منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #16  
قديم 19 May 2008, 08:45 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

تكفير الرعية بكفر راعيها هو مذهب الخوارج


اعلم أن هذا الذي نقلته لك من تكفير المشبوه للناس بكفر حاكمهم هو قول فرقة من فرق الخوارج،قال أبو الحسن الشعري ـ رحمه الله ـ في 'مقالات الإسلاميين' (1 / 194) و هو يعدّد فرق الخوارج: [و قالت طائفة من البيهسية: إذا كفر الإمام كفرت الرعية، و قالت: الدار دار شرك،و أهلها جميعا مشركون، و تركت الصلاة إلا خلف من تعرف، و ذهبت إلى قتل أهل القبلة و ضيق الأموال، و استحلت القتل و السَّبي على كل حال].

قلت: كل هذه الأوصاف رأيتها في جماعات التكفير عندنا، مع ذلك زعم الحركيّون أن السلفيين يحيون مذاهب ماتت، و ينبشون قبورا درست، فأيّ الفريقين أحق بالجهل بالواقع إذاً؟! عافانا الله من البغي.

7- كيف يطمئن الناصح لنفسه إلى فتاوى المشبوه و ليس عنده إلا قال فلان.. و قال فلا..؟ !

ثم إذا رجعنا إلى هذه الأقوال وجدنا الأمر فيها على قسمين:
- إمّا كذب على أصحابها، كما ستراه في فصل: خياناته للأمانة العلمية.
- و إما تحريف للمعنى و تحميل لكلام العالم ما لا يحتمل،أو تنزيل لكلامه على غير محله، كما مرّ شيء منه، و سيأتي زيادة عليه ـ إن شاء الله.

8- لقد أخذ بكلامه شرذمته من الجزائريين و تركوا العلماء، فورّطهم في قتل النساء و العجزة و الصبيان و سائر المدنيّين فضلا عن العسكريين، و وجدوا أنفسهم في وضع لا يُحسَدون عليه، و قرعوا سنّ نادم حتى لعن بعضهم نفسه!

و لمّا أحس المشبوه ببشاعة الأمر و فداحة النتائج، و أن جاهه يكاد يسقط إلى غير نهوض، سحب البساط من تحتهم، و انسلّ من بين أيديهم ليصفهم بـ’الخوارج‘، فقال في تصريحه المذكور لجريدة ’الحياة‘، و قد مرّ تصويره: ”أسحب تأييدي لهم!“، و قال: ”انحرفت هذه الجماعة و سلكت خطّا هو خطّ الخوارج“!!

قلت: و هل ورّطهم في ذلك الخطّ سواك؟! و سيأتي ـ إن شاء الله ـ في فصل 'تنقضاته'.

9- لقد تعرض المشبوه في أول كلامه للمستبدلين شريعة الكفار بشريعة الله، و كفّرهم بذلك، و أنا لا أريد أن أناقشه في هذا بقدر ما أريد أن أبيّن للقارئ أن في عرض المسألة نفسها بهذه الصفة غلطا بيّنا، بل تغليطا مقصودا؛ و ذلك بطرح السؤال الآتي: من الذي غيّر الأحكام الشرعية: أهم الحكّام أم هو الاستعمار؟

إن الذي يطّلع على العرض السابق يفهم أن الحاكم الجزائري استلم الحكم بعد الاستعمار و بلاده تحكم بالشريعة الإسلامية، فجاء و أقصاها، و الحقيقة أن هذا الوصف خلاف واقع البلاد الإسلامية؛ فجاء و أقصاها،و الحقيقة أن هذا الوصف خلاف واقع البلاد الإسلامية؛ لأن جلّ هذه البلاد كان قد استعمره الكافر، و بثّ فيه ما بثّ من أحكام كفره، و غيّر ما كان أمكنه من دين الله ـ عز و جل ـ، هذا هو الوصف الصحيح لوضع أكثر بلاد المسلمين، بصرف النظر عمّا كان من كمال أتاتورك، و على هذا فالسؤال المطابق للواقع هو أن يُقال: ما حُكم من أسند إليه إمارة بلد لا يحكم فيه بشريعة الله في أكثر مناحي الحياة؟ ثم هو لم يغيّر ذلك بعد خروج المستعمر المستبدل؟

فمن عرض المسألة من أهل العدل على غير هذا التفصيل كان جاهلا؛ لأنه أخبر بخلاف الواقع، و من كفّر هذا الحاكم بلا تفصيل كان ظالما، و يوشك أن يكفّ النجاشي ـ رحمه الله ـ؛ لأن هذا الأخير لم يغير الأحكام النصرانية التي كان يحكم بها قبل إسلامه، قال ابن تيمية في 'منهاج السنة' (5 / 113): [و النجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يقرّونه على ذلك، و كثيرا ما يتولّى الرجل بين المسلمين و التتار قاضيا، بل و إماما، و في نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، و لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها].

و لا نقول هذا محاماة للمحرّفين لشريعة الله، و لكنّه العدل الذي أُمرنا به و لو مع المخالف، لأن الله قال: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط و لا يجرمنّكم شنآن قوم على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (المائدة 8)، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'منهاج السنة' (1 / 547): [أهل السنة يخبرون بالواقع و يأمرون بالواجب، فيشهدون بما وقع، و يأمرون بما أمر الله].

إن وجود قوانين وضعية في بلد ما لا يحملنا على أن ننسب إلى أميره وضعها، بل ينبغي النظر في تاريخها لمعرفة واضعيها، ثم بعد تصوُّرِ المسألة على حقيقتها يحكم المجتهدون من أهل العلم على أصحابها بما يدلّ عليه الدليل؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، و إنما يغلط من يغلط في هذا الباب من ذوي المقاصد السيّئة من لا يحبّ أن يلاحظ هذا و يجتهد في اللعب بالمصطلحات، و لذلك تجد الراسخين في العلم لا يتجاوبون مع أصحاب هذ الطرح، بل يأخذون كلامهم بحذر شديد، كما في أجوبة العلامة الألباني ـ رحمه الله ـ، و قد سمعت العلامة ابن باز ـ رحمه الله ـ في مناسبات شتّى يُعترَض عليه بمسألة الاستبدال هذه فلا يزيد على الجواب العام المعروف في كتب المتقدمين على آية الحكم بغير ما أنزل الله، و من أهل العلم من كان لا يجيب على هذا السؤال إذا شمّ من صاحبه تعنّتا خارجيا، رأيت ذلك في جواب العلامة ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ مرارا، لاسيما في آخر حياته.

و هذا كلّه يدلّ على فطنة نادرة عُرف بها هذا الطراز من أهل العلم، و لذلك لم يرفع المبتدعة من التكفيريين رؤوسهم في حياة هؤلاء، و يشبهه في الاحتراز من أغراض أهل البدع الدنيئة ما رواه ابن جرير في 'تفسيره' (11 / 253 – شاكر) وابن أبي حاتم في 'تفسيره' (7086 – الطيّب) و أبو الشيخ في 'طبقات المحدّثين بأصبهان' (1 / 352 – 353) بإسناد حسن، من طُرق عن يعقوب القمِّي عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى، قال: [جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الآية: {الحمد لله الذي خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام 1)، قال له: أليس الذين كفروا بربهم يعدلون؟ قال: بلى! قال: فنصرف عنه الرجل، فقال له رجل من القوم: يا ابن أبزى! إن هذا قد أراد تفسير هذه غير هذا؛ إنه رجل من الخوارج! فقال ردّوه علي، فلما جاءه، قال: هل تدري فيمن نزلت هذه الآية؟ قال: لا! قال: إنها نزلت في أهل الكتاب، اذهب و لا تضعها على غير حدّها!] و ابن أبزى هو سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، كما صرّحت بذلك رواية أبي الشيخ.

وروى ابن أبي حاتم في 'تفسيره' (7086 – الطيّب) من طريق يعقوب القمّي عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى عن عليّ، قال: (أتاه رجل من الخوارج فقال له: {الحمد لله الذي خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور ثم الذيم كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام 1)، أليس كذلك؟ قال: نعم! فانصرف عنه، ثم قال له علي: ارجع! ارجع!ارجع! أي قل إنّما أُنزلت على أهل الكتاب؛ و هم الذين عدلوا بربهم، يعني أهل الكتاب).

و هذا إسناد حسن إن كان ابن أبزى هو عبد الرحمن والد سعيد المذكور؛ فإنه يروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ و كلاهما يروي عنه جعفر بن أبي المغيرة، و ليس يبعد أن تقع القصة لابن أبزى كما في الرواية الأولى، و لعلي بن أبي طالب كما في الرواية الثانية؛ لوجود داعيه في وقت علي ـ رضي الله عنه ـ، و يكون علي قد فطن لما وراء السؤال، قال المعلّقان عن تفسير ابن جرير: [و أراد السائل من الخوارج بسؤاله الاستدلال بالآية على تكفير أهل القبلة في أمر تحكيم علي بنأبي طالب، و ذلك هو رأي الخوارج].

هذا و قد تعرضتُ هنا لمسألة (الاستبدال)، ومن قبلها لمسألة (ترك العمل) بهذه الطريقة؛ لأنني رأيت خلافا كبيرا قام عليهما، و فتنة عريضة شغلت أهل الخير عن الخير، و قُطِّعت أرحام أهل السنة بهما، بعد مكر من ذوي الأغراض الفاسدة، و خاض فيهما بعض الأفاضل، مع أن الأُولى نظريةُ أكثر منها عملية، و الثانية خياليّة أكثر منها واقعية كما مر، و قد ودِدنا أن لو صُرِفت هذه الجهود المضنية في غير هذا، و لكن الله يفعل ما يريد.

و قتلُ شيخ الأزهر أيضا!

لا يزال المشبوه يتبع خطوات الشيطان في غرور لا نظير له، و كلما رُسم له منها خيال تبعه، حتى جعل سبيل الخروج من المأزق متمثلا في اغتيال كل عالم يفتي بغير فتياه، قال في مجلة الأنصار، العدد (94)، في (ص 5)، بتاريخ: (27 من ذي القعدة 1415 هـ): ”نعم! لو قُدِّر لرجل مسلم يحترم عقله أن يرى شيخ الأزهر و هو يتكلّم في إحدى محطّات التلفزيون لأيقن أنه لا نهض لأمتنا،و لا خروج من مأزقها حتى ترفع شعار: اقتلوا آخر حاكم مرتد بأمعاء آخر قسِّيس خبيث“!!

قلت: هكذا حلولهم كلها دماء! !

و هنيئا له رفع شعار الكفار، و هو قولهم: ”اقتلوا آخر ملك بأمعاء آخر قِسِّيس“، بل حصر خروج أمة محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ في رفع شِعار الذين لا يؤمنون بالله و اليوم الآخر، و إنا لله!

و أقول للذين لا يزالون يرفضون نسبة هذه الدماء لهؤلاء: لعلكم تقولون: إن المشبوه من جند الدولة!

قلنا لهم: و كيف تفسّرون كون الجماعة الإسلامية المسلحة و غيرها تجعله مرجعا لها؟!

هذا لسان القوم: إنهم يجعلون انتصار الجماعات الثائرة انتصارا للإسلام، فإذا خُذِلوا بما يرتكبون من فظائع وجدوا السبيل إلى رمي غيرهم بها!

صورة المقال السابق

[ ]

تبرير أبي قتادة قتل محمد سعيد الونّاس

الشيخ محمد سعيد الونّاس ـ رحمه الله ـ كان من رؤوس (الإخوان المسلمين الإقليميّين) في الجزائر، و بحكم ممارسته للدعوة، فقد حاول المشاركة مع بعض الأحزاب السياسية التي ظهرت بقوة في حدود سنة (1410 هـ) تقريبا، مع أنه لم يكن مقتنعا بدخول الإسلاميين في ذلك التيار السياسي مرحليا لا منهجيا، فلم يشعر إلا و هو مع جبهة الإنقاذ الإسلامية التي حاربته من أوّل يوم و أهانته يوما ما أمام الملأ، ثم تبوّأ منها الصدارة بعد غياب شيوخها، هذا مع احتفاظه بفكره الذي كان لا ينسجم مع فكرة الجبهة المذكورة.

و كان لدى الرجل نوع تعقّل و روِيّة، لكن الجبهة التي ألقته السياسة بين مخالبها كانت عبارة عن خليط فكري لا يزكيه إلا التهوّر، فلذلك لم يجد (اللغة السياسية!) المناسبة ـ على اختلاف رطاناتها ـ التي يقنع بها الجميع، مع العلم بأن استعمال التعقل و الرَّويَّة يومها كان مرفوضا عندهم بلا مراجعة!

و أيام الفتن سريعة الحركة، قليلة البركة، يجتمع في ساعاتها محن سنوات، و تتبدل فيها الأرض في اليوم مرات و مرات، و لذلك حين أصاب الرجل من الفتن ما أصابه، اختفى خوفا على نفسه من السلطة، فإذا به يجد نفسه كمن فرّ من الذئب ليطّرِح بين فكّي الأسد، بين الجيش الإسلامي للإنقاذ و الجماعة الإسلامية المسلحة.

فالجيش الإسلامي للإنقاذ كان يمارس العنف بسياسة، فالمس مس أرنب، و الطبع طبع ثعلب، و أما الجماعة الإسلامية المسلحة فهي عرين غلاة التكفير، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، و أجهل من تكلّم في دين الرحمن، غِلاظ أجلاف كأن أسماعهم لم يطرقها آية رحمة، و لأسباب لسنا الآن بصددها فقد قتلوا الشيخ محمد سعيد الونّاس و لم يشعروا بأدنى تأثّم، لاسيما و هم يقرؤون قول صاحبهم أبي قتادة: ”من لم يندفع فساده إلا بقتله قُتل، و إن كان على معصية لا يستحق بها القتل!!“، من مجلة الأنصار، في عددها (132)، و (ص 11)، بتاريخ (27 شعبان 1416 هـ).

إنني أعلم لهذا الكلام الأخير حظّه من النظر عند الفقهاء، و لكن إلقاءه على هؤلاء هو الفتنة؛ لأن تطبيقه يرجع إلى السلطان،لا إلى هؤلاء الجهال الخارجين، الذين لا يملكون سلطة، بل من هوانهم على الله أنهم مختفون في الكهوف و الجبال، أكلهم سرقة و نهب، و قتلهم غدر و غضب.

و لذلك ذكر ابن تيمية هذه القاعدة في رسالته 'الحِسْبَة'، كما في 'مجموع الفتاوى' (28 / 108)، و جعلها من واجبات السلطان؛ بل منع صاحب الحسبة نفسه من تطبيقها؛ مع أنه مولّى من قبل السلطان، فقال في (28 / 109): [و ليست هذه القاعدة المختصرة موضع ذلك؛ فإن المحتسب ليس له القتل و القطع].

فإذا كان هذا في حق المحتسب، فكيف هو في الخارج المنتهب؟!

فانظر كم بين كلام الفقهاء و كلام السفهاء! !

صورة المقال السابق

[ ]

و هاك الآن تفسير أبي قتادة لعمل جماعته:

1- مفتي الجماعة يعترف بقتل جماعته الشيخَ محمد سعيد:

كتبت الجماعة الإسلامية المسلحة بيانا تعترف فيه بل تفتخر باغتيالها الشيخ محمد سعيد الوناس، فسارع أبو قتادة إلى التسديد و المقاربة، فقال في مجلة الأنصار، العدد (132)، في (ص 10)، بتاريخ (27 شعبان 1416 هـ):
”اعلم ـ أخي المسلم! ـ أن البيان الذي اطلعتَ عليه في العدد السابق في نشرية الأنصار قد أثار الكثير من التساؤلات حول حقيقة الواقع الذي تمّ موجبا لهذا البيان، وهو قتل الشيخ محمد سعيد الوناس و صاحبه عبد الرزاق رجّام و بعض أفراد تنظيمهم الذي كشفت ’الجماعة الإسلامية المسلحة‘ عنه“!

قلت: إذاً فهو اعتراف من الجماعة نفسها بأنها صاحبة الاغتيال، و بهذا تقطع الجماعة الطريق على أولئك المتكايسين من السياسيين الثوريين الذين يبرؤونها منه، و يلصقون هذا العمل و مثله دائما بالمخابرات... !

صورة البيان السابق

[ ]

2- وحوش أبي قتادة مجتهدون (كاجتهاد الصحابة!):

قال المشبوه في مقاله ذلك: ”اعلم ـ حفظك الله تعالى ـ أن المجتهد له أجر واحد إن أخطأ، و المصيب له أجران، و أن الخطأ في الدماء لا يكاد يسلم منه جهاد، و لا جهاد الصحابة...“ ! !

قلت: انظر كيف يهوّن من شأن الدماء بمثل هذا التبرير السمج، الذي لا يمكن أن يفهم منه أتباعه إلا الاستمرار في الهجوم على الدماء، و الله العاصم.

ثم أقول:
أ- من أين لهم أن قتالهم جهاد حتى يفرّعوا عنه ما ذكروه، فضلا عن أن يشبهوا أنفسهم بالصحابة؟!
ب- لو كان قتالهم جهادا، ما وقع فيه وقعَ اجتهادا، فمن أين لهم الاجتهاد و ليس فيهم نصف عالم؟!
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'الرد على الأخنائي' (ص 9-11):
[فإن من الناس من يكون عنده نوع من الدين مع جهل عظيم، فهؤلاء يتكلم أحدهم بلا علم فيخطئ، و يخبر عن الأمور بخلاف ما هي عليه خبرا غير مطابق، و من تكلم في الدين بغير الاجتهاد المسوّغ له الكلام و أخطأ فإنه كاذب آثم؛ كما قاله النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ في الحديث الذي في السنن عن بُريْدة عن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال: "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار و قاض في الجنة، رجل قضى على جهل فهو في النار، و رجل عرف الحق و قضى بخلافه فهو في النار، و رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة"، ثم قال في الرجل الأول: [فهو الذي يجهل ـ و إن لم يتعمّد خلاف الحق ـ فهو في النار، بخلاف المجتهد الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، و إن اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر"].

و قد فصلت القول في هذا في آخر كتابي 'مدارك النظر في السياسة'، في فصل 'شبهتان و الرد عليهما'، فليرجع إليه من شاء.

ج- ثَمّ فرق كبير بين جهاد الصحابة و جهاد هؤلاء؛ لأن الصحابة يندمون على أخطائهم و لا يعودون إليها، و أما هؤلاء فمستمرون على ما هم عليه، فإذا دخلوا المضايق و سدّت أمامهم المخارج نظروا في أعذار خيار أهل الأرض بعد الأنبياء، فتدّثروا بها، و إن لم يندموا يوما على فعالهم!

و ما أشبه هؤلاء باللصوص الفجرة الذين إذا ضُبِطوا قالوا: كان في مجتمع الصحابة لصوص! !

عن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال: "من قتل مؤمنا فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا و لا عدلا" أخرجه أبو داود (4270) و الطبراني في 'مسند الشاميين' (1311) و الضياء في 'المختارة' (416،417)، و هو صحيح.

قال خالد بن دهقان: [سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله "اعتبط' بقتله'؟ قال: الذين يقاتلون في الفتنة، فيقتل أحدهم، فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله، يعني: من ذلك، قال أبو داود: و قال: فاعتبط يصب دمه صبا].

هكذا رواه أبو داود (4271) و هو صحيح، و لا ريب أن هذا فعل من يريق داء الأبرياء و هو يحسب أنه يحسن صنعا!

و ضُبط بالغَين أي "فاغتبط"، أي سُرّ بقتله، و الله المستعان!

د- كان جيش أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ مشتملا على مجتهدين و علماء يُرجع إليهم، فيشملهم حينئذ حديث الأجر أو الأجرين المذكور آنفا، و أما هؤلاء المارقون فأتحدى جمعهم أن يثبتوا لنا واحدا معهم يكون من أهل الاجتهاد، و لو كان في سرداب الرافضة! بل لو جُمعت علومهم كلها في رجل واحد لما كوّنوا رجلا واحدا من علمائنا، و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، و سيأتي زيادة بيان ـ إن شاء الله ـ في ردّ تعلقهم بالشيخ الغنيمان.

هـ- يُفهم من كلام المشبوه هنا أنه يعترف بخطأ جماعته، و قد أراد إفهام القراء ذلك باستعماله هذا الأسلوب المرن، إلا أن الحقيقة خلاف ذلك، كما ستراه قريبا ـ إن شاء الله ـ في تبريره هذه الجريمة و تصويبه الجماعة فيها، و إنما يستعمل هذه الطريقة لمخادعة المؤمنين، قال الله ـ تعالى ـ: {يخادعون الله و الذين آمنوا و ما يخدعون إلا أنفسهم و ما يشعرون} (البقرة 9).

رد مع اقتباس
  #17  
قديم 20 May 2008, 10:08 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

3
- أبو قتادة يدافع عنهم مع اعترافه بأنه لايدري سبب فعلهم:

لقد كتبتْ جماعة أبي قتادة بيانا تفتخر فيه باغتيال الشيخ محمد سعيد الوناس و من معه، لكن أبا قتادة لم يتبين له السبب،و كتب مع ذلك مقاله السابق ـ و تأمل البرودة التي يتكلم بها في الدماء ـ فقال: ”و البيان لم يوضّح سببا شافيا و قاطعا لهذا القتل، بل أبقى الكثير من الاحتمالات، فإذا تعاملنا مع البيان فقط فهذا معتقدي، لكن عندي ما يجعل لقتله عذرا و تأويلا...“ !!

ثم ساق بعض الاحتمالات، و ذكر بعدها الحالات التي يجوز فيها الاغتيال، ثم عاد ليعترف ـ بعد دفاع مرير عن جماعته ـ في الصفحة التي تليها، فقال: ”و البيان الذي أخرجته الجماعة لم يحدّد لنا أحد هذه الأسباب“!!

و هذا اعتراف صريح منه بأنه يهرف بما لا يعرف، و بأنه ينصر من لا يعرف، فأين ذهب عن قول الله ـ تعالى ـ: {و لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (الإسراء 36)؟ !

و فيه شهادة صريحة منه على أن نصرته لهذه الجماعة ليس إلا عصبية جاهلية؛ فأين ذهب عن قول الله ـ تعالى ـ: {إلا من شهد بالحق و هم يعلمون} (الزخرف 86)؟ !

و أنا أنقل هذا من قلم صاحبه؛ لأبين للمتعاطفين مع جماعته أننا نتعامل مع قوم يتكلّمون في دماء المسلمين بعشوائية كاملة، و يلغون فيها بوحشية قاتلة، كفى الله المسلمين شر هؤلاء المجرمين.

4- تفسير أبي قتادة لقتل الشيخ محمد سعيد الوناس:
قال المشبوه في مقاله ذلك (ص 10): ”اعلم ـ حفظك الله تعالى ـ أنه لا أحد فوق شرع الله ـ تعالى ـ؛ لقوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرَق الشريف تركوه، و إذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، و أيمُ الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها" رواه البخاري في كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رُفع إلى السلطان، من حديث عائشة ـ رضي الله عنها.

على هذا، فإنه ليسوء المرء المسلم أن يقتل أمثال محمد السعيد ممن عُرف بلاءه (كذا) في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ، و ليس محمد السعيد ككل أحد، لكن لا ينبغي التهويش باسمه دون النظر المبصر لسبب القتل“!!

قلت: هذه مقدمة قدمها ليقبَل قوله الآتي في تصحيح ذلك العمل الإجرامي، فالله حسبه.

و سبق أن نقلت من كلام المشبوه اعترافه بأنه لا يملك سببا قاطعا لتفسير قتل الشيخ محمد سعيد، و في مقاله هذا نفسه اجتهد اجتهادا بالغا لتصحيح هذا العمل الإجرامي، بحيث تبقى جماعته بمنأى عن كل طعن، بل تأوّل كل ما أورِد عليها؛ حتى يبرهن على أنها هي الطائفة المنصورة المعصومة.

و في الوقت الذي يشهد فيه على نفسه بأنه لا يدري سبب القتل بالضبط، فقد جعل يتأول لوحوشه حتى يدخل عملهم ذاك في عِداد عمل الآدميين، بل و في عداد ما يأمر به شرع أرحم الراحمين!

و بسبب تهافته في تفسير هذه الوحشية، فقد تردد جوابه بين إحدى ثلاث:
- تفسيره الأول: اتهم الشيخ محمد سعيد بفتح باب الحوار مع الطواغيت، و هذا يستلزم عنده القتل بال كرامة، قال بعد مقاله السابق: ”و ليس محمد سعيد ككل أحد، و لكن لا ينبغي التهويش باسمه دون النظر المبصر لسبب القتل، و البيان لم يوضِّح سببا شافيا قاطعا لهذا القتل، بل أبقى الكثير من الاحتمالات، فإذا تعاملنا مع البيان فقط فهذا معتقدي، و لكن عندي ما يجعل لقتله عذرا و تأويلا؛ فمن أراد أن يفتح باب الحوار مع الطواغيت أو ينشئ علاقات مع طواغيت أجانب عن بلده كالقذافي و غيره، أو يسعى عاملا للعودة إلى الديمقراطية، فهذا حكمه القتل و لا كرامة، و الله الحافظ و الهادي إلى كل خير، و إن لم يكن لهم عذر صحيح فهم آثمون“!!

