و الحاكم (4 / 85-86) و العقيلي في 'الضعفاء' (4 / 238) و ابن عبد البر في المصدر السابق و الخطيب البغدادي في 'شرف أصحاب الحديث' (62) و بيي بنت عبد الصمد في 'جزئها' (104) و الهروي في 'ذم الكلام' (1486) و ابن حجر في 'الأمالي المطلقة' (ص 37)، كلهم من طريق محمد بن أبي حميد، و محمد هذا ضعيف، و قال ابن حجر بعد روايته للحديث: [هذا الحديث غريب].
ب- رواية أبي جمعة – رضي الله عنه –: رواها البخاري في 'خلق أفعال العباد' (ص 88) و في 'التاريخ الكبير' (2 / 310-311) و ابن أبي عاصم في 'الآحاد و المثاني' (4 / 152) و الرّوياني في 'مسنده' (2 / 513) و ابن قانع في 'معجم الصحابة' (1 / 177 – 178) و الطبراني (4 / 23) من طريقين، و ابن مردويه في 'تفسيره' كما في 'تفسير ابن كثير' (1 / 69)، و الهروي في 'ذم الكلام' (1485) و المزي في 'تهذيب الكمال' (13 / 26-27) و الذهبي في 'ميزان الاعتدال' (2 / 291) و ابن حجر في 'الأمالي المطلقة' (ص 40)، و قال: [هذا حديث حسن] و كذلك قال في (ص 43)، وابن القيسراني في 'تذكرة الحفاظ' (1 / 390-391)، و قال: [هذا حديث صالح الإسناد و غريب].
ج- رواية أنس – رضي الله عنه –: رواها البزار، كما في كشف الأستار (3/318) و قال: [غريب من حديث أنس]، و أعله الهيثمي في 'المجمع' (10 / 65) بسعيد بن بشير، و هو ضعيف كما في 'التقريب'.
د- رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أي رواية عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما –: رواها بن عرَفة في 'جزئه' (19)، و من طريقه قوام السنة في 'الترغيب و الترهيب' (48)، و الخطيب في 'شرف أصحاب الحديث' (61) و البيهقي في 'دلائل النبوة' (6 / 538)، و ابن حجر في المصدر السابق (ص 38 – 39)، و زاد العلامة الألباني في 'الضعيفة' (2 / 102) إسماعيل الصفار في 'جزئه' و طراد أبا الفوارس في 'ما أملاه يوم الجمعة يوم 14 شعبان'، و فيها المغيرة بن قيس البصري، قال فيه أبو حاتم: [هو منكر الحديث]، كما في 'الجرح و التعديل' لابنه (8 / 228)، و قد رواها إسماعيل بن عيّاش، و روايته عن غير الشاميين ضعيفة، كما هو الشأن هنا.
هـ - رواية أبي هريرة – رضي الله عنه –: رواها أبو نُعيم في 'ذكر أخبار أصبهان' (1 / 308-309) و السهمي في 'تاريخ جرجان' (687) و ابن عساكر كما ذكر العلامة الألباني، لكن فيها خالد بن يزيد العمري، و هو كذّاب، و في طريق ابن عساكر أحمد بن نبيط، قال فيه الذهبي في 'الميزان' (1 / 83): [لا يحل الاحتجاج به؛ فإنه كذاب]، و الراوي عنه أحمد بن القاسم بن الريان، تكلموا فيه، انظر 'الميزان' (1 / 128).

و بعد هذا العرض يتبين أن طرق الحديث لا تخلو من مقال، و إن كان لا يبعد أن يتقوى الحديث بها، و لعله من أجل ذلك صححه السخاوي في 'فتح المغيث' (3 / 28)، الله أعلم.

2- و على افتراض صحة الحديث كما يبدو، فإنه لا يعلم من أهل العلم من ذهب به إلى مذهب المشبوه، الذي قال في خضم حربه للعلماء: “فالحديث بوضوحه يمدح أخذ العلم عن طريق الورق المعلق، بل جعل هؤلاء القوم أعظم الناس أجرا!!“.

هذا من غرائب الاستدلال؛ لأنه أضحى أخذ العلم عن الكتب أعظم أجرا ممن يأخذه من أفواه أهله!!

و لو أنه رضي لنفسه بالتعلم على أيدي العلماء لتجنب الوقوع في مثل هذا الشذوذ، و لعلم أن شرّاح الحديث أدرجوه تحت بابين:
الأول: فضل من آمن بالرسول – صلى الله عليه و سلم – و لم يره، أي في باب الإيمان بالغيب، كم فعل البيهقي في 'الدلائل' (6 / 537)، حيث بوّب للحديث بقوله: [باب ما جاء في إخباره بقوم لم يروه فيؤمنون به فكان كما أخبر]، و كذلك فعل الهيثمي في 'المجمع'، حيث بوّب له بقوله (10 / 65): [باب ما جاء فيمن آمن بالنبي – صلى الله عليه و سلم – و لم يره]، و في معناه أيضا ابن عبد البر في 'التمهيد' (20 / 248)، و كذا ابن حجر في 'المطالب العليا' (3210) حيث بوّب [باب فضل من يؤمن بالغيب]، و كذا البوصيري في 'إتحاف الخيرة' (1 / 106)، و قال ابن حجر في 'الأمالي' (ص 43):[و المراد الترغيب في الإيمان بالغيب، و الله أعلم]، و قال المُناوي في 'فيض القدير' (4 / 279): [و ذلك لأن الله مدحهم بإيمانهم بالغيب و كان إيمان الصدر الأول غيبا و شهودا؛ فإنهم آمنوا بالله و اليوم الآخر غيبا، و آمنوا بالنبي – صلى الله عليه و سلم – شهودا؛ لما أنهم رأوا الآيات و شاهدوا المعجزات، و آخر هذه الأمة آمنوا غيبا بما آمن به أولها شهودا، لفذا أثنى عليهم النبي – صلى الله عليه و سلم –]، و في هذا المعنى نقل ابن عبد البر في كتابه السابق تفسيره عن بعض السلف فقال: [و كان سفيان ابن عيينة يقول: تفسير هذا الحديث و ما كان مثله بيّن في كتاب الله، و هو قوله: {و كيف تكفرون و أنتم تتلى عليكم آيات الله و فيكم رسوله} (آل عمران 101)]، كما فسر ابن كثير بهذا الحديث قول الله – عز و جل –: {الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة 3).

الثاني: جعل العلماء هذا الحديث دليلا على رواية الحديث بالوِجادة، قال ابن كثير في الموضع السابق: [و هذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث، كما قررته في أول شرح البخاري؛ لأنه مدحهم على ذلك، و ذكر أنهم أعظم أجرا من هذه الحيثية، و قال السيوطي في 'تدريب الراوي' (2 / 64): قال البلقيني: و احتج بعضهم للعمل بالوجادة بحديث "أي الخَلق أعجب إيمانا؟ قالوا الملائكة، قال: و كيف لا يؤمنون و هم عند ربهم؟! قالوا: الأنبياء، قال: و كيف لا يؤمنون و هم يأتيهم الوحي؟! قالوا: نحن، قال: و كيف لا تؤمنون و أنا بين أظهركم؟! قالوا فمن يا رسول الله؟ قال: قوم يأتون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها"، قال البلقيني: و هذا اسنباط حسن، قلت: المحتج بذلك هو الحافظ عماد الدين ابن كثير، ذكر ذلك في أوائل تفسيره، و الحديث رواه الحسن ين عرفة في جزئه من طريق عمرو بن شعيب عن أبه عن جده، و له طرق كثيرة أوردتها في الأمالي، و بعض ألفاظه: "بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به، و يعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرا" أخرجه أحمد و الدارمي و الحاكم من حديث أبي جمعة الأنصاري، و في لفظ للحاكم من حديث عمر: "يجدون الورق المعلق (في الأصل: المعلم) فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا"].

قلت: رواية أحمد هذه و من ذكر معه ليس فيها محل الشاهد من الحديث، و إنما هو سهو من السيوطي كما نبه عليه الألباني – رحمه الله – في 'الضعيفة' (2 / 105)، من أجل هذا لم أذكرها هنا.

الخلاصة من هذا البحث أنه لا يوجد عند أهل العلم من سبق إلى هذا الاستدلال الغريب للاستقلالية التي يدعيها لنفسه و لهوام العوام من أتباعه، و هذه نظير ما ادعاه قريبه في المذهب: أبو محمد المقدسي من أن التكفير الذي يشدو به فؤاده هو نتيجة لقراءته المتفحصة الكاملة لكتب أئمة دعوة التوحيد كما في الاستجواب الصحفي مع 'نداء الإسلام': “لقاء من خلف القضبان“، المنشور عبر الانترنت!!

فنقول لهذا و ذاك كما قال عبد الله بن المبارك – رحمه الله – لمن اتهمه بالإرجاء: [ما أحوجك إلى أن تأخذ سبورة فتجالس العلماء!] رواه إسحاق بن راهويه في 'مسنده' (3 / 671).
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10 May 2008, 06:40 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

3- لقد وقع المشبوه في مصيبة عظيمة؛ إذ جعل الذين يجدون الصحف المعلقة أفضل من غيرهم، مع أنه لم ينتبه إلى أنه جاء في الحديث ذكر الأنبياء و الملائكة، فتكون نتيجة هذا (الاجتهاد المبتكَر!) أن متأخري المسلمين أفضل من الأنبياء؛ و لذلك ذكر ابن تيمية هذا الحديث ثم قال كما في 'مجموع فتاواه' (11 / 371-372): [هو يدل على أن إيمانهم عجب، أعجب من إيمان غيرهم، و لا يدل على أنهم أفضل؛ فإن في الحديث أنهم ذكروا الملائكة و الأنبياء، و معلوم أن الأنبياء أفضل من هؤلاء الذين يؤمنون بالورق المعلق]، و قال ابن حجر في 'المالي المطلقة' (ص 39-40): [المراد بالأفضلية: التي قبله، و أنها ليست على الإطلاق... و الأفضلية محمولة على ما تقدم من تفضيل الإيمان بالغيب].

فانظر إلى نتائج الانطلاق في تفسير النصوص من غير مبالاة بآراء الفقهاء!!

لقد كان السلف الأول يرى الزهد في علم العالم حتى يموت علامة هلاك؛ قال سلمان الفارسي – رضي الله عنه –: (لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم أو يعلم الآخِر؛ فإن هلك الأول قبل أن يعلم أو يتعلم الآخر هلك الناس) رواه الدارمي (1 / 78 و 79) من طريقين، ومن إحداهما ابن بطة في 'الإبانة / الإيمان' (42)، و في كل منهما عطاء بن السائب، و هو صدوق اختلط، و حديثه القديم صحيح، و الراويان عنه هنا ممن روى عنه في حال الاختلاط، لكن تابعهما سفيان الثوري عند عمر النَّسفي في 'القند في ذكر علماء سمرقند' (ص 445)، و به يصح الأثر؛ فإن سماع سفيان من عطاء قديم، كما في 'الجرح و التعديل' لابن أبي حاتم (6 / 334).

إن العلماء اليوم متوافرون و الحمد لله، و المشبوه يريد منا أن نسعى في هلكتنا كما فعل هو بنفسه و بجماعته؛ إذ توفي جمع كبير من أهل العلم في وقت متقارب، و لم تحظ ركبه بمزاحمة واحد منهم، بل هو دائب التنفير منهم، و هذا الذي أراد تقريره هنا – من الاستغناء بالكتاب عن فهم أهل العلم – قد حذر منه ابن مسعود – رضي الله عنه –، فقال: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض، و قبضه أن يُذهب بأصحابه، عليكم بالعلم؛ فإن أحدكم لا يدري متى يُفتقر إليه أو يُفتقر إلى ماعنده، إنكم ستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله و قد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم و إياكم و التبدّع، و إياكم و التنطع، و إياكم و التعمق، و عليكم بالعتيق)، رواه معمر في 'جامعه' المطبوع في آخر 'مصنف عبد الرزاق' (11 / 252) و الدارمي (1/66) و ابن نصر في 'السنة' (85) و غيرهم، كلهم من طريق قلابة عن ابن مسعود، و هو لم يسمع منه كما في 'مجمع الزوائد' (1/126)، لكن رواه موصولا البيهقي في 'المدخل' (388) من رواية أبي إدريس الخولاني عنه.

و الشاهد من هذا الأثر القوي؛ فإن ابن مسعود أكد أن العلم يؤخذ من العلماء الأحياء، كما أنه حذر من قوم يدعون إلى خير كتاب، ألا وهو كتاب الله، على الرغم من ذلك فإنه لم يشفع لهم في الكفاية العلمية، بل حذّر معه من البدع؛ لأن البدع تحيا بهذه الذريعة، فلله درّه – رضي الله عنه –، فكأنه قد خُرِقت له الحجب!

4- [عِش رجبا ترى عجبا]! لقد أسقط المشبوه أصح طريق للعلم، ألا و هي التعلم على أيدي أهل العلم، و زعم انه لا حاجة إلى الرجوع إلى العلماء بعد الجيل الأول، على الرغم من إجماع السلف على ضرورة الرحلة للطلب، و ما من مصنف في أدب الطلب إلا و هو يذكر ذلك، بل أفرد بعضهم لذلك مصنفا خاصا، كالخطيب البغدادي 'الرحلة في طلب الحديث'، و كيف يخلد الإنسان إلى الكتب و قد كان السلف يرون أن من أخذ العلم من علماء بدله و لم يرحل، يرونه محروما؟! روى الخطيب في كتابه المذكور (14)عن يحيى بن معين قال: [أربعة لا تؤنِس منهم رشدا: حارس الدرب، و منادي القاضي، و ابن المحدث، و رجل يكتب في بلده و لا يرحل في طلب الحديث'؟!

هذا فيمن أخذ العلم عن العلماء و لم يرحل، فكيف بمن لا يرى مجالستهم من أصول الطلب؟!

روى حنبل بن إسحاق في 'جزئه' (39) و ابن أبي شيبة في (13/ 496) و أبو نعيم (2 / 283) أن أبا قلابة قال: [مثل العلماء كمثل النجوم و الأعلام التي يقتدي بها الناس، فإذا توارت ترددوا في الحيرة].

إن كليم الله موسى – صلى الله عليه و سلم – سمع بوجود علم عند رجل يقال له الخَضِر، فما برح حتى رحل ليأخذ العلم على يديه، مع أنه كان يأتيه الوحي من الله – عز و جل –، بل كلمه ربه بلا واسطة، كما قال الله – عز و جل –: {و كلم الله موسى تكليما} (النساء 164)، بل أخبر الله – عز و جل – أنه بلغ الحرص به على ذلك إلى الاستهانة بكل ما يكلفه في سبيل الوصول إلى هذه الغاية النبيلة، و لو أداه إلى سفر ذي حُقُب طويلة، كما قال الله – عز و جل –: {و إذ قال موسى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا} (الكهف 60).

و روى أبو داود (2750) بسند صحيح عن مكحول أنه قال: (كنت عبدا بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني، فما خرجت من مصر و بها علم إلا حويت عليه فيما أُرى، ثم أتيت الحجاز، فما خرجت منها و بها علم إلا حويت عليه فيما أُرى، و ثم أتيت العراق، فما خرجت منها و بها علم إلا حويت عليه فيما أُرى، ثم أتيت الشام، فغربلتها...).

و لذلك تجد العلماء إذا ترجموا للأعلام ذكروا شيوخهم و تلاميذهم، بل كانوا يرون أن نبوغ الرجل يُعلم من كثرة شيوخه، و لاسيّما إذا كان الشيوخ من الحذّاق، فقد جاء في 'تهذيب الكمال' (32 / 333) أن يعقوب ابن سفيان الفسوي – رحمه الله – قال: [كتبت عن ألف شيخ و كَسْر، كلهم ثقات]، و قال الذهبي في 'تذكرة الحفاظ' (3 / 1032) في ترجمة ابن مَندَه _ رحمه الله تعالى –: [و عدة شيوخه الذين سمع و أخذ عنهم ألف و سبع مائة شيخ... و ما بلغنا أن أحدا من هذه الأمة سمع ما سمع، و لا جمع ما جمع!].

و اعلم أن أخذ العلم من الكتب حسن، و لكن في الاقتصار عليه قصور ظاهر، و المأثور عن السف هو التحذير من طلب العلم على من بضاعته العلمية مقصورة على المرقوم في الصحف، فقد روى بن عبد البر في 'التمهيد' (1 / 46) عن سليمان بن موسى أنه قال: [لا يُؤخذ العلم عن صُحُفِيّ](1)، و روى ابن أبي حاتم في 'الجرح و التعديل' (3 / 402)، بإسناده إلى أيوب السَّختياني أنه قال: (لا ترو عن خلاس؛ فإنه صحفي)، بل كانوا يخوّفون من أخذ القرآن نفسه ممن لم يأخذه من أفواه القرّاء، مع أنه الكتاب الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، فروى أبو أحمد العسكري في 'أخبار المصحِّفين' (ص 32) بإسناده إلى سعيد بن عبد العزيز التنوخي يقول: [كان يُقال: لا تحملوا العلم عن صحفي، و لا تأخذوا القرآن عن مصحفي].

و سبب ذلك أن فهمك للكتاب قد يقر بك عن مراد صاحبه، كما أنه يقصر بك عن أدب صاحبه، بل الحق أنك ما سيرت طرفك في دعوات بعض الرجال الذين عُرفوا بالغلو في الاستقلالية و الإقذاع في أعراض أهل العلم إلا وجدت منشأ غلطهم من الزهد في مجالس العلماء، و من تحسين الظن بالنفس.

أما أن ذلك قد يكون سببا في سوء الفهم فواضح، و لذلك ارتبطت كثرة أخطاء المخطئين بالصحفيين، كما في 'ميزان الاعتدال' للذهبي (2 / 652)، حيث قال في ترجمة عبد الملك بن حبيب: [أحد الأئمة، و مصنف الواضحة، كثير الوهم صحفي].

و أما أن صاحبه يُحرم أدب العلم؛ فلأن من العلم ما لا يُفهم على حقيقته إلا بالمثال الحي كما يُقال، و لذلك روى الخطيب في 'الجامع لأخلاق الراوي و السامع' (10) عن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد أنه قال: [قال لي أبي: يا بني! إيت الفقهاء و العلماء، و تعلم منهم، و خذ من أدبهم و أخلاقهم و هديهم؛ فإن ذاك أحب إلي من كثير من الحديث]؛ و ذلك لأن المرء قد يحدوه الاستكثار من العلم و استعجال تحصيله إلى ترك مجالسة العلماء، فيتوهم أن انقطاعه عن أهله يغزر عليه منه.

و أما أنه سبب في الزهو بالنفس و التيه و الغرور؛ فلأن هذه الأدواء يكسرها التواضع، و التواضع لا يؤتاه من لم يعرف الفضل لأهله و لم يثن ركبتيه بين أيديهم، و قد قال ابن حجر في 'لسان الميزان' (4 / 326) عند ترجمة عمرو بن محمد بن إسحاق العطار: [... لا يعده أحد شيئا و لا يُكترث به؛ لإعجابه بنفسه، و كان أكبر من يذكر له الحفاظ يقول: صحفي!].

و في تعرفه قال المُنَاوي في 'التوقيف على مهمات التعاريف' (ص 449): [و الصحيفة قطعة من الجلد أو قرطاس كتب فيه، و إذا نسب إليها قيل: صَحَفي بفتحتين، و معناه يأخذ العلم منها دون المشايخ]، و قال العسكري في 'تصحيفات المحدثين' (1 / 24): [و أما معنى التصحيف و قولهم (صحفي)، فقد قال الخليل بن أحمد: الصحفي الذي يروي الخطأ على قراءة الصحف باشتباه الحروف، و قال غيره: أصل هذا أن قوما كانوا أخذوا العلم من الصحف من غير أن يلقوا فيه العلماء، فكان يقع فيما يروونه التغيير، فيقال عندها: قد صحفوا، أي قد رووه عن الصحف، فهو مصحّف، و مصدره التصحيف].
و لذلك أنشد بعضهم:
لنا صاحب مولع بالخلاف [][][] كثير الخَطاء قليل الصواب
ألجُّ لُجاجا من الخنفساء و أز [][][] رَبَا حسدًا و رماه بعاب
إذا ذكروا عنده عالما [][][] كثير الخَطاء قليل الصواب
و ليس من العلم في كفه [][][] إذا ذُكر العلم غر التراب
أحاديث ألفها شَوْكَر [][][] و أخرى مؤلفة لابن داب
فلو كان ما قد روى عنهما [][][] سماعا و لكنه من كتاب
رأى أحرفا شُبّهت بالهجاء [][][] سواء إذا عدّها في الحساب


---------------------------
1: هذه النسبة على الحكاية، و إلا فقد خطّأ بعضهم ذلك؛ و قالوا لأن النسبة هنا أخذت من الصحف جمع صحيفة، و الأصل النسبة تؤخذ أن من المفرد، فيقال: صَحَفِيّ، كَحَنَفِي، نسبة إلى حنيفة، انظر 'تدريب الراوي' (2 / 208).

التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 10 May 2008 الساعة 09:36 PM
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 11 May 2008, 01:42 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

5- هذا النَّفَس الذي قعّد له المشبوه هنا هو نفَس خارجي قديم، قد حفظ لنا التاريخ ما يدل على أنهم من أشد الناس بغضا لأهل العلم؛ الذين كانوا لا يجارونهم على أهوائهم، و أول ما حصل لهم عند استفزاز الشيطان لهم نحو بدعتهم أن زين لهم مفارقة أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، و هم علماؤهم في ذلك الزمان بلا ريب، فانحازوا عنهم إلى قرية، و لولا أنهم رأوا لأنفسهم فضلا عليهم ما فعلوه، كما فعلوا مع ترجمان القرآن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما –، فقد ذهب لينصح لهم، فلم يمنعهم علمه و لا صحبته و لا كونه من أهل البيت النبوي من أن يبهتوه بوقاحة لأول لقاء به، فقد روى أحمد (1 / 86-87) و الحاكم ( 2 / 152-154) و البيهقي (8 / 179-180) بسند صححه الألباني في 'الإرواء' (2459) عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: (فبعث إليهم علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – عبد الله بن عباس، فخرجت معه حتى إذا توسطنا عسكرهم، قام ابن الكوّاء فخطب الناس فقال: يا حملة القرآن! إن هذا عبد الله بن عباس، فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرّفه من كتاب الله، هذا من نزل فيه و في قومه {بل هم قوم خصمون} (الزخرف 58)، فرُدّوه إلى صاحبه و لا تُواضِعوه كتاب الله – عز و جل –...!!).