و اعلم أنه يقصد بقتله كفرا، إلا أنه جبن عن التصريح بذلك، لكنني لا أفضحه إلا بقلمه؛ فقد قال في (ص 12) من مقاله ذلك: ”و أنا أعتقد بكفر من رفع راية الديمقراطية في حزب أو تنظيم في وضع مثل الجزائر، فمن دعا إلى العودة إلى الديمقراطية و حلِّ الأزمة كما يسمّونها ـ كذبا و زورا ـ عن طريق العودة إلى البرلمان و التعددية الحزبية، و بالتآلف و التحالف الوطني فهو يُقتل ردة بعد استتابته إن كان مقدورا عليه، و بدون استتابة إن كان غير مقدورا عليه (كذا) كما في الجزائر، و خاصة أن أمثال هؤلاء دورهم الرئيسي هو القضاء على الجهد، و إعطاء فرصة للدولة الطاغوتية للاطمئنان و ترتيب أوراقها للقضاء على الإسلام و أهله“!!

قلت: لقد عمّم الكلام هنا، مع أنه يدري بأن الشيخ محمد سعيد كان ممن ينحون هذا المنحى الديمقراطي، كما مرّ!

- تفسيره الثاني: أن محمد سعيد كان من المبتدعة عنده، ثم تاب بعد القدرة عليه، و من كانت حاله كذلك جاز قتله عندهم؛ قال المشبوه في منشوره السابق (ص 11): ”كانت هناك وقفة طويلة لقتل التائبين من التهمة، و أن الرجل إن تاب فلا يحل قتله، فكيف قتلت الجماعة الإسلامية المسلحة التائبين؟“

ثم أخذ يجيب على السؤال، محاولا إخراجه من الصبغة الإجرامية إلى الصبغة الفقهية المحمية بـ(الخلاف السائغ!)، ثم قال: ”و البيان الذي أخرجَته الجماعة لم يحدد لنا أحد هذه الأسباب، و بالتحقيق تبين أن التوبة كانت بعد القدرة عليهم، هذا مع العلم أني أعتقد أن الأفضل أنه كان على الجماعة أن تعفو عن التائبين، و خاصة في هذا الظرف العصيب، و يعالجوهم بإحدى طرق التعزير الأخرى، و لكن هذا رأي، و الرأي غير ملزم، و في هذه الأمور إنما يمضي أمر صاحب الشوكة، و هو أمير الجماعة، لا أمثالي من الناصحين المناصرين“!!!

قلت: إذا فإهدار دم الشيخ محمد سعيد دائر عندهم بين فاضل و مفضول، و إلى الله تُرجع الأمور!

تناقض:
قد مر نقل كلام المشبوه في أن الداعي إلى الرجوع للحل الديمقراطي يُعدّ كافرا، و يقتل بلا كرامة و لو تاب، إذا كانت توبته بعد القدرة عليه، كما مرّ أن الشيخ محمد سعيد هو ـ عنده ـ من هذا الصنف، فكيف كان الأفضل عنده ألا يُقتل؟!

- تفسيره الثالث: أنه قُتل على أساس أنه مبتدع حاول الوصول إلى القيادة و تغيير منهجها؛ قال المشبوه في (ص 12): ”فالقول إن الجماعة الإسلامية المسلحة قتلت الشيخ محمد سعيد و عبد الرزاق رجّام؛ لأنهما مبتدعة على عقيدة الأشاعرة قول ينقصه الدليل“.

ثم كرّ على كلامه هذا بالإبطال، فقال: ”نعم! يجوز للأمير السني السلفي أن يقتل المبتدعة إذا حاولوا الوصول إلى القيادة و تغيير منهجها؛ لأن حالهم حينئذ أشد من حالة الداعي إلى بدعته، فالمبتدعة هنا دعاة و زيادة“!!!

قلت: سبحان الله! شريعتنا تدرأ الحدود بالشبهات، و هؤلاء يقتلون بأدنى الشبهات!

و أرواح الرجال تتردد عندهم بين الاحتمال و البهتان، و تزهق أرواحهم كما تُزهق أرواح الخرفان!

قال أبو العباس القرطبي ـ رحمه الله ـ في 'المفهِم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم' (5 / 27): [و الدماء أحق ما احتيط لها؛ إذ الأصل صيانتها في أُهبها، فلا نستبيحها إلا بأمر بيّن لا إشكال فيه].

قلت: قد عصم رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ دماء كفارٍ تابوا بعد القدرة عليهم، فالإطلاق السابق يقيّده ما جاء في الصحيحين البخاري (4019) و مسلم (95) عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن المقداد بن عمرو الكندي ـ وكان حليفا لبني زهرة، و كان ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ أخبره أنه قال لرسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: أرأيتَ إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أأقتله ـ يا رسول الله! ـ بعد أن قالها؟ فقال رسول الله ـ صلى اله عليه و سلم ـ: "لا تقتله؛ فإن قتلته فإنه فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، و إنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال".

قال النووي ـ رحمه الله ـ في 'رياض الصالحين (ص 186-الألباني): [و معنى "إنه بمنزلتك" أي معصوم الدم محكوم بإسلامه، و معنى "إنك بمنزلته" أي: مباح الدم بالقصاص لورثته، لا أنهم بمنزلته في الكفر، و الله أعلم].

تزكية أبي قتادة لجماعته بعد هذه الفظائع

قال المشبوه عند نهاية مقاله ذاك: ”و في الختام: إن الجماعة الإسلامية المسلحة بقيادة الشيخ أبو عبد الرحمن (كذا) أمين(1) هي راية أهل السنة و الجماعة على أرض الجزائر، و لا تسقط هذه الراية بالاحتمالات العقلية الجائزة، و لسنا بمغيرين ذلك إلا ببيّنة مثل عين الشمس، و الله الموفق“!!

و قال أيضا (ص 11): ”فالجماعة الإسلامية المسلحة لم يصدر منها ـ و إلى الآن ـ إلا التسديد و المقاربة في إصابة الحق و تحري منهج الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في قتالهم للمرتدين في الجزائر، فالواجب عدم إشاعة الفاحشة بمتابعة هوى النفس في إبطال هذه الراية و هذا المنهج“!!

قلت: و أي فاحشة أعظم من قوله: ’فتوى عظيمة الشان في جواز قتل الذرية و النسوان...‘؟ ! !و سيأتي إن شاء الله.

بهذا و ذاك الذي سبق يتبين أنه لم تكن هذه المحاماة المتهافتة من أجل حماية روح مسلمة، و إنما كانت من أجل إحياء جماعة من الوحوش الضارية و بعث نَفَس جديد لإجرامها، قال الله ـ تعالى ـ: {و لاتجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوّانا أثيما} (النساء 107).

أما كون وحوشه يتحرون منهج الصحابة، فأنّى لهم ذلك و هم من اجهل الخلق بدين الله، فكيف بمنهج الصحابة؟!

و هاك بعض ما كان عليه الصحابة و التورع في الدماء و التحرز من مواطن الفتن، أخرج البخاري (6863) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله).

و أخرج أيضا (4513) عن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس ضُيّعوا، و أنت ابن عمر و صاحب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، فقالا: ألم يقل الله: {و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة} (البقرة 193)؟ !فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة و كان الدين لله، و أنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة و يكون الدين لغير الله!).

و أخرج أيضا (4650) عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: (أن رجلا جاءه، فقال: يا أبا عبد الرحمن! ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: {و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} إلى آخر الآية (الحجرات 9)، فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي! أعيَّر بهذه الآية و لا أقاتِل، أحب إليّ من أن أعيّر بهذه الآية التي يقول الله ـ تعالى ـ: {و من يقتل مؤمنا متعمدا} إلى آخرها (النساء 93)، قال: فإن الله يقول: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} (البقرة 193)، قال ابن عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ إذ كان الإسلام قليلا، فكان الرجل يُفتن في دينه؛ إما أن يقتلوه، و إما أن يوثقوه، حتى كثُر الإسلام فلم تكن فتنة، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد، قال: فما قولك في علي و عثمان؟ قال ابن عمر: ما قولي في علي و عثمان؟ أما عثمان،فكان الله عفا عنه، فكرهتم أن يعفو عنه، و أما علي، فابن عم رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و خَتَنه، و أشار بيده: و هذه ابنته أو بنته حيث ترون!).

و في رواية عنده (4515) رجّحها ابن حجر في 'الفتح' (8 / 311) بلفظ (هذا بيته حيث ترون).

قال ابن حجر (8 / 310): [و أما قوله: فما هو قولك في علي و عثمان؟ فيؤيّد أن السائل من الخوارج؛ فإنهم كانوا يتولّون الشيخين و يحطّون عثمان و عليّاً].

و أخرج أيضا عن سعيد بن جُبَير قال: (خرج علينا أو إلينا ابن عمر، فقال رجل: كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال: و هل تدري ما الفتنة؟ كان محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقاتل المشركين، و كان الدخول عليهم فتنة، و ليس كقتالكم على الملك).

قلت: و لا ريب أن قتال هؤلاء اليوم على الملك، و إن بهرجوا بخلافه؛ لأنه من الصعوبة بمكان أن يشهد الإنسان على نفسه بأنه مبتغي دنيا و طالب ملك، و قد قال الله ـ عز و جل ـ: {أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسنا} (فاطر 8)، و إنما يعرف ذلك بقرائنه، و لو أرادوا بما فعلوا وجه الله لوقفوا عند حدوده، و لتعرّفوا على الحق فيه عن طريق أهله الذين هم العلماء، و لم يهجموا على الأرواح المعصومة لأدنى شبهة.

و قبل أن يعجل عليّ عَجِل، فإنني أنقل للقارئ الكريم شهادة عزيزة من المشبوه نفسه، يشهد فيها على قتال هذه الجماعات، فقد قال في ’الجهاد و الاجتهاد‘ (ص 305): ”إن الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ حركة بشرية، و حركة من أجل السلطان و الملك، ففيه تتداخل كل انفعالات الإنسان، و من دعا للسيف أو حرّض على السيف فلا ينتظر أن يناقشه الناس و يحاربوه بالخطب الرنّانة و الورق الصقيل، بل عليه أن يحضّر نفسه ليذوق حر السيف، هذه هي سنة الله ـ تعالى ـ“؟!!

قلت: هذه الشهادة الصريحة غريبة، لكنها وقعت كما نقلتُ، و هي تأكيد على أن الله هو الذي يوفق أهل التوفيق للخير، و أنه هو يخذل أهل الخذلان، و الأمور لا تجري على سَنَن الحيل و الذكاء، و لكن الله يحكم ما يريد!

و المتبع لأصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حقيقة لا ادعاء لا يختار لنفسه الدخول في هذه الدماء التي أُنتنت بها أرض الجزائر، بل يحقنها ما استطاع، و يتأسى في ذلك بالسيّد الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ، فعن الحسن البصري قال: (استقبل ـ و الله! ـ الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا توّلي حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية ـ و كان و الله خير الرجلين ـ: أي عمرو! إنْ قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟)، و ذكر القصة إلى أن قال الحسن البصري: (و لقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ على المنبر ـ و الحسن بن علي إلى جنبه ـ و هو يقبل على الناس مرة و عليه أخرى، و يقول: "إن ابني هذا سيد، و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين") رواه البخاري (2704).

و في رواية للآجري في 'الشريعة' (1659) تعليقا، و من طريقه عبد الغني المقدسي في 'تحريم القتل' (12)، و اسماعيل الخطبي في 'تاريخه' كما في 'الإصابة' لان حجر (2 / 72)، و من طريقه ابن عساكر في 'تاريخ دمشق' (13 / 234) قال الحسن (أي البصري): (فرآهم أمثال الجبال في الحديد، فقال: أضرب بين هؤلاء و هؤلاء في ملك من الدنيا؟! لا حاجة لي فيه)، و هو صحيح بشواهده الكثيرة التي منها ما رواه أحم في 'فضائل الصحابة' (1364)، و الآجرِّي في 'الشريعة' (1660) بإسناد صحيح عن رياح بن الحارث قال: (اجتمع الناس إلى الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ بعد وفاة علي ـ رضي الله عنه ـ، فخطبهم، فحمد الله ـ عز و جل ـ و أثنى عليه، ثم قال: إن كلّ ما هو آت قريب، و إن أمر الله ـ عز و جل ـ لواقع، ما له من دافع، و لو كره الناس، و إني ما أحب أن أليَ من أمر أمة محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ ما يزن مثقال ذرة حبة خردل يهراق فيها محجمة من دم، قد عرفت ما ينفعني مما يضرني، فالحقوا بطيبَتكم).

هذا هو عمل المصلحين، و هذا هو خوف المتورّعين، على الرغم من أنهم بهذه المثابة من الاستحقاق، و لكن حرمة المؤمن عظيمة،و ليس من الحكمة أن يصر المرء على السعي لتحقيق مصلحة محضة فيما يتوهّم، و يغفل عن مفسدة راجحة محدقة به، و التي قد تعطي نتيجة معكوسة غير متوقعة، كما قال الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ: (لو نظرتم إلى ما بين جابرس إلى جابلق ما وجدتم رجلا جده نبي غيري و أخي، أرى أن تجتمعوا على معاوية، {و إن أدري لعله فنتة لكم و متاع إلى حين} (الأنبياء 111)، قال معمر: معنى جابرس و جابلق: المشرق و المغرب) أخرجه عبد الرزاق (11 / 20980) و أحمد في 'فضائل الصحابة' (1355) و الطبراني (3 / 87) و الآجري في 'الشريعة' (1661) و غيرهم، و هو صحيح، و أخرجه الحاكم (3 / 175) بلفظ: (إن أكْيَسَ الكَيْس التُّقى، و إن أعجز العجز الفجور، و إن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا و معاوية حق لامرئ، و كان أحق بحقه مني، أو حق لي فتركته لمعاوية؛ إرادة استضلاع المسلمين و حقن دمائهم، {و إن أدري لعله فتنة لكم و متاع إلى حين} (الأنبياء 111)، أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم).

و في هذا دليل على سقوط تعليل علي بن حاج لما فعله الحسن ـ رضي الله عنه ـ، فقد قال في ’وجوب نصرة المجاهدين‘ (ص 29): ”إن الحسن عندما تنازل عن الخلافة لمعاوية لا على أنه أقر الاغتصاب؛ و الدليل على ذلك ما قاله عند التنازل: (ما أردت بمصالحتي معاوية إلا أن أدفع عنكم القتل؛ عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب! ! !“

قلت: ههنا ثلاثة أمور:
الأول: رمى علي بن حاج في هذا التحليل الصحابي معاوية ـ رضي الله عنه ـ بالاغتصاب، و الكلام في معاوية كاتب الوحي ـ رضي الله عنه ـ دليل فساد عند السلف، سيأتي ـ إن شاء الله ـ عند فصل علاقة المشبوه بسيد قطب.

و الذي يشد الانتباه أنه حكم في كتابه كله على المغتصب بالقتل، بل و بدخول النار، و من ذلك ما نقله عن الإخوانيِّ المرِّ الخالدي في (ص 31) مقرّا له على قوله: ”إن حكم اغتصاب السلطة هو مقاتلة المغتصب بالسلاح قتالا مستمرا حتى يخلع، و إن قُتل فهو في النار، هو و كل من يقاتل معه! ! !“.

أهكذا يعامل ’السني! ‘ صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أمينه على الوحي؟!

و قد عنون لفصل من كتابه في (ص 23) بقوله: ’اغتصاب السلطة جريمة يحاربها الإسلام‘، إذا فقد خُدع أهل السنة حين دافعوا في عقائدهم عن مجرم و امتحنوا الناس به، بل كيف خُدع المسلمون الأولون حين وكلوا أمر كتابة الوحي إلى مجرم، و إنا لله؟!

ثم نقل مثله في الصفحة نفسها عن المودودي و محمد الغزالي، و قد قيل:
وفي السماء طيور اسمها بَقَع [][][] إن الطيور على أشكالها تقعُ ! !

الثاني: أتى بقصة لا خطام لها و لا زمام كعادته، ثم بنى عليها ما يريد، و زعم أن الحسن ـ رضي الله عنه ـ ما منعه من قتال المسلمين إلا أنه لم يجد قوة، و صرّح به في (ص 30)، فقال: ”لو وجد قوة على المحاربة لفعل! ! “، و هذا خلاف الروايات الصحيحة التي نقلتها من قبل؛ إذ فيها أن الحسن كان يملك جيشا عرمرما، كما في الرواية: (كتائب أمثال الجبال)، إلا أن الذي منعه من خوض المعركة هو حقن دماء المسلمين، كيف لا و هو الذي يناصح أباه عليّا ـ رضي الله عنه ـ بترك القتال في المعارك التي كانت بين المسلمين، رضي الله عن الجميع، و كان أبوه ـ بعد ندمه ـ يذكر هذه الحسنة لابنه، و هي روايات صحيحة مشهورة.

الثالث:
إن ما جاء في الروايات الصحيحة التي سُقتها صريح في أن الحسن امتنع من دخول المعركة حقنا لدماء المسلمين جميعا، سواء معه، أو أولئك الذين يخالفونه من أهل الشام، أم علي بن حاج فقد جاء برواية أخرى لا خطام لها أيضا و لا زمام، أثبت بها أن الحسن ما أراد بحقن الدماء إلا دماء جماعته،فزعم في (ص 29) أن الحسن ـ رضي الله عنه ـ قال: (فصالحت بقيا على شيعتنا خاصة من القتل، و رأيت دفع هذه لحرب إلى يوم ما! !“.

و مما يفنّد دعوى علي بن حاج في أن الحسن ـ رضي الله عنه ـ لم يجد بمن يقاتل، ما رواه أبو نعيم في 'الحلية' (2 / 37) بإسناد صحيح عن جُبير بن نفير قال: (قلت للحسن (أي ابن علي ـ رضي الله عنهما ـ): إن الناس يقولون إنك تريد الخلافة؟ فقال: قد كانت جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت، و يسالمون من سالمت، فتركتها ابتغاء وجه الله وحقن دماء أمة محمد ـ صلى الله عيه و سلم ـ).

فهذا دليل واضح على أن الحسن ـ رضي الله عنه ـ كان يملك عُدة بشرية هائلة، أما علي بن حاج فقد صور هذا المصلح ـ رضي الله عنه ـ ريحانة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ سفّاكا للدماء، و أنه كان يتمنى إراقة دماء مسلمي الشام، فانظر ماذا تفعل السياسة البشرية بأهلها؛ إذ تُحوِّّل الآدمي من رجل سياسي إلى متوحّش دموي، لا يردّه دين، و لا يردعه تقوى، و قارن بينه و بين قول أهل السنة في هذا، قال الآجري ـ رحمه الله ـ عقب روايته التي سقتها أعلاه: [انظروا ـ رحمكم الله ـ و ميّزوا فعل الحسن الكريم بن الكريم، أخ كريم بن الكريم، ابن فاطمة الزهراء مهجة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ الذي قد حوى جميع الشرف، لمّا نظر إلى أنه لا يتم ملك من ملك الدنيا إلا بتلف الأنفس و ذهاب الدين، و فتنة متواترة و أمور تُتخوّف عواقبها على المسلمين، صان دينه و عرضه، و صان أمة محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و لم يحبَّ بلوغ ما له فيه حظ من أمور الدنيا، و قد كان لذلك أهلا، فترك ذلك بعد القدرة منه على ذلك؛ تنزيها منه لدينه، و لصلاح أمة محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و لشرفه، و كيف لا يكون ذلك، و قد قال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "إن ابني هذا سيّد، و إن الله ـ عز و جل ـ يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، فكان كما قال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، رضي اللخ عن الحسن و الحسين و عن أبيهما و عن أمهما، و نفعنا بحبهم].

تنبيه:
كان حق كتاب علي بن حاج المسمى ’وجوب نصرة المجاهدين‘ أن يسمى: ’وجوب نصرة الديمقراطيين‘؛ فإن صاحبه قرّر مذهبهم بحماسة منقطعة النظير، و دافع عن مبدئهم في أن الحكم يرجع إلى الشعب باستماتة، كما في (ص10، و 23، و 24، و 25، و 26، و 29، و 30، و 31، إلى آخر الكتاب)، فهذه الصفحات، و ذاك المداد الكثير كلّه مهر للديمقراطية، كما طعن في الصحابة: معاوية و أبي موسى الأشعري، و عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهم ـ، إلى أن شبّههم في (ص 34، و 35) بلجنة الحوار الوطني الجزائرية، التي يكفّرها هو نفسه! !

و لولا أنني في غير هذا الصدد لبيّنت فيه مواضع أخرى من الضلال، و الله المستعان.

و من نظر إلى حال هؤلاء الدعاة السياسيين اليوم وجدهم صائرين في النهاية إلى تكفيريين أو إلى ديمقراطيين، فهل هذا علامة على التوفيق أو هو علامة على الخذلان؟!

و لو تأمل علي بن حاج حاله: من أين بدأ و إلى أين انتهى لعرف الجواب؛ فإن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "إنما الأعمال بالخواتيم" متفق عليه، و الله العاصم! !

ثم أعود لأقول: كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنهم ـ يفرّون من مواطن الفتن و الدماء، فعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: (إني لأعرف رجلا لا تضره الفتنة: محمد بن مَسلَمة، فأتينا المدينة، فإذا فُسطاط مضروب، و إذا فيه محمد بن مسلمة الأنصاري، فسألته، فقال: لا أستقر بمصر من أمصارهم حتى تنجلي هذه الفتنة عن جماعة المسلمين) رواه الحاكم (3 / 434)، وقال: [هذه فضيلة كبيرة بإسناد صحيح]، و وافقه الذهبي على تصحيحه.

و قد كان علي ـ رضي الله عنه ـ يلوم محمد بن مسلمة على عدم مشاركته في قتال الفتنة المعروفة، فعن الحسن البصري قال: (إن علياّ بعث إلى محمد بن مسلمة، فجيء به، فقال: ما خلّفك عن هذا الأمر؟ قال: دفع إليّ ابن عمك ـ يعني النبي صلى الله عليه و سلم ـ سيفا، فقال: قاتل ما قوتل العدو، فإذا رأيت الناس يقتل بعضهم بعضا فاعمد به إلى الصخرة، فاضرب بها، ثم الزم بيتك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة، قال (أي علي): خلّوا عنه) رواه أحمد (4 / 225) و ابن أبي شيبة (7 / 457، 452) و الطبراني في 'الأوسط' (1289) و في 'الكبير' (6 / 32) و غيرهم، و هو صحيح إن كان الحسن سمع من محمد بن مسلمة؛ لأنه عاصره و كان في بلدته، و إلا فهو حسن لكثرة طرقه.

فأنت ترى تورع الصحابة عن المشاركة في الدماء، على الرغم من أن الذين دعوهم إلى ذلك من أمثال الزبير و علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ، و معرفة المصيب من المخطئ في تلك القضايا كانت ممكنة، لكن شأن الدماء عظيم.

و قد قال مروان بن الحكم لابن عمر: هلمّ أبايعك؛ لأنك سيّد العرب و ابن سيّدها، فقال ابن عمر: (كيف أصنع بأهل المشرق؟ و الله! ما أحب أنها دانت لي سبعين سنة، و أنه قتل في سببي رجل واحد! فخرج مروان و هو يقول:
إني أرى فتنة تغلي مراجلها [][][] و الملك بعد أبي ليلى لمن غلبا.
أخرجه ابن سعد في 'الطبقات' (4 / 169) و ابن أبي الدنيا في 'الإشراف في منازل الأشراف' (7) و ابن عساكر في 'تاريخه' (31 / 185) و عبد الغني المقدسي في 'تحريم القتل و تعظيمه' (85)، و إسناده حسن كما قال محقق المرجع الخير.

هذا هو ورع أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و خوفهم من تبعة الدماء، و قد كانوا يتّهمون خيرة الناس في وقتهم بالتلبس بالدنيا إذا وجدوهم يشاركون في الفتن و لو كانت باسم الجهاد، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'منهاج السنة' (5 / 152-153): [و بالجملة العادة المعروفة أن الخروج على ولاة الأمور يكون لطلب ما في أيديهم من المال و الإمارة، و هذا قتال على الدنيا، و لهذا قال أو برزة الأسلمي عن فتنة ابن الزبير و فتنة القرّاء مع الحجاج و فتنة مروان بالشام: (هؤلاء و هؤلاء إنما يقاتلون على الدنيا!).

قلت: و قد روى هذا الأثر ابن سعد في 'الطبقات' (4 / 300) و أبو نعيم في 'الحلية' (2 / 32-33) بإسناد قوي عن أبي المنهال قال: (لمّا كان زمن أخرج ابن زياد وثب مروان بالشام، و ابن الزبير بمكة، و وثب الذين كانوا يُدعون القرّاء بالبصرة، غمّ أبي غمّّاً، و كان يثني على أبيه خيرا، قال: قال لي: انطلق إلى هذا الرجل الذي من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: إلى أبي برزة الأسلمي، فانطلقت معه حتى دخلنا عليه في داره، و إذا هو في ظلٍّ علوٍّ ه من قصب في يوم شديد الحر، فجلست إليه، قال: فأنشأ أبي يستطعمه الحديث، و قال: يا أبا برزة! ألا ترى؟ قال: فكان أول شيء تكلم به أن قال: إني أحتسب عند الله ـ عز و جل ـ أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش، و أنكم ـ معشر العرب! ـ كنتم على الحال الذي قد علمت من جهالتكم و القلّة و الذلّة و الضلالة، و أن الله ـ عز و جل ـ نعَشَكم بالإسلام و بمحمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ خير الأنام، حتى بلغ بكم ما ترون، و أن هذه الدنيا هي التي أفسدت بينكم، و إن ذاك الذي بالشام ـ و الله! ـ إن يقاتل إلا على الدنيا، و إن الذي حولكم الذين تدعونهم قرّاءكم ـ و الله! ـ لن يقاتلوا إلا على الدنيا، قال: فلما لم يدع أحدا، قال له أبي: بما تأمر إذاً؟ قال" لا أرى خير الناس اليوم إلا عصابة ملبّدة، خماص البطون من أموال الناس، خفاف الظهور من دمائهم).

قلت: تأمل قوله: (إني أحتسب عند الله ـ عز و جل ـ أني أصبحت ساخطا على أحياء قريش)؛ فإن معناه أنه يتقرّب إلى الله ـ عز و جل ـ بسخطه على الذين دخلوا في هذا الأمر من الخروج، مع أن الخارجين ذوو قدر و جلالة، و المخروج عليهم ذوو إفساد و صيالة، كالحجاج بن يوسف، فكيف لو رأى هؤلاء اليوم؟! و الله وليّ التوفيق.

و لذلك قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'منهاج السنة' (4 / 468): [و قتال الفتنة مثل قتال الجاهلية، لا تنضبط مقاصد أهله و اعتقاداتهم].

و كي لا يقول قائل: إن هذه الأحاديث و الآثار ليست في بابنا،؛ لأن قتال المشركين غير قتال المسلمين، فإنني أنقل هنا قصة في قتال المشركين استدل بها الصحابي على المنع من قتال المسلمين، و هي ما رواه مسلم (160) عن صفوان بن محرز: (أن جند بن عبد الله البجلي بعث إلى عسعسَ بن سلامة زمن فتنة ابن الزبير، فقال: اجمع لي نفرا من إخوانك حتى أحدّثهم، فبعث رسولا إليهم، فلما اجتمعوا جاء جندب و عليه برنس أصفر، فقال: تحدّثوا بما كنتم تحدّثون به، حتى دار الحديث، فلما دار الحديث حسر البرنس عن رأسه، فقال: إني أتيتكم و لا أريد أن أخبركم عن نبيّكم(2)، إن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ بعث بعثا من المسلمين إلى قوم من المشركين، و إنهم التقوا، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقص إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، و إن رجلا من المسلمين قصد غفلته، قال: و كنا نتحدث أنه أسامة بن زيد، فلما رفع عليه السيف، قال: لا إله إلا الله، فقتله! فجاء البشير إلى النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فسأله فأخبره، حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع، فدعاه فسأله، فقال: لم قتلته؟ فقال: يا رسول الله! أوجع في المسلمين، و قتل فلانا و فلانا، و سمّى له نفرا، و إني حملت عليه، فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله! قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: أقتلته؟ قال: نعم! قال: فكيف تصنع بـ(لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟! قال: يا رسول الله! استغفر لي، قال: و كيف تصنع بـ(لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟! قال: فجعل لا يزيده على أن يقول: كيف تصنع بـ(لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟!).

قلت: تأمل، فإن القتال هنا مع ابن الزبير، ابن حواري رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و قد بويع له قبل خصمه، مع ذلك منعوا من الخروج معه، فأي حجة أكبر من هذه يريد القوم؟!

----------------------------

1: هو جمال زيتوني، أمير الغلاة قبل أن يهلك.
2: قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه: [فكذا وقع في جميع الأصول، و فيه إشكال من حيث إنه قال في أول الحديث: (بعث إلى عسعس، فقال اجمع لي نفرا من إخوانك حتى أحدّثهم، ثم يقول بعده: أتيتكم و لا أريد أن أخبركم)، فيحتمل هذا الكلام وجهين:
أحدهما: أن تكون (لا)زائدة، كما في قوله ـ تعالى ـ: {لئلا يعلم أهل الكتاب} (الحديد 29)، و قوله ـ تعالى ـ: {قال ما منعك ألا تسجد} (الأعراف 12).
و الثاني: أن يكون على ظاهره: أتيتكم و لا أريد أن أخبركم عن نبيكم ـ صلى الله عليه و سلم ـ، بل أعظكم و أحدثكم بكلام من عند نفسي، لكني الآن أزيدكم على ما كنت نويته، فأخبركم أن رسول الله ت صلى الله عليه و سلم ـ بعث بعثا، و ذكر الحديث، و الله أعلم].

التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 20 May 2008 الساعة 10:15 PM سبب آخر: تصحيح
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 21 May 2008, 09:59 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

فتوى أبي قتادة في قتل النساء و الأطفال

وصف حال الإجرام التي وقعت في الجزائر


قبل أن أخوض في الموضوع، أعرض على القارئ بعض الصور الإجرامية التي وقعت في الجزائر باسم الجهاد في سبيل الله؛ وذلك لأنه أكثرُ عونا على فهم فتوى المشبوه، فأقول:
1- حصل أن اغتيل بعض رؤوس الكفر ممن يعلنون كفرهم، و لكن هذا النوع من الاغتيال من أندر ما وقع.
2- حصل قتل بعض المسؤولين الذين ترى بعض الجماعات القتالية كفرهم، و هذا في ندرته كسابقه.
3- حصل قتل الشرطة و سائر أجهزة الأمن، و هذا كان منه العدد الكبير الذي لا يحصر، بل يُقتلون يوميا كقتل الذباب، و جلّ من قُتل من هؤلاء هم الذين لا يقدّمون من الأمر شيئا و لا يؤخرون و إنما هم طلّاب رزق لعيالهم. و قد قُتل هؤلاء على أساس أنهم داخلون في حكم طائفة حكامهم، كما قُتلوا على أساس إضعاف الدولة و إحداث النكاية فيها!
4- محاولة اغتيال المسؤولين في الأوساط الشعبية، و الغالب أنهم لا يصيبونهم، و إنما تقع الإصابة على سائر الشعب المسلم الذي لا حماية له.
5- قتل رجال الأمن أو المسؤولين بمن حولهم من مدنيين و نساء و أطفال و عجزة...
6- غزو قرى المسلمين و تذبيح الجميع بلا تمييز، و هذا أيضا منه شيء كثير؛ على أساس تكفير الشعب بتكفير حكامه، و أن الدار دار حرب، أي ـ كما يقول المشبوه و أتباعه ـ كفر الحاكم و كفر طائفته التي هي الشعب؛ و لو لم تكن هذه الطائفة كافرة لالتحقت بالثوار، و إذ لم تفعل فحكمها حكمه، كذا هي فلسفتهم!
7- اغتصاب أموال التجار و الأغنياء لصالح مقاتليهم، فمن أعطى فهو آمن، و من تردد فغير ضامن، و من قال: (كيف؟!)، أخذه السيف، و حصل من هذا عدد لا يُحصى!
8- و صور أخرى لا تنضبط؛ و هذه هي حالة القتال غير المنضبط بالشرع، و الله المستعان.

عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "من خرج من الطاعة و فارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، و من قاتل تحت راية عُمِّيَّ يغضب لعَصَبة، أو يدعو إلى عَصَبَة، أو ينصر عصَبة، فقُتل فقتلة جاهلية، و من خرج على أمتي يضرب برّها و فاجرها، و لا يتحاش من مؤمنها، و لا يفي لذي عهد عهده، فليس مني و لست منه" رواه مسلم (1848).

ظروف الفتوى

قبل أن يعرض المشبوه فتواه، قدّم بكلمة تحت عنوان ’ظروف الفتوى‘.

و هذه ’الظروف‘ عبارة عن حكايات لألوان التعذيب التي تعرض لها من ذكرهم و هو في فلسطين و سوريا و روسيا...

و مثاله قوله في مجلة الأنصار، العدد (90)، في (ص 10)، بتاريخ: (29 شوّال 1415 هـ): ”هل نحدّثك ـ أخي القارئ! ـ عن وضع الأخوات في سجون البعثي...؟ !“، ثم صوّر هناك بأن الأسارى في الجزائر يعيشون أسوأ أيامهم، و لذلك احتاجوا إلى فتواه لإنقاذهم مما هم فيه.

و هذا العرض العاطفي للمسائل الشرعية نفثة حركية معلومة؛ يلجأ أصحابها المفلسون من الحجة الشرعية إلى الأسلوب الخطابي العاطفي، يلهبون به مشاعر الناس نحو ما يقع ’لمجاهديهم! ‘ من العقوبات، أو يلجؤون إلى طريقة القصّاص في حكاية بطولات رؤوسهم، فيقولون مثلا: إن سّيد قطب مات من أجل قضية الإسلام، أو إنه أُعدم و هو رافع سبّابة التوحيد...!

و ما هي إلا حكايات من لغو البطولات، و فقه غريب مدهون بالعواطف العاصفات، يفتحون بها شهيّة الثوّار، و يغلقون بها عقول الأغمار، حتى إذا استدرّوا عواطفهم، و أدمعوا أعينهم، أوجدوا لشبهاتهم أرضيّة لتحطّ رحالها و لا ترحل، و هناك يحرم على الفقه أن يدخل بقيوده، و على الشرع أن يتكلم بضوابطه، و إنما هي أهواء، تحت غطاء الولاء و البراء.

تنبيه مهم:
الملاحظ هنا أن المشبوه يريد الكلام عن ضرورة الجهاد في سبيل الله لإقامة الدولة الإسلامية، لأنه يسمي الحكام ’مرتدّين‘ من هذا الباب.

و إذا كان جهاده ـ كجهاد من هم على مشربه ـ قائما لهذا الغرض، فعلام حكاية هذه الشكايات المشار إليها أعلاه؟!

و المقصود ههنا تحرير سبب قيام هؤلاء على دولهم: أهو من أجل حماية جناب ’الحاكمية‘، أم هو من أجل حماية أنفسهم؟

و إذا قيل إن الجهاد شُرع من أجل هذا و هذا، قلنا: فبأي دافع بدأتم، و لأي الغرضين خرجتم؟

إنني نبّهت على هذا؛ لأن الغالب على هذه الحركات الدمويّة و الجهاديّة اليوم أنها لا تتحرك نحو ما تسميه ’جهادا‘ إلا إذا أُخذ على أيدي أفرادها.

و إنك لتجد الحكم بالشريعة معطّلا في البلاد سنوات طويلة، فلا يتحركون للمواجهة إلا ما كان من حركة اللسان، فإذا حصل لبعض أفرادهم مكروه جاءت الفتاوى في مشروعية الجهاد، بل في وجوبه، بل في الرمي بالنفاق لمن لا يرى ذلك! و لو حاول القارئ المنصف أن يتذكر أول دافع لخروج كل من خرج في هذا العصر و من قبله لوجد ذلك جليا في أكثر البلاد.

و كم يلبّس الشيطان على هؤلاء؛ إذ يلبس نيّتهم لباس التقوى، و يظهر لهم من أنفسهم أنهم قاموا لتحكيم الشريعة، و لكن أمارات تكذيب ذلك تظهر على أعمالهم:
- إما بالانحراف عن سيرة الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ في طريقة النهي عن المنكر، و عدم التحاكم إلى هديه في ذلك.
- و إما بالاستجابة إلى نوازع النفس و إشباع رغباتها في الانتصار لها من الظالم، و إضفاء الصبغة الجهادية عليها، فيظل أحدهم يدافع على نفسه في معركة ضارية، و لا يجري على لسانه إلا الدفاع عن الدين!

و قد تظهر نواياهم أحيانا في لحن القول، كما قال ـ تعالى ـ: {و لو شاء الله لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم و تعرفنهم في لحن القول و الله يعلم أعمالكم} (محمد 30)، و هذا هو الذي حصل للمشبوه هنا.

و قد يتفلت من ألسنتهم ألفاظ صريحة، تنادي على أصحابها بالفضيحة، كما حصل للشيخ سلمان العودة في محاضرة ’مهرجان بريدة‘، حيث قال: ”أتدرون كم دفعت الجزائر كدولة، و كأمّة؟ كم دفعت ثمنا للعدوان على رجال الإسلام: على عباسي مدني، و على علي بن حاج، و على غيرهم من رموز الدعوة و رموز الإسلام؟“.

قلت: و إن عجبت لهذه الفلتة، فاعجب لجوابه، حيث قال: ”فقط عشرة آلاف قتيل... ! ! “.

إنه تصريح من سلمان على أنهم ماتوا في سبيل رجال... !

فأين إخلاص الدين لله؟!

وأين الجهاد لإقامة دولة الإسلام؟!

و أين الجهاد لنفي الشرك الذي سمّاه فتنة، فقال: {و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله} (الأنفال 39).

و لو كانت هذه التضحية مشروعة من أجل حماية الرجال، فلماذا لم تحظ قضية الحاكمية بمثلها، و قد كان مقتضيها قائما قبل وجود هؤلاء ’الرجال‘؟!

أي لماذا لا يخرجون عند إقصاء الشريعة، و إنما يخرجون دائما عقب الأخذ على أيدي رموزهم؟!

إن سلمان العودة يريد إفهام مريديه بضرورة التفكير في إراقة الدماء في البلاد السعودية، لو حصل له و لأشكاله مكروه؛ بدليل قوله في المحاضرة نفسها: ”قضيتنا (أي في السعودية) أكبر من هذا البلد (أي الجزائر)، لكن هذا البلد أيضا من ضمن قضايانا! ! !“.

هكذا صراحة، مع ذلك لا يزال قوم يستغفلوننا بأن الرجل لم يحرّض على شيء!

هذا أمر، و أمر آخر: هو ربطه الخروج بزمن العدوان على أشخاصهم؛ كأن الشريعة ليست إلا هم، و هم ليسوا إلا الشريعة!

و إذا قيل إنهم أوذوا بسبب دعوتهم إلى تحكيم الشريعة، قلنا: فلماذا لم يُفتوا بالخروج بمجرد إقامتهم الحجة البيانية على منابرهم؟!

لماذا يمكثون سنوات و هم يزمجرون على المنابر من غير خروج، فإذا أوذوا جادت أنفسهم به؟!

أليس خروجهم من أجل الشريعة أولى من خروجهم من أجل أنفسهم؟!

أقول هذا كله انطلاقا من منطقهم، و إلا فقد دلّ ما ترون على أن جهادهم انقلب من حماية الدعوة إلى طلب الحماية بالدعوة، فتأمّل! ! !

و قد صرّح به المشبوه عند كلامه على الجماعة الإسلامية المصرية، فقال في حواره مع جريدة ’الحياة‘: ”إن العمل المسلّح لدى الجماعة المصرية لم يكن أصلا في منهجها، و إنما تطوّرات الواقع ـ مثل اغتيالات بعض قادتها ـ هي التي أدّت بهم إلى دفع الصائل! !“.

و إذا كانت الجماعة المصرية تراجعت عن العمل المسلح بسبب ضعفها، فهل يشرع للمستضعف أن يدفع عن نفسه صيالة الصائل، و هو يعلم أنه عاجز، عمّا يترتب عليه؟

لقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يُؤذى و يُعتدى عليه و هو مستضعف، فكيف كان ردّه؟

لقد كان يمر بآل ياسر و هم يُؤذون، بل يُقتلون،فلا يزيد على قوله: "صبرا يا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة"، و هو صحيح كما قال العلامة الألباني في تعليقه على 'فقه السيرة' (ص 103)، و قد أخرجه ابن سعد (3 / 249) و الطبراني في 'الأوسط' (1508) و الحاكم (3 / 383، 388-389) و أبو نعيم في 'معرفة الصحابة' (6664) و البيهقي في 'الدلائل' (2 / 282) و ابن عساكر في 'تاريخ دمشق' (43 / 371) من طرق عن مسلم بن إبراهيم عن هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن جابر، إلا أن ابن سعد أسقط الصحابي، و يبدو أن الإسقاط منه؛ لأن ابن عساكر رواه من طريقه بالإسقاط نفسه، أما بقيتهم فقد أثبتوه.
و هذا إسناد صحيح لولا عنعنة أبي الزبير.

و أخرجه ابن سعد أيضا (3 / 248-249) و (4 / 136-137) و أحمد (1 / 62) و الحارث بن أبي أسامة كما في 'بغية الباحث' للهيثمي (1016) و أبو نعيم في 'الحلية' (1 / 140) و في 'معرفة الصحابة' (6662) و أبو أحمد الحاكم و ابن منده كما في 'الإصابة' لابن حجر (6 / 639) من طريق سالم بن أبان، لكنه توبع عند أحمد و غيره، بل ذكر أبو نعيم في المصدر المذكور أنه قد جاء من طريق عبد الملك الجُدِّّي و أبي قطن و موسى بن إسماعيل المنقري في آخرين.

و أخرجه عنه أيضا الطبراني في 'الكبير' (24 / 303) و أبو نعيم في 'معرفة الصحابة' (7690) من طريق عبد الله بن الحارث و هو بن نوفل، و قد روى عن عثمان، إلا الدارقطني قال في 'العلل' (3 / 39): [و الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص].

و في 'الإصابة' أيضا أنه رواه أبو أحمد الحاكم من طريق عقيل عن الزهري عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه، فيكون من مرسلات صغار الصحابة، و هي حجة.

و في 'الإصابة' أيضا أنه رواه الطبراني في 'التفسير' من طريق أبي صالح عن ابن عباس نحوه.

و أخرجه ابن سعد (3 / 249) و (4 / 136) أبو نعيم في 'مع رفة الصحابة' (6663) بسند صحيح من طريق يوسف بن ماهك المكي، و كذا أحمد في 'الزهد' كما في 'الإصابة'، إلا أنه مرسل.

و أخرجه أبو نعيم في 'معرفة الصحابة' (7689) بإسناده إلى محمد بن إسحاق بلاغا، و كذا في 'الشعب' (2 / 239)، إلا أن محمد بن إسحاق قال: عن رجال من آل ياسر.

و الحديث يتقوّى بهذه الطرق بلا ريب.

و معلوم أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ كان يعمل يومها بالصبر و دفع السيئة بالحسنة؛ لأن الله ـ تعالى ـ قد قال: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل و لا تستعجل لهم} (الأحقاف 35)، و جعله شرطا في نصر نبيه ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و بيّن أنه لو شاء لأراه انتقامه من أعدائه، لكن مع الدفع بالتي هي أحسن، فقال له : {و إنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون (95) ادفع بالتي هي أحسن نحن أعلم بما يصفون (96)} (المؤمنون)، بل أمره بلزوم الصبر حتى لو لم ير الانتقام منهم في حياته ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فقال سبحانه: {فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفينّك فإلينا يرجعون} (غافر 77)، و الصبر هنا مع عدم الانتصار من الصائل دليل على صدق التمسك بالوحي و التجرد من نوازع النفس التي تميل إلى الانتصار؛ لأن الذي أمر بالجهاد في موطن، هو الذي أمر بالصبر في هذا الموطن، قال ـ سبحانه ـ: {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون (41) أو نرينّك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون (42) فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم (43)} (الزخرف).

و مما ينبغي التنبه له أن هذه الآيات مكيّة، فكان الصبر هو الترياق الناجع، بل قد كان الصبر على أذى أهل الكتاب و المشركين مأمورا به في المدينة أيضا، إلى أن أمر الله بقتالهم، قال الله ـ تعالى ـ: {لتبلونّ في أموالكم و أنفسكم و لتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} (آل عمران 186)، و قد روى البخاري في صحيحه (4566) عند هذه الآية حديثا في ذلك عن أسامة بن زيد، و فيه: (و كان النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ يعفون عن المشركين و أهل الكتاب كما أمرهم الله، و يصبرون على الأذى، قال الله ـ عز و جل ـ: {و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا} الآية، و قال الله: {ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} إلى آخر الآية (البقرة 109)، و كان النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ يتأوّل العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم، فلمّا غزا رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ بدراً فقتل الله به صناديد كفّار قريش...).

قلت: يريد من سوقه الآية الأخيرة تتمّتها؛ فإن فيها أمره ـ تعالى ـ بالعفو و الصفح، و ذلك هو قوله: {فاعفوا و اصفحوا}، كما نبّه عليه ابن حجر من رواية أبي نعيم في 'المستخرج'، ثم قال (8 / 232-233): [قوله: (حتى أذن الله فيهم) أي في قتالهم، أي فترك العفو عنهم، و ليس المراد تركه أصلا، بل بالنسبة إلى ترك القتال أولا و وقوعه آخرا، و إلا فعفوه ـ صلى الله عليه و سلم ـ عن كثير من المشركين و اليهود بالمن و الفداء و صفحه عن المنافقين مشهور في الأحاديث و السير].

بعد هذا الاستطراد يتبيّن أن إناطة المشبوه حكم حمل السلاح بدفع الصائل ليس بشيء؛ لأنه إذا شهد على المسلمين اليوم بالضعف كما هو مشاهد، فقد وجب على جماعته اتباع النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ في ترك دفع الصائل أيام الضَّعف، قال الله ـ عز و جل ـ: {و إن تطيعوه تهتدوا و ما على الرسول إلا البلاغ المبين} (النور 54)، و بالله التوفيق.

أبو قتادة يفتي بقتل النساء و الأطفال
لا ريب أن المشبوه أفتى بجواز قتل النساء و الأطفال في الجزائر!!

لقد كان ذلك في العدد (90) من مجلة الأنصار، و لبشاعة ما فيها فقد ردّ عليه من جماعته أقوام، بل إن أنصاره اليوم لا يعطونك هذه الفتوى؛ خجلا مما فيها، مع أنها حين نزلت الأسواق نزلت سافرة لا جلباب، حتى إذا نفرت منها الطباع، و نَبَتْ عنها الأسماع، توارت بحجاب!

ولست أستغرب أن يفتي أبو قتادة بهذه الشناعة؛ فإن الرجل مشبوه، و إنما المستغرب كيف وجدتْ فتواه عقلا بشريا يقبلها، فضلا عن أن يكون عقلا مسلما؟!

ففي صحيح البخاري (3014) و مسلم (1744) بألفاظ مقاربة، من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: "أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ نهى عن قتل النساء و الصبيان".

و صح عند مال في 'الموطأ' و عند غيره أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام، و قال: (لا تقتلنّ امرأة و لا صبيا و لا كبيرا هرما، و لا تقطعنّ شجرا مثمرا، و لا تخربنّ عامرا...).

و عن الأسود بن سريع قال: (أتيت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و غزوت معه، فأصبت ظَهْر أفضل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان، و قال مرة: الذريّة، فبلغ ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فقال: "ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذريّة؟!" فقال رجل: يا رسول الله! إنما هم أولاد المشركين، فقال: "ألا إن خياركم أبناء المشركين"، ثم قال: "ألا لا تقتلوا ذريّة، ألا لا تقتلوا ذرية"، قال: "نَسَمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهوّدانها و ينصّرانها" أخرجه أحمد (3 / 435) و الدارمي (2 / 223) و الحاكم (2 / 123)، و غيرهم، و صححه الحاكم و وافقه الذهبي، و كذا الألباني في 'السلسلة الصحيحة' (402).

و الغريب في الأمر أن المشبوه قد ساق في فتواه مثل هذه النصوص تحت عنوان ’باب عدم جواز قتل النساء و الذرية‘ في (ص 11) من مقاله المذكور، ثم كرّ عليها بالإبطال في الصفحة نفسها تحت عنوان ’باب جواز قتل النساء و الذريّة لمقاصد شرعية! !‘، بحيث لا يصبح لأحاديث الباب السابق معنى و لا وجود، فهو على هذا كمن قال الله ـ تعالى ـ فيهم: {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و إن فريقا منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون} (البقرة 146)، و كتمانه الحق هنا بمثابة كتمان المؤوّلة للمعاني الصحيحة للنصوص.

صورة المقال السابق

[ ]
لقد أفتى المشبوه بمخالفة هذه النصوص، و شرع لغلاظ الأكباد في الجزائر أن يذبحوا النساء و فلذات الأكباد، و ذلك في العدد (90) من مجلة الأنصار،في (ص 10)، بتاريخ (الخميس 29 شوال 1415 هـ)، الموافق لـ (30 مارس 1995 م)، تحت عنوان: ’فتوى خطيرة الشان حول جواز قتل الذرية و النسوان درءاً لخطر هتك الأعراض و قتل الإخوان‘!!