هذا تأصيل خارجي خطير؛ بحيث رأوا أن الاقتداء بعلماء زمانهم ـ الذين هم الصحابة ـ قد انقرض؛ بزعم انحرافهم بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و لذلك لم يكن فيهم صحابي واحد حين اعتزلوا، فقد روى الحاكم (2 / 150) و الطبراني (10 / 312-313) بسند حسن عن عبد الله بن عباس أنه كان مما قاله للخوارج لما ناظرهم أن قال: (أتيتكم من عند صحابة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ من المهاجرين و الأنصار؛ لأبلغكم ما يقولون، المخبرون بما يقولون، فعليهم نزل القرآن، و هم أعلم بالوحي منكم، و فيهم أُنزل، و ليس فيكم منهم أحد...)، و في هذا التصرف تشابه واضح بينهم و بين المشبوه، و كل ما في الأمر أن هؤلاء رأوا أن القدوة بعلماء زمانهم قد انقرضت، و أما المشبوه فقد مد القدوة إلى زمن الجيل الثالث كما مضى، ثم قطعها؛ لأنه مثلهم يرى أيضا أن علماء زمانه لا يصلحون للقدوة!!

و قد ذكروا في ترجمة سمرة بن جندب ـ رضي الله عنه ـ أنه كان مُبغَضا من قبل الخوارج؛ و سببه ما ذكره الذهبي ـ رحمه الله ـ في 'السير' (3 / 186)، قال:[و كان شديدا على الخوارج، قتل منهم جماعة]، و من هؤلاء العلماء الحسن البصري ـ رحمه الله ـ، فقد كان الخوارج في زمانه يريدونه على الموافقة على الخروج فما أفلحوا، لا مع ابن المهلّب و لا مع ابن الأشعث و لا مع غيرهما من الخارجين، حتى اضطروا في خروجهم مع ابن الأشعث على أن يكرهوه على ذلك، و لذلك روى ابن سعد في 'الطبقات' (7 / 174) بسند حسن عن قتادة أنه قال: (و الله! لا يبغض الحسن إلا حروري!).

و روى وكيع في 'أخبار القضاة' (2 / 12) بإسناده إلى خالد بن صفوان قال: (لقيت مسلمة بن عبد الملك بالخيرة بعد هلاك ابن المهلّب، فقال: يا خالد! أخبرني عن حسن أهل البصرة، فذكر له من سيرته الحسنة الشيء العظيم، حتى قال له: حسبك! حسبك! كيف ضل قوم هذا فيهم؟! يعني باتباعهم ابن المهلب).

قلت: يعني كيف خرج قوم مع ابن المهلب الذي خلع يزيد، و فيهم هذا الرجل الذي هو احد رؤوس العلماء،الذي ينبغي أن يتخذهم الناس مرجعا لهم في مسائلهم؟! و لاسيما ما كان في الفتن و ما إليها، قال يونس بن عبيد ـ رحمه الله ـ: (كان الحسن ـ و الله! ـ من رؤوس العلماء في الفتن و الدماء)، رواه ابن سعد في 'الطبقات' (163) بسند صحيح، و عند بعضهم زيادة (و الفروج)، أي كان ممن يُفزع إليه في الفتن التي تتعلق بالفتن و الدماء و الفروج، و نحن نقول: كيف ضل قوم في الجزائر و غيرها و قد خرجوا في حياة أمثال المشايخ الكبار: ابن باز و ابن عثيمين و الألباني ـ رحمهم الله؟!

6- تظهر ثمرة هذا البحث عند ظهور البدع؛ فإن ما أظهر مبتدع بدعة قط إلا صيح في وجهه: من إمامك في هذا؟ بل قيل له: من أنت و من شيوخك؟

و لو لا هذا لقال من شاء في دين الله ما شاء، و لخرج على الأمة يهودي في سمت المسلم، يدعو الناس إلى ما يريد باسم أن الحق معه، و أنه ليس بحاجة إلى أن يبرز هويته العلمية، و لو لا أن العلم سلسلة موصولة حلقاتها بعضها ببعض لوقعت الكارثة، كما هو الشأن هنا، و لذلك روى عبد الله بن أحمد في 'السنة' (509) و ابن بطة في 'الإبانة / تتمة الرد على الجهمية) (156) عن عباد بن العوّام قال: [قدم علينا شريك بن عبد الله منذ نحو خمسين سنة، قال: فقلت له: يا أبا عبد الله! إن عندنا قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث؟ قال: فحدّثَني بنحو من عشرة أحاديث في هذا، و قال: أما نحن فقد أخدذنا ديننا هذا عن التابعين، و أخذ التابعون عن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ فهم عمن أخذوا؟!]و سنده صحيح؛ و سلْم بن قادم الذي في إسناده ثقة، ترجم له الخطيب البغدادي في 'تاريخ بغداد' (9 / 145)، و حرِّف في نسخة 'السنة' التي حققها الدكتور محمد بن سعيد القحطاني إلى اسم: أسلم، فقال محققه: [لم أجد له ترجمة فيما اطلعت عليه من مصادر!]

7- الاعتراض على العلماء في مسائل القتال و اتهامهم بالجمود و التقصير سنة خارجية معروفة، فقد أخرج البخاري (4513)عن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: (إن الناس ضُيِّعوا، و أنت ابن عمر و صاحب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فما يمنعك أن تخرج؟) الحديث.

و أخرج ابن ماجه (3930) بسند حسنه الألباني عن عمران بن الحصين ـ رضي الله عنه ـ قال: (أتى نافع بن الأزرق و أصحابه، فقالوا: هلَكت يا عمران! قال:ما هلكت! قالوا: بلى! قال: ما الذي أهلكني؟ قالوا: قال الله: {و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله} (الأنفال 39)! قال: قد قاتلناهم حتى نفيناهم فكان الدين كله لله...).

تطبيق هذا التقعيد:

لقد زارني في هذه السنة (1422 هـ) رجل عرّف نفسه بأنه كان (ضابطا شرعيا!) في ’الجيش الإسلامي للإنقاذ’ بالجزائر، و أخذ يشرح لي بأنه و من معه اضطروا إلى حمل السلاح على كراهية منهم لذلك؛ و زعم أنهم لجؤوا إلى ذلك بسبب مضايقات الدولة لهم، فكنت أريد أن أنقض اعتذاره هذا بأمرين:
أحدهما: أن عذر الإكراه على القتل غير مقبول بإجماع العلماء.
و الثاني: أن ذكره لمضايقات الدولة لهم هو المنتصف الأخير لقصتهم مع الدولة، و كان عليه أن يقص عليّ المنتصف الأول الذي تأسس ما بعده؛ و إلا فإن الجميع يعرف التهديدات الدموية التي كان رؤوس ’الجبهة’ يخاطبون بها الدولة و الناس آمنون، فكيف يصدقكم سلطان إذا ادعيتم له أنكم دعاة أمن و هو يسمعكم في كل جمعة تنازعونه الأمر، بل تكفرونه، لاسيما خطابات الإضرابات عن العمل التي دعت إليها ’الجبهة’ في ساحة أول ماي بعاصمة الجزائر، و التي اشتهرت بـ ’إضراب سنة 1991م’، و ما كان فيه من تكفير صريح للسلطان، بل و استحلال لدمه، و جند الدولة الدولة ينصتون بلا أدنى كلفة، و الأشرطة مسجلة محفوظة لدى خاصة الناس و عامتهم!!

يُضاف إليه تأييد رؤوسهم لبعض من حمل السلاحقبل ذلك بسنوات، أعني خروج مصطفى بويعلى...

كل هذا حصل قبل المضايقات، و على كل حال، فإنني لم أذكر شيئا من هذا لذلك ’الضابط الشرعي!’، و لكن اختصرت الطريق لي و له، فقلت له: لما رأيتم الدولة تطاردكم، لماذا لم تتصلوا بأهل العلم ليقروكم على الخروج أو يردوكم؛ فتبنوا عملكم على قاعدة متينة، و تكفوا أمتكم شرور العمل الارتجالي، و تكفوا أنفسكم شرور الاستقلالية في إصدار الأحكام التي يمليها عليكم سوء ظنكم بأهل العلم؟! أو كلمة نحوها.

و قد قلت له هذا؛ لأن الرجل زعم ـ بعد تلك الدماء التي أراقوها ـ أنه جاء ليجمع أقوال العلماء!!!

ففوجئت بانزعاجه بهذا السؤال انزعاجا شديدا، إلى حد أنه رفض الجواب!

فلما رأى إصراري على السؤال نفسه، قال: ما كل الناس يتمكن من سؤال أهل العلم!!

فقلت: إن كان الأمر أمر نقص في الأموال فلقد حلبتم من أموال هذه الأمة ما لا يوصف، أفما يسعكم أن تقتطعوا منها شيئا لدينكم، فتعرفوا ما يُطلب منكم شرعا في تلك الظروف العصيبة؟!

فقال: لا تحرجني بهذا السؤال!

ثم ذكّره الشيطان جوابا آخر، فقال: لا يشترط سؤال الأحياء!!

فأدركت حينئذ مكمن الداء منه و من جماعته، و تأكدت من إساءتهم الظن بالعلماء، و قلت: هذا معناه أن العلم في الأحياء قد انقرض، و هذا يجر إلى تكذيب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ في قوله في العلماء خصوصا: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله و هم ظاهرون" متفق عليه من حديث المغيرة ـ رضي الله عنه ـ، و في رواية عند الحاكم من حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ : "حتى تقوم الساعة"، انظر 'السلسلة الصحيحة' للألباني (270) و (1956).

ثم لماذا اللياذ بالأموات، وهم عاجزون عن إجابتنا عما لدينا من تساؤلات، و الأحياء من العلماء أفهم منا لمراد الأموات؟! فأيقنت أن الرجل أدركته عنجهية الخوارج، و تذكرت إنكارهم على علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ رجوعه إلى حكم العلماء في زمانه، حين حكم أبا موسى الأشعري و عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ، فقالوا: “حكمت الرجال في دين الله!“، يريدون الاكتفاء بالكتاب الكريم، نظيره قول هؤلاء اليوم: ”يكفينا الرجوع على كتب الأموات!“ فأتى كتاب بعلي ـ رضي الله عنه ـ بكتاب الله و كلمه ليكلم القوم بلا واسطة؛ تهكما بهم؛ لعلهم ينزعون عن بَلادتهم، فقد روى أحمد (1 / 86) و أبو يعلى (474) و الحاكم (1 / 152) و البيهقي (8 / 179) بسند صححه الحاكم و الذهبي، و كذا ابن كثير في 'البداية و النهاية' (10 / 568 – هجر) و الألباني في 'إرواء الغليل' (2459) عن عبيد الله بن عياض قال: (جاء عبد الله بن شداد، فدخل على عائشة و نحن عندها جلوس، مرجِعَه من العراق ليالي قُتل علي، فقالت له: يا عبد الله بن شداد! هل أنت صادقي عما أسألك عنه: تحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي؟ قال: و ما لي لا أصدقك؟ قالت فحدثني عن قصتهم، قال: فإن علياّ لما كاتب معاوية و حكّم الحكمين، خرج عليه ثمانية آلاف من قرّاء الناس، فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، و إنهم عتبوا عليه، انسلخت من قميص ألبسكه الله تعالى، و اسم سماك الله به، ثم انطلقت فحكمت في دين الله، فلا حكم إلا لله تعالى!
فلما أن بلغ عليّا ما عتبوا عليه و فارقوه عليه، فأمر مؤذنا فأذن: أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن، فلما أن امتلأت الدار من قرّاء الناس، دعا بمصحف إمام عظيم، فوضعه بين يديه، فجعل يصكه بيده، و يقول: أيها المصحف! حدث الناس! فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين! ما تسأل عنه؛ إنما هو مداد في ورق، و نحن نتكلم روينا منه، فماذا تريد؟ قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا، بيني و بينهم كتاب الله ـ عز و جل ـ...).

قلت: هذه البلادة التي دعا إليها الخوارج عليا شبيهة بالبلادة التي يدعو إليها هؤلاء السياسيون اليوم و التكفيريون، و بدافع نفرتهم الذين يفتونهم بما لا يهوون، فقد أعرضوا عن فتاوى الأحياء، و ادعوا أنهم يرجعون إلى الأموات منهم، و هم يعلمون أننا إذا اختلفنا معهم في كتابات الأموات، فإن أهلها لا يقدرون على أن يخرجوا من قبورهم ليشرحوا لنا مرادهم!! و الحقيقة أن وجه الشبه واحد بين القوم و بين سلفهم؛ فإن خوارج حروراء ما رفضوا الرجوع إلى حكم الحكمين إلا لأنهم لم يرتضوا حكمهما، فطلبوا الرجوع إلى الكتاب مباشرة، كما أن هؤلاء طلبوا الرجوع إلى كتب الأموات مباشرة دون الرجوع إلى الأحياء للعلة نفسها، فحقيق بمن ابتلي بهم أن يفعل بهم كما فعل علي ـ رضي الله عنه ـ، فإذا قالوا يكفينا الرجوع إلى كتب الأموات، فليجعلهم بين أمرين: إما أن يقبلوا عرض الكتاب على عالم، وإما أن يأتي إلى كتابهم الذي اختاروه، ثم يستنطق ورقاته لتفصح لهم عما قصده صاحب الكتاب، أعني الميت!!

هذا ذكرته لبيان أن هذا الصنف من الناس من المتصدين للدعوة لا يرغبون إلا فيما يوافَقون عليه، و لو وافقهم الأحياء على ما هم فيه لأتوا عليهم مذعنين، و طاروا إليهم بجناحين!!

هذا هو الهوى الذي يكون من الأمارات الدالة على أن ادعاء من يدعي التحاكم إلى نصوص الشريعة إنما هو مجرد دعوى؛ لأن اتباعه لهواه يكذبه و لذلك قال الله ـ عز و جل ـ {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله و اتبعوا أهواءهم} (محمد 14).

تنبيه:

ما ذكره هذا الضابط هنا من أن الجيش الإسلامي للإنقاذ حمل السلاح مضطرا، و أن (من فضلهم!!) على الناس أنهم لا يقاتلون إلا من يقاتلهم من الدولة أو غيرها، قولهم هذا هو مذهب الخوارج؛ فقد ذكر ذلك أحد الخوارج الإباضية في كتابه ’الخوارج و الحقيقة الغائبة’ (ص 130) نقلا عن بعضهم قوله: “إنا لم نخرج لنفسد في الأرض و لا لنروّع أحدا، و لكن هربا من الظلم، و لسنا نقاتل إلا من يقاتلنا!!“، و انظر 'الأنساب' للبلاذري (5 / 190).

و أم أهل السنة فإنهم لا يتقدمون بين يدي الله و رسوله؛ و قد قرؤوا في صحيح مسلم (1848) عن حذيفة بن اليمان قال: قلت: يا رسول الله! إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: "نعم!"، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: "نعم!" فقلت: هل وراء ذلك الخير شر؟ قال: "نعم!" قلت: كيف؟ قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، و لا يستنون بسنتي، و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس"، قال: قلت: كيف أصنع ـ يا رسول الله! ـ إن أدركت ذلك؟ قال: "تسمع و تطيع للأمير، و إن ضُرب ظهرك و أُخذ مالك فاسمع و أطع!".
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 12 May 2008, 06:40 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

هجر مساجد المسلمين عند أبي قتادة

فاتتني يوما صلاة الجماعة بأحد مساجد العاصمة بالجزائر، و ذلك في المسجد العتيق بمنطقة بئر خادم، فوجدت جماعة صغيرة جدا في مكان مظلم بناحية المسجد فصليت معها، فإذا بأحد المحبين يستنكر عليّ ذلك بأدب، و يخبرني أن تلك الجماعة الثانية هي ’جماعة التكفير’، و باصطلاح الفقهاء الدقيق: هم من الخوارج، فتأسفت و شكرت له ذلك، و قلت له: لو عرفتهم ما فعلت!

و الحقيقة أن تركهم لصلاة الجماعة لم يكن مشتهرا عنهم يومها، لكن خالجني شك و أنا أصلي معهم؛ لأن إمامهم الذي صلى بنا افتتح سورة البقرة و الصلاة صلاة المغرب، و الجماعة متأخرة، بمجرد قوله: {ألـم...} دخلني الشك، ثم قوي الشك حين وجدته يلحن في قراءته اللحن الجلي؛ و ذلك لأنني أعرف أن خوارج العصر يحاولون التشبه بعبادة أسلافه ـ الذين يحقر الصحابة صلاتهم إلى صلاتهم! ـ و لا يرقى بهم الحال إلى ذلك، لكنني دفعت (هذه الوسوسة!) عن نفسي و أتممت الصلاة معهم!

و قد أخبرني واحد ممن كان معهم ثم فارقهم أنهم كانوا في بادئ الأمر يتعمدون إدراك الجماعة في آخرها، فيدخلون مع الإمام في التشهد الأخير بغير نية، فإذا سلم الإمام قاموا و كبروا للإحرام في أنفسهم، فصورة صلاتهم صورة مسبوق، و حقيقتها صلاة منفرد، ثم رأوا أن ذلك لا يمكن أن يُفعل في كل صلاة، فلجؤوا إلى الصلاة بعد الإمام منفردين، ثم رأوا أن يؤدوها جماعة مهما كلفهم ذلك!!

إن مفارقة الخوارج الأولين لجماعة المسلمين مشهور لا يحتاج إلى ذكر شواهده التاريخية، و ليس بغريب على من كفّر الحكّام و الأمراء، و أمر بهجر مجالس العلماء، و حرض على التمرد على فتاواهم كما مرّ، ليس بغريب على منهجه أن يأمر بهجر المساجد أيضا؛ لأن كل ما يكون له صفة (الرسمية) يكون تابعا للطاغوت، كما هو التسلسل الفلسفي لدى هؤلاء، لذل وجدتُ مثله في بعض كتابات المشبوه على الانترنت، كما في فتواه التي يقرر فيها أن كثيرا من مساجد المسلمين هي مسجد ضرار، تبطل الصلاة فيها، كما في ورقاته التي بعنوان: ’هجران مساجد الضرار!’، حيث قال في (ص 1) منها: “فكانت الصلاة فيها حراما، و عند بعض الأئمة ـ و هو الصواب ـ باطلة!“.

و قال فيها أيضا (ص 4): “و مما تدخل في معنى مسجد الضرار و ينطبق عليها الوصف الشرعي، تلك المساجد التي بناها الطواغيت لتذكر فيها أسماؤهم و تسمى بهم، و هذه المساجد فيها الكثير من معاني الضرار؛ منها أنها بنيت رياء و سمعة، و أموالها إنما بُنيت من سرقات هؤلاء الطواغيت، و بعضها من الربا و الميسر!!“.

قلت: سترى ـ إن شاء الله ـ في القسم الثاني من هذا الكتاب أن مال المشبوه نفسه خبيث؛ لأنه يدعو إلى اللصوصية، و يعتبرها أحل الحلال!!

و يجرّئ الناس ـ لاسيما أتباعه الجهّال ـ على الفتاوى العشوائية، فيقول في (ص 3): “لا يُشنّع و لا يُعاب على من كره أو حرّم الصلاة في مسجد ما لاعتقاده أن بُني ضرارا !!“

و هو هنا يقصد نفسه بالدرجة الأولى؛ لأنه يترك الصلاة في مساجد بعض المسلمين؛ ليؤجّر قاعة يصلي بالناس فيها الجمعة قريبا من المسجد الجامع، كما ستراه قريبا!

و قال في (ص 4): “كل مسجد بقي على ضراره و لم يمكن إصلاحه فلا يجوز الصلاة فيه؛ لقوله ـ تعالى ـ: {لا تقم فيه أبدا}... !! أما في ديار الغربة فقد درجت سفارات الردة على بناء مساجد، بعضها يختص بأهل البلد ما دون غيرهم من المسلمين، و تسيطر عليه هذه السفارة، و ترغب أهل بلدها الذهاب إليه فقط دون غيره؛ حرصا منهم على عدم تأثر رعيتهم خلال مكثهم في البلاد الأجنبية أن يصلوا في مساجد أخرى فتتغير أحكامهم على بلدهم و حكام بلدهم، و هذا عين الضرر، و مثلها التي تبنيها السفارات، و تسجلها باسم شركات أو أبنية خاصة؛ لتدوم السيطرة عليها،و يعيّنوا لها الأئمة و المدرسين و المؤذنين، و يجعلوها مباهاة و رياء و سمعة، و ليختصوا هم بتفسير الدين على مناهجهم و رغبتهم، و تكون هذه المساجد مقرا للمخابرات على الشباب المسلم، و فيها يجتمع رجالات السفارة فيها للاحتفالات التي يسمونها ديني، فهي تحمل معنى: {و إرصادا لمن حارب الله و رسوله}“.

قلت: أصل هذا البحث هو قول الله ـ عز و جل ـ: {و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا و كفرا و تفريقا بين المؤمنين و إرصادا لمن حارب الله و رسوله من قبل و ليحلفن إن أردنا إلا الحسنى و الله يشهد إنهم لكاذبون (107) لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا و الله يحب المطهرين (108)} (التوبة 107-108).

لقد استنتج أهل العلم من هذه الآية أنه لا يجوز بناء مسجد إلى جنب مسجد؛ لما فيه من تفريق للجماعة الواحدة، كما هو واضح من بعض التعليل المنصوص عليه في الآية، فكيف ساغ للمشبوه أن يفتح قاعة لصلاة الجمعة قريبة جدا من أحد المساجد الكبيرة في لندن؟!

لقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يرغب في أن تكون صلاة المؤمنين واحدة، و كاد يوجب على من بعد جدا عن المسجد ألا يصلي إلا في مسجده لولا المشقة، كما روى أبو داود (506) بسند صحيح أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين أو قال المؤمنين واحدة، حتى لقد هممت أن أبثّ رجالا في الدور ينادون الناس بحين الصلاة، و حتى هممت أن آمر رجالا يقومون على الآطام ينادون المسلمين بحين الصلاة...".

و لا أريد أن أُبعد بالقارئ عن منقولات المشبوه نفسه، التي حُرم الاستفادة منها، فمن ذلك قول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في 'مجموع الفتاوى" (17 / 469): [و لهذا كان السلف يكرهون الصلاة فيما يشبه ذلك، و يرون العتيق أفضل من الجديد؛ لأن العتيق أبعد أن يكون بُني ضرارا من الجديد الذي يخاف ذلك فيه، و عتق المساجد مما يحمد به".

و قول محمد بن رشد في 'البيان و التحصيل' (1 / 411): [و هذا كما قال مالك ـ رحمه الله ـ إن من بنى مسجدا بقرب مسجد آخر ليضار به أهل المسجد الأول و يفرق به جماعتهم فهو من أعظم الضرر؛ لأن الإضرار فيما يتعلق بالدين أشد منه فيما يتعلق بالنفس و المال، و لاسيما في المسجد المتخَذ للصلاة التي هي عماد الدين، و قد أنزل الله ـ تعالى ـ في ذلك ما أنزل من قوله: {و الذين اتخذوا مسجدا ضرارا} إلى قوله: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطّع قلوبهم}...].