و كان مما قال فيها في (ص 12): ”بهذا يتبيّن أن ما فعلته الجماعة الإسلامية المسلحة من تهديد ذرية و نساء المرتدّين بالقتل؛ من أجل تخفيف وطأتهم على النساء و المساجين و الإخوان، هو عمل شرعيّ لا شبهة فيه! !“، و قد تقدّم تصوير هذا المقال الأخير، و أما الذي قبله فهذه صورته:

صورة المقال السابق

[ ]
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 22 May 2008, 08:46 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

قلت: هل يبقى ـ مع هذا التصريح ـ مجال لعشّاق الثّورات و مدمني الفتن أن يقولوا: إن اتهام الإسلاميين بقتل هؤلاء أمر مرفوض؛ لأنه ـ عندهم دائما ـ هو من فعل المخابرات؟!

فإما أن ينزِعوا عن ولائهم البارد لهذه الجماعات؛ لأن الدليل الحسي بين أيديهم كما ترى، و إما أن يشهدوا على ’مجاهديهم هؤلاء! ‘ بأن فتاواهم يجهّزها لهم رجال المخابرات كهذا المشبوه، إن كانت أخلاقهم تستسهل التُّهم، و أحلاهما مرّ! !

ثم لم يكتف المشبوه بفتوى بنانه، حتى ضم إليها فتوى بيانه، و ذلك في خطبته التي أشرنا إليها، فقد قال: ”هل يجوز للمسلمين في الحرب أن يقتلوا النساء و يقتلوا الأطفال؟ و الأطفال ـ كما تعلمون ـ على الفطرة، الأطفال على الفطرة، لا يلحق عليهم وصف كفر أو إسلام، بل على الصحيح أطفال المشركين إذا ماتوا أنهم في الجنة...

إذا كان أهل العلم قد أجازوا في مسألة التِّرْس، أي التَّتَرُّس، كما أفتى الإمام مالك، و أقرّها عليه أهل العلم، قالوا: إذا كان قد تترّس الكفار بمسلمين أسراء، جاء الكفار أسروا جماعة من المسلمين و وضعوهم في صدر الجيش، مسلمين، فماذا نصنع؟ ماذا نصنع؟ لا نصل إلى الكفار حتى نقتل المسلمين، قال: يُقتل المسلمين (كذا) الذين تترّس بهم الكفار، فإذا كان مسلمين (كذا)، و مجمع على عدم جواز قتلهم، أنه لا يُقتل الكفار حتى يقتل المسلمين (كذا)، و مع ذلك أجازوا قتل المسلمين، إذا كان في ذلك مصلحة إلى الوصول إلى الكفّار، الله ـ عز و جل ـ قال: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} (الحشر 5)، أجاز الشارع قطع الشجر الذي نهى عنه في حديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، و هو يوصي جيش أسامة: لا تقطعوا شجرا، و لا تقتلوا وليدا، و ستجدون أقواما قد فحصوا رؤوسهم في الصوامع فلا تقربوهم، و مع ذلك فقد أجاز الشارع قطع الشجر من أجل المصلحة.

فهل قتل أولئك النساء و الأطفال؛ حتى لا يُدفع الشر عن المسلمين عن المسلمات الذي يفجُر بهم أولئك الكفار المرتدون إلا بقتل أبنائهم و التهديد بهم؟! هل هذه المسألة؟ دعني أقول لكم: ألا يبقى فيها شبهة قوية في جوازها؟!
ألا يبقى شبهة قوية بجواز الوصول إليها؟!!“.

ثم اصطنع أريحيّة في الخلاف الذي نسجه بنفسه، فقال: ”فمن اهتدى من قوله إلى أنه جائز (حتما! !) فنعم ما قال! !
و من قال غير جائز فنعم ما قال! !“.

قلت: نعوذ بالله من التلاعب بأرواح المؤمنين!
و إنا لله و إنا إليه راجعون!

أمر فظيع يقشعرّ لسماعه الجلد البشري من أي دين كان، و تشمئز له النفوس، و أعتقد أن لغة هذه الفتوى لا تُفهم إلا في بريّة الوحوش!

قال الله ـ تعالى ـ: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة و إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار و إن منها لما يشقّق فيخرج منه الماء و إن منها لما يهبط من خشية الله و ما الله بغافل عما تعملون} (البقرة 74).

فتوى قدمها صاحبها في صيغة سؤال، و جعل يلوذ بتغيير صيغاتها، و يبحث لها عن العبارات المناسبة تخفيفا لوطئها، لعلها تكون متنفّسا لسلواه، و إن لم تكن حدّا لبلواه؛ لأنه لا يقول بها إلا من انسلخ من طبيعة البشرية، و لم يكن للرحمة محل من قلبه، قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "خاب عبد و خسر لم يجعل الله ـ تعالى ـ في قلبه رحمة للبشر" رواه الدُّولابي في 'الكنى' (1 / 173) و غيره، و حسّنه الألباني في 'السلسلة الصحيحة' (456).

و قد كان لفتواه هذه في الجزائر زَهَم من لحوم الصبيان الذي جرى على أعناقهم الغضة البريئة خناجر الخوارج، و هم يجأرون إلى الله، و ليس الخبر كالمعاينة!

و الحدود تُدرأ بالشبهات، و هؤلاء يقتلون أصحاب الفطرة بالشبهات!

نعوذ بالله من فقد الحياء!

هذه شهادة من صاحبها على نفسه، بل على طائفته، نحتفظ لكم بها التاريخ، و قبل ذلك كلِّه ما هو مدوّن في صحيفة العبد عند من لا تخفى عليه خافية، الذي قال: {كلا سنكتب ما يقول و نمُدُّ له من العذاب مدا (79) و نرثه ما يقول و يأتينا فردا (80)} (مريم)، و قال: {و كل شيء فعلوه في الزبر (52) و كل صغير و كبير مستطر (53)} (القمر 52-53).

و ليمسك أولئك المحامون لأهل البدع عشّاق الفتن و الثورات عن قولهم: لا يجوز أن ننسب شيئا من المجازر إلى الجماعات الإسلامية؛ قال الله ـ عز و جل ـ: {إن يتبعون إلا الظن و تهوى الأنفس و لقد جاءهم من ربهم الهدى} (النجم 23).

نعم لقد جاءهم من ربهم الهدى؛ لأن الله أنطق هذا المفتي ـ مفتي الوحوش! ـ حتى اعترف بأنه صاحب هذه المقالة، و أن وحوش الجزائر هم منفّذوا تلك الضلالة، فأي شهادة أكبر من الإقرار، و قد قيل: الإقرار سيد الأدلة؟!

و لقد جعل غليظ الكبد مسألة التِّرس نظير مسألتنا هذه، و هذا أمر لا يطاق؛ لأن صورة التترّس هي أن يحتمي الكفار بالحصون و فيها أسرى مسلمون، أو أن يجعلوا هؤلاء في المقدمة كالدرع لهم، بحيث يأتي الرمي عليهم لا على الكفار.

أقول: اسألوا أهل الجزائر: متى أخرجت الدولة النساء و الأولاد لتجعلهم ترسا لها ضد مقاتليها؟!

اسألوهم جميعا حتى المتعصبين لأولئك الثوار! !

فهذا أكبر دليل على أن الرجل صاحب هوى، و إلا فما محل مسألة التترّس في باب استحلالهم قتل النساء و الصبيان و الأبرياء عموما؟!

فهذا لا يفسره لنا إلا قول ربنا ـ عز و جل ـ: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله} (آل عمران 7)، و الله العاصم.

تنبيه:
نفى أبو قتادة عن أبناء المسلمين وصف (الإسلام) بقوله السابق: ”و الأطفال ـ كما تعلمون ـ على الفطرة، الأطفال على الفطرة، لا يلحق عليهم وصف كفر و لا إسلام! !“

و لعل القارئ قد أدرك من هذا السياق سبب نفيه عنهم وصف الإسلام؛ إنه أراد الوصول إلى استحلال دمائهم كما مرّ، و لا بدّ حينئذ من وصف يرفع به عنهم هيبة 'حرمة المسلم و دمه'!

قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'شرح حديث لا زني الزاني حين يزني و هو مؤمن' (ص 38): [و قد قال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "كل مولود يولد على الفطرة"1، و في رواية: "على فطرة الإسلام"، فالقلب مخلوق حنيفا، مفطور على فطرة الإسلام، و هو الاستسلام، و هو الاستسلام لله دون ما سواه...].

و هذه الرواية "على فطرة الإسلام" رواها ابن حِبّان (132) و الطبراني (1 / 283) من حديث الأسود بن سريع،و هي رافعة للخلاف، أفيقول رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "على فطرة الإسلام"، و تقول أنت: لا كفر و لا إسلام؟!

و في رواية عند مسلم (2658) بلفظ: "ما من مولود يولد إلا على هذه الملة"، و انظر 'مجموع فتاوى بن تيمية' (16 / 345)، و المشبوه على علم بها؛ فإنه رآها في تعليقه على 'معارج القبول' لحافظ حكمي ـ رحمه الله ـ (1 / 91)، و أشار هناك إلى رواية البخاري، و فيها تصريح ابن شهاب الزهري بـ "فطرة الإسلام"، حيث قال ـ رحمه الله ـ: [يُصلى على كل مولود متوفّى و إن كان لغِيَّة2؛ من أجل أنه وُلد على فطرة الإسلام...].

فلماذا سكت عن اختيار المؤلف الحكمي الذي نقل عن ابن كثير أن الفطرة هي الإسلام عند تحقيقه لـ 'معارج القبول' (1 / 91)، ثم جعل هنا صبيان المسلمين في منزلة بين المنزلتين؟!

و أغرب من هذا أن الشيخ حافظا الحكمي ـ رحمه الله ـ ساق في الصفحة نفسها حديثا جمع بين وصفه الذرية بالفطرة و بين تحريم قتلهم، و لكن ذلك كله لم ينفع محققه، فنعوذ بالله من علم لا ينفع.

قال ابن حجر في 'فتح الباري' (11 / 111): [و قوله: "على الفطرة" أي على الدين القويم ملة إبراهيم؛ فإنه ـ عليه السلام ـ أسلم و استسلم، قال الله ـ تعالى ـ عنه: {جاء ربه بقلب سليم} (الصافات 84)، و قال: عنه: {قال أسلمت لرب العالمين} (البقرة 131)، و قال: {فلما أسلما} (الصافات 103)]، و كذلك قال الخطابي في شرحه على السنن، أي فسّر الفطرة بـ "دين الإسلام".

و مما يقوّي ما ذهب إليه هؤلاء أن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ حين روى هذا الحديث، قال: (اقرؤوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم و لكن أكثر الناس لا يعلمون} (الروم 30))، و ذلك في رواية البخاري و مسلم التي تقدّمت الإشارة إليها، فكلمة {فطرة الله} هي إضافة مدح، و قد أمر الله نبيّه ـ صلى الله عليه و سلم ـ بلزومها، فعُلم أنها الإسلام، كما في 'فتح الباري' (3 / 248)، و قال البخاري ـ رحمه الله ـ في 'صحيحه' (8 / 512): [و الفطرة الإسلام]، ثم ساق الحديث، و لذلك قال شارح 'العقيدة الطحاوية' (ص 83-84 / الألباني): [و لا يقال: إن معناه يولد ساذجا لا يعرف توحيدا و لا شركا كما قال بعضهم؛ لِما تلونا3، و لقوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ فيما يرويه عن ربه ـ عز و جل ـ: "خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين" الحديث4، و في الحديث المتقدم ما يدل على ذلك؛ حيث قال: "يهوّدانه او ينصّرانه أو يمجّسانه"، و لم يقل: و يسْلمانه، و في رواية: "يولد على الملة"، و في أخرى: "على هذه الملة").

و قد حكى ابن القيم في 'أحكام أهل الذمة' (2 / 572) و ابن حجر في 'فتح الباري' عن محمد بن نصر أن آخر قولي أحمد أن المراد بالفطرة الإسلام، و منها رواية عند الخلال في 'الجامع / أهل الملل و الردة' (28)، فسر فيها أحمد الفطرة بالدين، و قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في 'مجموع فتاواه' (10 / 134): [و القلب إنما خلق لأجل حبّ الله ـ تعالى ـ، و هذه الفطرة التي فطر الله عليها الله عباده، كما قال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ اقرؤوا إن شئتم: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} أخرجه البخاري و مسلم، فالله ـ سبحانه ـ فطر عباده على محبّته و عبادته وحده، فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفا بالله، محبا له، عابدا له وحده، لكن تفسد فطرته من مرضه، كأبويه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسّانه، و هذه كلّها تغيّر فطرته التي فطر الناس عليها].

و لست أقصد هنا الكلام عما قيل في معنى الفطرة؛ لأن العبرة من هذا كله هي بيان أن الرجل أراد الوصول إلى دماء صبيان المسلمين، فنفى عنهم وصف الإسلام إذا وُلِدوا كما سبق، و بيان أنه قد يحقق من الكتب السلفية ما يوهم به أنه مؤمن بما فيها، لكنه ينقض ذلك كله في واقع دعوته.

أما ما قيل في معنى الفطرة فقد جاء فيه روايات، منها ما هو على معنى أن كل مولود يولد على المعرفة بربه، و منها ما هو على معنى العهد الذي أخذ على ذرية آدم في عالم الذّر، كما رواه أبو داود عن حماد بن سلمة كما في 'فتح الباري' (11 / 249)، و منها ما هو على معنى ما كُتب على الإنسان في أم الكتاب من الشقاوة و السعادة، كما مقل الخلّال عن أحمد في 'الجامع / أهل الملل و الردة' (31-33)، لكن نص ابن القيم على أنه قوله الأول كما في 'أحكام أهل الذمة' (2 / 573)، و إن كان ابن تيمية قد حقق أن لا منافاة بين هذا القول و القول المختار أولا، انظر'مجموع فتاواه' (4 / 246)، و ثَمّ أقوال يمكنك مراجعتها في 'فتح الباري' (11 / 249) و 'مجموعة الرسائل الكبرى' لابن تيمية (2 / 333).

لكن [أشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام، قال ابن عبد البر: و هو المعروف عند عامة السلف]، كما في 'فتح الباري' (11 / 248).

و هذا واحد من الأدلة على أن ادِّعاء هؤلاء القوم الانتساب إلى السلف في عقيدتهم أو تحقيق ما كتبوه في ذلك إنما هو مجرد دعوى لا حقيقة لها، و الله المستعان.

ثم تأمل ما رواه البخاري (6311) و مسلم (2710) و أبو داود (5046) و الترمذي (3574) عن البراء ابن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "إذا أتيت مضجعك قتوضّأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، و قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، و فّضت أمري إليك، و ألجأت ظهري إليك؛ رغبة و رهبة إليك، لا ملجأ و لا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، و نبيّك الذي أرسلت؛ فإن متّ متّ على الفطرة، فاجعلهن آخر ما تقول، فقلت أستذكرهن: و برسولك الذي أرسلت، قال: لا! و بنبيّك الذي أرسلت"

قلت: فما معنى الفطرة ههنا عند المشبوه؟
أفتكون هذه الجمل العقدية العظيمة هي غير الإسلام على زعمه في خطبته تلك؟!

تفصيل الفتوى

بدأ المشبوه عرض فتواه بقوله في مجلة الأنصار، العدد (90)، في (ص 10)، بتاريخ: (29شوّال 1415 هـ)، و قد تقدّم تصويره: ”هذا البحث شامل لمسألتين من مسائل الجهاد، هما:
1- جواز قتل الذرية و النسوان درءا لخطر هتك الأعراض و قتل الإخوان! !
2- جواز العمليات الاستشهادية، و أنها ليست بقتل النفس!5
و سبب بحث هاتين المسألتين هنا، هو ما وقع من المجاهدين في الجزائر، من القيام بهذه الأعمال، ثم رفع بعض المخالفين رأس الخلاف لهاتين المسألتين؛ حيث ظن من لا خبرة له أن ما قام به المجاهدون في الجزائر ليس له وجه شرعي، و هو مخالف للدين من كل وجه، فأحببت أن يطلع المحبُّ المخالفُ، و كذلك المؤيّد، على دليل ما قام به الإخوة؛ ليطمئن بال المحبّين، أن ما وقع من المجاهدين هو عمل شرعي، و لا ينكر عليهم، و الخطاب هنا هو لمن آمن و اعترف أن جهاد هذه الطوائف الحاكمة لبلادنا هو تحت باب قتال المرتدّين و جهادهم، و أن ما وقع في عصر الصحابة من قتال مسيلمة و سَجَاج و من معهما هو نفس قتال المجاهدين في الجزائر لطائفة الرّدّة الحاكمة، و أن مخرجهما واحد، لا يفترق في نقير أو قطمير! !“.

النقد:

يستفاد من مقدمة المشبوه فائدتان:
الأولى: اعترافه بقتل ’مجاهديه‘ في الجزائر للذريّة و النساء، هذه الحقيقة المرّة التي يتفانى لإنكارها الحركيّون على بكرة أبيهم، و يجهدون أنفسهم لإلصاقها كلّها بالمخابرات؛ حتى تبْرأ ساحتهم مما كسبت أيديهم، و قد اجتمع على هذا الرأي الدّمويّون و الثوريّون و السياسيّون و المرتابون المتردّدون، و هم الذين مدّوا في أجل الفتنة مع الأسف.

و لعلّ في اعتراف مفتي هذه الجماعة بما سبق إنهاء للخلاف، فعلام يصرّ أهل الفتن على تزكية أولئك لولا أنهم يشاركونهم في الفكر على تقيّة و جبن، فإن لم يكونوا على فكرهم فلينطقوا بعلم، و إلا فليسكتوا بحلم، و الله يقول: {و لا تكن للخائنين خصيما} (النساء 105).؟!

و الثانية: أن قتال هؤلاء للشعب الجزائري كان منطلقا فيه من أساس تكفيره؛ لأن المشبوه قد صرّح بأن قتال هؤلاء للحكّام و لطائفتهم ـ التي هي الشعب ـ كقتال الصحابة لمسيلمة الكذاب و سجاج و من معهما، فأي صراحة أكبر من هذه؟!

و أسأل ههنا القارئ المنصف: ما رأيك فيمن يعتبر الشعب الجزائري المسلم بمثابة من كان مؤمنا بمسيلمة الكذّاب المدّعي للنبوة؟

ثم إن المشبوه قد أوضح رأيه هذا بقوله فيما تقدّم تصويره من مجلته (ص 12): ”و تبقى مسألة: قد يقول قائل: إن منهج جماعات الجهاد هو تكفير الطائفة، فهل تدخل نساء المرتدين في مسمى الطائفة؟ فيقال ههنا: إن جنس جهاد هؤلاء المرتدين هو جنس قتال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ للمرتدين من أتباع مسيلمة و مانعي الزكاة، و قد عامل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ هذه الطائفة معاملة المشركين، أصحاب الشوكة و المنَعة في إقامة الحجة عليهم، و ذلك عن طريق البلاغ العام، فقد روى الطبري ـ رحمه الله ـ ذلك في تاريخه، في المجلد الثاني عند خبر المرتدين، فكون هذه الطائفة ممتنعة، و لها شوكة و قوّة، فإنها تعامل معاملة الكفرة الممتنعين بشوكة و قوة، و حكمكم في كل أمر حكمهم بلا فارق، إلا ما افترقت أحكام المرتدّين عن أحكام الكفرة الأصليين! !

و قد أنذر الإخوة المجاهدون في الجزائر نساء المرتدين بأن أزواجهن قد ارتدوا، فوجب الفراق، و أنه لا يجوز لها أن تمكّن المرتد منها، فإن رفضت فحكمها حكمه! !

و من أحكامها هو ما تقدّم في هذا البحث، و قد اختلف أهل العلم قديما في حكم نساء المرتدّين: أتسبى أم لا؟

و هذا له مقام آخر! !

و لذلك فليعلم أن نساء و ذرية كل طائفة تعامل معاملة الطائفة ممتنعة (كذا) بقوة و شوكة التي انتسبت إليها، في الأحكام الشرعية، إلا ما خصوا به دون المقاتلة! !“.

النقد:

ههنا ثلاثة أمور:
1- إن الذي يقرأ له هذا يتصوّر أن المسؤولين في الجزائر لا يفارقون نساءهم، فلذلك اضطرت جماعته إلى اغتيالهم بنسائهم، و هذا كذب في تصوير المسألة، لأن المسؤولين يغدون و يروحون إلى وظائفهم، بل هم في أكثر الحالات مفارقون لأهليهم؛ خوفا من أن يباغتوا في بيوتهم مع من فيها.

ثم إن الأمر هنا لا يتمثل في قتل النساء و الذرية بمعزل عن أوليائهم المراد اغتيالهم أصلا، بل قصدهم بأعيانهم و اختطافهم حيث وجدوهم، و قد صرّح بذلك هو نفسه، فقال في مقاله السابق (ص 12): ”بهذا يتبين أن ما فعلته الجماعة الإسلامية المسلحة من تهديد ذرية و نساء المرتدّين بالقتل؛ من أجل تخفيف وطأتهم على النساء و المساجين و الإخوان، هو عمل شرعي لا شبهة فيه! !“.

2- لو فرضنا أن هؤلاء الرجال المكفّرين من قبلهم كانوا كفارا حقيقة، فعلى أي أساس تُقتل نساؤهم بعد إنذارهن كما قال؟! إن هذا لدليل على أن امرأة فرعون المؤمنة لو عاشت وقتهم لأعملوا فيها السيف؛ لأنها لم تفارق زوجها الكافر، مع أن الله مدحها و جعلها مضرب المثل للذين آمنوا، فقال: {و ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة و نجّني من فرعون و عمله و نجني من القوم الظالمين} (التحريم 11) !

3- إذا كان حكم نساء المسؤولين و ذريتهم هو القتل، فما بال سائر الشعب؟!
أي ما داموا يقتلون النساء لأنهن لا يفارقن أزواجهن المرتدين عند المشبوه فما بالهم يقتلون بقية الشعب؟!

و الجواب أن هذا المشبوه و مريديه يكفرون الشعب، فلذلك استباحوا دمه، و ليس الأمر قاصرا على نساء المسؤولين و ذريتهم، و قد مضى بعض ما يدلّ عليه، و أزيد هنا من أدلتهم قول المشبوه في مقاله السابق (ص 11)، تحت عنوان: ’باب جواز قتل النساء و الذرية لمقاصد شرعية‘: ”إذا بيّت المسلمون الأعداء، فلم يستطيعوا إصابة الرجل إلا بقتل الذريّة و النساء: روى البخاري في صحيحه و مسلم في صحيحه عن الصعب بن جُثامَة6 قال: سُئل النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ عن الذراري من المشركين يبيّتون، فيصيبون من نسائهم و ذراريهم؟ فقال: "هم منهم"، هذا لفظ مسلم، و لفظ البخاري: فسئل عن أهل الدار يبيّتون من المشركين، فيصاب من نسائهم و ذراريهم؟ قال: "هم منهم"7... فالحديث يدل على جواز قتل الذريّة و النساء إذا تترّس الكفار بهم!“

قلت: إن الحديث جاء جوابا على سؤال حول الذراري من المشركين و المشبوه طبّقه على ذراري المسلمين، فأين عقول تابعيه؟!

----------------------------
1: رواه البخاري (1358) و مسلم (2658).
2: أي من زنا.
3: يريد الآية السابقة مع غيرها مما في معناها.
4: أخرجه أحمد و مسلم من حديث عياض بن حمار ـ رضي الله عنه.
5: هذه من نوازل هذه الأيام و إن كانت مطروقة عند المتقدّمين، إلا أن تطبيقها على واقع البلاد الإسلامية يحتاج إلى العالم المجتهد، مع ذلك فقد هجم عليها الأحداث الأغمار فأتوا بالعجائب، و لا بأس من أن ارشد القارئ للرجوع إلى شريط سمعي بعنوان 'فتاوى العلماء في الاغتيالات و التفجيرات و العمليات الانتحاري و الاعتصامات و القنوت' لمجموعة من أهل العلم الأكابر،منهم ابن باز و الألباني و ابن عثيمين و صالح الأطرم و صالح الفوزان وعبد العزيز آل الشيخ و غيرهم، تسجيلات دار بن رجب للإنتاج و التوزيع بالمدينة، فاستمع إليه؛ لتفرق بين العالم و الحالم.
6: هكذا هو عنده، و الصواب "جَثَّامة"، بفتح الجيم و تشديد الثاء.
7: قال الصنعاني ـ رحمه الله ـ في 'سبل السلام' (4 / 101-102): [التبييت: الإغارة عليهم في الليل على غفلة مع اختلاطهم بصبيانهم و نسائهم، فيصاب النساء و الصبيان من غير قصد لقتلهم ابتداء، و هذا الحديث أخرجه بن حبان من حديث الصعب، و زاد فيه: (ثم نهى عنهم يوم حنين)، وهي مدرجة في حديث الصعب، و في سنن أبي داود زيادة في آخره، قال سفيان: قال الزهري: ثم نهى رسول الله ـ صلى الله تعالى عليه و على آله و سلم ـ بعد ذلك عن قتل النساء و الصبيان، يؤيّد أن النهي في حنين ما في البخاري، قال النبي ـ صلى الله عليه و على آله و سلم ـ لأحدهم: "الحق خالدا، فقل له: لا تقتل ذريّة و لا عسيفا"...].
و يدلّ له ما رواه ابن حبان عن الصعب بن جَثَّامة قال:سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول: "لا حِمى إلا لله و لرسوله، و سألته عن أولاد المشركين، أنقتلهم معهم؟ قال: نعم؛ فإنهم منهم، ثم نهى عن قتلهم يوم حنين"، و صححه الألباني في 'صحيح موارد الظمآن' (1380).

و لذلك بوّب أبو عوانة في 'مسنده' (4 / 222) بقوله:[بيان الخبر المبيح بيات المشركين و الغارة عليهم بالليل و قتلهم و إن أُصيب في قتلهم نساؤهم و صبيانهم حتى قُتلوا معهم، و الدليل أن نهيه عن قتل النساء و الصبيان هو المتأخر، و أن السنة في ترك الغارة بالليل حتى يصبح، و على أنه لا يجوز حرق القرية التي فيها مسلم أو الغارة أو نصب المنجنيق عليها].

التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 23 May 2008 الساعة 01:30 PM
رد مع اقتباس
  #20  
قديم 23 May 2008, 08:24 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

و مثله قوله في المقال نفسه: ”لقتل الذرية و النساء في واقع الجهاد اليوم يقع في صورتين: الأولى: و هي أن يرمى المرتدون بآلات فيها مواد متفجّرة تقتلهم هم و أبناؤهم و نساؤهم، و هذه حالة ذكرت في كتب أهل العلم بالجواز، و هي داخلة نصّا في مسألة البيات المتقدّمة، و قد رمى الصحابة مع رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أهل الطائف بالمنجنيق...“.

قلت: إن أهل الطائف كانوا كفارا حين حاصرهم رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فكيف يُقاس عليهم الشعب الجزائري المسلم؟!

و لذلك لمّا ذكر الشافعي ـ رحمه الله ـ جواز تبييت المشركين، نبّه أبو بكر الحازمي في 'الاعتبار في الناسخ و المنسوخ من الآثار' (ص 497) على معناه، فقال: [و معنى قوله: "منهم" أنهم يجمعون خصلتين: أن ليس لهم حكم الإيمان الذي يُمنع به الدم، و لا حكم دار الإيمان الذي يُمنع به الغارة على الدار].

أما الشعب الجزائري فشعب مسلم، و داره دار إسلام، فكيف نزّلت عليهم أحكام الكفّار؟!

قال البخاري في 'صحيحه' في باب قتل الخوارج و الملحدين بعد إقامة الحجة عليهم: [و كان ابن عمر يراهم شرار خلق الله؛ إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين]، قال ابن حجر في 'الفتح' (12 / 286): [وصله الطبري في مسند علي من 'تهذيب الآثار' من طريق بُكير بن الأشج...]، ثم قال: [و إسناده صحيح].

فهذا واحد من الأدلة الواضحة على أن الرجل كمريديه يكفّرون الشعب، مع أن قصّة رمي أهل الطائف بالمنجنيق لم ترد بسند صحيح، و إنما رواها أبو داود في 'مراسيله' و الواقدي في 'معازيه' (3 / 927) و ابن هشام في 'سيرته' (2 / 483)،قال الصنعاني ـ رحمه الله ـ في 'سبل السلام' (4 / 111): [أخرجه أبو داود في المراسيل و رجاله ثقات، و وصله العقيلي بإسناد ضعيف عن علي ـ رضي الله عنه ـ، و أخرجه الترمذي عن ثور رواية عن مكحول، و لم يذكر مكحولا، فكان من قسم المعضل].

و هذا كله يعلمه المشبوه؛ لأنه نقل عن الصنعاني بعض كلامه من هذه الصفحة نفسها، و لكنه أغمض العينين جميعا عن ضعف الرواية!

هذه الرواية المرسلة هي عند أبي داود في 'مراسيله' (321-الزهراني).

أما رواية الترمذي فهي عنده في (5 / 94)، و هي على إعضالها فإن فيها عمر بن هارون عن ثور، و عمر هذا قال فيه الحافظ في'التقريب': [متروك، و كان حافظا]، و رواها ابن سعد في 'الطبقات' (2 / 159) و من طريقه ابن الجوزي في 'المنتظم' (3 / 341) من طريق الثوري عن ثور عن مكحول مرسلة، و قد أعلّها ابن الملقن كما في 'خلاصة البدر المنير' (2 / 345) و الزيلعي في 'نصب الراية' (4 / 104) و المباركفوري في 'تحفة الأحوذي' (8 / 37).

و أما رواية العُقيلي فهي عنده في 'الضعفاء' (2 / 243) عن علي موصولة، لكن فيها، عبد الله بن خراش عن العوّام بن حوشب، قال البخاري في 'التاريخ الكبير' (5 / 80): [عبد الله بن خراش عن العوّام بن حوشب منكر الحديث]، و هي عند الحسن الرامهرمزي في 'المحدّث الفاصل' (ص 312-317)، قال: حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال سمعت علي ابن المديني يقول: [جلست إلى عبد الله بن خرَاش و أنا حَدَث، فسمعته يقول: حدثنا العوّام عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي (أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ نصب المنجنيق على أهل الطائف)، فعلمت أنه كذّاب!].

و في سنن البيهقي الكبرى (9 / 84) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ (أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حاصر أهل الطائف و نصب عليهم المنجنيق سبعة عشر يوما)، قال أبو قلابة: و كان ينكَر عليه هذا الحديث، قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: فكأنه كان ينكر عليه وصل إسناده، و يحتمل أنه إنما أنكر رميهم يومئذ بالمجانيق؛ فقد روى أبو داود في 'المراسيل' عن أبي صالح عن أبي إسحاق الفزاري عن الأوزاعي عن يحيى هو ابن كثير قال: حاصرهم رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ت شهرا، قلت: فبلغك أنه رماهم بالمجانيق؟ فأنكر ذلك، و قال: ما يُعرف هذا.

هذه الرواية هي في 'مراسيل أبي داود' (322-الزهراني).

أيّا كان أمر إسناد الرواية، و أبا كان خلاف أهل العلم في المسألة، فإنني لا أقف طويلا عند هذا؛ لأن الصور التي تعرّض لها المشبوه لا تمت بصلة إلى واقع البلاد الجزائرية؛ فإن أهل الجزائر ليسوا كفّارا حتى يقاسوا على أهل الطائف يومئذ أو على المشركين الذين بيّتهم النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و مما يبّين لك أيضا خروج المشبوه في بحثه هذا عن حقيقة الأمر، أنه تكلم عن تترّس العدوّ بالنساء و الذرية، و ليس ثَمّ تترس قطّ؛ إذ لم يُعرف أن الدولة تترّست يوما بالنساء و الذرية.

كما تكلّم عن اعتصام العدوّ مع شعبه بحصن، و لا وجود لهذه الصور بالجزائر، فلهذا كان في هذا العرض غاشّا، كما كان في استدلاله خارجا عن محل النزاع، و قد سبق قريبا أن بيّنت الصور الإجرامية التي وقعت في الجزائر، و أن المشبوه لم يُوفّق للجواب عن واحدة منها، و إنما أتى بصور مغشوشة عن الوضع في الجزائر، و نظّل عليها أحكامه الوحشية، وهو فيها إما جاهل بواقع ما يفتي به، و إما عارف به و لكنه كاذب في وصفه.

قياس منكوس

لا يزال المشبوه يتابع أدلّته في جواز قتل الذرية المسلمين و النساء المسلمات، فيقول في مقاله السابق (ص 12): ”الصوة الثانية: قتل النساء و الذرية قصدا؛ دفعا لهتك أعراض المسلمات و قتل المسلمين.

تبيّن لنا في الباب السابق جواز قتل الذرية و النساء توصلا لقتل الكفار المقاتلين، فهل يجوز قتل الذرية و النساء توصلا لإحياء المسلم و دفعا لهتك عرض المسلمة؟

من المعلوم أن إحياء المسلم أعظم شأنا من قتل الكافر، فدفع المفاسد و إبطالها خير من جلب المنافع، و قتل المسلم مفسدة عظيمة، و أما قتل الكافر فمصلحة، فإذا تدافعت مصلحة قتل أسارى الكفار مع مصلحة فدائهم بأسارى المسلمين، وجب على المسلمين فداء الأسارى المسلمين، و ذلك بإطلاق أسارى الكفار.

إذا تبين لنا هذا، و علمنا سابقا جواز قتل الذرية و النساء توصلا لقتل الرجال المقاتلة، فإن من باب أولى جواز قتل هذه الذرية و قتل النساء توصّلا لمنع قتل المسلمين، بل المجاهدين و هتك أعراض المسلمات! !“.

قلت: يريد أن يقول: إن الدولة الجزائرية تقتل المسجونين من جماعته و تنتهك أعراض نسائهم، فلذلك رأى أن في قتله لنساء رجال الدولة وذراريهم توقيفا لعملية قتل المسجونين و انتهاك أعراضهم!

ثم قال: ”فحقيقة المسألة أننا إن لم نستطع منع المرتدين من قتل أسارى المسلمين ـ من مدنيّين و غيرهم ـ إلا بتهديد هؤلاء المرتدين بقتل نسائهم و أبنائهم فهو جائز، إن لم يكن واجبا! !

و كذلك إن لم نستطع منع المرتدين من انتهاك أعراض المسلمين، و التلعّب بالنساء إلا بتهديدهم بقتل ذريّتهم و نسائهم فهو جائز و لا شك، إن لم يكن واجبا؛ إذ أن مصلحة إحياء المسلمين و حفظ أعراضهم أشد و أهم من التوصل إلى قتل المرتدين بتترسهم بنسائهم و أبنائهم! ! !“

النقد:
1- لقد مرّ بنا أن التترس المذكور لا وجود له في واقع الجزائر، فهو تنزيل حكم على غير محل.

2- إذا كان أولئك يقتلون مجاهديهم و ينتهكون أعراض نسائهم، فما ذنب نساء أولئك القتلة و ذراريهم؟
أليس الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط و لا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (المائدة 8).
و لو جاز هنا رد السيئة بمثلها فليكن بقتل الذين باشروا القتل، لا بقتل الأبرياء من النساء و الذرية، قال الله ـ تعالى ـ: {و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (البقرة 190).

و ذلك لأن في مجاوزته إسارفا لا يحبه الله، قال الله ـ عز و جل ـ: {و لا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق و من قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليّه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} (الإسراء 33).

هذا لو كان القتل قتل أولاد مشركين و نساء مشركات، فكيف و هو قتل لمسلمين و مسلمات؟!

و لذلك روى احمد (3 / 435) و غيره بسند صحيح عن الأسود بن سريع قال: أتيت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و غزوت معه، فأصبت ظهر أفضل الناس يومئذ، حتى قتلوا الولدان، و قال مرة: الذريّة، فبلغ ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فقال: "ما بال قوم جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية؟!" فقال رجل: يا رسول الله! إنما هم أولاد المشركين، فقال: "ألا إن خياركم أبناء المشركين"، ثم قال: "ألا لا تقتلوا ذرية، ألا لا تقتلوا ذرية"، قال: "كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانها، و ينصرانها" أخرجه أحمد (3 / 435) و الدارمي (2 / 223) و الحاكم (2 / 123) و غيرهم، و صحّحه الحاكم و وافقه الذهبي، و كذا الألباني في 'السلسلة الصحيحة' (402).

فعلى هذا، لا يجوز قتل النساء و الولدان بهذه الذريعة؛ لأنه لم يتوقف الأمر عند حد مقابلة السيئة بمثلها، و إنما تعدّاه إلى العدوان و المجاوزة لحدود الله؛ فمن قتلك لا يجوز أن يُقتل بك ولده أو امرأته أو واحد من أقاربه، فهذا انتقام غير مشروع، بل أجمع العلماء على أن من أكره على قتل نفس معصومة لم يَجُز له تنفيذه، و لم يكن الإكراه عذرا شرعيا في هذا.

3- كان عليهم إذا أرادوا أن يقابلوا القتل بالقتل ألا يَقتلوا إلا الذين باشروه دون سائر المسؤولين، فبأي حق استباحوا دماء الجميع؟!

و لو تذرّعوا بأنهم عجزوا عن تمييز المسؤول المباشر للقتل عن غيره، فلجؤوا إلى قتل الجميع، لقلنا: هذا ظلم ذريع؛ لأنه لا يجوز تجميل أحد خطأ غيره؛ لأن الله يقول: {و لا تكسب كل نفس إلا عليها و لا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام 164).
و لمّا عجزوا عن قتل المسؤولين لجؤوا إلى الضعفاء من أقاربهم: النسوان و الولدان، فقتلوا من ظفروا به، فكان ظلما مضاعفا، و الله المستعان.

فأين عدلهم و هم يطالبون بدولة العدل؟!

قال الله ـ تعالى ـ: {أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم و أنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} (البقرة 44).

وروى البخاري (3045) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: (بعث رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ عَشَرَة رهطٍ سرية عَيناً، و أمّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطّاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة و هو بين عسفان و مكة، ذكروا لحيّ من هذيل يقال لهم بنوا لَحيان، فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل كلهم رام، فاقتصّوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزوّدوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فاقتصوا آثارهم، فلما رآهم عاصم و أصحابه لجؤوا إلى فدفدٍ1، و أحاط بهم القوم، فقالوا انزلوا و أعطونا بأيديكم و لكم العهد و الميثاق و لا نقتل منكم أحدا، فقال عاصم بن ثابت أمير السريّة: أما أنا فو الله! لا أنزل اليوم في ذمّة كافر، اللهم أخبر عنا نبيّك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد و الميثاق، منهم خبيب الأنصاري و ابن دثِنة و رجل آخر، فلمّا استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قِسٍيّهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر و الله! لا أصحبكم، إن لي في هؤلاء لأسوة يريد القتلى، و جرّروه و عالجوه على أن يَصحبهم، فأبى فقتلوه، فانطلقوا بخبيب و ابن دثِنة حتى باعوهما بمكة بعد وقيعة بدر، فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عامر ابن نوفل بن عبد مناف2، و كان خبيب هو قتل الحارث بن عامر بوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرا، فأخبرني عبيد الله بن عياض أن بنت الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها3، فأعارته، فأخذ ابنا لي و أنا غافلة حتى أتاه، قالت: فوجدته مُجلِسَه على فخذه و الموسى بيده، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، و الله! ما رأيت أسيرا قطّ خيرا من خبيب، و الله! لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب في يده و إنه لموثق في الحديد، و ما بمكة من ثمر، و كانت تقول إنه لرزق من الله رزقه خبيبا، فلمّا خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحِلّ قال لهم خبيب: ذروني أركع ركعتين، ثم قال: لو لا أن تظنّوا أن ما بي جزع لطوّلتها، اللهم أحصهم عددا.
و لست أبالي حين أٌقتل مسلما [][][] على أي شقّ كان لله مصرعي
و ذلك في ذات الإله و إن يشأ [][][] يبارك على أوصال شَلْوٍ ممزعِ4
فقتله ابن الحارث، فكان خبيب هو سنّ الركعتين لكل امرئ مسلم قُتل صبرا، فاستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب، فأخبر النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أصحابه خبرهم و ما أصيبوا، و بعث ناسٌ من كفّار قريش إلى عاصم حين حُدِّثوا أنه قُتل ليُؤتَوا بشيء منه يُعرف، و كان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر، فبُعث على عاصم مثل الظلة من الدَّبر5 فحمته من رسولهم فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا).

فأنت ترى أن خبيبا أُخذ مظلوما، ثم غُدر به، ثم علم أنه مقتول، ثم مكّنه الله من صبي لقوم أسروه بغير حق، فلم يحمله ذلك على قتله، قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ في 'الفتح' (7 / 384): [و فيه الوفاء للمشركين بالعهد و التورع عن قتل أولادهم]، فأين المشبوه من هذا الخُلُق الرفيع؟!

3- هذه الفتوى مبنية على الظن؛ و ذلك أن امتناع الدولة من قتل المسجونين من ’مجاهديهم!‘ بمثل التهديد السابق مجرد تصور، فكيف يبنى على الظن استباحة دماء أمة مسلمة معصومة الدم يقينا؟!

قال الله ـ تعالى ـ: {إن تتبعون إلا الظن و إن أنتم إلا تخرصون} (الأنعام 148).

و الحقيقة أن هذه الفتوى تدلّ على أن صاحبها أحد رجلين:

- إما أنه سخيف التفكير، ضعيف العقل؛ إذ توهّم أنه ـ بقتله النساء و الأطفال ـ يستطيع أن يضغط على عدوّه حتى يكفّه عما هو فيه، و قد دلّت التجربة و شهد التاريخ على أن ذلك يزيده طغيانا و عتوّا في الأرض و إثخانا في جِراح المسلمين، و قد قيل:
لكل داء دواء يُستطب به [][][] إلا الحماقة أعيت من يداويها

- و إما أنه محتال يحتج بأي شيء للوصول إلى مراده، و الستر على جماعته، و لو باستخفاف عقول قرّائه!

و إذا كانت نتيجة هذا الفعل هي أن يزداد صاحب الطغيان طغيانا، فإن صاحبه يرجع موزورا، و قد قال الله ـ تعالى ـ: {و لا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدوا بغير علم} (الأنعام 108).

5- إذا نظرنا إلى واقع البلاد الجزائرية، وجدنا أن عدد المقتولين من نساء المسؤولين المرتدين ـ عندهم! ـ وأطفالهم قليل جدا، لا تحدث نكاية، و لا تصلح لحكاية، و إنما حصل الاغتيال الأكبر لنساء الشعب و أطفالهم، الأمر الذي يدلّك ـ أخي القارئ! ـ على أن هذه الفتوى عبارة عن ذرّ للرماد في العيون، و الأمر لله!

6- ما هي نسبة المقتولين في السجون من قِبل النظام إلى نسبة المقتولين من الذريّة و النسوان من قِبل الثوّار؟
و الجواب معروف؛ لأن عدد من قُتل من الأسارى محصور بالنسبة لما يقابلهم، و لكن لا يُعقل أن يقول عاقل: (اقتلوا ما شئتم من الذرية و النسوان؛ حتى تتحرر البقية الباقية من الإخوان)؛ فهذا اعتداء و إسراف، قال الله ـ تعالى ـ: {و من قُتل مظلوما فقد جعلنا لوليّه سلطانا فلا يسرف في القتل} (الإسراء 33).

7- إن في كلام المشبوه إيهاما بأن كل من يُسجن يُقتل، و هذا غير صحيح، بل قتله أمر ظنّي؛ لأنه قد يعاقب بلا قتل، و قد يُحكم عليه بالإعدام و لا يُنفّذ فيه، و قد يُطلق سراحه، بل قد حصل للآلاف منهم ذلك كما هو معلوم، فكيف يُبنى تجويز قتل الشعب و ترويع المستضعفين من النساء و الولدان على أمر ظني؟!

و بأي حقّ تُذبّح شرائح واسعة من الشعب يقينا؛ لظن أن فلانا و فلانا سيُقتلون؟!

و إذا قُتل فلان و فلان، فبأي عدل يُقابل ذلك بغزو قرية كلّها؟!

فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "إن أعظم الناس فرية لرجل هاجى رجلا فهجى القبيلة بأسرها، و رجل انتفى من أبيه و زنّى أمّه" أخرجه ابن ماجه، و صحّحه الألباني في 'الصحيحة' (763).

و الحقيقة أن هذه الفتوى نُزّلت على غير محلّها؛ لأن الكلام هنا منصبّ على حكم غزو القرى و تذبيح أهلها جميعا بلا تمييز، كما فعلته الجماعة الإسلامية المسلّحة بالجزائر يقينا بلا ريب، و ليس هو من التترس أو تبييت المشركين كما مرّ.

و أمّا تحويل المسألة من هذه الصورة إلى صورة تذبيح عائلات المرتدين، فهو من اختراع المشبوه؛ لأنه لا واقع لها، إذ الذين قُتلوا من هؤلاء قليل جدا بالنسبة إلى الغزو الوحشي الجماعي.

و نحن لا نرى قتل هؤلاء و لا هؤلاء، و لكنني أحببت بيان الظلم الواضح عند من ينادي برفع الظلم و رفض الضَّيم.

ثم إن توقّف ’المرتدّين !‘ عن قتل المساجين إذا هدّدوا بقتل أهليهم أمر ظنّي، و قتل نساء ’المرتدّين !‘ أيضا أمر ظني؛ لأنهم لا يصلون إليهم غالبا، فكانت الفتوى ظنّا في ظن، مع ذلك استحلّت بها الدماء المعصومة، و الأمر لله!

8- لقد قال المشبوه قولا أبطل به فتواه من حيث لا يشعر، و ذلك حين قال فيما سبق: ”من المعلوم شرعا أن إحياء المسلم أعظم شأنا من قتل الكافر؛ فدفع المفاسد و إبطالها خير من جلب المنافع، و قتل المسلم مفسدة عظيمة، و أما قتل الكافر فمصلحة…!!“.

قلت: و إذا أردنا أن نطرِّد هذه القاعدة، قلنا: لا يجوز قتل المسلمين الذين تترس بهم الكفار تَوصُّلا إلى قتل الكفار؛ لأن ”مصلحة إحياء المسلم أعظم شأنا من قتل الكافر“ كما قال هو، إذاً عادت قاعدته عليه بالإبطال، فتأمل!

و ليس من شأني ههنا تبيين حكم التترس و ما إليه، لكن الشأن في تبيين تهافت أقوال هذا المشبوه، و أن آخرها كفيل بنقض أولها، و هذا هو حال المتعالمين، الذين يستقلّون بالفتيا، و لا يرفعون رأسا بعلم العلماء، و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

و مما يوضح خطورة استباحة دماء النساء و الولدان ما رواه ابن سعد في 'الطبقات' (2 / 91) و الواقدي في 'المغازي' (1 / 392،394) و ابن هشام في 'السيرة' (2 / 275) و أبو عوانة في 'مسنده' (4 / 221، 222-223) و البيهقي في 'دلائل النبوة' (4 / 33-34) في قصة إرسال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بعض أصحابه إلى أبي رافع اليهودي لقتله، و قد كان يؤذي النبي ـ صلى الله عليه و سلم ، فعن عبد الله بن عتيك ـ رضي الله عنه ـ: (... و لمّا صاحت بنا امرأته، جعل رجل منّا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهي رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ فيكفّ يده، و لولا ذلك لفرغنا منها بليلٍ).

قال ابن تيمية في 'الصارم المسلول' (2 / 258) بعد هذه القصة: [و إنما ذكرنا هذا رفعا لِوهم من قد يظنّ أن قتل النساء كان مباحا عام الفتح ثم حرُم بعد ذلك، و إلا فلا ريب عند أهل العلم أن قتل النساء لم يكن مباحا قطّ؛ فإن آيات القتال و ترتيب نزولها كلّها دليل على أن قتل النساء لم يكن جائزا، هذا مع أن أولئك النساء اللاتي كن في حصن ابن أبي الحُقيق إذ ذاك لم يكن يطمع هؤلاء النفر في استرقاقهن، بل هن ممتنعات عند أهل خيبر قبل فتحها بمدة، مع أن المرأة قد صاحت، و خافوا الشرّ بصوتها، ثم أمسكوا عن قتلها لرجائهم أن ينكف شرّها بالتهويل عليها].

فهذه قصة امرأة كافرة امتنع أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ من إصابة دمها، على الرغم من إحراجها لهم، و لذلك بوّب لها أبو عوانة في 'مسنده' (4 / 220) بقوله: 'بين خطر قتل النساء و الصبيان في دار الحرب و الغزو'.

أبو قتادة يعيد حجة ابن الأزرق الخارجي

نافع بن الأزرق الحنفي أبو راشد الخارجي، خرج في البصرة أيام ابن الزبير، كما الخطط للمقريزي (2 / 354).

قال البلاذري في 'جمل من أنساب قريش' (7 / 146): [و كتب نافع إلى من بالبصرة من الحرورية يدعوهم إلى الجهاد... فلما أتاهم الكتاب قال أبو بيهس هيصم بن جابر الضّبعي بقوله: في أن الدار دار كفر، و الاستعراض (أي القتل) مباح، و إن أصيب الأطفال فلا حرج على من أصابهم] ! !

قلت: ها هو مذهب صاحب مقالتنا كما مرّ، فقد قال بأن ديار المسلمين اليوم كلّها ديار كفر؛ لأن حكّامها كفّار عنده، و قال بإباحة القتل و إن أصيب الأطفال و النساء، و منه قوله في مجلة الأنصار، العدد (90)، في (ص 10)، بتاريخ (29 شوال 1415 هـ)، الموافق لـ (30/3/1995 م) و قد تم تصويره: ”و الخطاب هنا لمن آمن و اعترف أن جهاد هذه الطوائف الحاكمة لبلادنا هو تحت باب قتال المرتدين و جهادهم، و أن ا وقع في عصر الصحابة من قتال مسيلمة و سجاج و من معهما هو نفس قتال المجاهدين في الجزائر لطائفة الردة الحاكمة، و أن مخرجهما واحد، لا يفترق في نقير أو قطمير!“..