و قال البهوتي في 'كشّاف القناع شرح الإقناع' (2 / 373): [و يحرم أن يبنى مسجد إلى جانب مسجد إلا لحاجة كضيق الأول، و نحوه كخوف فتنة باجتماعهم في مسجد واحد، و ظاهره: و إن لم يقصد المضارة، و عبارة 'المنتهى': و يحرم بناء مسجد يراد بعه الضرر لمسجد بقربه].

و 'المنتهى' هو 'منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح و زيادات' لابن النجار الحنبلي، و من أقواله في ذلك أيضا (1 / 359): [و تحرم إقامتها و عيدٍ ـ أي الجمعة و العيد ـ في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة، كضيق و بعدٍ و خوف فتنة و نحوه].

و للمؤلف نفسه شرح عليه باسم 'معونة شرح أولي النهى شرح المنتهى'، و البحث فيه في (2 / 302-303).

و قال ابن حزم في 'المحلّى' (4 / 44-45): [و لا تجزئ الصلاة في مسجد أُحدث مباهاة أو ضرارا على مسجد آخر، إذا كان أهله يسمعون نداء المسجد الأول و لا حرج عليهم في قصده، و الواجب هدمه و هدم كل مسجد أحدث لينفرد فيه الناس كالرهبان، أو يقصدها أهل الجهل طلبا لفضلها... و قد هدم ابن مسعود مسجدا بناه عمرو بن عتبة بظهر الكوفة، و رده إلى مسجد الجماعة].

قلت: قصة ابن مسعود ذكرها ابن سعد في 'الطبقات' (6 / 206).

و قال ابن القيم في 'زاد المعد' (3 / 571)، وهو يعدد فوائد غزوة تبوك: [و منها تحريق أمكنة المعصية التي يُعصى الله و رسوله فيها و هدمها، كما حرّق رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ مسجد الضرار و أمر بهدمه، و هو مسجد يُصلّى فيه و يذكر اسم الله فيه؛ لما كان بناؤه ضرارا و تفريقا بين المؤمنين و مأوى للمنافقين، و كل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله، إما بهدم أو تحريق، و إما بتغيير صورته و إخراجه عما وُضع له].

فعلى هذا يكون الواجب في مسجد أبي قتادة أن يُهدم؛ لأنه اتخذ منافسا للمسجد الجامع الذي هو بجنبه، قال القاضي عبد الوهاب في عيون المجالس (1 / 415-416): [و لا يجمع الجمعة في مصر إلا في جامع واحد، في الأقدم منها، و به قال الشافعي ـ رحمه الله ـ و قال محمد بن ـ الحسن رحمه الله ـ: يجوز في موضعين، و قال داود ـ رحمه الله ـ و أصحابه: تُصلى الجمعة في مساجد العشائر كلها، و قال أبو يوسف ـ رحمه الله ـ إذا كان المصر جانبين ـ مثل بغداد ـ جاز أن تُقام الجمعة في كل جانب منه، فإن لم يكن كذلك لم يجز].

قلت: مثّل بمدينة بغداد؛ لأنه يشقها نهر دجلة شقين.

و لإمام العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ كلام نفيس في هذا في كتابه 'الأجوبة النافعة على أسئلة مسجد الجامعة' (ص 46-47) و (ص 73-74)، و أشار فيها إلى رسالة للسُّبكي في الموضوع بعنوان: 'الاعتصام بالواحد الأحد من إقامة جمعتين في بلد'.

هذا و لو كان المشبوه يصلي الجمعة في مسجد جامع، بل ولو تصورناه في مسجد صغير، و إلا فإن صاحبه في الدار و شريكه في العار عبد المنعم مصطفى حليمة، الذي يُكنى أبا بصير قد فضحه، فقال في كتابه ’حكم استحلال أموال المشركين’ و هو ينتقد المشبوه، قال في (ص 2): “هو نفسه صاحب فتوى مساجد ضرار، التي قاس فيها المساجد التي تبنيها الحكومات و السفارات و الأحزاب و الجماعات و الطوائف و غيرهم على مسجد ضرار الأول، الذي أمر النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بهدمه و عدم الصلاة فيه، و جعل حكمها حكمه من حيث وجوب الهدم و الهجران...!!
علما أن مصلاه الذي يقيم فيه صلاة الجمعة يتحول مباشرة بعد صلاة الجمعة إلى مرقص و ملعب للداعرين و الداعرات من أهل الكفر والشرك، فمصلاه مسجد أهل القبلة و الملة، و ما سواه مما ذكر فهي مساجد ضرار!!
جرّأ الغلاة من قبل على عباد الله فانتهكوا حرمات الذراري و النساء، و ها هو اليوم يجرئهم على بيوت الله، و ينفر عباد الله منها؛ بدعوى أنها ضرار!!...
فجرّأ ـ بفتواه الجائرة هذه ـ كثيرا من ضعاف النفوس على الجري وراء الجرام و السرقة و الغدر، حتى قال قائلهم ممن امتهن السرقة و اللصوصية: كنا نسرق من قبل و نحن نشعر بالذنب و الإثم، و الآن نسرق ـ بكل فخر و عين وقحة ـ و نحن نشعر بأننا مأجورون مجاهدون!!
فساءت بذلك أخلاقهم و طبائعهم، وفشا بينهم الكذب و الغدر و الخيانة، حتى أصبح همهم الأكبر كيف يحتطبون في الليل و النهار، و كيف يأتون بالأموال، و لو بالطرق الملتوية الحرام!“.

قلت: هذا الذي أخبر به صدق؛ فقد سألت بعض من أثق به من بلديي المشبوه اليوم فصدقه، فهكذا يقع في سيئتين: الأولى: أنه وصف مساجد المسلمين بالضرار، و قاعته التي يجمع فيها وحوشه على بدعته أولى بذلك، و الثانية: أنه رماهم بتفريق المسلمين و هوقد فارق مساجدهم، فانظر إلى آثار تزيين الشيطان: يفارق مساجد المسلمين ليؤدي صلاته في قاعات العهر و الخنا، قال الله ـ عز و جل ـ: {و من يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} (الحج 18)!!

كما أن الذي ذكره أبو بصير هنا حق، لكن ليته خرج من المذهب كله بعد إدراكه غلو مشاركه في أصل هذا الفكر؛ لأن المشبوه بدأ من حيث انتهى أبو بصير الآن، فلا يؤمَن على هذا الأخير أن يلحق بالركب يوما ما، لاسيما و له فتاوى تدل على أنه ليس ببعيد اللهجة، و قد كتب كتابين في المجادلين عن الطواغيت، متهما بذلك العلامة الألباني و إخوانه من أهل العلم، فها هو ذا أبو بصير يكتب في المجادلين عن الطواغيت حسب فلسفتهم؛ لأنه كتب بعض الشيء في الرد على المواجهين (للطواغيت!) كما مر، و نحن نعلم أنهم جميعا يرون أن الدعوة إلى الأناة و ترك التسرع في التكفير و التماس العذر للمخطئ ما وجد إليه سبيل، كل هذا يرونه جدالا عن الطواغيت!

و إنه ليسهل عليه أن يهتدي إلى الحق ـ إن شاء الله ـ لو عرف قدره فلم يتشبع بما لم يُعط، و كذلك لو عرف قدر العلماء لم يتجاوز فتاواهم في هذه النوازل، و مهما خفي عليه ممن مسالكهم رجع على نفسه بالتهمة؛ لأن لكل ميدان فرسانه، و الله الموفق.

و ما كان من أبي قتادة من غلو لا يبعد عنه أبو بصير؛ لأن المنهج واحد أو متقارب، فقد نقلت قريبا في تقعيد المشبوه في أخذ العلم عن غير العلماء المعروفين، و كذلك فعل أبو بصير في بعض ما أفتى به، كما في فتاواه المعنونة بـ ’مسائل متفرقة و ردود سريعة’، فقد ذكر في فتواه رقم (128) أنه لا حاجة إلى اشتراط التزكية فيمن يؤخذ عنه العلم، و إن كان حاول حصر الكلام في تزكية العلماء: الألباني و ابن باز و ابن عثيمين، لكن يبقى أن هذا التقعيد خطير؛ لأنه بسببه ظهر المشبوه و أمثاله، و انطلت بدعهم على المستشرفين لهم، بل إنه لا يُعرف له و لا لغيره من المرتوين من هذا المشرب رحم موصولة بأهل العلم؛ بدليل أن أبا بصير نفسه لما سُئل عن شخصه عجز عن ذكر شيوخه، بل جعل يتأسف من كون الناس لا يعرفونه، و لا يحاولون أن يتعرفوا عليه!! كذا في موقع ’الحوار المفتوح في ميدان التوحيد للحوار’ (ص 13).

فأين يجعل السلفي مقولة السلف كابن سيرين و مالك بن أنس ـ رحمهما الله ـ: (إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم)؟!

راجع مقدمة الإمام مسلم لـ'صحيحه'.
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 13 May 2008, 07:08 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

أبو قتادة يطعن على الدعوة السلفية


لم يصبر المشبوه على الطعن على الحكام دون الطعن على العلماء، كما أنه لم يصبر على التعريض بهم كما يفعل الحركيون اليوم، بل ذهب يصرّح بالتشنيع على أئمة الدعوة السلفية، و كشف القناع عن وجهه، خلافا لطريقته المغلّفة التي يلجأ إليها أحيانا، فقال في مجلة الأنصار، العدد (68)، في (ص 2) بتاريخ (22 جمادى الأولى 1415 هـ): “و قلنا في العدد الفائت أن (كذا) الحركة السلفية بقيادة شيوخها الأوائل انتكست في مهدها في ترسيخ مبدأ عدم التقليد، و ضربنا على ذلك أمثلة، ثم رأينا أن هذه الحركة قد فشلت فشلا ذريعا في تجلية مقاصد الناس في تحقيق المراد و الهدف، و هذا الفشل وقع عن طريق لمّات إبليس في إفراز أساليب جديدة في تحصيل العلم، و لمّات إبليس في بثه و نشره!!!“.

صورة المقال السابق

[ ]

النقد:
في هذا الكلام كالتصريح من المشبوه أنه غير سلفي، و أن الدعوة السلفية عنده ليست هي دعوة الطائفة المنصورة، مادام يطعن عليها بهذه الطعون الفاجرة؛ فإنه طعن في إخلاصها الذي سمّاه بمقاصد الناس، و طعن في متابعتها التي ذكرها بمقابلها، ألا و هو التقليد الذي وصف به شيوخ الدعوة السلفية الأوائل، و لا ريب أنه يقصد الأئمة المعروفين اليوم: الألباني و ابن باز و ابن عثيمين و غيرهم من أقرانهم الذين أقلقوا جماعات التكفير، رحمهم الله جميعا أحياء و أمواتا، و سيأتي تصريح المشبوه بأسمائهم، فهل آن لأتباعه من المنتسبين إلى الدعوة السلفية أن يستيقظا؟!

لعل الأذكياء من أتباعه قد فهموا سبب انتقال هذا الرجل بين الغلاة من جماعات التكفير كـ’الجماعة الإسلامية المسلحة’ التي في الجزائر و الأخرى التي في مصر، و بين المتظاهرين منهم بالاعتدال المتّسمين تدليسا بـ’الجماعة السلفية للدعوة و القتال’ أو ’حماة الدعوة السلفية’، و بين غلاة السياسة منهم كـ’الجيش الإسلامي للإنقاذ’!!!

و تأرجحه هذا بين جميع الجماعات الدموية أكبر برهان على أنه ليس سلفيا؛ و إلا فمن تكون هذه الحسناء التي يخطبها الجميع؟!

و لهذا قلت: إنه مشبوه، و ذكرت لكم أن الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ كان يشك في إسلام أصحاب هذا التوجه أصلا، و الحقيقة أن كل ما يخفيه المرء عن غيره لإرادة السوء يظهره الله، و قد قيل:
و مهما تكن في امرئ من خليقة [][][] و إن خالها تخفى على الناس تُعلم
ذلك لأن الله يقول: {و الله مخرج ما كنتم تعلمون} (البقرة 72).

إن المشبوه دائب الطعن على العلماء؛ بغية صرف الناس عن علمائهم الحقيقيين، و لا أريد أن أطيل هنا النقل عنه؛ لأنك لو رجعت إلى مجلته ’الأنصار’ لوجدت ذلك جليا في كل أعدادها المطبوعة، و لكنني أنقل إليك ـ أخي القارئ ـ كلامه من خطبته تلك، فقد قال عند ابتداء الخطبة الثانية منها في تزكية وحوشه في الجزائر، قال: “قال الله ـ عز و جل ـ: {و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (العنكبوت 69)، ليس هناك في الدنيا أحد أهدى من المجاهد، ليس هناك أحد في الدنيا أهدى من المجاهد؛ لأنه هو الذي يعيش المعركة، و هو يعرف وقائعها، و هو يعرف ظرفه، لا يمكن أن يقال قول ـ لا مني و لا من غيري ـ حتى يُرجع إلى أصحاب الشأن! منهم أصحاب الشأن؟ أصحاب الشأن هم أهل المعركة، من العلماء ليس من الجهلة، فالجاهل لا قول له، لا مجاهدا و لا غير مجاهد؛ إنما عليه أن يستمع، فنحن نصف أن أولئك المجاهدين هم على فكر و عقيدة أهل السنة و الجماعة، و أنهم اختطوا طريق السلف، و أنهم لا يفعلون فعلا إلا و قد تأولوا فيه، قد تأولوا فيه، و أن لهم دليلا شرعيا، فنلقي إلى الله بأعذارهم، نلقي إلى الله بأعذارهم، و نتقرب إلى الله بحبهم، لعل الله ـ سبحانه و تعالى ـ ينصرهم أو لعل الله يتقبلنا نحن و إياهم شهداء...!!“
و قال: “فأقلّ ما يكون أن نوالي أولئك القوم، و لا نقف على شفا جرف هار، حيث هبت ريح ملنا إليها، و كأننا ننتظر شبهة ما تُثار إلينا أو تُساق إلى عقولنا!
اللهم إننا نسألك أننا نحب أولياءك المجاهدين في سبيلك على أرض الجزائر المسلمة...!!“.

النقد:
إنه يريد أن يثبت للناس أن أصحاب الفتوى الشرعية ـ الذين سماهم بأصحاب الشأن مشاكلة للفظ خصمه ـ هم الذين في الجبال يقاتلون المسلمين باسم قتال طوائف الردة!

ثم وصف أصحاب الشأن من المقاتلين بـ ’العلماء’؛ تمويها أولا، و صرفا لوجوه الناس عن العلماء الحقيقيين ثانيا!

فنحن نسأل المنصفين من أهل الجزائر و غير المنصفين أيضا: أيوجد في صفوف أولئك الثوار عالم واحد، فضلا عن أن يوجد فيهم علماء؟

و الجواب معروف لا يختلف عند المنصفين و غير المنصفين، إذا فأين هم أصحاب الشأن؟!

و لا أدري ما جواب هؤلاء إذا قيل لهم: لماذا كان خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ وهو سيف الله المسلول ـ يرجع في الفتوى إلى بن عباس و أترابه؟
هذا مع الفرق الكبير بين التشبيهين.

إن المشبوه يريد عزل الناس عن علمائهم، و نفخ روح الغرور في أوساط أصحابه الثوار بأن الفتوى منهم و إليهم، لا غير!!

بل لقد تأسف في كتابه ’الجهاد و الاجتهاد’ على عدم تمرد الناس على علمائهم، فقال في (ص 248): “و أهم هذه البواعث فقدان روح التمرد، و الرغبة في التقليد المريح الذي يسقط عن المسلم الكسول الخامل تبعة المساءلة الأخروية، و تبعة ثمن التضحية في مخالفة عوائد الناس و إيلافهم، و هؤلاء و إن رفضوا مقولة العوام: ’قلّدها لعالم تخرج سالم’، إلا أنهم في الحقيقة يعيشونها شعورا حاضرا لا يغيب عن أذهانهم، و هؤلاء أبعد الناس عن الدخول في زمرة التجديد و الإحياء، أو الولوج إلى شعار تصفية الحق من دَخَن العقول و الأهواء!!“.

أبو قتادة يرى أن السلفية حَوَت على مذاهب بدعية منحرفة

لقد تضايق أبو قتادة من العلماء السلفيين؛ لأن فتاواهم كانت تحاصر فكره، و سهام حجتهم تدحض حجته، فتصيب منها مقتلا.

و الذي ربّى في صدره الحقد عليهم هو ما وُضع لهم من القبول في قلوب الناس، فلألباني ـ رحمه الله ـ يناجي سائله عبر الهاتف من على جبال عمّان، فإذا بكلمته قد انتشرت في أقصى أودية المغرب، و يستخلص شريط لابن باز ـ رحمه الله ـ من سراديب الحركيين بعد لأْيٍ شديد، فلو رأيت حرص أهل الأثر على سماعه و هم يعالجون بحة صوته و بحة الشريط من طول ما سجن، و مشقة فرز كلماته من غير كلل، ثم يبلغون به حيث بلغ الحق، الأمر الذي فتّت كبد أبي قتادة الغليظة حسدا، فلم يشعر إلا و هو يأكل لحوم العلماء في العشر الأواخر من رمضان، فقد قال في (24 رمضان سنة 1415)، في العدد (85) من مجلة الأنصار، في (ص 5): “و مشايخ السلفية المعاصرة لتفرغهم لبعض القضايا، و عدم اهتمامهم بالواقع الجديد، أو لِنَقل بكل صراحة: لأنهم ما زالوا أسراء لقضايا لاتمُتّ إلى زمانهم بصلة، فإن عباءة السلفية صارت حاوية على مذاهب بدعية منحرف!!“.

قلت: مع هذا الوضوح في محاربته الدعوة السلفية، فإن قوما يدعون له السلفية، و الأغرب منه هو استناد المشبوه إلى فقه الواقع للطعن على هذا الطراز النادر من أهل العلم اليوم، ذلك السند الذي لا نزال نعهده ممن عُرفوا به و لم يُعرفوا بالاحتفاء بعلم الشريعة.

صورة المقال السابق

[ ]
و وصفَ العلماء السلفيين بالإغراق في سبيل المجرمين، فقال أيضا في العدد (68) من المجلة نفسها، في (ص 3)، بتاريخ ( الخميس 22 جمادى الأولى 1415 هـ): “و للأسف أن الحركة السلفية قبلت هذا السبيل سبيل المجرمين، و ولج مشايخها فيه إلى آذانهم!!“.

قلت: هكذا يطلق الكلام في العلماء السلفيين، فهل يقدر سلفي على أن يفوهَ بمثله؟!

إذاً أين هو الانتساب إلى الطائفة المنصورة؟!

و أين الولاء لها و البراء من عدوها، و قد قال رسول الله ـ صلى الله عيه و سلم ـ: "المرء مع من أحب" متفق عليه؟!

صورة المقال السابق

[ ]

غمز فاضح:
قال أحدهم تحت عنوان ’العدل في النظرة الشمولية للإسلام’: “فالتحزب على جزء من الدين و نسيان الأجزاء الأخرى هو من ميراث الأمم الهالكة، و من أعظم أسباب الفرقة و الخلاف بين الدعاة، فتجد طائفة من المسلمين تهتم بالإسلام التعبدي...
و تجد فئة ثالثة عُنيت بالإسلام العلمي، فهي تتعلم السنة و الحديث، و تشتغل ببيان صحيحها من سقيمها، و تحذر الناس من رواية الأحاديث الضعيفة و الموضوعة، و قد يصحب ذلك شيء من الجفاء أو ضعف التعبد أو الغفلة عن واقع الأمة و ما يُدّبر لها!!!“.

هذه النفثة الخلَفية المسمومة ليست من نفثات محمد الغزالي، و لا الدكتور القرضاوي، إنما هو نفثة رجل عاش بين أهل الحديث، إنه الشيخ سلمان العودة في كتابه ’أخلاق الداعية’ ( ص 58-60)، و هذه الفئة التي طعن عليها لا تخفى على القارئ، بل هي معروفة لدى المسلمين منذ القرن الأول من تاريخ هذه الأمة، فهل سمعت بصاحب سنة يجفوا أهل السنة بمثل هذا؟!!

إن الوقيعة في أهل الأثر من علامات أهل البدع، قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم ـ رحمه الله ـ: [سمعت أبي يقول: و علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر] أخرجه اللالكائي في 'شرح أصول الاعتقاد' (2 / 200).

و إذا كان التحزب على جزء من الدين يُضرب له المثال بأهل الحديث، فقد أزرى قائله بعلماء أمته ـ حفظ الله بهم الدين ـ، و قد كان جل ميراث السلف: جمع الحديث و النظر الفاحص في صحيحه و ضعيفه، فأنى لسلمان إهلاك أمة محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ بمن جعلهم الله أكبر منقذيها، فقال: “من ميراث الأمم الهالكة...“؟!

و أما قوله: “الغفلة عن واقع الأمة و ما يُدبر لها“، فإنه مربط الفرس، و من أجله كُتب الكتاب، و من أجله قَطَع رحمه من هذه الفئة التي شوّهها بما قال، فمتى أوجب الله على جميع الناس الاطلاع على واقع الناس؟!

و متى كانت الغفلة عن ’واقع الأمة’ سمة لأهل الحديث، لولا حب الاعتراض على أهل الحديث؟!

ثم إذا كان لا بد من جماعة يقظة لما يُدبر لهذه الأمة من مكائد فليكن الشيخ سلمان العودة و من رابط عند هذا الثغر، فعلام التهويل على من لم يكن معهم بأمر أكثر ما يقال فيه: إنه على الكفاية؟!

إن المشتغلين بتصحيح الأحاديث و تضعيفها آحاد في الناس، و قد يمر القرن من المسلمين و لا يكاد يوجد فيه منهم إلا واحد أو اثنان، كما هو الشأن في عصرنا، مع ذلك يجد هؤلاء الآحاد في طريقهم الموحش قوما ـ لم تطب أنفسهم بإحياء سيرة السلف العلمية ـ يثَبِّطونهم و يشوهون صورتهم، و يقعدون لهم بالطريق رافعين راية ’شمولية الإسلام!!’.

إن واحد من علماء هذه الأمة كالشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ، جعله الله في هذا العصر حجى على الخلق في هذا الفن الذي رأى سلمان أن (التفرغ له حزبية مهلكة تتنافى مع شمولية الإسلام!)، حتى أخضع الله به رقاب الذين أقلقهم التصحيح و التضعيف، فأضحوا ـ على كراهية من كثير منهم ـ لا يسردون حديثا إلا خرجوه، و أضحى محاضرهم وخطيبهم يتحرى في نقله ما لم يكن يفعله من قبل.

و كم هي فرحة الخطيب اليوم و هو يجمع مادة خطبته من 'صحيح الجامع الصغير' و غيره من الكتب المحققة، و يرى أن صاحبه قد قطع به أشواطا يعجز عن طرق أدنى أبوابها لو تُرك و علْمَه!