و قال فيه أيضا (ص 11): ”أن يرمى المرتدّون بآلات فيها مواد متفجرة تقتلهم هم و أبناؤهم و نساؤهم، و هذه حالة ذُكرت في كتب أهل العلم بالجواز! !“.

قلت: هذا واحد من الأدلة على أنهم يقاتلون المجتمعات الإسلامية حكّاما و محكومين على أساس تكفيرهم.

و قد كان الأزارقة يقتلون أطفال مخالفيهم حتى لا يكثر سوادهم، قال العسكري في 'الأوائل' (ص 367): [ثم تأوّل نافع بن الأزرق قول الله ـ تعالى ـ: {ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا (26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا (27)} (نوح 26-27)، تأوّل هذه الآية على أن قتل الأطفال و بَقر النساء على الأجنة حلال، فلمّا أظهر ذلك فارقه طائفة من أصحابه ثمّ قُتل...] ! !

و انظر 'الكامل' للمُبرد (2 / 284-285،288)، و كتاب 'جمل من الأنساب' للبلاذري (7 / 144)، و قارن بينها و بين قول المشبوه في خطبته المشار إليها: ”فهل قتل أولئك النساء و الأطفال ـ حتى لا يدفع الشر عن المسلمين، عن المسلمات ـ الذين يفجر بهم أولئك الكفار المرتدون إلا بقتل أبنائهم و التهديد بهم؟! هل هذه المسألة؟ دعني أقول لكم: ألا يبقى فيها شبهة قوية بجوازها؟! ألا يبقى شبهة قوية بجواز الوصول إليها؟!“.

إذاً فهو يقتلهم حتى لا يفجر بهم الذين سمّاهم: كفارا مرتدين! !

و لهذا لمّا أراد ابن الأزرق أن يستدل لقتله الأطفال بقصة الخضر مع الغلام، بيّن له ابن عبّاس بأن ذلك جائز إذا كان يميّز الطفل الذي يصير مؤمنا من الذي يموت كافرا؛ و ذلك على سبيل التعجيز له، ففي صحيح مسلم (1812) أن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال له: (و سألت هل كان رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقتل من صبيان المشركين أحدا؟ فإن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ لم يكن يقتل منهم أحدا، و أنت فلا تقتل منهم أحدا، إلا أن تكون تعلم منهم ما علم الخضر من الغلام حين قتله!)، و في رواية: (و تميّز المؤمن؛ فتقتل الكافر و تدع المؤمن! !)، قال ابن القيّم ـ رحمه الله ـ في 'أحكام أهل الذمة' (2 / 577): [فإذا رأيت الصغير بين أبوين مسلمين حكمت له بحكم الإسلام في المواريث و الصلاة و كل أحكام المسلمين، و لم يعتدّ بفعل الخضر؛ و ذلك لأنه كان مخصوصا بذلك لما علّمه الله من اعلم الخفيّ، فانتهى إلى أمر الله في قتله].

و مما ينبغي التنبه له أن حجة ابن عباس هذه هي نفسها التي نتلوها على المشبوه؛ لأن ابن الزرق استحل دماء الأطفال إذا أصيبوا في القتال كما مر في أول هذا الباب، و كذلك قال المشبوه، و قد مرّ، فتأمل كيف تشابهت قلوبهم!

--------------------------

1: أي الرابية المشرفة.
2: أي أنهم اشتروا خبيبا.
3: أي ليحلق بها عانته.
4: أي أعضاء جسد يقطّع.
5: أي مثلَ السحابة من الزنابير، و قيل: ذكور النحل؛ لتحميه من أن يقطّع شيء من جسده.
رد مع اقتباس
  #21  
قديم 24 May 2008, 09:51 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

أبو قتادة يجيز قتل النساء و الأطفال قصدا و لو لم يقاتِلوا


لم يقف إجرام المشبوه عند حد جواز قتل النساء و الأطفال من غير قصد إذا اختلطوا بالعدوّ، بل تعدّاه إلى جواز تقصّد قتلهم رأسا؛ طلبا للضغط على الجيش بذلك؛ قال في مقاله السابق (ص 12): ”و قد جاء في الحديث ـ كما سيأتي ـ جواز الهجوم على الذريّة و النساء؛ حتى ينخذل الكفّار و يتشتّت أمرهم، فتتوسع دائرة المعركة، فتسهل هزيمتهم؛ و ذلك بجزعهم على أبنائهم و نسائهم، و بتفرقهم من أجل حمايتهم، فقد روى البخاري في صحيحه في قصة الجاسوس الخزاعي الذي أرسله ليكتشف له شأن قريش، و هو قادم للعمرة، و ذلك في قصة الحديبية، فأخبره الجاسوس أن قريش (كذا) جمعت له حلفاءها من المقيمين حول مكة لزيارة البيت، فاستشار رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ أصحابه قائلا: "أشيروا عليّ: أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؛ فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين، و إن لم يجيئوا تكن عنقا قد قطعها الله، أم ترون أن نؤمّ البيت فمن صدّنا قاتلناه؟" انتهى، هذا لفظ عبد الرزاق في مصنفه، و قد رواه البخاري في صحيحه بألفاظ مقاربة، ففي الحديث جواز اتخاذ الذرية و النساء وسيلة ضغط على المشركين لتوهين أمرهم و تفريق جمعهم؛ فإن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أراد الهجوم على النساء و الذرية حتى يفرّق الحلفاء من حول قريش.

بهذا يتبين أن ما فعلته ’الجماعة الإسلامية المسلحة‘ من تهديد ذرية و نساء المرتدين بالقتل من أجل تخفيف وطأتهم على النساء و المساجين و الإخوان هو عمل شرعي لا شبهة فيه! ! !“.

النقد:

1- هذا ظلم بيّم، في كلام ليّن؛ و إلا فلا أدري لماذا عَدَل هنا عن التعبير بالقتل إلى التعبير بـ ’التهديد‘ فقط، و قد صرّح في بحثه كلِّه بأن الجماعة المذكورة قامت بالغزو الجماعي لديار المسلمين؟!

2- أين هي شرعية الجهاد في الجزائر حتى يُبنى عليها هذه الفروع الإجراميّة؟!

و يدخل تحت هذا البحث فروع أخرى يدندن حولها اليوم ’الجهاديّون!‘ من غير مراعاة لأصل المسألة، و من هذه الفروع قولهم:

- هل الاغتيالات جائزة؟ فيجيبون بلا معاناة: لقد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ باغتيال ابن أبي الحقيق اليهودي!

- هل يجوز تفجير البلاد الكافرة و قد يكون فيهم مسلمون؟ فيجيبون بلا مبالاة: قد رمى النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بلا تمييز!

- هل العمليات الانتحارية جائزة ؟ فيجيبون بلا مراعاة: قد اقتحم البراء بن مالك عسكر العدوّ!

- بل وصل بهم الضلال إلى القول بجواز اختلاس أموال الكفار و سبي نسائهم؛ استدلالا بفعل أبي بصير ـ رضي الله عنه ـ لمّا كان يُغير على قوافل قريش! ! !.

و الجواب الجامع لهذه الفروع يُعلم من الجواب عن السؤال الآتي: متى كانت الاغتيالات و العمليات الفدائية و ما يتبعها: أبعدَ مشروعيةِ الجهاد أم قبله؟

و متى كان أبو بصير يُغير على القوافل: أبعدَ مشروعية الجهاد أم قبله؟

و بتعبير آخر: هل كان رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقوم بهذه الأشياء و هو مستضعف في مكة؟

و الجواب معروف عند من لديه أدنى اطّلاع على سيرة الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ وجهاده، و لا أظن عاقلا يتصور المسلمين اليوم أقوياء و هم يستوردون الإبرة من عدوّهم، و الله المستعان.

بل إنك لتسأل هذه الجماعات التكفيرية: لماذا تعيشون في بلاد الكفر؟

فيجيبون بقولهم: لأننا مستضعفون في بلادنا... لا نجد حريّتنا... لا نعبد الله على راحتنا...

إذاً فهي شهادة منهم على أنهم مستضعفون، بل ستجد ـ فيما يأتي إن شاء الله ـ شهادة المشبوه على نفسه بأنه خرج من بلده؛ لأنه عجز عن الجهاد فيها! !

و الحق أن هذه المسائل مبنية على أصل مشروعية القتال؛ لأن القتال إذا شُرع تفرّع عنه ما سبق إقداما أو إحجاما فلا تتباحث مع أصحاب هذا الطرح مسائلهم تلك إلا بعد تصحيح أصلها؛ لأن الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ الذي أخذت عنه أحكام الجهاد ـ لم يكن يغتال أو يفجّر أو يجيز العمليّات الانتحارية أيام الاستضعاف.

ونسأل أولئك أيضا: كيف يتصرف المسلم تجاه من يؤذيه إذا كان مستضعفا، بل تجاه من يؤذي الله ـ عز و جل ـ و رسوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ؟

الجواب: قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'الصارم المسلول' (2 / 413): [فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر و الصفح عمن يؤذي الله و رسوله من الذين أوتوا الكتاب و المشركين...]

فدلّ هذا على أن آيات القتال تكون ناسخة لآيات الصبر عند وجود القوّة، و ليست ناسخة لها مطلقا، و لذلك قال بعد كلامه هذا مباشرة: [و أم أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون].

و إذا سألت عن الدليل، أجابك ابن تيمية نفسه بقوله في المصدر السابق (2 / 208): [الرابع: أن المسلمين كانوا ممنوعين قبل الهجرة و في أوائل الهجرة من الابتداء بالقتال، و كان قتل الكفّار حينئذ محرما، و هو من قتل النفس بغير حق، كما قال ـ تعالى ـ: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم}، إلى قوله: {فلما كتب عليهم القتال} (النساء 77)].

قلت: ها أنت ـ أخي القارئ! ـ بين علم و دليل، و من فضل الله عليك أن وُفِّق لك هذا الراسخ ـ رحمه الله تعالى ـ، فأَصْغ للعلم، و أذعن للدليل، و اعرف لأهل هذا الشأن قدرهم، و أنا أكرر هذا دائما ليرسخ؛ و لأنه خلاصة الكلام في مباحث الجهاد، و إن رُمْت تفسير ذلك زدتك من كلامه قوله عقبه مباشرة: [و لهذا أوّل ما أنزل من القرآن فيه نزل بالإباحة، بقوله: {أُذِن للذين يقاتَلون} (الحج 39)، و هذا من العلم العام بين أهل المعرفة بسيرة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ لا يخفى على أحد منهم أنه ـ صلى الله عليه و سلم ـ كان قبل الهجرة و بعيْدها ممنوعا عن ابتداء القتل و القتال، و لهذا قال للأنصار الذين بايعوه ليلة العقبة لمّا استأذنوه أن يميلوا على أهل منى: "إنه لم يؤذن لي في القتال"1، و كان ذلك بمنزلة الأنبياء الذين لم يِمروا بالقتال، كنوح و هود و صالح و إبراهيم و عيسى، بل كأكثر الأنبياء غير أنبياء بني إسرائيل، ثم إنه لمّا هاجر لم يقاتل أحدا من أهل المدينة، و لم يأمر بقتل أحد من رؤوسهم الذين كانوا يجمعونهم على الكفر، و لا من غيرهم].

ثم إن القول بمشروعية الجهاد أو عدمه غير متروك للمجاهيل، بل و لا للثقات من طلبة العلم، و إنما هو لأهل العلم، بل جعله ابن تيمية ـ رحمه الله ـ خاصا بخواصهم، فقد قال في 'منهاج السنة' (4 / 504): [و في الجملة فالبحث في هذه الدقائق من وظيفة خواص أهل العلم]، فأي عار يلحق من استجاب لذلك و هو يسمع الله يقول: {و لو رَدّوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه} (النساء 83)؟ !

وهذا الجواب كاف في حقيقته لتوقيف مباحثة تلك المسائل مع صاحبها، مع ذلك فإنني أتنقّل بالأجوبة الآتية:

3- من العجائب أن يقيس المشبوه النساء المسلمات و الأطفال المسلمين على النساء الكافرات و الأطفال الكفّار، و هذا دأبه في كل ما تجرّأ فيه على هؤلاء الأبرياء، و الله ـ تعالى ـ يقول: {أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} (سورة ص 28).

4- لا بد أن لا ينسى القارئ أن المشبوه استدل بهذه القصة لتسويغ قتل النساء و الأطفال في الجزائر، مع أنه ليس في شيء من روايات الحديث أنه ـ صلى الله عليه و سلم ـ أراد قتل هؤلاء النساء و الأطفال كما أوهم المشبوه، و إنما هو السبي فقط، و لذلك قال ابن حجر عند شرحه (5 / 352): [و فيه أشياء تتعلّق بالجهاد، منها جواز سبي ذراري الكفّار إذا انفردوا عن المقاتلة، و لو كان قبل القتال].

5- أن في الرواية بيانا لسبب استحقاق هؤلاء لهذه العقوبة، و هو أنهم كانوا تمالؤوا مع كفار قريش على حرب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أصحابه، كما في رواية البخاري (4178،4179) و عبد الرزاق (9720) و أحمد (4 / 328) و اللفظ له، و ابن حبان (4872) و الطبراني (2 / 13) و البيهقي (7 / 171) و (10 / 109) و غيرهم، عن المسور بن مخزمة و مروان بن الحكم ـ يصدّق كل منهما حديث صاحبه ـ قالا: (خرج النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ زمان الحديبية في بضع عشرة مئة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحليفة، قلّد رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ الهدي و أشعره، و أحرم بالعمرة، و بعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش، و سار رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريب من عُسفان أتاه عينه الخزاعي، فقال: إني قد تركت كعب بن لؤي و عامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش2، و جمعوا لك جموعا،و هم مقاتلوك و صادّوك عن البيت، فقال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "أشيروا عليّ: أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؛ فإن قعدوا موتورين محروبين3، و إن يحنُون تكن عنقا قطعها الله، أو ترون أن نَؤُم البيت، فمن صدّنا عنه قاتلناه؟" فقال أبو بكر: الله و رسوله أعلم يا نبي الله! إنما جئنا معتمرين و لم نجئ نقاتل أحدا، و لكن من حال بيننا و بين لبيت قاتلناه، فقال النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "فروحوا إذاً".

قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'منهاج السنة' (8 / 391): [ففي الحديبية لما شاورهم على أن يغير على ذريّة الذين اعانوا قريشا أو يذهب إلى البيت، فمن صدّه قاتله]، و قال ابن حجر في 'الفتح' (5 / 334): [المراد أنه ـ صلى الله عليه و سلم ـ استشار أصحابه: هل يخالفوا الذين نصروا قريشا إلى مواضعهم فيسبي أهلهم؛ فإن جاؤوا إلى نصرهم اشتغلوا بهم و انفرد هو و أصحابه بقريش، و ذلك المراد بقوله: "تكن عنقا قطعها الله"، فأشار عليه أبو بكر الصديق بترك القتال و الاستمرار على ما خرج له من العمرة حتى يكون بدء القتال منهم، فرجع إلى رأيه].

وحشية الأكباد الغليظة:
قتل والديه لأنهما كانا ينويان تزويج أخته من شرطي! !

لا يزال التسلسل الإجرامي بأعداء الجنس البشري ممتدَّ الحبل إلى دم آخر آدميّ تصله أيديهم، فقد نشرت مجلة الأنصار، فيعددها (147)، في (ص 4)، بتاريخ: (الخميس 14 من ذي الحجة 1416 هـ)، الموافق لـ (2/5/1996 م) صورة مقال من مجلة القتال، التي تصدرها الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر، في عددها (32)، و هي الناطق الرسمي لهذه الجماعة، تحت عنوان: ’كلمة العدد: هكذا ليكن الجهاد... إحياء لسيرة السلف! !‘ كما يمليه عليهم غلوّهم، و كان ممّا قالوه: ”لقد وصل أفراد الجماعة الإسلامية إلى درجة نحمد الله ـ تعالى ـ عليها بالبراءة من المرتدّين و أعوانهم، حتى لو كانوا آباءهم و أهليهم؛ و ما ذلك إلا بسبب فهمهم لعقيدة السلف الصالح و التشبه بسيرة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، فإن بعض عمليات أفراد الجماعة في تطبيق حكم الله في المرتدّين و أعوانهم كانت ضد آبائهم و إخوانهم، ففي بوقرّة4 قام شاب من أفراد الجماعة بتطبيق حكم الله ـ تعالى ـ في والديه؛ بعد ما رفضا حكم الله ـ تعالى ـ، و ذلك بقبولهما بتزويج أخته إلى رجل مليشيّ! ! !

فالحمد لله الذي أحيا فينا سيرة سلف الأمة الصالح {لا تجد قوما يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادّون من حادّ الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيّدهم بروح منه و يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم و رضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} (المجادلة 22).

فهذه خَيرات الجهاد، و هذه هي آثار نعمة الله ـ تعالى ـ على عباده إن سلكوا سبيل الأوائل في اتباع الكتاب و السنة ! ! !“.

صورة البيان السابق

[ ]

إنّ دافع هذه الفرحة التي غمرت أصحاب هذه القلوب الحجرية هو الولاء و البراء كما يتوهّمونه، و قد مرّ بنا نقل تزكية أبي قتادة لثورة هؤلاء حين قال في خطبته: ”الجهاد الواضح أنّ الجزائري يقتل الجزائري! لماذا يقتله؟ لأن هذا جند الله،وهؤلاء جند الطاغوت! أرأيتم في هذا الوقت جهادا بمثل هذا الوضوح؟!!“.

إن أي عسكري يُعدّ عندهم كافر، و من ثَمّ حرُم تزويج المرأة منه، و مَن قوي إيمانه عندهم و أراد أن يحيي (سيرة السلف!) قتل والديه إذا خالفا الحكم كما ترى!

قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "أوَ أملك إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة؟!" متفق عليه.

و الحقيقة أن بعض الخوارج أخفّ ضررا من هؤلاء الأجلاف، فقد ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري في 'مقالات الإسلاميين' (1 / 189) عن الضحّاكية ـ فرقة من الخوارج ـ أنهم: [أجازوا أن يزوّجوا المرأة المسلمة عندهم من كفّار قومهم في دار التَّقيَّة، فأما في العلانية ـ و قد جاز حكمهم فيها ـ فإنهم لا يستحلّون ذلك فيها] !

لماذا يغزون قرى المسلمين في الجزائر؟

جاء في المقال السابق قولهم في أوله: ”بعد أن نُقِّيَّ الصف، و تمايزت الصفوف، و بدأت تظهر بوادر معرفة حقائق القرى و المدن، و خلوصها إلى نصرة المجاهدين أو دخولهم في دين الطاغوت، و انضمامهم إلى الميلشيات، فإن المعركة على أرض الجزائر تزداد قوّة و ضراوة... ! !“.

النقد:

1- هذا وصف صريح من الجماعة الإسلامية المسلحة لمدن الجزائر و قراها، فهي عندهم إما معهم فأهلها مسلمون، و إما هي لم تنضم إليهم فأهلها كافرون! !

و أمّا وصفهم القرى و المدن بأنّها انضمّت إلى الميليشيات فهذا تهويل بالباطل؛ لأنه لم يُعرف أن القرى كانت تقاتل مع عساكر الدولة!

فتأمل هذه الكذبة؛ لتعلم مبلغ ديانة هؤلاء الذين يتشدّقون كثيرا بدولة الإسلام، و دولة الإسلام تتنزّه عن الكذب، لا سيما إذا كان وراء ذلك استحلال ما حرّم الله من الدماء و الأعراض.

ثم هي مراوغة و تقيّة، و ما داموا يسندون ظهورهم إلى التقيّة فليس لنا معهم حيلة، كما قيل:
من كان يخلق ما يقو [][][] لُ فحيلتي معه قليلة

و الحقيقة المرّة أنهم انطلقوا في ذلك من مذهب أسلافهم أزارقة الخوارج، قال أبو الحسن الأشعري ـ رحمه الله ـ في 'المقالات' (1 / 174):
[و زعمت الأزارقة أن من أقام في دار الكفر فكافر، لا يسعه إلا الخروج].

ثم لو قاتلت هذه القرى أولئك الوحوش للدفاع عن نفسها لما كان لأحد عليهم سبيل؛ فإن الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، و من قُتل دون أهله فهو شهيد، و من قُتل دون دينه فهو شهيد، و قتل دون دمه فهو شهيد" رواه أحمد و أبو داود و النسائي و الترمذي، و صححه الألباني في 'أحكام الجنائز' (ص 57)، و بعض فقراته في الصحيحين.

ولقائل أن يقول: نحن نخرج على هؤلاء السلاطين دفاعا عن أموالنا و أنفسنا انطلاقا من هذا الحديث، و الجواب: أن السلطان مستثنى ههنا؛ للنصوص المتواترة في الأمر بالصبر عليهم في ذلك، قال ابن المنذر ـ رحمه الله ـ في 'الأوسط في السنن و الإجماع و الاختلاف' (ص 407): [و الذي عليه عوام أهل العلم، أن للرجل أن يقاتل عن نفسه و عن ماله و أهله إذا أُريد ظلما؛ للأخبار التي رُوِيت عن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال: "من قُتل دون ماله فهو شهيد"، لم يخص وقتا دون وقت، و لا حالا دون حال إلا السلطان؛ فإن كل من نحفظ عنهم من علماء أهل الحديث كالمجمعين على أنه من لم يمكنه أن يمنع نفسه و ماله إلا بالخروج على السلطان و محاربته أنه لا يحاربه، و لا يخرج عليه للأخبار التي جاءت عن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ بالأمر بالصبر على ما يكون منهم من الجوْر و الظلم، و تَرك قتالهم و الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة].

2- من ذلك الوصف، انطلقوا يغزون القرى غزوا جماعيا،و هم يرون أن الصفوف متمايزة، إذا فلا يحتاجون إلى تمييزها، و أنهم حين أبادوا قرًى كاملة إنما أبادوا كفّارا!

فهل يسوغ ـ بعد شهادة القوم على أنفسهم ـ أن يبرَّؤوا مما يفتخرون به من جرائم؟!

فيا لله العجب من قوم وقفوا يوعِدون و يصدّون عن سبيل الله، لا يرون فاعلا لهذه الجرائم سوى المخابرات، و هم يقرٍؤون معنا هذا الاعتراف من صاحب الجريمة نفسه! !

يقول الله ـ تعالى ـ: {يأيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله و لو على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين} (النساء 135).

------------------------------------------

1: عن كعب بن مالك قال: (كان أوّل من ضرب على يد رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ البراء بن مَعرور، ثم تتابع القوم، فلما بايعنا رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفَذ صوت سمعته قطّ: يا أهل الجبَاجب! هل لكم في مذمّم و الصباة معه، قد اجتمعوا على حربكم، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: ما يقول عدوّ الله، هذا أَزب العقبة، هذا ابن أزيب، اسمع عدوّ الله، أما و الله! لأفرغنّ لك، ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: ارفضُّوا (أي اذهبوا و تفرّقوا) إلى رحالكم، فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: و الذي بعثك بالحق! لئن شئت لَنميلنّ غداً على أهل منىً بأسيافنا، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: لم نُؤمر بذلك، و لكن ارجعوا إلى رحالكم، قال: فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا...) أخرجه ابن هشام في 'السيرة' (2 / 297) و ابن سعد (1 / 223) و أحمد (3 / 461) و الفاكهي في 'تاريخ مكة' (4 / 238) و ابن جرير في 'تاريخه' (2 / 464-465) و اللفظ له، و البيهقي في 'دلائل النبوة' (2 / 444-449)، و هو صحيح؛ فإن معبد بن كعب بن مالك تابعه جمع عند ابن سعد.
و في 'معجم ما استعجم' للبكري (1 / 361) في معنى الجباجب: [قال الحربي: هي منازل منى]، و في 'غريب الحديث' لابن قُتيبة (2 / 179): [قال الأصمعي: و لا أحسبه سُمّي بذلك إلا لأن الكروش (أي كروش الأضاحي) تلقى فيه أيام الحج، و الكروش يقال لها الجباجب، واحدها جبجبة بفتح الجيمين، فسُمي المكان بها لكثرتها فيه.]
و في 'المعجم' أيضا (ص 362) [عن الحربي أنه قال: و الجبجب المستوي من الأرض ليس بحزونة]، و كذلك هي أرض منى.]
و أما كلمة (مذمّم) فإن معناها المبالغة في الذم، يقصدون به الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال ابن حجر في 'الفتح' (6 / 558): [كان الكفار من قريش من شدة كراهيتهم في النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ لا يسمّونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده، فيقولون مذمّم! !].
و أما الصباة، فإنه جمع الصابئ خُفّفت همزته، و هو الذي خرج من دين إلى دين، و يقصدون بذلك المسلمين، انظر 'لسان العرب'، مادة صبأ.
و في هذا الحديث دليل واضح على أن الشيطان يحرص على استفزاز الكفّار ضد المسلمين، إذا كان هؤلاء ضعفاء، و أنه يفرح لتحرّك المسلمين لمواجهة عدوّهم في وقت الضعف إذا استُفِزّوا بتعذيب و نحوه؛ كي لا يتمكّنوا من التقوّي في دينهم و دنياهم، لأن السِّلم يخدم الدعوة خدمة عظيمة، و لا أدلّ من ذلك قَبول النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ صلح الحديبية على الرغم مما كان فيه من ظلم للمسلمين، فليتأمّل هذا المتعجّلون المتحمّسون لردّ استفزاز الأعداء؛ متوهّمين أن مواجهتهم ـ في هذا الظّرف ـ تكُف شرهم أو تُخفّفه أو تُثبت وجودهم على حدّ تعبيرهم العصري، مع أن الواقع يكذّب ذلك.
و قد كان وجود رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ بين أظهرهم من أعظم الأسباب التي حفظ الله بها تلك العصبة المؤمنة ـ رضي الله عنهم ـ، يدفع عنهم ـ بحكمته ـ الحماسة الزائدة، و لذلك لمّا صدّق المشركون الشيطان إذ صاح بهم، أتوا رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أصحابه فوجدوهم نائمين، فنامت الفتنة، و حُفِظت العصبة المؤمنة، و لو حصل مثل هذا الاستفزاز الشيطاني لبني جلدتنا اليوم لأقرّوا عين الشيطان، و الله المستعان.
و عن عبد الله بن عبّاس أن عبد الرحمن بن عوف و أصحابا له أتوا النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بمكة، فقالوا: يا رسول الله! إنا كنّا في عِز و نحن مشركون، فلمّا آمنّا صرنا أذلّة، فقال : "إني أُمِرت بالعفو، فلا تقاتلوا" رواه النسائي و هو صحيح.
2: قال ابن تيمية في 'منهاج السنة' (8 / 407-408): [الأحابيش: و هي الجماعات المستجمعة من قبائل، و التحبّش: التجمّع].
3: قال السِّندي في شرحه على 'المسند' كما في طبعة الرسالة (31 / 254): [موتورين: أي منفردين على الأهل و المال، محروبين: أي مسلوبين منهوبي الأموال و العيال].
4: منطقة قريبة من عاصمة الجزائر.

التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 24 May 2008 الساعة 10:57 PM
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 25 May 2008, 10:31 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

أقوال العلماء في حكم قتالهم


اعترافه بأن العلماء لم يزكّوا قتال الثّوار بالجزائر


إن من محاسن الشريعة الإسلامية أن الله ـ تعالى ـ حافظ دينه من كل تحريف، و أن نصوص الكتاب و السنة التي أنزلها الله على قلب رسوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ من أول يوم هي نفسها التي بين أيدينا اليوم، كما قال سبحانه: {إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون} (الحجر 9)، و أن الله ـ تعالى ـ انتخب لهذه الشريعة فرسانها يدفعون عنها العاديات ف كل زمان؛ لقول رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" الحديث متفق عليه، و قد اتفقت كلمة أهل العلم على أن هذه الطائفة هي علماء الأمة أتباع الأثر، الذين هم أعرف الناس بهدي المصطفى ـ صلى الله عليه و سلم ـ، قال احمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ: [إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟!] رواه الحاكم في 'معرفة علوم الحديث' (ص 2) بإسناد صحيح، و كذا قال عليّ بن المديني و يزيد بن هارون و عبد الله بن المبارك و البخاري و غيرهم، و قال البخاري و مالك ـ رحمهما الله ـ: [هم أهل العلم]، و لا منافاة بينهما؛ لأن أهل العلم عندهم هم أصحاب الحديث؛ إذا لا يعلم أنه كان لمالك و البخاري من درس سوى [حدّثنا...]، و لذلك جمع بينهما أحمد بن سنَان ـ رحمه الله ـ فقال: [هم أهل العلم و أصحاب الأثر]، راجع 'السلسلة الصحيحة' للألباني عند الحديث (270). و أنا أعلم أن هؤلاء الثوّار المشار إليهم أعلاه يفسّرون الطائفة المنصورة بـ ’المقاتلين‘؛ لشُبَه أوردوها على بعض الروايات توهّموها حجة، و سأفصّل الرد عليهم في كتاب مستقلّ إن شاء الله.

و لمّا كان الأمر كذلك وجب على كل مسلم أن يرجع إلى العلماء فيما جهِله من دينه؛ لأن الله يقول: {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل 43)، و لا سيما إذا كان الأمر نازلة نزلت بالمسلمين فإنه لا بد من أن يرجع فيها إلى علماء زمانه؛ لأن الله يقول: {و لو ردّوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء 83).

و نحن لمّا رجعنا إلى علماء زماننا – الذين يتنكّبهم أصحاب الأهواء ـ وجدنا كلمتهم واحدة في المسألة الجزائرية، و قد كنت جمعتها في كتابي: 'فتاوى العلماء الأكابر فيما أُهدر من دماء في الجزائر'، و ها أنا ذا أجتزئ منها ما يأتي:

- سُئل فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ عن حكم الذين خرجوا على الحكومة الجزائرية فقال: [فنحن ذكرنا دائما و أبدا بأن الخروج على الحكّام ـ لو كانوا مقطوع بكفرهم... لو كانوا من المقطوع بكفرهم ـ أن الخروج عليهم ليس مشروعا إطلاقا...إن ما يقع سواء في الجزائر أو في مصر، هذا خلاف الإسلام].

و قال ـ رحمه الله ـ في جوابه عن القتال القائم في الجزائر: [نحن نؤيّد كل من يدعو إلى الرّدّ على هؤلاء الخارجين على الحكّام، و الذين يحثّون المسلمين على الخروج على الحكّام]، انظر مصدر هذه الفتوى في الكتاب المذكور قبل.

كما سُئل أيضا عمن يقاتلون الدولة المصريّة حتى تحكم بما أنزل الله، فيُقتلون؟ فقال: [ليس فيهم من يصحّ أن يقال أنه شهيد]، من شريط سمعي لـ 'سلسلة الهدى و النور' رقم (470 / 1)، و علّل ذلك بكون هؤلاء الخارجين قد خالفوا سيرة الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ في دعوته و جهاده.
- وقال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ: [إن كان أحد من الدعاة في الجزائر قال عنّي: قلت لهم: يغتالون الشرطة أو يستعملون السلاح في الدعوة إلى الله هذا غلط ليس بصحيح، بل هو كذب... الدعوة إلى الله كما كان النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ و أصحابه في مكة المكرمة قبل أن يكون لهم سلطان، ما كانوا يدعون الناس بالسلاح، يدعون بالآيات القرآنية و الكلام الطيب و الأسلوب الحسن؛ لأن هذا أقرب إلى الصلاح و أقرب إلى قبول الحق، أما الدعوة بالاغتيالات أو بالقتل أو بالضرب فليس من سنة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ و لا من سنة أصحابه...].

- و سُئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ عما يأتي:
هل كذلك أنكم قلتم باستمرار المواجهة ضد النظام بالجزائر؟
فأجاب بقوله: [ما قلنا بشيء من ذلك]، قال السائل: في اشتداد هذه المضايقات هل تُشرع الهجرة إلى بلاد الكفر؟ قال الشيخ: [الواجب الصبر؛ لأن البلاد بلاد إسلام، يُنادى بها للصلوات و تُقام فيها الجمعة و الجماعات، فالواجب الصبر حتى يأتي الله بأمره].

بل أمر كل حامل سلاح في الجزائر بإلقائه، و شدّد النكير عليه حتى حمّله مسؤولية الدماء و الأعراض و الأموال المنتهكة هناك، فقال: [نرى أنه يجب عليهم وضع السلاح و إلقاء السلام، و إلا فكل ما يترتب على بقائهم من قتل و نهب أموال و اغتصاب نساء فإنهم مسؤولون عنه أمام الله ـ عز و جل ـ، و الواجب عليهم الرجوع].

هذا القول هو قول سائر العلماء السلفيين، أمثال أصحاب الفضيلة الشيخ حمّاد الأنصاري ـ رحمه الله ـ، و الشيخ محمد السُّبَيل الرئيس العام لشؤون الحرمين، و السيخ عبد المحسن بن حمد العبّاد البدر، و الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، و الشيخ صالح السدلان، و الشيخ أحمد النجمي، و الشيخ زيد المدخلي، و غيرهم من أهل العلم، و هم ـ حفظهم الله جميعا ـ القوم لا يشقى بهم جليسهم إن شاء الله.

فهؤلاء هم العلماء السلفيون، يعرف ذلك من يحبّهم و من يبغضهم، فأي سلفية هذه التي يدّعيها أبو قتادة و من شايعه من متهوّري الشباب؟!

و يا أيها العقلاء! أتذرون هؤلاء العلماء الذين لهم في العلم مقام معلوم إلى قول رجل مشبوه؟! {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}؟! (البقرة 61)، فبأي علم استخفّ عقولكم؟!

و قد رحمكم ربكم بأن أجرى الحق على لسانه، حين شهد بنفسه على فتنة الجزائر بأنها لم تحظ بتزكية أهل العلم، فقد قال في الخطبة المشار إليها: ”المجاهدون ـ إلى الآن ـ الذين يقاتلون طوائف الردة لم يأخذوا الإذن الشرعي من المشايخ و العلماء؛ لأن المشايخ ـ بكل صراحة و وضوح ـ لأن مشايخنا و علماءنا، لأنهم أتباع حكّامنا! و لا يقولوا (كذا) إلا ما يقول الحكّام! عندما يُطلب منهم من حكامنا يعطونها، و إلى الآن حكّامنا لا يرضوا (كذا) عن أولئك المجاهدين! !“.

أقول: لو لم يكن في إبطال الجهاد الشرعي المدّعى في الجزائر إلا هذا لكفى ذوي العقول السليمة، لكنني أخشى أن يكون أمر أتباعه كما قال ـ تعالى ـ: {فاستخفّ قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين} (الزخرف 54) !

و لقد قرأت مقالا لرجل تكنّى بـ ’أبي اليقظان‘، و عرّف نفسه بـ ’عضو الهيئة الشرعية للمنطقة الثانية‘ أي من الجماعة الإسلامية المسلحة بالجزائر كما هو على طرّه مقاله الذي بتاريخ: (الأحد 12 صفر 1419 هـ)، و بعنوان: ’التعقيب الحسن على أجوبة الشيخ علي حسن‘، يردّ فيه على الشيخ علي حسن عبد الحميد، فكان مما انتقده على الشيخ أن أورد قول الشيخ علي ـ حفظه الله ـ: [فكيف يجوز أن تكون هذه الفتنة العمياء شاملة لأولئك، شاملة لهؤلاء النساء و الشيوخ و الأطفال بغير دين و بغير بيّنة، و بغير فتوى ممن هم أكابر في علمهم و أكابر في دينهم، إلا من أولئك الأفراد الذين ليسوا في العير و لا في النفير؟!].

فقال المومى إليه أعلاه: ”أما قوله: [...و بغير فتوى ممن هم أكابر...]، فأقول إن كان المقصود بذلك فتوى على الاعتداء على الشعب و النساء فليس هناك فتوى: لا من بريطانيا، و لا من غيرها؛ أقول هذا حتى لا نظلم الناس، و أبو قتادة يستنكر ذلك، و قد سمعت له شريطا في هذا، و إنما هي فعل الاستخبارات و بعض الجهلة من التكفير و الهجرة! !

و إن كان المقصود أنه لا فتوى على الجهاد من علماء أكابر، فأقول: هذا خطأ؛ فإن للشيخ عبد الله الغنيمان ـ حفظه الله ـ شريطا أفتى فيه بالجهاد في الجزائر، و ذلك سنة (94) أو (95) ـ أي السنة الميلادية ـ فيما أذكر و الله أعلم“.

صورة غلاف المنشور

[ ]

صورة المقال السابق

[ ]

قلت: لي على هذا التعقيب تعقّبات، هي:

1- إن أبا اليقظان ينفي وجود فتوى من بريطانيا ـ بل و من غيرها ـ في مشروعية الاعتداء على الشعب و النساء، و قد نقلت لك ـ أخي القارئ! ـ نص الفتوى في ذلك، فما قيمة إنكارك ـ يا أبا اليقظان! ـ لو كنت يقظانا؟!

2- و أغرب ما رأيت له هنا: إثباته استنكار أبي قتادة لهذه الفتوى و هو صاحبها! !

و قد صرّح بها في خطبته كما سبق، و دوّنها في مجلّته ’الأنصار‘ في عددها (90)، في (ص 10)، بتاريخ: (29 شوّال 1415 هـ)، بعنوان: ’فتوى كبيرة الشان حول جواز قتل الذرية و النسوان درءاً لخطر هتك الأعراض و قتل الإخوان‘!!!

و قد صدرت هذه الفتوى ـ التي سبق تصويرها هنا ـ سنة (1415 هـ)، و أبو اليقظان استيقظ في سنة (1419 هـ) فكتب مقاله هذا، فهل يعقل أن تخفى عليه هذه الفتوى طيلة أربع سنين، و قد كانوا أنشط ما كانوا في إراقة الدماء؟!

و إذا كانت جماعة أبي اليقظان من حين صدور الفتوى إلى هذا اليوم و هي تُزهق الأرواح بشهادة مجلة مفتيها كما سبق، فأين كان أبو اليقظان؟!

3- لقد ذكر هذا المتعقّب أنه سمع أبا قتادة يستنكر الاعتداء على الشعب و النساء!

و بناء على ما سبق، فلا بدّ من أن يكون أحدهما كاذبا، إما أبو قتادة في استنكاره، و قد فضحه لسانه و قلمه، و إما أبو اليقظان في نسبته الاستنكار إلى أبي قتادة، و قد خانته يقَظته أحوج ما يكون إلى يقظة!

و إذا كانت الجماعة المسلحة لا ترضى أن يُنسب الكذب إلى ’عضوها الشرعي!‘ فلترض إذاً بنسبة الكذب إلى ’مفتيها الشرعي!‘، و هذه مصيبة المصائب؛ حين تعتمد ’جماعة مجاهدة لإقامة دولة الإسلام! ‘ على الفتاوى الكواذب! !

و ثَمّ احتمال آخر أذكره من باب حسن الظن بل من باب التغافل، و هو أن يكون لأبي قتادة رأيان في المسألة: قول خاص بمن يقبله من الغلاة، و قول خاص بمن لا يقبله من المتظاهرين بالاعتدال!

و على هذا، فنحن نهنّئ الجماعتين جميعا بمفتيهم مزدَوَج المذهب، بل ثلاثي المذهب؛ لأنه زاد ’جبهة الإنقاذ‘ فضمّها إليه كما سبق، و معلوم أن ’جبهة الإنقاذ‘ غير ’الجماعة الإسلامية المسلحة‘، و غير ’المتسلِّفين!‘ زورا كأمثال صاحب هذا المقال!

و لو استُزيد أبو قتادة من قِبل جماعة أخرى لزادهم، بدليل أنه ذكر في خطبته هذه أنه يقاتل مع جميع الخارجين حتى و لو كانوا خوارج إباضية، بل أزارقة كما سيأتي نقله عنه ـ إن شاء الله ـ في القسم الثاني من هذا الكتاب! !

4- لقد اعترف صاحب التعقيب بوجود اعتداء على الشعب و النساء من قبل ’بعض الجهلة من التكفير و الهجرة‘ على حد تعبيره، و هؤلاء هم أصحاب أبي قتادة، كما نص عليه هذا الأخير في خطبته!

و إذا كان كل من هؤلاء و أولئك ينسبون الرجل إليهم، و يبرأ بعضهم من بعض، فلمن يكون أبو قتادة حقيقة؟!!

5- أخبر صاحب التعقيب بوجود فتوى للشيخ الغنيمان؛ ليسلِّك جهاده من فتوى الأصاغر إلى فتوى الأكابر حتى تجوز دماؤهم القنطَرة، و قد أرّخها متردّدا بين سنة (1994 م) و سنة (1995 م)، و هذا التاريخ وحده كاف للحكم على جهاد هذه الجماعة بأنه بُني على شرارةِ شباب لا على نظر أهل العلم؛ لأن خروجهم كان قبل ميلاد الفتوى المنسوبة للشيخ، أي أن ادِّعاءه أن قتالهم كان مبنيا على غرار فنوى لعالم كذِب؛ لأنه مما يُرتاب فيه أن قتال هؤلاء الثوّار كان قبل ذلك، بل سمعت قبل ذلك بثلاث سنوات تقريبا من استحلّ دم رئيس الجمهورية في خطاب علنيّ و عساكر الرئيس يسمعون، في ساحة الإضراب المشهور، ساحة أول ماي بعاصمة الجزائر، و دعا إلى حمل السلاح، فالتحق منهم من التحق بركبهم المشؤوم! فكيف يزعم إذا أن جهادهم كان تابعا لفتوى أهل العلم؟!

لذلك ينبغي لهذه الجماعة أن تعترف ـ و الصِّدق محمود العاقبة ـ بأن خروجها كان من نفسها لا من فتوى هيئة شرعية من أهل العلم، و أن الأمر كان بعيدا عن تدبير أهل العلم، و إنما فُتِّش عن ’الفتوى الشرعية! ‘ بعد أن وجدوا أنفسهم وحدهم، فأرادوا بذلك برقعة وجه خارجيّتهم!

و كم أجهدنا أنفسنا يومها لإيصال فتاوى أهل العلم إليهم، إلا أن القوم كانوا في نشوة و غرور.

5- أنقل ههنا فتوى الشيخ عبد الله الغنيمان ـ وفقه الله للخير ـ في المسألة نفسها، و هي في هذه السنة سنة (1421 هـ)، في مجلسين مختلفين، في أحدهما فتوى شفويّة و هي مسجّلة، و في الآخر فتوى شفوية و كتابية.

أما في المجلس الأول، فقد سُئل الشيخ عما يتناقله بعض الجزائريين من أنه أفتاهم بحمل السلاح في وجه دولتهم؟

فأجاب ـ وفقه الله للخير ـ بقوله:
[بسم الله الرحمن الرحيم، بلغني أن في الجزائر من يقول أني قد أفتيت بجواز الخروج عن المسلمين، و بالتالي فأقول: إن هذا افتراء و بهتان، و أنا أبرأ إلى الله من ذلك، و أعلن بأن هذا لا يجوز؛ لأن قتال المسلمين من أكبر المحرمّات، و أنّ قتل مسلم بلا حق أعظم عند الله من زوال السماوات و الأرض، قال الله ـ تعالى ـ: {و من يقتل مؤمنا متعمّدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعدّ له عذابا عظيما} (النساء 93).

كما أنه لا يجوز الخروج على الإمام المسلم و لو ظلم و أخذ المال؛ لأن الأحاديث الكثيرة جاءت عن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ جاءت بالتحذير من ذلك، و لما يترتّب على هذا من المفاسد و سفك الدماء و نهب الأموال و التعرّض لأعراض المسلمين، و الله أعلم، و صلى الله و سلّم على نبيّنا محمد.

قاله عبد الله بن محمد الغنيمان في اليوم (4/5/1421 هـ)، و صلى الله و سلّم على نبيّنا محمّد]. شريط سمعي.

و أمّا في الثاني، فهذا نص السؤال:

إلى فضيلة السيخ عبد الله بن محمد الغنيمان ـ حفظه الله و رعاه ـ:
لقد استند بعض من حمل السلاح و خرج في الجزائر على الحكّام على فتواكم بأنه يجوز الخروج في الجزائر و محاربة الحكّام و من والاهم من الشعب، مع العلم أن الجزائر حاكما و محكومون مسلمون، و يؤدّون الصلوات الخمس و باقي أركان الإسلام.

فهل هذه الفتوى صحيحة منكم؟ و ما نصيحتكم لهؤلاء الذين يحملون السلاح، مع العلم أن الحكومة جعلت مصالحة عامة بين الشعب الجزائري و العفو الشامل على جميع من استسلم و وضع السلاح؟

فأجاب بقوله:
[الحمد لله ربّ العالمين، و صلى الله على عبده و رسوله نبيّنا محمد و آله و صحبه.

و بعد، فإذا كان المر كما ذكر، فالذي أرى أنه متعيّن على من يحمل السلاح أن يلقيه و يسعى بالمصالحة، و ما تدعو إليه الحكومة من المسألة، ثم الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ عن طريق التفاهم مع الحكومة، و أرى في مثل هذه الحال أنه لا يجوز الخروج و حمل السلاح؛ لما يترتّب عليه من المفاسد من سفك دماء المسلمين و إخافتهم و إخافة الطرق و غير ذلك من المفاسد الكبيرة، و قد ذكر العلماء أنّ من قواعد الإسلام احتمال المفاسد القليلة لدفع ما هو أعظم مفسدة، ثم عن حمل السلاح و الخروج في مثل ما ذُكر لا يأتي إلا بما لا تُجمد عقباه.

أسأله ـ تعالى ـ أن يوفّقنا و إخواننا لما فيه خير الدنيا و الآخرة، و أن يدفع عنا جميعا ما فيه إضرار على المسلمين.
قاله وكتبه الدكتور عبد الله بن محمد الغنيمان، في (19/11/1421) هـ].

توقيع الشيخ.

صورة فتوى الشيخ عبد الله الغنيمان لأهل الجزائر

[ ]

إذا كان قد ثبت لديكم أن الشيخ يدعوكم إلى وضع السلاح في آخر ما أفتى به، فما قيمة قولكم: ”فإن للشيخ عبد الله الغنيمان ـ حفظه الله ـ شريطا أفتى فيه بالجهاد في الجزائر...“؟ !

فها هنا ثلاثة أمور:

الأول: أنهم نسبوا إلى الشيخ الفتوى بالخروج، و أنا أعلم بأنهم لا يزالون مصرّين على هذا.

الثاني: أن الشيخ يكذّبهم في نسبة هذه الفتوى إليه.

و أنا لا يهمّني كثيرا تتبع هذه الحكاية بقدر ما يهمّني أن ينتبهوا إلى مآل كلامهم في الاتكاء على ما ينسبون للشيخ؛ لأن النتيجة ـ بعد استسماح الشيخ ـ تكون كما يأتي:

- إمّا كذبهم فالنتيجة وخيمة.

- و إما صدقهم، فالنتيجة أشد؛ لأنهم يجرّئون بذلك الناس على أن يطعنوا على الشيوخ الذين ينتسبون إليهم، بل يجرّئون الأحزاب العلمانية على الإسلام؛ على أساس أن شيوخ المسلمين كذبة، فبأي شيء ندينهم و أحلاهما مر؟!!

ثم هل يُعقل أن يقوم جهاد أو أن تشاد دولة الإسلام على الفِرى، قال الله ـ تعالى ـ: {إن الله لا يُصلح عمل المفسدين} (يونس 81)، و الله المستعان.

الثالث: أنه لو سلّمنا بوجود هذه الفتوى، فقد وُلد خروجهم قبل أن تولد؛ بدليل ما سبق بيانه قريبا، و هذا وحده يبيّن للعاقل أنهم أتباع هوى.

فبان حينئذ صدق مقولة الشيخ علي سن فيهم، و هو أن جهادهم لا يزكّيه العلماء، كما بان صِدق مقولة مفتيهم ـ و هو كذوب ـ التي سبق نقلها، ألا و هي قوله: ”المجاهدون ـ الآن ـ الذين يقاتلون طوائف الردّة لم يأخذوا الإذن الشرعي من المشايخ و العلماء“.

تنبيه مهمّ:

لقد انتبه بعض الثوّار في الجزائر إلى أن ثورة لا يزكيها أهل العلم لا تجد لها أتباعا،بل إن أتباعها أنفسهم يوشك أن تضعف ثقتهم بمصداقية قتالهم، فلذلك جعلوا يبحثون عند أهل العلم المعاصرين عما يُشبه ما هم عليه، فيا فرحتهم و هم يعثرون على شريط لمعالي الشيخ وزير الشؤون الإسلامية و الأوقاف و الدعوة و الإرشاد بالمملكة العربية السعودية فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ـ حفظه الله ـ، قد حسِبوه لهم و هو عليهم؛ و ذلك لسببين:

الأول: أن الشيخ ـ حفظه الله ـ قد نص في الشريط نفسه على أن خروجهم غير مشروع.

و الثاني: أن تاريخ الشريط كان في سنة (1417 هـ)، و هم خرجوا قبل ذلك بخمس سنين على أقصى تقدير، فقد قالت الجماعة السلفية للدعوة و القتال في رسالتها إلى أبي بصير كما في ’إرشاد ذوي البصائر من مجاهدي أهل الجزائر لما في هذه المرحلة من مخاطر‘ (ص 1)، حيث جاء في نص خطابهم قولهم: ”...فإن البداية كانت عام 1412 هـ، و كانت على ’منهج صحيح وفق الكتاب و السنة و المنهج السلفي! !‘، و كان هناك طلبة علم كثيرون، منهم من قُتل ـ رحمهم الله ـ، و منهم من أُسر، و بذهابهم بدأت بوادر الغلوّ و الزيغ تظهر، و كان ذلك جليّا عام 1417 هـ عند مقتل أخينا أبي عبد الرحمن جمال زيتوني ـ رحمه الله ـ، الذي كان أميرا للجماعة آنذاك“.

و لا يفوتني أن أنبّه على أن عثورهم على شريط الشيخ كان بعد سنوات من تاريخه المثبّت أعلاه، فهل يصدق على قتالهم أنه بُنِي على فتوى الشيخ؟!