و كم هي حاجة المفسر إلى كتب الحديث المحققة!
و كم هي حاجة المؤرخ إلى كتب الحديث المحققة!
و كم هي حاجة المربي إلى كتب الحديث المحققة!
و كم هي حاجة الفقيه إلى كتب الحديث المحققة!
و كم هي حاجة الكاتب السياسي إلى كتب الحديث المحققة!

و أنتم ـ يا سلمان و جماعته! ـ أحوج الناس إلى الكتب المحققة؛ لأنكم لا تجدون وقتا للتحقيق، فوقتكم مصروف لخدمة السياسة و همّ السلطة و إن تظاهرتم بالشمولية، بل لولا التصحيح و التضعيف الذي خص الله به أهل الحديث ما عرف الشيخ سلمان القبلة!

قال أبو المظفَّر السمعاني كما في المجموع من 'الانتصار لأصحاب الحديث' (ص 43): [يجب أن يُرجع في معرفة ما كان عليه رسول الله ـصلى الله عليه وسلم ـ إلى أهل النقل و الرواية؛ لأنهم عنوا بهذا الشأن و اشتغلوا بحفظه و التفحص عنه و نقله، و لولاهم لانْدَرس علم النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، ولم يقف أحد على سنته و طريقته...].

و كم من بدعة دفعها الله بأهل الحديث، و لولا ذلك لكانت دينا يدان به من دون الإسلام الصحيح، روى اللالكائي في 'شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة' (32) عن يوسف بن أسباط قال: [كان أبي قدريا، و أخوالي روافض، فأنقذني الله بسفيان].

ثم لماذا خص سلمان أهل الحديث بوصف 'الجفاء و ضعف التعبد'؟!
أليس هو داءا مشتركا بين الناس؟!

و إذا زُعم أن الكلام إنما قُصد به بعض الأفراد، فلماذا يُعمم بلفظ 'فئة' لولا الحرص على إسقاط فئة...؟!

يقول الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" روى البخاري منه الجملة الأخيرة من حديث ابن عمر، و رواه مسلم من حديث جابر.

و مهما يكن في العالم من جفاء، فلن يساميه صاحب التعبد، مع أن شأن العبادة عظيم، فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله ـ عز و جل ـ و ملائكته و أهل السماوات و الأرض، حتى النملة في جحرها، و حتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير" رواه الترمذي من حديث أبي أمامة، و صححه الألباني في 'صحيح الجامع' (4213).

و لذلك كان السلف يحزنون لموت صاحب الحديث أشد من حزنهم على صاحب العبادة، فقد روى اللالكائي في 'شرح أصول الاعتقاد' (34) عن حماد بن زيد قال: [كان أيوب (و هو السَّختياني) يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث، فيرى ذلك فيه، و يبلغه موت الرجل يُذكر بعبادة، فما يُرى ذلك فيه]، بل لقد روى الخطيب البغدادي في 'شرف أصحاب الحديث' (98) و الهروي في 'ذم الكلام' (96 – الشبل) أن عثمان بن أبي شيبة ـ رحمه الله ـ قال: [فسّاق أهل الحديث خير من عبّاد غيرهم].
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 14 May 2008, 07:23 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

و لم يكتف سلمان بالطعن على علماء الحديث، بل ضم إليهم الفقهاء فقال في ’الإغراق في الجزئيات’ (ص 2)، كما في الانترنت، موقع ’السلفيون!!’: “لقد بلينا بطائفة من المسلمين، بل و أحيانا من الدعاة إلى الله ـ تعالى ـ، الذين هم على (المفترض!!) من خيار المسلمين، همّهم تحوّل إلى العناية بفروع المسائل و جزئياتها، فأسهروا ليلهم، و أضنوا نهارهم في قتل هذه المسائل و الجدال حولها، حتى لَكَأنها الدين كله، أو أنها من أهم مسائل الدين، مع أنها يمكن أن تكون سنة من السنن، حتى من تركها متعمدا لن يكون عليه في ذلك حرج و لا تثريب، و إن كان الأولى بالمسلم أن يتبع رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ في دقيق الأمور و جليلها“.

قلت: إذا كانت النتيجة هي ما سطره أخيرا، فلماذا الاعتراض، لولا الحرص على تشويه صورة السلفيين؟!

و قال في (ص 4): “فهل ترى ـ يا أخي مثلا ـ أن من العدل أن نستغرق وقتا في الحديث عن جزئية من هذه السنن الواردة في الصلاة، كالحديث عن جلسة الاستراحة، أو الحديث عن التورك، أو الحديث عن صفة الهوي إلى السجود: هل يسجد على يديه أولا أو على ركبتيه أولا؟!! هل ترى من الحكمة أن نستغرق في هذه المسألة و نقتلها بحثا و نؤلف فيها عددا من الكتب، و تكون هي حديثنا في مجالسنا، و هي مجال للمنافرة و المنافسة بين الأقران و الطلاب!!“

و قال في (ص 23): “أيضا هناك قضية الاشتغال الدائم بالفرعيات: قد يكون عندنا عشرون مسألة، و إن شئت فقل: ثلاثون، هي كل ما نتحدث عنها، خاصة نحن طلبة العلم في مجالسنا الخاصة، لا يكاد يخلو مجلس من مجالسنا مثلا عن الكلام عن جلسة الاستراحة: مستحب أم مكروه أم جائز، و في بعض الأقوال بأنها واجبة، تحريك الأصبع في التشهد ربما أكثر من عشرين كتاب (كذا) أُلِّف في هذه المسالة، و تفنن في الناس تحريك الأصبع بالتشهد بشكل لم يسبق له نظير، قضية وضع اليد في الصلاة: أين ضعها: على صدره أم تحت السرة أم فوق السرة؟ قضية الهوي إلى السجود: هل يسجد على ركبتيه أم على يديه أولا كما أسلفنا؟ مع أن ابن تيمية لما تكلم عن هذه المسألة ـ مسالة الهوي على اليدين أو على للركبتين ـ قال: هذه من المسائل العويصة المشكلة المختلفة، التي الأدلة فيها غير واضحة.
و لكنك تجد طالب العلم الصغير أول ما يبدأ بالمسألة هذه، و ليت المسألة تقف عند هذا الحد، قد يؤلف فيها مصنفات أحيانا، و ليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل قد تجد هذا الإنسان أصبح يعتبر هذه المسألة ميزانا و فيصلا بين الذي يتبع السنة و الذي لا يتبع السنة، فالذي يقدم يديه هذا يتبع السنة، و الذي لا يقدم يديه هذا لا يتبع السنة، الصلاة بالنعال مثلا، قضية النقاب بالنسبة للمرأة، التسبيح اليمين أم بكلتا اليدين، صلاة التراويح خمس أو عشر أم أكثر أم أقل، هل يجهر بالذكر بعد الصلاة أم لا يجهر، قضية دخول الأطفال إلى المساجد، و ما أشبه ذلك من المسائل المحدودة، هي أصبحت جل همّنا و حديثنا و كلامنا، و كل طالب علم أراد أن يجرب خبرته و إمكانيته فإنه يختار بعض هذه المسائل، و يرجع إلى بعض الكتب، و يجمع بعض ما قيل فيها و يكتب في ذلك مصنفا أو جزءا حديثيا أو جزءا فقهيا!!“

و قال في (ص 18): “فمثلا تجد جزئيات: أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، هل يجوز أخذا الأجرة على تعليم القرآن الكريم أو لا يجوز؟!“

وقال: “فتجد أنه جدل: هل يجوز قبول الإعانة و الهدية من مشرك أو أنه لا يجوز؟ و بالتالي نرد هذا، لا نقبله؛ باعتبار الأخذ بالأحوط و تغليب جانب الخطر، و بالتالي نفوت على المسلمين مصالح عظيمة في مثل ذلك!!“.

قلت: فليأت على الدين كله فلينسخه!!

كان عليه ـ لولا هذا النّفَس (الإخواني) المعروف ـ أن يعظّم الدين و شعائره؛؛ لأن الله يقول: {ذلك و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} (الحج 32)، و كان أهل التقوى أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يسهبون في الحديث عن هذه المسائل، و ما سمعنا أن أحدا ضاق بها ذرعا، و لا يزال أهل العلم يهتمون بها و يكتبون فيها، و يردون على المخالف فيها و صدورهم منشرحة لم يثلمها عقدة حركية قطّ.

و قال في (ص18): “مثلا قضية النفاس، و قضية الحيض، و صارت مَضحكة يا أحباب!! هل نريد أن نظل مَضحكة للأمم و الشعوب إلى يوم يُبعثون؟! نشغل أنفسنا بهذه الجزئيات، و بهذه الأمور، و بهذه القضايا الخيالية!! كأننا عجزنا عن مواجهة الواقع، و عجزنا عن معالجة الواقع، و عجزنا عن صياغة الواقع، و عجزنا عن النزول إلى الواقع!! فرضينا من الغنيمة بالإياب، و صار همنا أن ندندن حول القضايا التي نتشاطر فيها على الآخرين، و نستعرض فيها عضلاتنا الفكرية، و لكننا كمن يطحن في الهواء، أو كمن يحرث في البحر!!“.

قلت: إن مسألة الحيض و النفاس مسألة قرآنية، تتلى إلى يوم القيامة، مهما ضاقت بها صدور الحركيين، و خلجوا منها لضحك المستهزئين، قال الله ـ عز و جل ـ: {و يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض و لا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين} (البقرة 222).

لقد كان الصحابة ـ رضي الله عنه ـ يسألون رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ عن هذه المسألة فأجابهم الله، وخلدها في كتابه، و يتلوها المصلي في محرابه، و ما علمنا أنها كانت يوما ما محل امتعاض عند أهل الإيمان، و لا كانت سببا في تقهقرهم إلى سفاسف الأمور، لولا الانهزام أمام سخرية الكفار، حتى أضحى المسلم غير مسلم لما تأصّل رسمه في كتاب الله، و تكرر بيانه و تفصيله في سنة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ فإنه لا يجوز أبدا أن يواجَه حكم الله بمثل هذه الصيغة، و لو كان تحت ستار تنبيه (الغلاة في الجزئيات!!) على غلوهم، بل أخشى ما أخشاه أن يكون هذا من قبيل الاستهزاء بالأحكام الله ـ عز و جل ـ، و الأمر لله.

إن وجود هذه المسائل في كتب أهل الإسلام منقبة لهذا الدين و دليل على كماله؛ فقد روى مسلم (262) عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ قال: (قيل له، [و في رواية له] قال لنا المشركون: قد علمكم نبيكم ـ صلى الله عليه و سلم ـكل شيء حتى الخِراءة! قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، و أن نستنجي برجيع أو بعظم).

إنك بكلامك السابق ـ يا سلمان! ـ تتأسى بالمشركين في كلامهم هذا، و هذا الذي صدر منهم إما أن يكون على سبيل الانبهار بكمال هذا الدين، فيكون اعترافا صريحا بذلك، و إما هو على سبيل الاستهزاء، فيكون الاعتراف ضمنا غير مقصود، و الأول أغرب، و الثاني أقرب؛ فقد روى أحمد وابن ماجه (316) عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ في قصته السابقة أنه قال: (قال له بعض المشركين و هم يستهزؤون...)

ثم تأمّل جواب سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ في عزة المؤمن المطمئن إلى شرع ربه ـ عز و جل ـ، و قابلها بانهزامية الشيخ سلمان العودة، الذي ضَعف أمام المستهزئين؛ فبدلا من أن يشمخ أنفة و عزة بدين ربه، انبرى أهل الإسلام، بل إلى صفوتهم: أهل الحديث، فقال: “هل نريد أن نظل مَضحكة للأمم و الشعوب إلى يوم يبعثون؟!“

فتأمل ما بين (السلمانين)، و الأمر لله!

ثم عرّج الشيخ سلمان العودة على بعض ما تباحثه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، و استنكره، فقال في (ص 5): “فمثلا سؤال: هل رأى رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ ربه ليلة الإسراء أم لم يره؟!!“.

إن سلمان يعلم أن الصحابة تكلموا في هذه المسألة و شدّدوا على المخالف فيها، حتى قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (من زعم أن محمدا ـ صلى الله عليه و سلم ـ رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية) رواه مسلم، قالت هذا و هي ترد على من زعم ذلك من غير الصحابة، كما حصل ذلك من مسروق ـ رحمه الله ـ حيث جاء في هذه الرواية أنه قال لها: (يا أم المؤمنين! أنظريني و لا تعجليني: ألم يقل الله: {و لقد رآه بالأفق المبين} (التكوير 23)، {و لقد رآه نزلة أخرى} (النجم 13)؟) و في ).رواية أنها قالت له: (سبحان الله! لقد قفّ شعري لِما قلت...)؛ لأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يختلفوا فيها، كما حققه ابن -لقيم، و نسبه إلى عثمان بن سعيد الدارمي في رده، و إلى شيخه ابن تيمية، أنظر 'مجموع الفتاوى' (6 / 507-508).

ثم لم يسلم المفسرون أيضا و شرّاح الحديث من نقد سلمان، فقال بعد كلامه الأخير و هو يذكر جزئياته: “مثلا: قضية النزاع في معاني بعض الآيات القرآنية أو بعض الأحاديث النبوية!!).

ثم أعاد الكر على علماء الحديث، فقال مباشرة: “بل حتى النزاع في ثبوت بعض الأحاديث أو عدم ثبوتها!! قضية الكلام، ما يتكلم به أهل المنطق فيما يُسمّى جوهر الفرد، أو بقاء الأعراض، قضية فناء النار: هل تفنى النار أو لا تفنى؟!!“.

تأمل كلامه الأخير؛ فقد حشر مسألة عقدية سلفية ف مسائل علم الكلام التي كان السلف يحاربها، و الله المستعان.

ثم أعاد الكر من جديد على المشتغلين بالحديث بصيغة تهكمية، فقال (ص 15): تجد أن طالب علم الحديث يهتم بالمصطلح و قراءة المصطلح و دراسته، و حفظ المتون فيه، و يتكلم عن دقائقه، و يتكلم عن الرجال و حفظ الرجال، و الكلام فيهم: (هذا ثقة و هذا ضعيف)، و ربما يحفظ ذلك و يعتني به أشد العناية، و يسرف في ذلك، حتى أنك (كذا) لو جئت لهذا الإنسان تسأله عن حديث: أصحيح أم ضعيف؟ قال: و الله! ما أدري، أراجع لك أو أسأل أهل العلم، مع أنه قضى ليله و نهاره في معرفة أمور المصطلح، و هي أمور فيها قضايا لا بد من معرفتها بكل تأكيد، و هي ضرورية و أساسية لمن يدرس علم الحديث، لكن هناك قضايا ثانوية، فمثلا مسألة رواية الآباء عن الأبناء، أو رواية الأكابر عن الأصاغر، و قضايا المسلسلات، أو بعض تفاصيل علم الإسناد، كلها أمور ليست من القضايا التي لا بد منها، هي قضايا أقرب أحيانا إلى أن الاشتغال بها لا يكون مفيدا لطالب العلم، أو تكون فائدتها قليلة، و يكون من اشتغل به عن غيره مغبونا!!“

قلت: لماذا إفراد المعتنين بالحديث بوصف الجهل، ثم التستر بما سماه قضايا ثانوية؟!

و قال في (ص16): “مثال آخر: الاشتغال بوسائل الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ و الكلام حولها، عن حقيقة الدعوة إلى الله ـ سبحانه و تعالى ـ، كم من الخصومة ثارت حول التمثيل، و ربما أن هناك أشياء كثيرة لم أطّلع عليها، خصومة حامية الوطيس بين حكم التمثيل: أحلال هو أم حرام؟!! أو تأتي مثل ذلك خصومة حامية الوطيس حول الأناشيد، و تجد أننا اشتغلنا ببعض الرسوم الدعوية عن حقيقة الدعوة، نجد أن المسألة عندنا ليست إخراج ممثلين أو منشدين، المسألة عندنا مسألة الدعوة إلى الله ـ سبحانه و تعالى ـ، و الاشتغال بهذه الرسوم و القضايا تأييدا أو سلبا، أو إيجابا أو سلبا، و المبالغة و الإغراق فيها غاليا ما يعود على الأصل بالضرر!!“.

قلت: إن أهل الاتباع لرسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يهمهم أن يعرفوا حكم الله ـ عز و جل ـ في هذه المسائل التي هرّبها سلمان باسم (الوسائل)؛ لأنهم سمعوا الله يقول في وصف نبيه ـ صلى الله عليه و سلم ـ: {و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا} (الأحزاب 46)، قال ابن تيمية كما في 'مجموع فتاواه' (15 / 161): [ودعوته إلى الله بإذنه، لم يشرع دينا لم يأذن به الله}، لأنهم سمعوا النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" رواه مسلم، و عظموها؛ لأنهم سمعوا الله يقول: {ذلك و من يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} (الحج 30).

و الحقيقة أن الشيخ سلمان أراد إجبار الناس على تقبّل اختياراته الحركية في مسألتي التمثيل و الغناء المسمى عنده بالأناشيد؛ لأنه من المستحيل أن تفرّط (الحركة) فيهما و لو أجمع على المنع منهما أهل السموات و الأرض، و لذلك قال بعده: “فالمقصود هو الدعوة إلى الله ـ سبحانه و تعالى ـ، و أي أسلوب تتحقق فيه الدعوة إلى الله، و ليس فيه معارضة صريحة واضحة لكتاب الله أو لسنة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فالأصل جوازه، و على هذا الأصل يمشي الإنسان، إلا إذا تبين له أن هناك ما يعكر على هذا الأصل أو يشكل عليه، فالمهم أني لا أشتغل بالفرع أو الوسيلة عن الهدف و الغاية التي أعمل من أجلها!!“

و نعى على المسلمين نوعية أسئلتهم، فقال في (ص 26): “و هنا أثير قضية أن جماهير المسلمين في كل مكان ربما أن (90%) من أسئلتهم التي نقرؤها أو نسمعها تتعلق بأحكام فقهية، فرعية، تفصيلية!!!“.

إن هذه الأسئلة التي انتقدها الشيخ سلمان على الناس اليوم هي أسئلة أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فها هي معروضة بين يديك:
- قال الله ـ عز و جل ـ: {و إذا سألك عبادي عني} (البقرة 186).
- و قال ـ عز و جل ـ: {يسألونك عن الأهلة} (البقرة 189).
- و قال ـ عز و جل ـ: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم} (البقرة 215).
- و قال ـ عز و جل ـ: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} (البقرة 217).
- و قال ـ عز و جل ـ: {يسألونك عن الخمر و الميسر} (البقرة 219).
- و قال ـ عز و جل ـ: {و يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} (البقرة 219).
- و قال ـ عز و جل ـ: {و يسألونك عن اليتامى} (البقرة 220).
- و قال ـ عز و جل ـ: {و يسألونك عن المحيض} (البقرة 222).
- و قال ـ عز و جل ـ: {يسألونك ماذا أحل لهم} (المائدة 4).
- و قال ـ عز و جل ـ: {يسألونك عن الأنفال} (الأنفال 1).
- و قال ـ عز و جل ـ: {و يسألونك عن الروح} (الإسراء 85).
- و قال ـ عز و جل ـ: {و يسألونك عن ذي القرنين} (الكهف 83).
- و قال ـ عز و جل ـ: {و يسألونك عن الجبال} (طه 105).
- و قال ـ عز و جل ـ: {و يستفتونك في النساء} (النساء 176).
- و قال ـ عز و جل ـ: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} (النساء 176).

هذه المؤمنين يومئذ، و من سوء حظ سلمان أن أكثرها عن أحكام فقهية فرعية تفصيلية، بما في ذلك آية الحيض، فما لسلمان يغفل عن القرآن؟!

هذا و قد اقتصرت هنا على ذكر الأسئلة التي صدرت من قبل الصحابة فقط: اتفاقا أو احتمالا، و أما ما اتُّفق على أنه من قبل الكفار، فلم أثبته، كمثل قول ـ عز و جل ـ: {يسألونك عن الساعة} (الأعراف، و النازعات 42).

و من رام الاطلاع على أسئلتهم من السنة، فليرجع إلى كتبه ابن القيم ـ رحمه الله ـ في آخر كتابه 'إعلام الموقعين'، و نظا لطوله فقد اكتفيت هنا بالإشارة إليه، لكن الفائدة فيه أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا أكثر ما يسألون إنما هو عما تضايق منه الشيخ سلمان، و الله المستعان.

إن الصحابة كانوا ذوي إيمان قوي؛ فلذلك كانوا يعظمون الصغيرة و الكبيرة، و يبحثون عن هذه المسائل التي يَضحك منها الحركيّون اليوم، بل يستهزؤون، و عامة الناس ـ الذين ذمّهم سلمان آنفا ـ بفطرتهم يوافقون الصحابة في ذلك، إلا أن المراهقين السياسيين يتضايقون منها؛ لأنها تكلفهم جهدا يريدون ادّخاره لمواجهة السلطة التي لا يفارقون بابها!!“

إنه في الوقت الذي يزهّد فيه مرجئةُ (الإخوان المسلمين) في السنة، و يرمون المتمسكين بها بقلة الفهم و سذاجة التفكير، يخرج سلمان بهذا التأييد لهم و مخاصمة أهل الحديث، و هو يرى بجلاء تقصير الناس في العمل بسنة الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و لو تغافلنا فزعمنا أنه ليس من ذلك الحزب، لقلنا كيف ساغ له أن يرطن رطانتهم ليُستغَلّ كلامه لصالحهم؟!!

إنني أعلم أنه سيحاول اللياذ بقوله في (ص 23): “و أنا أشير ـ حتى يكون الكلام واضحا ـ إلى أن الاهتمام بهذه المسائل لا حرج فيه، و إعطائها حقها مطلوب، و أستغفر الله و أتوب إليه، أنا أقول أني (كذا) كغيري من طلبة العلم إذا مرت هذه المسائل علينا في الدرس درسناها و بحثناها، و نظرنا في الأدلة، و رجعنا إلى كلام أهل العلم، و هناك كتب أُلِّفت في بعض ما ذكرت من المسائل، كتبها طلبت علم كبار، و مجتهدون و أخيار و فضلاء و يُشكرون، و العبد الفقير ممن استفاد مما كتبوه، جزاهم الله خيرا.
نحن لا نعترض على هذه الكتب، الشيء الذي نعترض عليه هو أن تصبح هذه القضايا جل همنا، بل كل همنا، و مدار حديثنا، و ملئ مجالسنا، بل ملئ قلوبنا و عقولنا!!!
إلى متى نظل ندور، ثم ندور، ثم ندور في مثل هذه القضايا، و نترك القضايا الكبرى، قضايا الاعتقاد، قضايا الواقع، قضايا التخلف العلمي، التخلف التقني، التخلف الاقتصادي، البحث عن موضع قدم لهذه الأمة الإسلامية، على متى تظل هذه القضايا مهدرة، و نحن نشتغل، بغيرها من هذه القضايا الجزئية الفرعية؟!!“.

أقول: لا ينبغي للقارئ أن ينخدع بهذا؛ لأن أقل ما فيه أنه تناقض، و إلا فإن من يذكر ما نقلته عن سلمان في كتابي 'مدارك النظر' (353 – ط. الرابعة) من شريطه ’حول الأحداث الجديدة’ يتبين مقصوده من قوله هنا: “قضايا الاعتقاد“؛ فقد قال: “فتأتي إلى خطيب، فتجد كأنه أصمَّ أذنيه و لم يسمع شيئا؛ يتكلم عن موضوع بعيد بالمرة:
- إما أن يتكلم تحت الأرض فيما يتعلق بأحوال الآخرة و القبر و الموت!
- و إما أن يتكلم فوق السماء، فيما يتعلق بأمور الجنة و النار و البعث و الحساب و غيرها!!!
كل هذه الأمور حق، و الكلام فيها حق، لكن ينبغي أن الإنسان يستغل فرصة كون النفوس متهيئة للوعظ و الإرشاد و التوجيه، و أخذ الدروس و العبر من هذه الأحداث، و يُطَمئن الناس على هذا الأمر، يكون مصدر طمأنينة للناس، مصدر سكينة لنفوسهم، يحيي المعاني الإيمانية في قلوبهم ـ كما ذكرتُ ـ يبين لهم المخاطر التي تهددهم، بحيث يكون الكلام متعلقا بالواقع!!!
أما أن نعيش أحداث (كذا) مؤلمة تحرك قلوبنا جميعا، ثم نأتي للمتحدث أو الخطيب فنجده يتكلم في واد آخر، فهذا في الواقع ـ يعني ـ ذهول (كذا) و غيبوبة لا يجوز أن يقع المؤمن أو العالم أو الداعية ضحيتها!!!“.

إذا فالقضية قضية ’واقع’ فحسب، و أما العقيدة فقد قطع الطريق إلى التركيز على أصولها، و زاحمها بـ ’فقه الواقع’!!

و لا أريد هنا أن أعيد التعليق على هذا الكلام بمثل ما ذكرته هناك، إلا أن الجديد في الأمر أنني كنت خائفا على الشيخ سلمان مما قاله؛ لأن هذه الصياغة التهكمية بأصول العقيدة: “تحت الأرض“ و “فوق السماء“ لا يمكن أن تصدر من قلب مؤمن في حال صحوة!

ثم إذا بي أفاجأ بأن أجد عند الشيخ سلمان نفسه تصديق ما قلت؛ فقد قال في كتابه ’من أخلاق الداعية’ (ص 58-59): “فتجد طائفة من المسلمين تهتم بالإسلام التعبدي، فتُعنى بقيام الليل و كثرة الذكر، و قد تضيف إلى ذلك بعض الترتيبات التي لا أصل لها في الشرع، و ربما تسرب إليها شيء من التصوف العجمي الانعزالي، حتى لقد حدثني أحدهم بلهجة السرور أن أحد الجواسيس الغربيين جلس معهم طويلا، ثم كتب عنهم أن هؤلاء لا ضير منهم؛ فهم يتحدثون فيما تحت الأرض، و فيما فوق السماء!!
تبارك الله!! في القبر و الموت و العذاب و النعيم، و في الله و الملائكة و الآخرة!!!
أما فوق الأرض، فلا شان لهم به!!!“.

قلت: قد عرفت ـ أخي القارئ! ـ الآن أن الشيخ سلمان أخذ هذا الانحراف من كافر و ردده ترديد المُقِر، بل نقد به أهل السنة، المركزين على التوحيد الذي وصفه سلمان بـ “ما تحت الأرض، و ما فوق السماء“!!

و الاستهزاء بالدين من كافر مألوف، لكن كيف خرج من في مسلم، بل داعية، بل من...؟!

إذا عُرف السبب، بطل العجب؛ لقد قضَّى هؤلاء الدعاة زهرة حياتهم في تتبع الواقع، فما خرجوا منه إلا و هم يلغون لغو أهله، و لا أشك أن هذا لو صدر من أمير أو من ذي سلطان لكان حديث جماعة الدكتور سفر في باب (الكفر البواح)!!
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 15 May 2008, 08:52 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

و إذا قلتَ: لقد ذكر “قضايا العقيدة“، كان الجواب: ارجع إلى الكتاب المُحال إليه أعلاه ’الإغراق في الجزئيات’؛ لترى أنه كلما تحدث عن العقيدة لا يكاد يفسرها إلا بالولاء و البراء، الأمر الذي يدلك على أن حاجته إلى العقيدة لا تتجاوز ما يخدم ذلك الباب الذي سميت لك آنفا، كيف لا و (الولاء و البراء) هو أوسع باب يُخرِج منه هؤلاء أمراءهم من الإسلام؟!

ثم جاء آخر يطعن على الفقهاء بسخرية إخوانية موروثة، و هو الشيخ عائض القرني، فبعد أن شهّر قوم ـ لغرض ما ـ (بتراجعه!!)، قام ليكتب من جديد في أواخر ما ألف، ألا و هو كتابه ’كونوا ربانيين’، حيث قال (ص 139): “في تلك الساعة التي جلس كثير من العلماء في صوامعهم، ينحتون الأفكار لتخريج حاشية الحاشية على مختصر المتن لشرح المؤلف، لا يدرون ما حولهم، و لا يعلمون ما يدور في أرضهم، فكان أن خلا الميدان لكل من عنَّ له رأي، أو اشتعلت في رأسه فكرة...!!!“.

قلت: إن هذا الطعن الجارح لأهل العلم لا يرقِّعه أن يعقد فصلا في كتابه بعنوان “لحوم العلماء مسمومة“؛ فإن التناقض سمة مجربة عليه، و الأمر لله!

ثم إن جلوس العلماء في “صوامعهم!“، مع سلامة الناس من غوائلهم خير من الدماء التي تهدرها جماعاتكم في بلاد المسلمين باسم الجهاد، ثم لا يُسمع منكم كلمة تنديد، بل يقابَل ذلك منكم بالتأييد!!

وها أنتم انتظرتم وفاة العلماء لتخالفوهم في الفتاوى الجهادية، التي تشهدون بأنها “مصيرية“، منها:
- تأييدكم للمتهورين في المظاهرات و المسيرات!
- و تأييدكم للمتهورين في العمليات الانتحارية!
- و تأييدكم للمتهورين في التفجيرات العمياء!
- و تأييدكم للمتهورين المؤيدين (للعبة!) أطفال الحجارة!
- و تأييدكم للماديين من العوام في تحريم التجارة مع أهل الكتاب؛ باسم المقاطعة الاقتصادية!
- و إفتاؤكم بالجهاد في أي بقعة من البقاع، قام فيها وِقاع و قِراع، غير مراعين في ذلك الشفقة على المسلمين في ضعفهم و قلة ذات اليد!

كل هذه المخالفات للعلماء المبرِّزين قد علمناه منكم بعد بروزكم في وسائل الإعلام اليوم، و الغريب أنكم من حين لآخر يكرّرون أن الشيخ ابن باز و الشيخ ابن عثيمين، و أمثالهم ـ رحمهم الله ـ قد زكَّوكم، فتوهمون الناس أنكم لم تخرجوا عن خط هؤلاء (المزكين!) لكم!!

و أغرب منه هو إجهاد أنفسكم لتلميع بعض المبتدعة المنتسبين إلى العلم؛ لموافقتهم لكم في هذه الفتاوى المضللة، كما سيأتي إن شاء الله!!

إنكم بالأمس القريب تجرأتم على واقع الجزائر، و أفتيتم أهلها ـ غير مبالين بمراغمة أهل العلم ـ بما جر عليهم من ويلات، إلى يوم الناس هذا،فذكرناكم بما فيه بلاغ لكم، لكن يبدو أن محطة الاستقبال عندكم عقيم، ثم جئتم اليوم تعيدون الكرة بعد أن (استرحتم!) من العلماء الذين كانوا يخالفونكم في الفتاوى الجهادية، و الله المستعان!

و الحقيقة أن هذه الكلمات خرجت من مدرسة واحدة، قال أبو قتادة في ’الجهاد و الاجتهاد’ (ص 245-246): “وعلى هذا فإن الفقيه لن يكون فقيها في ديننا، و لايُسمى فقيها وعالما، إلا إذا كان سياسيا بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى و وقع على النفوس، و على الشباب المسلم أن يسقط من حسه من احترامه من يقول: إن من السياسة ترك السياسة؛ لأنه حين يكون كذلك ـ أي حين لا يكون سياسيا ـ لن يكون فقيها، بل يكون شيخ جهل و تجهيل، و على مثل هؤلاء الشيوخ الجهلة يعتمد الطاغوت في إمرار باطله على الناس، و في إصباغ الشرعية على نفسه، فشيوخنا كمخدَّرات البيوت...!!“.

قلت: صاحب هذه المقولة التي يأمر المشبوه بإسقاطه هو الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ رأسا؛ و بقية العلماء السلفيين تبعا؛ لأنهم على موافقة السيرة النبوية في ذلك، فإن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ لم يكن يشتغل بالسياسة إذ كان مستضعفا، و لا كان يشتغل بها عامتهم إذا كان قويا ذا سلطان، و إنما كان يومئذ يخص بها بعض أعيان أصحابه، كما هو معلوم من سيرته ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و اشتغال الدعاة اليوم بالسياسة هو سبب نكساتهم، مهما توهموا أنهم مهتمون بحركات إخوانهم و سكناتهم، أو أنهم على مستوى الأحداث...!!

ثم إن هذه المقالة التي نقلتها عن المشبوه هنا تبين للمخدوعين به مبلغ صدق ما يتظاهر لهم به توقير للشيخ الألباني.

و ها هو يستمر في الطعن على العلماء قائلا: “و إلا ففسِّروا لنا ماذا نسمي هذا القطيع البهيمي الذي يتحلّق حول الطاغوت و قد زين الرؤوس بعمائم خربة، و لم ينس أن يطلق شعرات الخديعة على لحيته، و لعله نسي أن يحلقها ذلك اليوم لاضطرابه، ثم يخرج من عنده و هو يمدح و يثني و يقسم الأيمان المغلظة على أن حاكمنا هو ولي الأمر الشرعية الذي يجب طاعته!!
أهكذا يصنع الفقه بأهله؟!
أم هكذا يكون العلماء؟!“.
إلى أن قال: “هؤلاء من العار على أهل ديننا بمكان، و أنه مما يُخجَل منه أن يكونوا هم العلماء؛ و لو رضينا أن نطلق عليهم وصف العلم و الفقه لكان هذا شتما و قذفا لديننا؛ لأننا علّمنا الناس أن عالم هذا الدين و فقيه هذه الشريعة جاهل بالحياة، غبي بالزمان، و من اجل ذلك، لأن نشتم هؤلاء القوم و نخرجهم من زمرة العلماء، خير و ألف خير من أن نصبغ في أذهان الناس صورة قذرة عن الفقه المسلم!!“.

تشويه صارخ:
يقول الشيخ سلمان العودة في كتابه ’من أخلاق الداعية’ (ص 55): “و هناك من يقع في الخطأ المقابل، فيشتغل ببعض الكليات، و يقلل من شأن الجزئيات“.

قلت: لا تنخدع ـ أخي القارئ! ـ بحلاوة هذا الكلام؛ فإن آخر الطعم مر؛ إذ قال عقبه: “يقول أحدهم أنا سلفي، و عندما أنظر إلى شخصية عمر، أنظر فيها إلى عمر الذي نشر العدل بين الناس، عمر الذي كان يقول: لو عثرت بغلة في العراق لشعرت أن الله سائلي عنها: لمَ لم تسوّ لها الطريق يا عمر؟!
و لست أنظر إلى شخصية عمر الذي يقصر ثوبه و يطيل لحيته كما ينظر إليه بعض الصبي!!“.

قلت: لماذا يصف سلمان منتقَده بـ “سلفي“، مع أن السلفي لا يقول هذا أبدا؟!

هذه ـ في الحقيقة ـ أدهى مما مضى؛ إنها تشويه للسلفيين لا غير، و الكتاب لم يُكتب إلا لهذا كما رأيت قريبا، و الدواوين تُنشر يوم القيامة، قال الله ـ عز و جل ـ: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئا و إن كان مثقال حية من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين} (الأنبياء 47)!

و الحقيقة الأخرى أن اهتمام هذا المنتقد من شخصية عمر ـ رضي الله عنه ـ بالجانب السياسي فقط ـ باسم العدل ـ هو دعوة الشيخ سلمان العودة تماما؛ تعريضا بولاة الأمر من جهة، و بأهل العلم السلفيين من جهة أخرى؛ على زعم أن هؤلاء لا يعرفون الجوانب التي ينبغي أن يراعوها في الولاة!

و الحقيقة الثالثة أن قول هذا السياسي المنتقد: “أنا سلفي!“، ليس هو إلا سلمان العودة؛ لأن الشيخ سلمان هو الذي يركز على السياسة في محاضراته، و لا يحشد شبابه لخدمة شيء كحشده لهم لخدمة السياسة، و كي لا يقال له بحق: (يا إخواني! أو يا سروري!)، سارع ليموّه بقوله: أنا سلفي!
فإذا هو كما قيل جرْوَل يهجو نفسه!

و قد ذكّرني هذا صنيع شيخه محمد سرور زين العابدين الذي سمى مجلته السياسية المختصة بالطعن على الولاة باسم: ’السنة’، مع انه ليس فيها شيء من السنة!!!

وهو ما فعل ذلك إلا تعريض بعلماء السنة اليوم في محاربتهم للفرق؛ إذ أراد أن يفهمهم أن السنة قديما كانت تتمثل في الرد على الفرق المعاصرة لهم، و سموا كتبهم في الرد على المنحرفين عن العقيدة الصحيحة بـ 'السنة'، كـ'السنة' للإمام أحمد، و لابنه عبد الله، و لتلميذه الخلّال، و لابن أبي عاصم، و لابن نصر المروَزي وغيرهم، و هذه الفرَق قد تواترت اليوم في زعمه، فينبغي لمنشد السنة عنده أن ينبري للفرق المعاصرة التي لا يمثلها اليوم عنده إلا الحكام!!!

فالخلاصة أن سلمان طعن بكلامه ذاك على السلفيين تصريحا، كما طعن في كلامه الذي قبله على الدعوة السلفية تلميحا؛ حيث نعى عليهم تخصصهم في علم الحديث و شوّه صورتهم، و هو يدل دلالة واضحة عند من لم يُعمِه التعصب أنه لم يكتف بحياده و عدم انتمائه إلى الطائفة المنصورة التي كان و لا يزال يفرِّق بينها وبين الفرقة الناجية، بل أضاف، إلى التحذير منها اسما؛ ليقتل في نفوس أتباعه الولاء الصحيح لها و الغيرة على جنابها، و إنا لله!

قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ كما في 'مناقب الإمام أحمد' لابن الجوزي (ص 247): [من عظّم أصحاب الحديث تعظّم في عين رسول الله، و من حقّرهم سقط من عين رسول الله؛ لأن أصحاب الحديث أحبار رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ].

أهل الكلام و أهل الرأي قد جهلوا [][][] علم الحديث الذي ينجو به الرجل
لو أنهم عرَفوا الآثار ما انحرفوا [][][] عنها إلى غيرها بكنهم جهلوا

قال أبو المظفَّر السمعاني في المصدر السابق (ص 43-45): [كل فريق من المبتدعة يدعي أن الذي يعتقده هو ما كان عليه رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ؛ لأنهم كلهم يدّعون شريعة الإسلام، ملتزمون في شعائرها، يرون ان ما جاء به محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ هو الحق، غير أن الطرق تفرقت بهم بعد ذلك، و أحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله و رسوله، فزعم كل فريق أنه هو المتمسك بالشريعة الإسلام، و أن الحق الذي قام به رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ هو الذي يعتقده و ينتحله، غير أن الله ـ تعالى ـ أبى أن يكون الحق و العقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث و الآثار؛ لأنهم أخذوا دينهم و عقائدهم خلفا عن سلف، و قرنا عن قرن، إلى أن انتهوا إلى التابعين، و أخذه التابعون عن أصحاب رسول الله، و أخذه أصحاب رسول الله عن رسول الله، و لا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله الناسَ من الدين المستقيم و الصراط القويم إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث، و أما سائر الفرق فطلبوا الدين لا بطريقه؛ لأنهم رجعوا إلى معقولهم و خواطرهم و آرائهم، فطلبوا الدين من قِبَله، فإذا سمعوا شيئا من الكتاب و السنة عرضوه على معيار عقولهم، فإن استقام قبِلوه، و عن لم يستقم في ميزان عقولهم ردوه، فإن اضطروا إلى قبوله حرفوه بالتأويلات البعيدة و المعاني المستنكرة، فحادوا عن الحق و زاغوا عنه، و نبذوا الدين وراء ظهورهم، و جعلوا السنة تحت أقدامهم، تعالى الله عما يصفون، و أما أهل الحق فجعلوا الكتاب و السنة إمامهم، و طلبوا الدين من قبلهما، و ما وقع لهم من معقولهم و خواطرهم عرضوه على الكتاب و السنة؛ فإن وجدوه مخالفا لهما قبلوه و شكروا له الله ـ عز و جل ـ؛ حيث أراهم ذاك و وقفهم عليه، و إن وجدوه مخالفا لهما تركوا ما وقع لهم و أقبلوا على الكتاب و السنة، و رجعوا بالتهمة على أنفسهم؛ فإنّ الكتاب و السنة لا يهديان إلا إلى الحق، و رأي الإنسان قد يري الحق و قد يري الباطل، و هذا معنى قول أبي سليمان الداراني، و هو واحد زمانه في المعرفة: ما حدّثَتني نفسي بشيء إلا طلبت منها شاهدين من الكتاب و السنة، فإن أتى بهما و إلا رددته في نحره، أو كلام هذا معناه].
إلى أن قال في (ص 52-58): [فإن قال قائل: إنكم سميتم أنفسكم أهل السنة، و ما نراكم في ذلك إلا مدعين؛ لأنا وجدنا كل فرقة من الفرق تنتحل اتباع السنة، و تَنسب من خالفها إلى الهوى، و ليس على أصحابكم منها سمة و علامة أنهم أهلها دون من خالفها من سائر الفرق، فكلها في انتحال هذا اللقب شركاء متكافئون، و لستم أولى بهذا اللقب إلا أن تأتوا بدلالة ظاهرة من الكتاب و السنة أو من إجماع أو معقول؟
الجواب: قولكم إنه لا يجوز لأحد دعوى إلا ببينة عادلة أو دلالة ظاهرة من الكتاب و السنة هما لنا قائمتان بحمد الله و منه، قال الله ـ تعالى ـ: {و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر 7)، فأمرنا باتباعه و طاعته فيما سن و أمر و نهى و حكم و علّم، و قال النبي: "عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"، و قال: "من رغب عن سنتي فليس مني"...
فوجدنا سنته و عرفناها بهذه الآثار المشهورة التي رويت بالأسانيد الصحاح المتصلة التي نقلها حفاظ العلماء بعضهم عن بعض، ثم نظرنا فرأينا فرقة أصحاب الحديث لها أطلب، و فيها أرغب، و لها أجمع، و لصحاحها أتبع، فعلمنا يقينا أنهم أهلها دون من سواهم من جميع الفرق؛ فإن صاحب كل حرفة أو صناعة ما لم يكن معه دلالة عليه من صناعته و آلة من آلاته، ثم ادعى تلك الصناعة كان في دعواه عند العامة مبطلا، و في المعقول عندهم متجهّلا، فإذا كانت معه آلات الصناعة و الحرفة شهدت له تلك الآلات بصناعته، بل شهد له كل من عاينه قبل الاختبار، كما أنك إذا رأيت رجلا قد فتح باب دكانه على بزٍّ (1) علمت أنه بزّاز و إن لم تختبره، و إذا فتح على تمر علمت أنه تمار، و إذا فتح على عطر علمت أنه عطّار، و إذا رأيت بين يديه الكِير (2) و السندان(3) و المطرقة علمت أنه حداد، و إذا رأيت بين يديه الإبرة و الجَلَم (4) علمت أنه خياط، و كذلك صاحب كل صناعة إنما يُستدل على صناعته بآلته، فيُحكم بالمعاينة من غير اختبار، و لو رأيت بين يدي نجار قدوما و منشارا و مثقبا، و هو مستعد للمعمل بها، ثم سميته خياطا جهلت، و لو قال صاحب التمر لصاحب العطر: أنا عطار، قال له كذبت، بل أنا هو! و شهد له بذلك كل من أبصره من العامة، ثم كل صاحب صناعة و حرفة يفتخر بصناعته، و يستطيل بها، و يجالس أهلها، و لا يذمّها، و رأينا أصحاب الحديث ـ رحمهم الله ـ قديما و حديثا هم الذين رحلوا في طلب هذه الآثار التي تدل على سنن رسول الله، فأخذوها من معادنها، و جمعوها من مظانها، و حفظوها و اغتبطوا بها، و دعوا إلى اتباعها، و عابوا من خالفها، و كثرت عندهم و في أيديهم، حتى اشتهروا بها كما اشتهر البزّاز ببزّه و التمار بتمره و العطار بعطره، ثم رأينا أقواما انسلخوا من حفظها و معرفتها، و تنكبوا اتباع أصَحّها و أشهرها، و طعنوا فيها و فيمن أخذ بها، و زهّدوا الناس في جمعها و نشرها، و ضربوا لها و لأهلها أسوأ الأمثال، فعلمنا بهذه الدلائل الظاهرة و الشواهد القائمة أن هؤلاء الراغبين فيها و في جمعها و حفظها و اتباعها أولى بها و أحق من سائر الفرق الذين تنكبوا أكثرها، و هي التي تحكم على أهل الأهواء بالأهواء؛ لأن الاتباع عند العلماء هو الأخذ بسنن رسول الله التي صحت عنه عند أهلها و نقلتها و حفاظها، و الخضوع لها و التسليم لأمر النبي فيها تقليدا لمن أمر الله بتقليده و الائتمار بأمره و الانتهاء عما نهى الله عنه، و وجدنا أهل الأهواء الذين استبدوا بالآراء و المعقولات بمعزل عن الأحاديث و الآثار التي هي طريق معرفة سنة رسول الله، فهذا الذي قلناه سمة ظاهرة و علامة بينة تشهد لأهل السنة باستحقاقها، و على أهل الأهواء في تركها و العدول عنها ـ بأنهم ليسوا من أهلها، و لا نحتاج في هذا إلى شاهد أبين من هذا، و لا دليل أضوأ من هذا].

قلت: تأمل هذا ما أحسنه؛ فإن المؤلف وجد هذا الوصف الأخير علامة على استحقاق أهله لاسم السنة و انفرادهم بالحق، بيد أن الشيخ سلمان انعكس الفهم عنده؛ فأراه شيطان الحركة أن هذا تقوقع على جزء من الدين، و أنه سبيل مهلكة، و أراه المنقبة مثلبة، فالله المستعان.

ثم انطلق المؤلف ـ رحمه الله ـ في بيان أن بروز القوم في صورة أصحاب الحديث لا يغير من جوهر دعوتهم شيئا، فقال: [فإن قالوا: إن لكل فريق من الأهواء و أصحاب الآراء حججا من آثار رسول الله يحتجون بها، قلنا: أجل، و لكن يحتج بقول التابعي على قول النبي أو بحديث مرسل ضعيف على حديث متصل قوي، و من هنا امتاز أهل اتباع السنة عن غيرهم؛ لأن صاحب السنة لا يألو أن يتبع من السنن أقواها، و من الشهود عليها أعدلها و أتقاها، و صاحب الهوى كالغريق يتعلق بكل عود ضعيف أو قوي، فإذا رأيت الحاكم لا يقبل من الشهود إلا أعدلها و أتقاها، كان ذلك منه شاهدا على عدالته، و إذا غمص و قنع بأرداها، كان ذلك دليلا على جَوْره، و كان المتبع لا يتبع من الآثار إلا ما هو عند العلماء أقوى، و صاحب الهوى لا يتبع إلا ما يهوى و إن كان عند العلماء أوهاها، و كل ذي حرفة و صناعة موسوم بصناعته، معروف بآلته، متى أعوزته الآلة زالت عنه آية الصناعة و كذلك سمات أهل السنن و الأهواء وفي دون ما فسرناه ما يشفي، و الأقل من هذا يكفي من كان موفقا، و لحقه عون من الله ـ تعالى ـ.

قالوا: قد كثرت الآثار في يد الناس، و اختلطت عليهم، قلنا: ما اختلطت إلا على الجاهلين بها، فأما العلماء بها، فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة الدراهم و الدنانير، فيميزون زيوفها، و يأخذون جيادها، و لئن دخل في غمار الرواة من وسم بالغلط في الأحاديث، فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث و رتوت(5) العلماء حتى أنهم عدوا أغاليط من غلط في الأسانيد و المتون، بل تراهم يعدون على كل رجل منهم في كم حديث غلط، و في كم حرف حرّف، و ماذا صحّف، فإذا لم تُرج عليهم أغاليط الرواة في الأسانيد و المتون و الحروف، فكيف يروج عليهم وضع الزنادقة و توليدهم الأحاديث، يقول بعض الناس: (إن بعض الزنادقة ادعى أنه وضع ألوفا من الأحاديث، و خلطها بالأحاديث التي يرويها الناس حتى خفيَت على أهلها!!)، و ما يقول هذا إلا جاهل ضال مبتدع كذاب، يريد أن يُهجّن بهذه الدعوى الكاذبة صحاح أحاديث النبي و آثاره الصادقة، فيغلط جهّال الناس بهذه الدعوى، و ما احتج مبتدع في رد ّآثار رسول الله بحجة اوهى منها، و لا أشد استحالة من هذه الحجة، فصاحب هذه الدعوى يستحق أن يُسَفّ في فيه الرماد، و ينفى من بلاد الإسلام، فتدبر رحمك الله: أيجعل حكم من أفنى عمره في طلب آثار رسول الله شرقا و غربا، برا و بحرا، و ارتحل في الحديث الواحد فراسخ، و اتهم أباه و أدناه في خبر يرويه عن النبي إذا كان موضع التهمة و لم يحابه في مقال و لا خطاب؛ غضبا لله و حمية لدينه، ثم ألّف الصحف و الأجلاد في معرفة المحدثين و أسمائهم و أنسابهم، و قدر أعمارهم و ذكر أعصارهم و شمائلهم و أخبارهم، و فصل بين الرديء و الجيد، و الصحيح و السقيم؛ حنقا لله و لرسوله، و غيرة على الإسلام و السنة، ثم استعمل آثاره كلها، حتى فيما عدا العبادات من أكله و طعامه و شرابه، و نومه ويقظته، و قيامه و قعوده، و دخوله و خروجه، و جميع سيرته و سسنه، حتى في خطراته و لحظاته، ثم دعا الناس إلى ذلك و حثّهم عليه ندبهم إلى استعماله و حبب إليهم ذلك بكل ما يمكنه، حتى في بذل ماله و نفسه، كمن أفنى عمره في اتباع أهوائه و آرائه و خواطره و هواجسه، ثم تراه يرد ما هو أوضح من الصبح من سنن رسول الله و أشهر من الشمس، برأي دخيل، و استحسان ذميم، و ظن فاسد، و نظر مشوب بالهوى؟!

فانظر ـ وفقك الله للحق ـ أي الفريقين أحق أن ينسب إلى اتباع السنة و استعمال الأثر: الفرقة الأولى أم الثانية؟

فإذا قضيت بين هذين بوافر لُبّك، و صحيح نظرك، و ثاقب فهمك، فليكن شكرك لله على حسب ما أراك من الحق، و وفّقك للصواب، و ألهمك من السداد، و اختصك به من إصابة الحسن في القول و العمل،فإذا كنت كذلك فقد ازددت يقينا على يقين، و ثلجا على ثلج، و إصابة على إصابة، و مِن الله التأييد و التسديد و الإلهام و الإعلام، و هو حسب أهل السنة، و عليه توكلهم، و منه معونتهم و توفيقهم و نصرتهم، بمنه و فضله، و عميم كرمه و طوله].

---------------------------------------
1: أي الثياب.
2: هو زِقّ ينفخ فيه الحداد، كما في 'القاموس المحيط'.
3: السندان: زُبرة الحداد، كما في 'المصباح المنير' مادة: زبر، و الزبرة هي قطعة من الحديد ضخمة، كما في 'العَين' مادة: زرب.
4: هو من جَلَمَ الشيء، أي قطعه،و الجلم كالمقراض و ما يجزّ به، كذا في 'لسان العرب' باختصار في مادة جَلَمَ.
5: الرتوت: جمع رَتّ، و هو الرئيس من الرجال في الشرف و العطاء، و جمعه رتوت، و هؤلاء رتوت البلد، كذا في 'لسان العرب' مادة: رتت.
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 16 May 2008, 06:29 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

المنتسب إلى الدعوة السلفية ”يُقتل!“:

قال الشيخ عائض القرني في شريط سمعي: ’فرّ من الحزبية فرارك من الأسد‘: ”من أوجب على الناس أن يكون أحدهم إخوانيا أو تبليغيا أو سلفيا فإنه يُسستتاب و إلا قُتل!!!“.
قلت: هنيئا للشيخ عائض بقتل جميع الأمة إذاً؛ لأن الأمة في غالبيتها ليست إلا هذه الجماعات!!

إنه لا يُستغرب أن يقول مثل هذا أبو قتادة و أترابه، و لكن المستغرب أن يقوله من وُلد في بلد سلفي، و ينتسب لعلماء سلفيين، و يقول: سماحة الوالد ابن باز، و العلامة الألباني قرين أحمد بن حنبل الشيباني...!

ماذا يقول عائض في قول ابن تيمية كما في 'مجموع الفتاوى' (4 / 149): [لا عيب على من أظهر مذهب السلف، و انتسب إليه، و اعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقا]؟!

وكيف يستنكر عائض ضرورة كون المرء سلفيا، مع أن هذا الاستنكار هو شعار أهل البدع؟! قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في 'مجموعه' أيضا (4 / 155): [فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة، فعُلم أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف'.

و قال الذهبي في 'السير' (13 / 380): [فالذي يحتاج إليه الحافظ أن يكون تقيا ذكيا، نحويا لغويا، زكيا حييا، سلفيا...].

و قال في ترجمة الدارقطني (16 / 457): [لم يدخل الرجل أبدا في علم الكلام و الجدال، و لا خاض في ذلك، بل كان سلفيا].

و قال في ترجمة أبي طاهر السِّلفي (21 / 6): [...فالسِّلفي مستفاد من السَّلفي بفتحتين، و هو من كان على مذهب السلف].

و له كلام كثير مثله، و في 'مجموعة رسائل لإصلاح الفرد و المجتمع' للشيخ محمد جميل زينو (ص 126) أن الشيخ ابن باز سُئل عن الفرقة الناجية، فقال: [هم السلفيون، و من مشى على طريقة السلف الصالح].

و قال الشيخ ابن عثيمين في 'شرح العقيدة الواسطية' (1 / 54): [فأهل السنة و الجماعة هم السلف معتقدا، حتى المتأخر إلى يوم القيامة إذا كان على طريقة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أصحابه، فهو سلفي].

بعد هذه النقول السريعة، فما هو قول الشيخ عائض؟

و ما قيمة إنكاره السابق؟! قال الشيخ الألباني: [لا شك أن مثل هذا الإنكار ـ لو كان يعنيه ـ يلزم منه التبرؤ من الإسلام الصحيح، الذي كان عليه سلفنا الصالح، و على رأسهم النبي ت صلى الله عليه و سلم ـ، كما يشير الحديث المتواتر الذي في الصحيحين و غيرهما، عنه ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، فلا يجوز لمسلم أن يتبرأ من الانتساب إلى السلف الصالح، بينما لو تبرأ من أية نسبة أخرى لم يمكن لأحد من أهل العلم أن ينسبه إلى كفر أو فسوق...

و أما الذي يُنسب إلى السلف الصالح فإنه ينتسب إلى العصمة على وجه العموم، و قد ذكر النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ من علامات الفرقة الناجية أنها تتمسك بما كان عليه رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و ما كان عليه أصحابه، فمن تمسك بهم كان يقينا على هدى من ربه...

و لا شك أن التسمية الواضحة الجلية المميِّزة البيِّنة هي أن نقول: أنا مسلم، على الكتاب و السنة، و على منهج سلفنا الصالح، و هي أن نقول باختصار: أنا سلفي]، من مجلة 'الأصالة'، العدد (9)، في (ص 90)، بتاريخ (15 شعبان 1416 هـ).

و في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية بالملكة العربية السعودية، برقم (1361) (2 / 165-166) أنه طُرح السؤال الآتي: ما هي السلفية، و ما رأيكم فيها؟

فكان الجواب: [السلفية نسبة إلى السلف، و السلف هم صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أئمة الهدى من القرون الثلاثة الأولى ـ رضي الله عنهم ـ، الذين شهد لهم رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ بالخير في قوله: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء تسبق شهادة أحدهم يمينه، و يمينه شهادته" رواه أحمد في مسنده و البخاري و مسلم، و السلفيون جمع سلفي، نسبة إلى السلف، و قد تقدم معناه، و هم الذين ساروا على منهاج السلف، من اتباع الكتاب و السنة، و الدعوة إليهما، و العمل بهما، فكانوا بذلك أهل السنة و الجماعة].

إنه لمن المصائب العظام أن يُحوِجنا عائض إلى هذا العرض، و نحن و إياه في البلاد السلفية، لقد كنا في غنى عنه لو كان الولاء لأهل السنة السلفيين صحيحا، و لكن القطيعة الحركية تأبى ذلك!!!

و تَوجُّه هذه البلاد إلى إحياء سيرة سلفنا الصالح معلوم من خطاب قادتهما، قال الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ رحمه الله ـ: [يقولون: إننا وهّابية، و الحقيقة إننا سلفيون محافظون على ديننا، نتبع كتاب الله و سنة رسوله، و ليس بيننا و بين المسلمين إلا كتاب الله و سنة رسوله]، من مجلة 'السلفية'، العدد (5)، في (ص 20)، بتاريخ: (1420-1421 هـ).

هذه هي الدعوة التي قامت عليها هذه البلاد، فـ {لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} (الأعراف 56).

لقد وقع هؤلاء فريسة دعوة ’الإخوان المسلمين‘ الذين غزوا ديارهم بأفكار لم يكونوا يسمعون بها، و تلوّنوا بلونهم برهة من الزمن، و أعطوهم من ألسنتهم ما ليس في قلوبهم، حتى إذا ذلت لهم الطريق، و آنسوا من بلاد الغربة الرفيق، استولدوا بنات أفكارهم في أوكارهم، فتخرّج على أيديهم أشكال غريبة عن دعوة علمائهم، كهذين اللذين سبق ذكر شيء من إنتاجهما المصنوع على عين ’الإخوان‘ في الطعن على الدعوة السلفية.

و لقد قرأت نظما للشيخ عائض القرني في كتابه ’لحن الخلود‘، فما صدقت ما وجدت فيه من شركيات و بدع و ضلالات حركية، لو جاز أن نراها في جميع البلاد الإسلامية، ما جاز أن نراها في بلاد التوحيد و السنة، و لكن زهد هؤلاء في التوحيد و السنة هو الذي أوقعهم فيما يناقض التوحيد و السنة، منها الدعوة إلى شد الرحال إلى قبر النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ و الأمر بتقبيله، و طلب الشفاعة منه، وطلب النجاة يوم القيامة منه أيضا، و تكفير من لا يشتغل بفقه الواقع، و الاستخفاف بكتب الفقه، و التحريض على الخروج، و غيرها.

و قد سُقت شيئا منها في كتاب 'مدارك النظر في السياسة'، فلا أعيده، كما سقت هناك علاقة عائض بحزب ’الإخوان المسلمين‘، و أشرت إلى تزكيته العطِرة لرؤوسهم، فلا تغتر بما قاله هنا فيهم و في التبليغ؛ فإن المقصود الأول و الأخير بالطعن هو السلفيون، و إنما جَبن عن التصريح بهم وحدهم ليعمى على الناظرين الغرض المرمي؛ و إلا فإن موقفه المتميع من الجماعات معلوم!

و قد أرسل العلامة عبد العزيز بن باز رسالة إلى الشيخ عائض القرني يستتيبه فيها مما سبق و من غيره، و كذلك فعل العلامة النجمي ـ حفظه الله ـ، و هو مرجع أهل الجنوب في الفتوى بالسعودية، و انتقده بعلم و غيرة سلفية في كتابه 'المورد العذب الزلال فيما انتقد على بعض المناهج الدعوية من العقائد و الأعمال'، قال في (ص 37): [هل تذكر ـ يا شيخ عائض! ـ أني قلت حينما ممرتَ علي في خيمتي بعرفات من حج عام (1416 هـ)، و جرى بيننا النقاش حول بعض الخطاء التي صدرت منك، و احتججت بهذه الحجة: أي أنك قلتها (أي القصيدة) و أنت طالب في المعهد، فقلت لك: و لمَ سمحت بطلعها و نشرها؟ فسكتّ!!

و المهم أن هذه الحجة ليست بحجة، فإذا كنت قلتها قبل أن تكتمل بِنْيتك العلمية كان الواجب عليك أن تعدمها و أنت تعرف أنها خطأ؛ حتى لا يجدها بعض أبنائك فيغتر بها، و الحق أن نشرها يدينك، و التوبة تجبّ ما قبلها].

و فد أردت بهذا أن أبيّن للقراء أن هجوم ’فرقة الإخوان المسلمين‘ على بلاد التوحيد ليفسدوها كان قديما، كما ترى في شهادة الشيخ عائض هنا أنه اِلتقم ثدي الحركيين و هو في المستوى الثانوي، و الأغرب أنه لم يُفطم إلى يوم الناس هذا، ’و محاوراته الصحفية‘ اليوم ليست فطاما؛ و إلا فما يمنعه من أن يكتب كتابا يحذر فيه من الفكر الحركي الذي ورّطه فيما ورّطه فيه، و يعلن خروجه من تنظيمه، و قد تجرع مرّ تغريمه؟!

و أقْدم منه ما كان يُذاع في الإذاعة السعودية من كتب سيد قطب، قال سيد قطب في كتابه ’لماذا أعدموني؟‘ (ص 77): ”و من نحو ستة أشهر وردت إلي رسالة مسجلة من دار الإذاعة السعودية، مرفق بها تحويل بمبلغ (143 جنيها) على بنك بور سعيد، و ذكر في الرسالة أن هذا المبلغ هو قيمة ما أذاعته الإذاعة السعودية من أحاديث مقتبسة من كتابي ’في ظلال القرآن‘ في شهري شعبان و رمضان 1385 هـ، و كنت قد علمت أن الإذاعة السعودية تذيع أحاديث مقتبسة من كتابي منذ سنوات، و أنها مستمرة في إذاعتها، فلما قررت هي مكافأة معينة، رأيت أن أطالبها بقيمة السابق و اللاحق من الإذاعات، و هذا حقي طبيعي كمؤلف“.

قلت: لقد مكثت مدة طويلة و الحيرة تصاحبني من رجال نشأوا في بلاد التوحيد و السنة، يدافعون عن سيد قطب و كتبه التي حوت بدعا و ضلالات غليظة، كما سيأتي إن شاء الله؛ لأنه طبيعي جدا أن يدافع عنه بنو قومه المشاركون له في فكره، أما أن يتحول (أهل السنة!) أبواقا له، فهذا أمر عجب، لكن إذا عرف السبب بطل العجب، و السبب ما بينته لك قريبا.

و ثَم أمر آخر، و هو أن سيد قطب لم يتب مما في ’ظلاله‘ كما يُجهد بعضهم نفسه لإثبات ذلك؛ و إلا فما معنى طلبه أجرة على ما كتب، كما نقلناه قريبا من ’لماذا أعدموني؟‘، و هو آخر ما كتب؟! و ليس غريبا أن يطلب المؤلف أجرة على تأليفه، لكن الغريب أن تباع بدع و ضلالات بأجرة، و قد قيل: أحَشفًا و سوءَ كَيلة؟!

إن كثيرا من علماء بلدك ـ يا عائض! ـ الذين زهدت فيهم يعلّمون أحسن الموضوعات، و بأحسن بيان: بيان الكتاب و السنة، و لا يسألون عليه أجرا كما علمتُ و تعلم أنت، و شيخك في الحركة، يكتب بلا بركة، ثم يسأل ذلك أجرا، فانظر ما بين الرجلين لتعلم قيمة ما أضعت!

ثن إنني تصفحت كتاب القرني ’المسك و العنبر في خطب المنبر‘، فهالني أن أجد جل خطبه ذات طابع ثوري، تقطر بالعبارات المحرضة على الخروج، بل وجدته قد حفظ كل العبارات التي كنا نسمعها من ثوار الجزائر و مصر في حق دولهم، و اتخذها هو علكة يمضغها في خطبه، و ما درى أن تلك العلكة لو زُعم أنها تصلح لغير بلده، فإنها لا تصلح لبلده؛ لأنني رأيت ـ كما رأى هو أيضا إن أنصف ـ من إكرام المملكة لعلمائها و دعاتها ما لم تره عيني في بلد آخر!

فأيقنت أن الرجل صُوِّر له تمثيلية مصرية حركية؛ لأنه تربى على أيدي ’إخوان‘ ذاك البلد و خرافيّيه، يُراد نقل صورة صراعاتها السياسية إلى بلد آمن موحد سني، شَعبه منسجم مع ولاة أمره، الذين أكرموا الشيخ عائضا كغيره من الدعاة، فمكنته من الخطابة و الكتابة، و كذا المحاضرة في أي مكان شاء...

فكان من جزاء الرجل لدولته، أن توهم مرض تلك المسرحية قد انتقل إلى بلاده، و تصور دولته عدوا ملاحقا له، و تخيل السجون و القبور، و هو يغدو و يروح بين القصور، فيا لنلك المعركة بلا نقع، و لذلك الضِّراب بلا وقع!

و إليك بعضا مما وجدته في خطب الشيخ عائض القرني، مما دوّنه في كتابه ’المسك و العنبر‘، فقد قال و هو يتحدث عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ (1 / 34): ”قُتل هذا العظيم... و العظماء يُقتلون دائما؛ لتَعلم أنهم عظماء، فتعيش على نهجهم، و تنظم من دمائهم نظما زكيا تحيا به، و تبني من جماجمهم مكرمات ما كان لها أن تبنى، و تجعل من أشلائهم، تُحفا تتحدى بها التاريخ!!“.

قلت: و لا ريب أن هذه اللهجة معروفة لدى القارئ الحصيف، إنها لهجة من لا يعرف من سيرة الفاروق إلا ما يعرّض به عن سيرة ولي أمره؛ ليعرّف الناس فساد ما هم عليه من سكوت عن هذا الذي ينبغي ’أن تُنظم له دماء زكية لإسقاطه، و تبنى المكرمات على الجماجم، و أن يتركوا أشلاءهم تُحَفا للتاريخ!!!“.

فانظر كيف يدرسون سيرة العظماء العادلين، و لا تكن من المتغافلين!
إنهم لا يدرسونها و لا يدرّسونها إلا ليفهم الناس منها ’المواجهة‘ التي يسميها الفقهاء (خروجا)، و هم يسمونها ’مكرمة و دماء زكية و تحديا للتاريخ!!‘.

و قبل أن يرميني (متصولح) بأنني أدخل في النوايا لقرأ تصريحه نفسه بذلك في قوله في (1 / 356): ”إننا نتحدث عن علي بن أبي طالب في هذا اليوم؛ لأنه بطل المواجهة، و نحن نفتقر إلى المواجهة، لا نتحمل المواجهة!!!
أمة سلّمت قيادها لغيرها، أمة سُحقت كرامتها؛ لأنها لا تملك بطلا للمواجهة!!“.

قلت: فهل آن (للمتصولح) أن يفهم مراد القرني من الكرامة التي أراد أن يبنيها على الجماجم هناك؟!

ثم تابع القرني خطبته معرّضا بدولته و شعبه قائلا: ”أمة أصبح القرار بيد غيرها؛ لأنها لا تقوى على المواجهة!!“

و كونه لم يجد الأبطال، يدخل فيهم العلماء دخولا أوّليا؛ لأن العلماء أولى الناس بالبطولات و المكرمات، و الشيخ عائض يعلم جيدا الظن السيِّء الذي يكنّه شبابه خاصة لأهل العلم، فعلى أي محل تقع الخطبة عندهم؟!

و قال أيضا في (1 / 348): ”إننا نتحدث عن هذا البطل؛ لأننا في عصر نحتاج فيه إلى الأبطال فلا نجدهم! نبحث عن أبطال المواجهة في الحرب و السلم فلا نجد لهم أثرا!!“.

قلت: هذه خطب الجمعة في بلاد الشيخ عائض القرني: بلاد السعودية الآمنة!

تُرى: يواجه من؟

فإن قال المؤيد المتستر بالصلاح و الإصلاح: لعله يقصد بلادا أخرى؟

قلنا: فأنتم فقهاء واقع، فكيف لا تنطلقون من الواقع؟!!

ثم أنتم ترمون غيركم ـ ممن يشارككم في إثارة الفتن ـ بالجبن، فلِمَ جبنتم هنا عن التصريح بما في نفوسكم و أنتم أبطال المواجهة؟!

فإما هو يقصد السعودية كما هو واضح جلي، فهو إذًا على رأي الخوارج و المعتزلة في الإثارة و الخروج، و إما هو يقصد غيرها كما هو رأي (المتصولح المتغافل)، فأين فقه الشيخ للواقع؟! و الله المستعان.

أما قولي: إنه يعرّض بدولته و شعبه فهذا أوان بيانه، قال في (1 / 193): ”لا يُبعث نبي إلا و قد هيّأ الله هناك طاغية يتربص به، و لا يحمل رائد من روّاد الدعوة مبدأ إلا و يتهيّأ له ظالم يرصده...
قطيع الضأن: الشعوب التي لا تفهم إلا الخبز، و لا تفهم إلا الأكل، و لا تفهم إلا ثقافة القِدر و الجيب و البطن، تصفق للطاغية، و تحثو على رأس الداعية، الشعوب المهلهلة المهترية المتهالكة من داخل... !!“.

قلت: هذه الخطبة أيضا أُلقيت في بلاد الشيخ عائض!

قام الخطيب هنا بالطعن في شعبه و في دولته؛ أما الشعب فهو عنده قطيع ضأن، ليس يحسن إلا التصفيق للطاغية و أتباعه، و ليس له من دين سوى اللهث وراء ما يدخل بطنه!!

و أما الدولة فهي عنده طاغية، و إلا فمن هو المقصود من كلامه آنفا؟!

ثم لم يسلم إلا ’روّاد الدعوة‘، يعني نفسه و أمثاله ممن تفطن لما عليه الطاغية!!

هكذا تصوّر هذه البلاد، و على هذا التهييج على سفك الدماء تستثار عواطف الحضور، فبأي عقيدة يخرج الشاب الممتلئ حماسة من مسجد هذا الخطيب؟!

هذه الخطب لا تربي في نفوس الشعوب إلا الحقد على ولاة أمورهم، و هي أكبر عامل لحل معاقد أمورهم.

على هذه الخطب يتربى المراهقون السياسيون، و في أوكارها يفرّخ الخوارج المارقون، و لتجدنهم أحرص الناس على حياتها و تلميع أصحابها، و الأمر لله.

و كيف يكون تصور من يعيش خارجها؟!

إنه لا يتصور إلا السجون و الدماء، لاسيّما عند المبتدعة الحاقدين على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ، الذين يطربون لتصوير السعودية قاعدة من قواعد أمريكا في جزيرة العرب، و لا يهمهم في ذلك أدنى تحقُّق، بل لوجاءهم في ذلك خبر من إعلام الكفار لصدقوه بـ(نَعم)، و وافقوه بنهم!!

و لذلك بكى الشيخ عائض على استيلاء جبابرة على بلاد نجد في زعمه، و الذين حوّلوا أهلها ـ بجبروتهم ـ إلى يتامى ذليلين، حيث قال في كتابه ’لحن الخلود‘ (ص 46-47):

فبكت لمّا رأت نجدا و ما [][][] دمعها إلا معان و كلاما

وقال أيضا:

لا تحدثني عم العمران في [][][] أرضكم يا صاح و الأهل يتامى
أنا لا أَرغب سكنى القصر ما [][][] دام قلبي في حثى الذل مساما

و قال في أيضا في (ص 49):

لا تبع ذمّتك العظمى و لو [][][] ألبسوك بشتا ذهبي

قلت: البشت: هو الرداء الذي يلبسه المرء فوق ثيابه، مفتوح من قدّام فتحا كاملا، اشتهر بلبسه ذوو الوجاهة من الأمراء و العلماء، و قد قال الشيخ عبد العزيز بن علي الحربي في كتابه 'ما هبّ و دبّ' (ص 29): [و ليس في (القاموس) و لا في (اللسان) و لا في العربية أصلا لفظة (بِشْت بكسر الباء]، و أنشد في (ص 27):

و ليس في القاموس و اللسان [][][] لفظة (غترة) و لا (الفستان)
و (البشت) و (البوت) كذا (الفنيلة) [][][] و (الكلسون) ثم (بوت) (بوتة)

و المقصود أن الشيخ عائضا ههنا يطعن على العلماء بأنهم باعوا ذممهم لولاة الأمر بـ 'بشت ذهبي'!!

و تأمل دعوته إلى الدماء في قوله في (ص 56):

و عبيد الأرض لا حول لهم [][][] و زوال الملك عنهم في وشك
أيها المؤمن لا تحفل بمن [][][] يرفع السوط و يلقي الشرك
فارفع الذل و لا ترضى الخضوع [][][] لرئيس مستبد أو ملك
أنت كالبركان لا يُدرى به [][][] فإذا ثار تلظى و احترك
دمك الطهري لا بخل به [][][] و ابذل النفس بساح المعترك

هذه نماذج من خطب الشيخ عائض القرني و نظمه، هذه النماذج التي لا يرى فيها قوم ما يستنكر، مع أنها لو تليت على الأصم لأهطع!

و أخيرا،فإن ما تركته أكثر بكثير مما سقته هنا، و هو يحاول تشويه صورة العلماء، و أي علماء! !

كما يحاول تشويه صورة ولي أمره، و إظهاره للناس على أنه ’دكتاتوري‘ متغطرس، و لو كانت دولته ’دكتاتورية‘ كما تفوح به هذه الخطب الثورية، لما كان لمثله أن يرقى المنبر مجاهرا بلا تورية، أو تراه لو قالها في دولة الحَجّاج يبيت ليلة واحدة؟!!

قال الله ـ تعالى ـ: {و إذا قلتم فاعدلوا و لو كان ذا قربى} (الأنعام 152).
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 17 May 2008, 08:31 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

أبو قتادة يُسقِط العلماء و يزكي نفسه


لقد أجهد المشبوه نفسه لصرف الناس عن علمائهم كما نقلته آنفا،و أجهد نفسه لربطهم بالثوار، و حذرهم من الإنصات إلى مخالفة المشايخ لهم، كقوله في خطبته تلك: ”و خلاف المشايخ هذه الأيام هو أكبر حجة و مطية يمتطيها ضعيف النفس؛ ليتحلل من انتمائه للمجاهدين!!“

هكذا يدعو المشبوه الأمة إلى الاستقلال عن العلماء، و يزعم أن رجوعهم إليهم هو أكبر حجة للضعفاء، و الحقيقة أن أكبر حجتنا هو حجة الكتاب و السنة ـ و الحمد لله ـ، و أم العلماء فمن توفيق الله أنهم أكدوا لنا صحة هذه الحجة؛ لأنهم أوتوا من العلم ما يجعلنا نتقاصر دونهم، لله درهم.

و قد قال الله ـ تعالى ـ: {و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} (الشورى: 10)، و قال: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم و لا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} (الأعراف: 3).

و أما تزكية أبي قتادة لنفسه ففي قوله في خطبته تلك: ”مَن هذا الرجل الشجاع الذي يستطيع الآن أن يقف أمام دولة تأويه أو تحميه أو تعطيه لجوء، أن يقف مجاهرا: أنا أؤيد الجاهدين، أو أنا أؤيد أولئك حملة السلاح؟! من هذا الرجل الشجاع الذي يستطيع أن يقف هذا الموقف؟! لا ! إلا من أقامه الله ـ عز و جل ـ برهانا و بلاغا على بقية البشر... و إنها طريق لا بد أن يُسال فيها الدماء...!“

النقد:
لم يبق من هذه الكلمات إلا أن يُسمّي نفسه، و هنا مربط الفرس، و الهدف المنشود من كلماته تلك: أي أن يتخلص من فتاوى أهل العلم؛ ليقلدوا رقابهم فتاوى هذا الشجاع، الذي رأى أنه آوى إلى (ركن شديد!): بريطانيا، يُبَرجِم من وراء ديار الكفر، فيا لها من شجاعة نادرة !!

إذاً فليست الشجاعة عنده في شيء إلا شجاعة متكفف أموال بريطانيا، مستكنٍّ بنظام إيوائها، و من صرحها فليناد (الشجعان!)، و في حرم ديمقراطيتها يعيش من يخالف قول رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" رواه الترمذي، و هو صحيح!

إنه أبو قتادة الذي قال عن نفسه: ”أقامه الله برهانا و بلاغا على بقية البشر“!!

فهل يجد العقلاء أقبح من هذه الصراحة في أن الرجل يدعو إلى نفسه؟!

قال الله ـ تعالى ـ: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} (النجم 32)، و عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "ثلاثٌ مهلكاتٌ، و ثلاث منجيات، ثلاث مهلكات: شح مطاع، و هوى متبع، و إعجاب المرء بنفسه، و ثلاث منجيات: خشية الله في السر و العلانية، و القصد في الفقر و الغنى، و العدل في الغضب و الرضا" أخرجه الطبراني في 'الأوسط' (5584) و غيره، و حسنه الألباني في 'الصحيحة' (1802).

إن بلادك تلك ـ لندن ـ يعجبها منك أن تتخذها قاعدة تنفث منها سمومك على بلاد الإسلام، و يرضيها أن تظل بلاد الإسلام تحت نار الفتن، و على هذا فشجاعتك هذه تقدّم لها خدمة جليلة، فلتعطينّ لك و لأمثالك ألف بطاقة إيواء و لجوء و ... !

و لتوفرنّ لك أظفارك التي قلّمها لك أهل السنة، و لتربينّ لك أنيابك التي هتَمها لك أهل السنة، و لتجبرنّ لك قرنيك اللذين هشمهما لك أهل السنة؛ ما دام الذي بينك و بينها شمّ و تقبيل، و الذي بينك و بين بلاد الإسلام عض و تقتيل!

فكيف لا ترضى عنك، و أنت خير من توطن مواطنها، و إن لم تكن مواطنها؟!

و الله أعلم بحقيقة الحال، إلا أنه وعد فقال: {إن الله مخرجٌ ما تحذرون} (التوبة 64) !

أما وضع الجزائر، فحقيقته أن الخارجين على الأمة بالسيف ليس فيهم علماء، و رب السماء!

و إنما هي شهوة غضبية غازلها جهل بالنفس و تجهيل لأهل العلم، مما مكّن للرويبضة أن يولد ادلهمت الفتن و تتابعت الخطوب، و إنا لله!

إن الذي لم يسمُ به مستواه العلمي إلى أن يهتدي إلى الحق في مثل هذه المسألة، يكفيه أن يطّلع على أماراته؛ فإن من أمارات الخسران: عزل العلماء عن وظيفتهم و هم مرابطون على ثغورها و لكن لا تبصرون، و اغتصابها منهم بزعم تقصيرهم فيها، كما هو وصف الرويبضة الذي قال فيه رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدق فيها الكاذب، و يُكذّب فيها الصادق، و يُؤتمن فيها الخائن، و يُخوّن فيها الأمين، و ينطق فيها الرويبضة! قيل: و ما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة" رواه ابن ماجه، و هو صحيح.

و قد كان السلف يرون رجوع الناس إليهم من الفتنة المعجَّلة، و من ذلك ما حصل لسفيان بن عيينة ـ رحمه الله ـ أنه لمّا توفي جمع من أهل العلم رجع الناس إليه، فلم يفرح بذلك و لا دعا الناس إليه كما هو شأن المشبوه هنا، بل عدّه من الشقاء، فقد روى ابن أبي حاتم في 'الجرح و التعديل' (1 / 51) بسند صحيح عن أبي قدامة السرخسي أنه قال: سمعت ابن عيينة كثيرا ما يرثي نفسه يقول:
ذهب الزمان فصرت غير مسود [][][] و من الشقاء تفرّدي بالسؤدد

و في 'تاريخ نيسابور' لعبد الغافر الفارسي كما في 'المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور' (189) و 'تاريخ بغداد' للخطيب (9 / 177-187) عن محمد بن عمرو الباهلي يقول: [سمعت ابن عيينة يقول: كنت أخرج إلى المسجد فأتصفح الخلق، فإذا رأيت مشيخة أو كهولا جلست إليهم، و أنا اليوم قد اكتنفني هؤلاء الصبيان، ثم ينشد:
خلت الديار فسُدْتُ غير مسوّد [][][] و من الشقاء تفردي بالسؤدد
و إسناده صحيح؛ فإن إسماعيل بن نجيد الذي في إسناد 'تاريخ نيسابور' قد وثقه ابن الجوزي في 'المنتظم' (14 / 249).

قال الشيخ عبد الرحمن المُعَلّمي ـ رحمه الله ـ في تعليقه على كتاب ابن أبي حاتم: [أي صِرت سيدا و هو الصواب، أني لخلوّ الديار عن مستحق السيادة صرت سيدا!!]، و بوّب له ابن أبي حاتم بقوله: 'باب تواضع ابن عيينة و ذمه نفسه'.

هذا سفيان الذي كان جلّة العلماء يقصدون مجلسه لا يتكلمون بين يديه، كم روى ابن أبي حاتم في المصدر السابق (1 / 50) عن محمود بن آدم (الصدوق) قال: [ما رأيت وكيعا عند ابن عيينة قط إلا جاثيا بين يديه على ركبتيه ساكتا لا يتكلم].

أبو قتادة يطعن على كبار العلماء بالسعودية
قال المشبوه في مجلة ’الأنصار‘، العدد (128)، في (ص 7)، بتاريخ: (29 رجب 1416 هـ): ”لقد لستطاعت الحكومة الطاغوتية السعودية أن تجنِّد الكثير من المشايخ السلفيين في العالم عملاء لها يكتبون لها التقارير الأمنية عن نشاط الحركات الإسلامية، و هذه كذلك نتيجة سننيَّة؛ فإن السلفي الذي يعتقد بإمامة عبد العزيز بن باز و محمد بن صالح العثيمين و اللحيدان و الفوزان و ربيع المدخلي، كائنا من كان هذا السلفي، و من أي بلد كان، فإنه سيعتقد في النهاية بإمامة آل سعود؛ لأن مشايخه هؤلاء يدينون بالولاء و الطاعة لآل سعود، فإمام شيخي إمامي، و إمام ابن باز إمام السلفيين، و لذلك ففهد بن عبد العزيز هو إمام السلفيين في العالم أجمع...!!“.

قلت: تأمل هذا الأسلوب الخبيث الذي توصل به إلى الطعن على أهل السنة، إنه الآن يسميهم و يقرضهم بالمقاريض، بعد أن طال صبره بالتقية و المعاريض.

و تأمل أيضا هذا الأسلوب الخبيث الذي أراد به التوصل إلى الطعن على السلفيين جميعا؛ لأنه قال: ”كائنا من كان هذا السلفي! !“.

و قال أيضا في مقاله السابق: ”و قد أصبح هؤلاء السلفيون عملاء مرزقة... فهذا النوع من السلفيين علينا أن نضعهم في صف العملاء المرتزقة، لهم ما لهم، و عليهم ما عليهم من غير جمجمة و لا تقية! !“

و في (ص 5) جعل العلماء ”عيونا على المسلمين في مصلحة الطاغوت السعودي الخبيث! ! “، كذا قال تحت عنوان: ’من صميم المنهج! ! ‘

كل هذا ليخلص إلى القول في (ص 7): ”الحذر الحذر من هذه السلفية الخبيثة“!!

لا سبيل إلى الطعن على العلماء الذين يعترفون بإمامة ولي الأمر، ما لم يروا كفرا بواحا؛ لأن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أوجب على كل مسلم أن تكون له بيعة لولي أمره، فقال: "من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، و من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" رواه مسلم (1851)، و إن وجود الذنوب لدى السلطان لا يعدّ مسوغا شرعيا لخلع بيعته، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية" رواه مسلم (1849).

و إنما تُنقَض بيعة السلطان إذا كفر كفرا بيّنا صريحا ليس فيه لبس، فعن جنادة بني أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت و هو مريض، قلنا: أصلحك الله، حدّْث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، قال: دعانا النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا "أن بياعنا على السمع و الطاعة في منشطنا و مكرهنا، و عسرنا و يسرنا، و أثرة علينا، و أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" متفق عليه.

و العلماء هم أهل لأَن يروا ذلك الكفر البواح لو وُجِد؛ لأن العالم هو الذي يميّز الحق من الباطل، لذلك أنكر الله التسوية بين العالم و غير العالم، فقال: {قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} (الزمر 9)، فلا يجوز اتهام أهل العلم بالعمالة أو الضلالة بمجرد أن فتاواهم تخالف أهواء الثائرين على ولاة أمورهم، قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "ليس منا من لم يُجِلَّ كبيرنا، و يرحم صغيرنا، و يعرف لعالمنا حقه" رواه أحمد و الحاكم، و حسنه الألباني في 'صحيح الجامع' (4553).

صورة المقال السابق

[ ]

صورة المقال الذي بعده

[ ]

فتوى أبي قتادة في قتل الخطباء و العلماء

الحقيقة أن هذا الفكر كداء الكلَب، لا يجد صاحبه راحة في نفسه و لو أخذتْ نهمتها على رغبتها؛ لأنه بمثابة من يطفئ النار بالهشيم، و لذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "إنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عِرْق و لا مِفْصل إلا دخله" رواه أحمد (4 / 102) و أبو داود (4597)، و هو صحيح.

و كما رأيت ـ أخي القارئ! ـ أن المشبوه قد كفّر الحكام، ثم لم يكتف بذلك حتى كفّر جندهم؛ بدعوى أنهم سياج للحكام، ثم لم يكتف بذلك حتى دعا إلى تكفير العلماء و الدعاة الذين ليسوا معه و لا مع جماعته، و ما دام المشبوه لا يجرؤ في البداية على التصريح بحِلّ دمائهم، فإنه يفتري عليهم ليمهد لذلك، كأن يصفهم زورا بأنهم ينصرون المبدلين للشريعة، فقد قال تحت عنوان: ’فتاوى جهادية: فتوى عظيمة الشأن في حكم الخطباء الذين دخلوا في نصرة و تأييد المبدلين لشريعة الرحمن‘!!

هذا عنوان مقاله في العدد (92)، من مجلة الأنصار، في (ص 11)، بتاريخ (الخميس 13 من ذي القعدة 1415 هـ).

صورة المقال السابق (ص 11) منه

[ ]

صورة (ص 12) منه

[ ]

صورة (ص 13) منه

[ ]
و لا ريب أن كلمة ’نصرة‘ في هذا العنوان وضعها عمدا للتمويه؛ حتى يفهمها كل إنسان بحسبه:
- فمنهم من يرى سكوت خطيب المسجد عن مثالب الولاة نصرة لهم!
- و منهم من يرى كلام الخطيب عن حقوق الولاة نصرة لهم!
- و منهم من يرى أن عدم تكفير الخطيب للولاة نصرة لهم!
- و منهم من يرى أن تحذير الخطيب من التكفير نصرة لهم!
- و منهم من يرى أن بقاء الخطيب في وظيفته نصرة لهم!
- و منهم أشكال لا تُحصى...

فكل يطبّق حكم تكفيره للخطباء بحسب فهمه لهذا الوصف، أو بحسب حقده على من يحرص على تكفيره منهم، فتأمل!

و اعلم أنك إذا قرأت مقال المشبوه هنا تبين لك أنه يعني بالخطباء أولئك الذين لا يوافقونه و جماعته على تكفير الحكام الذين وصفهم جميعا بتبديل الشريعة، لا سيما و هو يكفرهم عينا، فقال: ”و صار أمر ردة هؤلاء الحكّام و طوائفهم من المعلوم ضرورة، و لا يجهله إلا من طمس الله بصيرته، و جهل حقيقة التوحيد الذي بُعث الأنبياء من آدم إلى إلى محمد ـ عليهم الصلاة و السلام ـ، و لمّا كان الشيطان و أتباعه و جنده و رجله يُنشئ في كل زمان من الشبه ما يصرف بها الناس عن حقيقة التوحيد و يلبّس عليهم حقيقة الشرك حتى يوقعهم فيه، فقد تكلم بعضهم و زعم أن تكفير المبدلين للشريعة أمر لم يعرفه الأوائل، و ليس هو من باب الردة الصريحة التي أبان السلف أمرها، و زعم من كان سكوته خيرا من كلامه أن هؤلاء الموحدين الذين كفّروا العصرية هم محدثون لهذا، و ليس لهم سلف من الأئمة الهداة، فإنا نسوق في هذه الورقات فتوى أطلقها الأئمة الذين عاصروا الدولة العبيدية عندما كانت في المغرب في حق حكامها و من دخل معهم من المشايخ و الخطباء الذين خطبوا على المنابر، و دعوا لهم بالتوفيق...“.

قلت: تلاحظ هنا أنه شبّه الحكام الذين سبق أن ذكرت بعضهم ممن يكفرهم هو بالعبيديين، و من العبث أن أحاول نفي هذا التشبيه؛ لأن شر البلية ما يضحك؛ و إلا فأين العبيديون الذين يجعلون الحاكم بأمر الله في رتبة الإله، و يلعنون أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أولهم و آخرهم، هذا بعض ما لديهم، أين هؤلاء من هؤلاء الحكام اليوم الذين لا يحب هو أن يجرى عليهم التفصيل الذي عند أهل السنة و الجماعة في المسألة أولا، و في أعيانهم ثانيا؟!

بل و أين الباطنية من هؤلاء الذين يصرحون بأنهم من أهل السن و الجماعة كحكام البلاد الجزائرية و السعودية و الأردن و اليمن و غيرها...؟ !

قال الذهبي ـ رحمه الله ـ في 'السير' (15 / 154): [و قد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد؛ لما شهّروه من الكفر الصراح الذي لا حيلة فيه].
رد مع اقتباس
  #15  
قديم 18 May 2008, 08:58 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

دليل المشبوه على المسألة:

إن الذي سدّ انتباهي عند قراءة فتواه هذه أنني وجدتها أفْرَغ من جيب مفلس؛ لأنها خالي من أدلة الكتاب و السنة!

فقلت: كيف يقول ’فتوى خطيرة عظيمة الشأن...‘، ثم يدعها عارية من دليل السنة و القرآن؟!!

إن هؤلاء يكفّرون الناس؛ لأنهم لا يحكمون بما أنزل الله في كل بقاع الأرض بزعمهم، ثم لا تجد في فتواهم شيئا مما أنزل الله: لا آية و لا حديثا، كيف تستقيم لهم هذه الدعوى؟!

كل ما عندهم: قال فلان.. و قال فلان.. كما هو الشأن في كل الصفحات الثلاث التي دوّن فيها المشبوه فتواه، من (ص 11) إلى (ص 13)، ليس فيها إلا تحاكمه إلى الرجال، و قد صوّرتها قريبا! !

أهكذا تُستباح رقاب العلماء؟!

و قد مرّ بنا قريبا رميه السلفيين بالتقليد، فها هو يستبيح الرقاب بمجرد التقليد، و من حفر حفرا لأخيه وقع فيه!

و الفتوى التي ضرب بها المثل لأهل السنة هي في حق الباطنية، فكأن الرجل يبحث عن أي شُبه تشبه ضلاله لينزّل حكمها على أهل زمانه، و هاك نموذجا مما استدل به، و هو أول فتوى نقلها في هذا العدد، قال: ”سُئل ابن عذرة عن خطباء بني عبيد، و قيل لهم: إنهم سنِّيّة؟ فقال: أليس يقولون: اللهم صل على عبد الحاكم ورثة الأرض؟ قالوا: نعم! قال: أرأيتم لو أن خطيبا خطب فأثنى على الله و رسوله فأحسن الثناء، ثم قال: أبو جهل في الجنة، أيكون كافرا؟! قالوا: نعم! قال: فالحاكم أشد من أبي جهل“.

ثم قال: ”قال عياض: و سُئل الدّاودي عن المسألة، فقال: خطيبهم الذي يخطب لهم يدعو لهم يوم الجمعة كافر يقتل و لا يستتاب، و تحرم عليه زوجته، و لا يرث و لا يورث، و ماله فيء للمسلمين... و أحكامه كلها أحكام كفر...“

هذان نموذجان من لفتاوى التي تحاكم إليها المشبوه؛ ليبرر ما فعله الغلاة من شرذمته في قتلهم الدعاة في الجزائر، و اختطاف الأئمة إلى غير رجعة، و تعذيبهم بأشد ما سمعت به الدنيا في عالم التعذيب و التنكيل، و الله المستعان!

و تصديق ذلك أن المشبوه كتب مقالا أراد أن يبرر فيه قتل جماعته للشيخ محمد سعيد الوناس في الجزائر كما سيأتي إن شاء الله، فأحال القارئ على فتواه هذه و قال: ”انظر الفتوى في كفر الخطباء و المشايخ الذين دخلوا في نصرة و تأييد المبدلين لشريعة الرحمن، بتعليقي! !“، و ذلك في العدد (132) من مجلته، في (ص 12)، و الأمر لله!

إذاً فالشيخ محمد سعيد هو عنده واحد ممن استحق القتل؛ لأنه في حكم الخطباء الذين دخلوا في نصرة المبدلين... ! !

فهذا التمثيل الذي مثّل به لتبرير قتل الشيخ يعتبر تطبيقا عمليا لفتواه تلك، و هو الذي هدانا لأن نفهم مراده من فتواه.

صورة المقال السابق

[ ]

و إذا كان المشبوه لا يخرج عن التقليد كما رأيت في خلوّ فتواه الأخيرة من الدليل، فكيف يتهم غيره بالتقليد؟!

ويقول في مجلة الأنصار، العدد (134) و قد سبق تصوريه، في (ص 5)، بتاريخ: (الخميس 12 رمضان 1416 هـ): ”و قوم آخرون زعموا التمسك بالسنة و بفهم السلف الصالح، و أخرجوا الناس من تقليد الأوائل، و لكنهم لم يبرؤوا من جرثومة التقليد، فأخرجوا الناس من تقليد الشافعي إلى تقليد ابن باز، و من تقليد مالك إلى تقليد ابن عثيمين، و من تقليد أحمد إلى تقليد الألباني، تحاور الرجل منهم الساعة و الساعتين، و ترمي بوجهه الدليل تلو الدليل فلا يجد في قلبه من الشر إلا أن يقول لك: و لكن الألباني يقول بغير ذلك؟! و لكن ابن باز لم يقل هذا! ! هل قال بهذا ابن عثيمين و ابن باز و الألباني؟! من قال بهذا؟!

و لو قلت له: (قال الأئمة العظام) لتعارض هذا القول في نفسه فيما يقول هؤلاء الذين اتخذهم آلهة من دون الله، و لا يقول ما يقولوا (كذا)، و لا يدين إلا بمذهبهم، و كأنهم أنبياء هذا الزمان،و كان من مقت الله تعالى لهؤلاء القوم أن مسخ الله قلوبهم و عقولهم؛ حيث جعل الإمامة ـ و هي أعلى المراتب و أشرفها في هذه الدنيا ـ من حق من مسخ الله قلبه و أتى المكفّرات العظيمة كآل سعود و الملك حسين و القذافي و صدّام و آل الصباح، فانتسابهم للسلف لم يعلمهم التوحيد الذي يوجب عليهم البراءة من كل طواغيت الأرض“!!!

و قد مرّ تصوير هذا العدد من مجلته.

النقد:

1- تأمل حَنَقَ الرجل على أهل العلم، و الريق المسموم الذي يقطر به لسانه تجاههم؛ بسبب مضايقة فتاوى أولئك الأكابر لهمجية هؤلاء الأصاغر.

و هذا سبيل جماعات التكفير اليوم مع هؤلاء المذكورين من العلماء، و لذلك فبمجرد ما تُوُفيّ هؤلاء اجتهد أولئك في التركيز على مسائل الإرجاء، و أعطوها حجما لا تستحقه؛ ليحوّلوا المعركة من حَلَبة الخوارج الحقيقية إلى حَلَبة المرجئة شبه الوهمية، مع أن الفساد الذي حصل من جهة الفكر الإرجائي لا يكاد يُذكر إلى جنب الفساد الذي حصل من جهة الفكر الخارجي!

إن الموفّق من جعله الله مرابطا على الثغرين جميعا: التكفير و الإرجاء؛ لأن كلا منهما بدعة شنيعة، لكن لينصِف المنصفون: أي البدعتين أتبع؟ و أيهما أشنع؟ و أي الساحتين أوسع؟

فإن عسر عليكم عد أحيائهم، فعدوا أمواتهم؛ لأن إحصاء الأموات أيسر، فانظروا أي المقبرتين أعمر؟

يضاف إلى ما سبق أن بعض مسائل الإرجاء المعروضة اليوم ـ و التي أقاموا عليها الولاء و البراء ـ مسائل نظرية، بل خيالية لا أرضية لها كما يقال؛ لأن أصحابها رموا بالإرجاء من لم يكفر تارك العمل، مع أنهم لم ثبتوا لنا مخلوقا يترك العمل كلية، و إنه لعجب أن تقوم معركة ساخنة على مسألة خيالية، و أن يقوم للولاء و البراء سوق على بضاعة لا رواج لها.

و يُضاف إليه أيضا أن بدعة الإرجاء ألصق بأصحاب الحركة اليوم منهم بغيرهم؛ أولئك الذين يستخفون بالتمسك بالسنة؛ فقد يصفون المتمسك بها متمسكا بالقشور! و يهوّنون من شأن البدع و أهلها، و يُجهدون أنفسهم للستر عليهم بتأويلاتهم المتكلفة، مع العلم أن البدعة شر من المعصية، كما هو معلوم لدى من أطلعه الله على آثار السلف في ذلك.

2- إن الإمامة ـ أي مرتبة الخلافة التي دندن حولها صاحب هذا المقال في آخر كلامه ـ ليست أعلى المراتب و لا أشرفها، لا في الدنيا و لا في الآخرة، وهذا القيد بـ ’هذه الدنيا‘ في كلامه المتقدم مُلغى لا معنى له، و إنما ذكره مراوغة و متنفسا يلجأ إليه إذا قيل له: إنك وقعت فيما يدّعيه الشيعة الروافض من الغلوّ في شأن الإمامة، كما نقل ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'منهاج السنة' (1 / 73-74) أن ابن المطهر الرافضي قال: ”فهذه رسالة شريفة، و مقالة لطيفة، اشتملت على أهم المطالب في أحكام الدين، و أشرف مسائل المسلمين، وهي مسألة الإمامة...“، ثم ردّ عليه بقوله (1 / 75): [إن قول القائل: ”إن مسألة الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين، و أشرف مسائل المسلمين“ كذب بإجماع المسلمين سنّيهم و شيعيّهم، بل هذا كفر؛ فإن الإيمان بالله و رسوله أهم من مسألة الإمامة، و هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام...]، إلى أن قال (1 / 78): [الثاني: أن يقال: الإيمان بالله و رسوله في كل زمان و مكان أعظم من مسألة الإمامة، فلم تكن في وقت من الأوقات لا الأهم و لا الأشرف.

الثالث: أن يقال: فقد كان يجب بيانها من النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ لأمته الباقين من بعده، كما بيّن لهم أمور الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج، وعيّن أمر الإيمان بالله و توحيده و اليوم الآخر، و من المعلوم أنه ليس بيان مسألة الإمامة في الكتاب و السنة كبيان هذه الأصول].

و قال: (1 / 98): [و أيضا فمن المعلوم أن أشرف مسائل المسلمين و أهم المطالب في الدين، ينبغي أن يكون ذكرها في كتاب الله أعظم من غيرها، و بيان الرسول لها أولى من بيان غيرها، و القرآن مملوء بذكر توحيد الله، و ذكر أسمائه و صفاته و آياته و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القصص و الأمر و النهي و الحدود و الفرائض، بخلاف الإمامة، فكيف يكون القرآن مملوءا بغير الأهم و الأشرف؟!].

قلت: و ما دام أمر الخلافة قد غلا فيه هذا و أمثاله إلى حد ما رأيت، فإنني انقل هنا كلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في رده على كلام الرافضي السابق، وهو رد على جميع الذين يستعظمون أمر الخلافة ـ التي هي حق بلا ريب ـ على استعظام التوحيد و أصوله و ثمراته، قال في (1 / 106-109): [من جعل هذا ـ يريد الإمامة ـ من الإيمان إلا أهل الجهل و البهتان، و سنتكلم ـ إن شاء الله ـ على ماذكره من ذلك.
و الله ـ تعالى ـ وصف المؤمنين و أحوالهم، و النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قد فسر الإيمان و ذكر شعبه، و لم يذكر الله و لا رسوله الإمامة في أركان الإيمان، ففي الحديث الصحيح حديث جبريل لمّا أتى النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ في صورة أعرابي و سأله عن الإسلام و الإيمان و الإحسان، قال له: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، و أن محمدا رسول الله، وتقيمَ الصلاة، و تؤتي زكاة، و تصوم رمضان، و تحج البيت"، قال: "و الإيمان أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و البعث بعد الموت، و تؤمن بالقدر خيره و شره"، ولم يذكر الإمامة.

قال: "و الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، هذا الحديث متفق على صحته...].

ثم قال: [وهَب أنّا لا نحتج بالحديث، فقد قال الله ـ تعالى ـ: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمان و على ربهم يتوكلون (2) الذين يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم و مغفرة و رزق كريم} (الأنفال 2-4).

فشهد لهؤلاء بالإيمان من غير ذكر الإمامة.

و قال ـ تعالى ـ: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} (الحجرات 15).

فجعلهم صادقين في الإيمان من غير ذكر الإمامة.

و قال ـ تعالى ـ: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين و آتى المال على حبه ذوي القربى و المساكين و ابن السبيل و السائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و آتى الزكاة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء و الضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون} (البقرة 177).

و لم يذكر الإمامة.

و قال ـ تعالى ـ: { ألم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهم ينفقون (3) و الذين يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك و بالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم و أولئك هم المفلحون} (البقرة 1-5).

فجعلهم مهتدين مفلحين و لم يذكر الإمامة].

سبحان الله! لو عُرض هذا الكلام على هؤلاء الحركيين من غير تصريح باسم صاحبه لأوشكوا على رميه بالعلمنة، و لكن يمنعهم من ذلك جلالة اسم ابن تيمية و هيبته، كما كان يجبن كثير من هؤلاء على رمي العلامة ابن باز ـ رحمه الله ـ بالإرجاء في حياته، و إن كانوا يعتقدون ذلك فيه؛ لأنه لم يعطهم ما يريدون من تكفير للحكّام، فلمّا تُوُفّي جاؤوا يركضون، فمنهم من آثر التلميح، يلسع إذا تمكّن، فإذا فُطن له تمسكن!

و منهم من ظاهره صمت، و باطنه مقت، قال الله ـ عز و جل ـ: {ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم و نجواهم و أن الله علام الغيوب} (التوبة 78).

و منهم من صرح بتبديعه بذلك، كذاك المرّاكشي بو النِّيت(1)!

ثم ذكر ابن تيمية ـ رحمه الله ـ شبهة السياسيين من الحركيين الذين يركزون في أحاديثهم على الخلافة، فقال (1 / 109-110): [فإن قيل: قد دخلَت في عموم النصوص، أو هي من باب ما لا يتم الواجب إلا به، أو دلّ عليها نص آخر.

قيل: هذا كله لو صحّ لكان غايته أن تكون من بعض فروع الدين، لا أن تكون من أركان الإيمان، فإن ركن الإيمان ما لا يحصل الإيمان إلا به كالشهادتين، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، فلو كانت الإمامة ركنا في الإيمان لا يتم إيمان أحد إلا به لوجب أن يبين ذلك الرسول بيانا عاما قاطعا للعذر، كما بيّن الشهادتين و الإيمان بالملائكة و الكتب و الرسل و اليوم الآخر، فكيف و نحن نعلم بالاضطرار من دينه ان الناس الذين دخلوا في دينه أفواجا لم يشترط على أحد منهم في الإيمان الإيمان بالإمامة لا مطلقا ة لا معيّنا؟!].

إن الحركيّين اليوم خرجوا على الأمة بتقسيم جديد للتوحيد، فأضافوا توحيد الحاكمية إلى التقسيم المعروف، و هو كلمة حق في جملته لا في تقسيمه، و لكن أُريد بها باطل؛ لأنهم أرادوا بذلك التخلص من مثل كلام ابن تيمية هذا من الأصول، أي أرادوا انتشالها من وضعها في باب الأحكام العملية السلطانية، إلى وضع عقدي، فلذلك حرصوا على ألا تكون إلا قسما مستقلا من أقسام التوحيد! !

و أنا ما أردت بهذا مناقشتهم في هذا بقدر ما أردت بيان تلاعبهم في استعمال المصطلحات الشرعية لتلبس ما يريدون من المعاني، و إلا فالمسألة تحتاج إلى تفصيل، و التفصيل لا يصلح أن نستدرج إليه مع ذوي الأغراض...

ثم كيف جعل المشبوه الخلافة أشرف المراتب و أعلاها في الدنيا، مع أن العالم أعلى درجة من الحاكم، بل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أعلاهم جميعا لمقام النبوة؟! بل كم نبي لم يُستخلف في الأرض، فهل يكون قد حُرم الشرف؟!!

قال ابن تيمية في 'المنهاج' (1 / 80): [إن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ لم تجب طاعته على الناس لكونه إماما، بل لكونه رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ إلى الناس، و هذا المعنى ثابت له حيا و ميّتا...].

و الحقيقة أنه ليس ثَمّ فرق كبير بين معتقد الرافضة في الإمامة و معتقد هؤلاء في الخلافة؛ لأن أولئك صرّحوا بلسان قالِهم، و هؤلاء صرحوا بلسان حالهم، و قد قيل: لسان الحال أنطق من لسان المقال، و الله المستعان.

و أعود للرد على المشبوه في مقاله ذلك، فأقول:

3- إن الذين ذكر أنه حاورهم فتركوا قوله لقول الجبال الثلاثة الأئمة الثقات الأثبات: ابن باز و الألباني و العثيمين ـ رحمهم الله ـ، أقول: قد أحسنوا صنعا، و فعلهم هذا هو عين الحكمة و هو سبيل العقلاء أتباع الكتاب و السنة، و ليس هو من التقليد المذموم في شيء؛ لأن ما حاورهم فيه من أمور الجهاد هو من نوازل هذه الأيام، و قد أمر الله عندها بالرجوع إلى أهل العلم، بل إلى أهل الاستنباط منهم، فقال: {و إذا جاءهم أمر من الخوف أو الأمن أذاعوا به و لو ردّوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء 83)، و قد بيّنتُ وجه استدلال أهل العلم بهذه الآية في مسائل النوازل، و ذكرت لذلك آثارا عن السلف في كتابي: 'مدارك النظر في السياسة' فلا أعيده.

و لو كان المشبوه عالما فتركوه لأولئك المجتهدين فلقد أحسنوا؛ استجابة لأمر الله في هذه الآية، فكيف و أحسن أحواله أنه مجهول؟!

4- في هذا النص شهادة من المشبوه على أن جهاده، بل (جهاد! !) أصحابه ـ أما هو فلا يجاهد! ! ـ ليس بجهاد شرعي؛ لأنه شهِد بنفسه أن أهل العلم ـ بل المجتهدين من أهل العلم في هذا العصر ـ يخالفونه فيه، و في هذا عبرة للذين لا يزالون يشكّون في رأي أهل العلم، و قد قال الله ـ عز و جل ـ: {و شهد شاهد من أهلها} (يوسف 26) !

5- ليس في الأخذ بأقوال أهل العلم و ترك أقوال هذا المشبوه تقليد مذموم؛ لأن العاقل إذا خُيّر بينهم و بين مجهول فلن يرضى بهم بديلا، كيف و قد صحّ في مسند أحمد و غيره أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

أقول هذا على افتراض أن العلماء المذكورين يُفتون بغير حجة، و إلا فقد عوّدونا تنوير فتواهم بحجة الكتاب و السنة، رحمهم الله.

6- لقد كفّر المشبوه السلفيين بتقسيمهم: العلماء، و أتباعهم من طلبة العلم و العوام، فأما العلماء فقد كفّرهم؛ لأنهم يرون إمامة بعض الحكّام و لا يشاركونه في تكفيره لهم، كما مر.

و أما طلبة العلم و من يتبعهم من عوام؛ فلأنهم يقلدون ابن باز و الألباني و ابن عثيمين ـ رحمهم الله ـ، حيث قال: ”يقول هؤلاء الذين اتخذهم آلهة من دون الله! !“

و أصرح منه قوله السابق: ”و صار أمر ردّة هؤلاء الحكام و طوائفهم من المعلوم ضرورة، و لا يجهله إلا من طمس الله بصيرته و جهل حقيقة التوحيد...“ ! !

و معلوم لديك ـ أخي القارئ! ـ أنه يقصد بـ”طوائفهم“ العلماء و العامة الذين لا يؤيدونه، و قد مر تصريحه بذلك، و باح به في خطبته المشار إليها، و شبيه به قوله في مجلة الأنصار، العدد (90)، في (ص 12)، بتاريخ: (الخميس 29 شوال 1415 هـ)، الموافق لـ (30/3/1995 م): ”و لذلك فليُعلم أن نساء و ذرية كل طائفة تعامَل معاملة الطائفة ممتنِعة (كذا) بقوة و شوكة التي انتسبت إليها... ! !“.

صورة المقال السابق

[ ]

--------------------------------------
1: لأخي الفاضل شوقي بن عوّاد العويسي ردّ عليه باسم 'رجوم المعتدين على العقيدة السلفية و دعاتها السلفيين'، سدد الله خطاه فيه و يسر له إتمامه، و الغريب أن كتاب المرّاكشي هذا طُبع قبل سنوات، و رمى فيه صاحبُه أئمة العصر: الألباني و ابن باز و ابن عثيمين بالإرجاء، و سمّاهم الثالوث، عامله الله بما يستحق، فلم نر من أهل (الغيرة! !) من المتظاهرين بالاهتمام بهذا الباب من تحرك لنصرة الحق و أهله، مع أنه قد اجتهد الشباب المتسمّم بداء التكفير لتلويث البيئة السلفية بمثل ما ذُكر، و لا يزال الصمت مخيّما! !
و لأخي الفاضل أبي رواحة عبد الله الموري اليماني نظم حافل بذكر السنة و مآثر أهلها من أئمة العصر، ضمّنه رثاء طيّبا بعنوان 'النهر العرسض في الذب عن أهل السنة بالقريض'، يرثي فيه جمعا من أهل العلم الذين توفّوا في وقت متقارب جدا أي من حوالي السنة العشرين من هذا القرن، و هم الشيخ محمد أمان، و الشيخ حمّاد الأنصاري، الشيخ ابن غصون، و الشيخ عبد الرزاق عفيفي، و الشيخ ابن باز، و الشيخ الألباني، و الشيخ ابن عثيمين، و الشيخ بديع الدين السندي، و الشيخ مقبل و غيرهم ـ رحمة الله عليهم ـ، أنقل منه ما يأتي مفرقا (ص 76-81):

لا النظم نظمي و الأشعار أشعاري [][][] و القريض قريضي يا ابنة الجار
في عقد عشرين حطّت كل فاجعة [][][] رحالها و تولّت حين إدبار
في عقد عشرين تبكي العين راضية [][][] فدمعها نازل كالغيث مدرار
على شيوخ لهدي المصطفى نشروا [][][] يعلنون سنّته في كل أمصار
إذا ابن باز بيوم الأمس ندفنه [][][] و اليوم ندفن شيخ العصر و الدار
يا ناصر الدين إن لم ترض جيرتنا [][][] فقد رضيت بأخرى جيرة الباري
بكت عليك رياض العلم دامعة [][][] و ذاب من فقدكم أشياخ أمصاري
كم بدعة يا إمام العصر كنت لها [][][] سدّا منيعا فصارت وسط غوار
كم منهج فاسد صيرت قامته [][][] قصيرة فاكتوى من ردك الناري
يا ناصر الدين من يَبكيك رائعةً [][][] أهل الهوى؟ لا و ربي الخالق الباري
فليس يبكيك إلا تابع سلفا [][][] و نهجه يُستقى من خير مختار
و من يردّ دعاة الغي إذا نعقوا [][][] إلا ابن نوح بسيف منه بتار
و كيف يستطيع خصم في مناقشة [][][] نقاش ذاك الهِزَبْر العاقر الضار
كم باحث ناقد في الشيخ خطّته [][][] و نقده لا يساوي عشر معشار
يسير خلف ذوي الأهواء مجتهدا [][][] و باعه لا يساوي شبر مغوار
يرميه زورا بذا الإرجاء في سفه [][][] ونهجه خارجي نهج جزار

و مما قاله أيضا في (ص 200):
ثم اتجهت لأرض مكة قاصدا [][][] في ذا شيوخ العلم و العرفان
حتى وصلت لدار شيخ عالم [][][] فذًّ نصوح ثابت الأركان
ذي حنكة و سياسة شرعية [][][] وذكاؤه قد فاق في الرجحان
هذا و إن له لفقها ظاهرا [][][] إذ صار مأخوذا من القرآن
وكذاك من قول النبي محمد [][][] و من اقتفاه بغابر الأزمان
فسألت من هذا و كلي دهشة [][][] من حفظه إذ كان ذا إتقان
و عجبت لمّا أن نظرت بوجهه [][][] فإذا له عينان لا تريان
و هنا أجابون بصوت خافت [][][] هذا ابن باز عالم رباني
أو ما نظرت لدمعه متحدّرا [][][] من خشية للخالق المنان
وَصَموك يا شيخَ الجزيرة حقبة [][][] بعمالة و جهالة سِيّان
لكن سيُوقف كل عبد شاتم [][][] يوم القيامة في الورى بعيان
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013