فليكن الإنصاف إذاً شعارهم، و ليكن الصدق دِثارهم.

و ها أنا ذا أخرج من الخلاف، فلأنقلَنّ عن معاليه ما يدلّ على بطلان ما ادّعوه عليه؛ و ذلك ببيان أنه حمد للعلماء صنيعهم في كفّ الجزائريّين عن مواصلة قتالهم اليوم، فقد قال لمجلّة 'الدعوة' السعودية، في عددها (1827)، في (ص 23)، بتاريخ: (10 من ذي القعدة 1422 هـ): [بعض الجزائريين رموا السلاح و تركوا القتال بعد فتاوى علمائنا الأجلّاء].

الخلاصة أنه لا قائل من أهل العلم بالخروج الذي تولّى كبره ثوّار الجزائر.

صورة المقال السابق

[ ]

- و أما قول المتعقّب في رسالته المذكورة آنفا: ”و أم العلامة الألباني ـ حفظه الله ـ، فهو و إن لم يُفت بالجهاد، فإنه يعلل ذلك بأننا غير مستعدّين، و لم يعلّل ذلك بوجود طيّبين في النظام، و قد سمعنا له عدّة أشرطة في ذلك و الله أعلم، و الآن لقد أثبت إخواننا ’السلفيّون! ‘ استعدادهم لمواجهة المرتدّين، و الحمد لله رب العالمين.. ! !“.

أقول ههنا ملاحظتان:

الأولى: قوله: ’المرتدين‘ يُفهم منه أن الشيخ الألباني يُسلّم لهم بذلك، فليثبتوه؛ و إلا فهي مغالطة مكشوفة، أما فقد نقلت عنه ـ رحمه الله ـ في كتاب 'فتاوى العلماء الأكابر فيما أهدر من دماء في الجزائر' (ص 81-82) أنه يخالفهم في هذا التكفير، بل هم يعلمون أن الشيخ يخاصمهم ـ أول ما يخاصمهم ـ في هذا الوصف: أي الوصف بالردة، فكيف يوافقهم على الحكم الذي توصّلوا إليه؟!!

و الثانية: أين الدليل على أن الشيخ ـ رحمه الله ـ كان يعلّل نهيه لهم عن الخروج بعدم الاستعداد فقط؟!

لماذا لم ينقل أبو اليقظان كلام الشيخ في ذلك لو كان صادقا، مع انه يدّعي أنه في عدة أشرطة؟!

إذاً، فالمتعقّب بنى حكمه على هاتين المقدّمتين الباطلتين.

بل كل هذا لا يصح عن الشيخ، و قد بيّنته في الكتاب المسمى آنفا و رأيتَ بعضه قريبا، و الشيخ ـ رحمه الله ـ لم يعلّق الحكم على وجود الاستعداد أو عدمه فقط، كيف و هو يشهد بأن الدولة مسلمة، و إنما كان يتنزّل مع السائل الذي زعم أن الدولة كافرة، فيبيّن له الشيخ أنه لو فرضنا أنها كذلك فأنتم غير مستعدّين للخروج من جهة القوة بقسميها: القسم الإيماني، و القسم المادي.

و ها أنا ذا أنقل لكم كلمة مختصرة مما كان الشيخ يقوله، ففي شريط سمعي برقم: (830/1) من 'تسجيلات الهدى و النور'، قال الشيخ ـ رحمه الله ـ: [فنحن ذكرنا دائما و أبدا بأن الخروج على الحكّام ـ لو كانوا من المقطوع بكفرهم، لو كانوا من المقطوع بكفرهم ـ أن الخروج عليهم ليس مشروعا إطلاقا؛ ذلك لن هذا الخروج إذا كان و لا بدّ ينبغي أن يكون خروجا قائما على الشرع، كالصلاة التي قلنا آنفا إنها ينبغي أن تكون قائمة على الطهارة، و هي الوضوء، و نحن نحتجّ في مثل هذه المسألة بمثل قوله ـ تبارك و تعالى ـ: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب 21).

إن الدور الذي يمر به المسلمون اليوم من تحكّم بعض الحكام ـ و على افتراض أنهم أو أن كفرهم كفر جلي واضح ككفر المشركين تماما، إذا افترضنا هذه الفرضية ـ فنقول: إن الوضع الذي يعيشه المسلمون بأن يكونوا محكومين من هؤلاء الحكّام ـ و لنقل (الكفار) مجاراة لجماعة التكفير لفظا لا معنى؛ لأن لنا في ذلك التفصيل المعروف ـ فنقول إن الحياة التي يحياها المسلمون اليوم تحت حكم هؤلاء الحكام لا يخرج عن الحياة التي حييَها رسول الله ـ عليه الصلاة و على آله و سلم ـ، و أصحابه الكرام فيما يسمّى في عرف أهل العلم: بالعصر المكّي].

فثبت هنا أن الشيخ لا يوافق هؤلاء الخارجين على التكفير، كما لا يوافقهم على الخروج، و لقد كان السؤال عن الجزائر كما هو معلوم من أوّل الشريط، بل عن أوضاع الجزائر التي تحدّث عنها أبو اليقظان بالضبط، و لذلك كان من كلام الشيخ فيه أيضا أنه قال: [فجوابنا واضح جدا أنّ ما يقع في الجزائر و في مصر و غيرها هو سابق لأوانه أولا، و مخالف لأحكام الشريعة غاية و أسلوب ثانيا].

و أنا ذكرت هنا مسألة التكفير؛ لأن الشيخ يشترط الكفر البواح للقول بمشروعية الخروج، كما هو معلوم من مذهب أهل السنة، فقد قال صراحة بعد أن ذكر بعض المذاهب التي تمنع من الخروج على أئمة الجَور: [هؤلاء ـ في هذه المسألة ـ اتفقوا جميعا على أنه لا يجوز على الحكّام مهما ظلموا و مهما جنوا، و ما دام أنهم يريدون الإسلام و يقيمون الصلاة للأئمة المسلمين و في أنفسهم أيضا.

لذلك فإن هذه الجماعات التي تعلن كتابة و محاضرة الخروج على الحكام، هؤلاء في نقدي أنا أولا: جهلة بحكم الشرع؛ لأن الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ توترت عنه الأحاديث في طاعة الحكام إلا في معصية الله؛ كما قال في حديث البخاري: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"1، و في أحاديث أخرى أنه تجِب طاعتهم و لو ظلموك، و لو ضربوا ظهرك ما لم تروا كفرا...]، انظر هذه الفتوى في الكتاب المذكور (ص 90 – 100).

كما أنني نقلت هناك نص فتوى الشيخ ـ رحمه الله ـ التي يزعم الثوّار أنهم اعتمدوها، و بان منها أنه لا تعلّق لهم بشيء منها، لا من قريب، و لا من بعيد.

ثم لو فرضنا أن الشيخ نهاهم عن الخروج لتوهّمه أنهم غير مستعدّين فقط، و هم في الحقيقة على أتمّ استعداد من حيث القوة كما يزعمون، أفلا يكون من النصح أن يَعرضوا ما لديهم على الشيخ؟! لا أن يُعرضوا عنه فرحين بما أوتوا من حماسة، معتمدين على أمثالهم، ينفث بعضهم في رَوع بعض زخرف القول غرورا، مع أن أمثالهم لا يشاوَرون حاضرين، و لا يُنتظرون غائبين!

و رحم الله جيلا كان أهله لا يتقّدمون فيه بين أيدي أهل العلم، ففي 'السير' للذهبي (8 / 420) أن سُئل عبد الله بن المبارك بحضور سفيان بن عيينة عن مسألة، فقال: [إنّا نُهينا أن نتكلّم عند أكابرنا].

ألا ليت هؤلاء لم يستجيبوا للشيطان حين استفزّهم للخروج عن فتاوى العلماء قبل أن يخرجوا على الأمة بما خرجوا به؛ فعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "البركة مع أكابركم" رواه ابن حبان (559) و الحاكم (1 / 62) و أبو نُعيم (8 / 171-172)، و صححه الحاكم على شرط البخاري و وافقه الذهبي، و كذا الألباني في 'الصحيحة' (1778).

فالخلاصة الأولى: أن التحدّث عن الاستعداد للخروج قبل إثبات كفر المَخروج عليهم دليل على أن أصحابه لم يعرفوا مذهب أهل السنة في هذا الباب بعدُ.

و الخلاصة الثانية: أن يكون قد بان بهذا كلِّه أنه ليس للقوم فتوى يعتمدونها، بل قد تبرّأ من خروجهم كل عالم يشار إليه بالفتوى، فما الذي يمنعكم ـ معشر المقاتلين! ـ من أن ترجعوا إلى العلماء و تريحوا ضمائركم، و تكفّوا هذه الفتنة عن ذوي بلدتكم، و تحرّروا المسألة من جديد بعلم و تأصيل و رجوع صادق إلى العلماء إن كنتم تشكّون في نقولاتنا؟

فافعلوا هذا مع تواضع لأهل الدليل، و تعقّل، و تُؤدَة، و اعلموا أنه إن فاتكم فيها الصواب، فلا يفوتنّكم منها المآب، أما تخشون أن يتخطفكم الموت و أنتم على هذه الحال؟!

و احذروا التسويف؛ فإن لديكم الآن الأدلّة من الكتاب و السنة، و أقوالا لأئمة السنة، مجتمعة على تخطئتكم، يقابلها شُبه لا تناهضها، و لا تقوى عليها؛ لأن أحسن أحوالها أنها محتملة، فلا تتركوا المتيقَّن للمحتمل، لأن الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" أخرجه الترمذي، و هو صحيح.

و على مثل الشمس فاشهدوا في هذه القضايا العظيمة؛ كي تُعذِروا إلى ربّكم في أعراض المسلمين و أموالهم و دمائهم؛ لأن الله يقول: {إلا من شهد بالحق و هم يعلمون} (الزخرف 86).

و لا يَكبر عليكم أن تتوبوا؛ فإنّكم إن تذكّرتم مصيركم غدا: {فريق في الجنة و فريق في السعير} (الشورى 7) هان عليكم مقولة الخلق فيكم، و كان همّكم الأكبر مغفرة الحق ـ سبحانه ـ لكم، كما قال خليل الرحمن ـ صلى الله عليه و سلم ـ: {و الذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} (الشعراء 82).

9- لقد اتهمتم الشيخ ـ رحمه الله ـ بعد درايته عن استعدادكم للخروج، فقد مضى على خروجكم ما يقارب عشر سنوات و الأمر يزداد سوءا، فالجماعة تتفرّق، و الصف يتمزّق، و لا يُراق إلا دماء الأبرياء، و سُبل الخير تتعطّل، و سبل الشر تقوى و تتشكّل.

فمتى كان الناس يتحدّثون في الجزائر عن البعث النصراني من جديد قبل خروجكم؟!

و متى كانت شركيّات الطرق الصوفية من رسميّات البلاد و رسومها قبل خروجكم؟!

و متى كان الزنا على مرأى و مسمع من مسلمي الجزائر قبل ذلك؟!

و متى كان الجزائري يتقمّم الفضلات ليضمن العيش لعياله؟!

و متى خُلع حجاب المرأة بصفة مذهلة إلا عقِب خروجكم؟!

و هل انتعشت النزعات العرقية الممزِّّقة لأوصال الأمة إلا بنزغاتكم؟!

فهل أيقنتم الآن أنكم كنتم واهمين، و أن الشيخ كان على علم بعدم استعدادكم؟

فإن لم تفهموا اليوم فاعلموا أنكم لن تفهموا بعد اليوم أبدا، و صدق الله إذ يقول: {يعدهم و يُمنّيهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا} (النساء 120).

و في 'أخبار ابن المزرع' (6) كما في كتاب 'نوادر الرسائل' لإبراهيم صالح، أنشد بعضهم:

دهتنا أمور تشيب الوليد [][][] و يخذل فيها الصديقَ الصديق ُ
قتال مبيد و سيف عنيدٌ [][][] و جوع شديد و خوف و ضيقُ
و داعي الصباح يطيل الصياح [][][] السلاح السلاح فما يستفيق
فبالله نـبـلـغ مـا نـرتـجي [][][] و بالله ندفـع ما لا نطيق

و لا بد أن أنقل أيضا كلام الشيخ الذي هو من أواخر ما تكلّم به عن وضع الخارجين في الجزائر؛ حتى لا يبقى أحد يتعلّل بشيء، قال ـ رحمه الله ـ في 'السلسلة الصحيحة' عند تعليقه على الحديث (3418)، الذي أخرجه البخاري و مسلم، و اللفظ لمسلم: "بايعنا رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ على السمع و الطاعة في العسر و اليسر، و المنشط و المكره، و على أثَرَةٍ علينا، و أن لا ننازع الأمر أهله؛ إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان، و على أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم"، قال: [و اليوم التاريخ يعيد نفسه كما يقولون، فقد نبتت نابتة من الشباب المسلم، لم يتفقّهوا في الدّين إلا قليلا، فرأوا الخروج عليهم دون أن يستشيروا أهل العلم و الفقه و الحكمة منهم، بل ركبوا رؤوسهم، و أثاروا فتنا عمياء، و سفكوا الدماء، في مصر، و سوريا، و الجزائر، و قبل ذلك فتنة الحرم المكي، فخالفوا بذلك هذا الحديث الصحيح الذي جرى عليه عمل المسلمين سلفا و خلفا إلا الخوارج.

و لمّا كان يغلب على الظن أن في أولئك الشباب من هو مخلص يبتغي وجه الله، و لكنّه شُبّه له الأمر أو غُرّر به؛ فأنا أريد أن أوجه لهم نصيحة وتذكرة، يتعرفون بها خطأهم، و لعلهم يهتدون.

فأقول: من المعلوم أن ما أمر الله به المسلم من الأحكام منوط بالاستطاعة؛حتى ما كان من أركان الإسلام، قال ـ تعالى ـ: {و لله على الناس حِج البيت من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران 97)، و هذا من الوضوح بمكان فلا يحتاج إلى تفصيل، و الذي يحتاج إلى تفصيل؛ إنما هو التذكير بحقيقتين اثنتين:

الأولى: أن قتال أعداء الله ـ من أي نوع كان ـ يتطلّب تربية النفس على الخضوع لأحكام الله و اتباعها؛ كما قال ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله" 'الصحيحة' (549).

و الأخرى:أن ذلك يتطلب الإعداد المادي و السلاح الحربي؛ الذي ينكأ أعداء الله؛ فإن الله أمر به المؤمنين2، فقال: {و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوّكم} (الأنفال 60).

و الإخلال بذلك مع الاستطاعة؛ إنما هو من صفات المنافقين، و لذلك قال فيهم رب العالمين: {و لو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة} (التوبة 46).

و أنا أعتقد جازما أن هذا الإعداد المادي لا يستطيع اليوم القيام به جماعة من المؤمنين دون علم من حكامهم كما هو معلوم، و عليه؛ فقتال أعداء الله من جماعةٍ ما سابق لأوانه، كما كان الأمر في العهد المكي، و لذلك؛ لم يؤمروا به إلا في العهد المدني؛ و هذا هو مقتضى النص الربّاني: {لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها} (البقرة 286).

و عليه فإني أنصح الشباب المتحمّس للجهاد، و المخلص حقا لرب العباد: أن يلتفتوا لإصلاح الداخل، و تأجيل الاهتمام بالخارج الذي لا حيلة فيه،وهذا يتطلب عملا دؤوبا، و زمنا طويلا؛ لتحقيق ما أسمّيه بـ 'التصفية و التربية'؛ فإن القيام بهذا لا ينهض به إلا جماعة من العلماء الأصفياء، و المربّين الأتقياء، فما أقلّهم في هذا الزمان، و بخاصة في الجماعات التي تخرج على الحكّام!

و قد ينكر بعضهم ضرورة هذه التصفية ، كما هو واقع بعض الأحزاب الإسلامية، و قد يزعم بعضهم أنه قد انتهى دورها، فانحرفوا إلى العمل السياسي أو الجهاد، و أعرضوا عن الاهتمام بالتصفية و التربية، و كلّهم واهمون في ذلك، فكم من مخالفات شرعية تقع منهم جميعا بسبب الإخلال بواجب التصفية، و ركونهم إلى التقليد و التلفيق، الذي به يستحلّون كثيرا مما حرّم الله!

و هذا هو المثال: الخروج على الحكّام، و لو لم يصدر منهم الكفر البواح.

و ختاما أقول: نحن لا ننكر أن يكون هناك بعض الحكّام يجب الخروج عليهم؛ كذاك الذي كان أنكر شرعيّة صيام رمضان، و الأضاحي في عيد الأضحى، و غير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، فهؤلاء يجب قتالهم بنص الحديث، و لكن بشرط الاستطاعة كما تقدّم.

لكن مجاهدة اليهود المحتلّين للأرض المقدّسة، و السافكين لدماء المسلمين أوجب من قتال مثل ذاك الحاكم من وجوه كثيرة، لا مجال الآن لبيانها، من أهمّها أن جند ذاك الحاكم من إخواننا المسلمين، و قد يكون جمهورهم ـ أو على الأقل الكثير منهم ـ عنه غير راضين، فلماذا لا يجاهد هؤلاء الشباب المتحمّس اليهود، بدل مجاهدتهم لبعض حكّام المسلمين؟!

أظن أن سيكون جوابهم عدم الاستطاعة بالمعنى المشروح سابقا، و الجواب هو جوابنا، و الواقع يؤكّد ذلك، بدليل أن خروجهم ـ مع تعذّر إمكانه ـ لم يثمر شيئا سوى سفك الدماء سدىً! ـ مع الأسف الشديد ـ لا يزال ماثلا في الجزائر، فهل من مدّكّر؟!].

تغيّرت البلاد و من عليها [][][] فلون الأرض مُغْبرّ قبيح
تغيذر كل ذي لون و طعم [][][] و قلّ بشاشة الوجه المليح

تنبيه آخر:

لم تيقّن بعضهم أن أهل العلم يخالفونهم فيما هم فيه، وقفوا حيارى حتى جاءهم الغوث من الشيطان، فخوّفهم من الرجوع عمّا هم فيه،و زيّن لهم أعمالهم بدعوى أنه لا يشترط أن تؤخذ الفتوى عن العلماء الأحياء، بل تكفي موافقة الأموات لهم! !

و في هذا التزيين تكذيب لقول رسول الله ت صلى الله عليه و سلم ـ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" الحديث متفق عليه؛ لأنه يُفهم من صنيعهم أنهم ما تركوا علم الأحياء لعلم الأموات إلا لأنهم وجدوا العلماء الأحياء بعلم الأموات أمواتا، و هذا يستلزم بداهة خلوّ الأرض من ناطق بالحجة،و انطماس معالم الدين، و الله المستعان.

ثم إن المسألة من مسائل النوازل، و تنزيل الأدلة عليها يحتاج إلى أهله و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

تناقض:

إنهم في الوقت الذي يقولون: إننا نعمل بفتوى الأموات من أهل العلم كابن تيمية مثلا، فإنهم يردّون علماء عصرهم بدعوى أن هؤلاء غير مطّلعين على واقعهم، كذاك الذي زعم أن الشيخ الألباني لا يدري أنهم على استعداد للمواجهة... !

فنقول لهم: هل جاءكم ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فأخبركم أنكم على استعداد؟!!

و قد ذكّرني هؤلاء بمدّعٍ في محكمة، قيل له: من شهودك؟ قال: ”فلان و فلان لكنهم غائبون و أنا أنوب عليهم!“، كما قال إياس بن معاوية لرجل: [إن أردتَ الخصومة فعليك بصالح السدوسي، و تدري ما يقول لك؟ يقول لك اجحد ما عليك، و ادّع ما ليس لك، و استشهد الغيّب! ! !]، انظر 'تهذيب التهذيب' لابن حجر (1 / 197).

فهذا هو منطق هؤلاء؛ إذ يحيلوننا على الغيّب من أهل العلم، مع أن منهم شهودا أحياء، فانظر إلى آثار تلبيس إبليس، و صدق الله إذ يقول: {و لقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون} (يس 62).

-----------------------------------

1: الحديث صحيح، لكنه بهذا اللفظ عند غير البخاري، و إنما رواه أحمد (4 / 426، 427، 436)، و (5 / 66)، كما قال هو نفسه ـ رحمه الله ـ في 'السلسلة الصحيحة' (179 – 180)، و أما الذي عند البخاري (7257) فهو بلفظ: "لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف".
2: في الأصل المطبوع: [أمر به أمير المؤمنين] و لعل كلمة [أمير] مقحمة.
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 31 May 2008, 11:27 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

طعنَ في الصحابة من أجل تزكية الثوّار

لقد حصل من الثوار الجزائريين أنواع من الإجرام لا يحصيه إلا الله، من قتل بغير حق، و تنكيل ببني آدم و تمثيل، و عدوان على أعراض النسوان، و وحشية في الهجوم على أرواح العجزة و الولدان... ! !

همجية لا نظير لها إلا أن تُقرَن بهمجية التتار و من شابههم، حاول المتظاهرون بالغيرة و الاعتدال إلصاق كل شيء بالمخابرات، كما هي عادتهم عند الفشل، و معلوم أن كل شيء لا تفسير له عندهم فإن ظهر المخابرات له حمّال، و من تناقضهم و جورهم في آن واحد، أنهم يعترفون أحيانا بأن ثوارهم قاموا بشيء من هذا؛ و ذلك إذا لم يكن في عملهم بشاعة ظاهرة، فهنالك يسارعون إلى الافتخار ’بمجاهديهم!‘، و أما إذا كان فيه بشاعة، فإنهم يسارعون إلى رمي المخابرات به، و لو كانوا لا يعرفون شيئا عن مصدر هذه العمليات، و إنما لهم الحُلو، و لغيرهم المرّ! !

لكن أبا قتادة يرفض ذلك؛ لأنه يعرف أصحابه الذين يقومون بمثل ما ذُكر، بل هو مستبشر بحالهم التي ارتقت بهم إلى الوصول لتحقيق هذه الأعمال الجهادية ف زعمه؛ لأنه يتقرّب إلى الله بها! !

فجاء يرفع عنهم اللوم، و يدفع عن أعمالهم الضَّيم فقرن فظائعهم بأخطاء الصحابة، بل زعم أن أخطاء الصحابة في جهادهم تبلغ المجلّدات {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} (الكهف 5).

قال في خطبته المشار إليها: ”و لو أردت أن اذكر لكم المثالب التي وقعت في حركة الجهاد و التي قام بها أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ت لأُلِّف منها المجلّدات؛ لأنها حركة، و فيها الاجتهاد الواسع، فهل علمتم شيئا من فعل أبي بكر مع مرتدّ حرقه بالنار، أبو بكر حرق رجلا بالنار، و هناك حديث الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول: "لا يُعذِّب بالنار إلا ربّها"؟ لكن ل هذا أسقط شرعية قتال أبي بكر للمرتدين؟! خالد بن الوليد قتل أكثر من ثلاثة آلاف رجلا (كذا! ! !) خطأ من بني جَذيمة اجتهادا حتى أراد عمر أن يعاقب خالد (كذا)، لكن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ رفض أن يعاقبه؛ لأنها حركة بشرية و حركة جهاد، جهاد فيه دماء و أشلاء، لا بد أن يقع فيها مثل هذا! و لذلك لمّا تولّى عمر بن الخطّاب إمارة المسلمين بعد خلافة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ عزل خالد (كذا)، ثم تندّم في آخر حياته لمّا مات خالد، و قال: (رحم الله أبا بكر؛ لقد كان أعلم مني بالرجال)، فكون خالد وقع في خطأ شرعي لا يسل خالد (كذا) شرعية جهاده، و كذلك أسامة بن زيد، عندما قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله، قال له رسول الله: "أقتلته بعد ما قال...؟ !"، قال: إنما قالها تأولّا، قال: "هلّا شققت على قلبه؟!"، و مازال يعنّفه... هذه حركة، حركة بشرية، فيها دماء و أشلاء! ! فيها جهود و تضحيات! !“.

النقد:

1- إذا كانت أخطاء الصحابة في قتل النفس بغير حق لا يفي بها إلا المجلّدات، فهو يعني أنهم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يتلاعبون بأرواح بني آدم، و حاشاهم!

أين هذه المجلّدات، و هذا المشبوه الطاعن في أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ لمّ إلا ثلاث وقائع؟!

2- إنّ جهاد أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ كان جهادا شرعيا،بل هو أشرف جهاد سُمِع به في هذه الأمة، فمن من العلماء أضفى الشرعية على جهادكم؟! و قد قيل: أثبت العرش ثم انقش!

3- إن الأخطاء التي وقع فيها بعض الصحابة كانت عن اجتهاد منهم، فأين اجتهاد من يقتحم قرية و يسلب أهلها، ثم يذبحهم عن بكرة أبيهم، لا يتحاشى شيخا و لا امرأة و لا رضيعا؟!

أين اجتهاد من يفخِّخ سيارة بالمتفجّرات في طريق آهل بالناس، بل بالمسلمين، أو في محل عمومي؟!

أين اجتهاد من يدخل على بيت مسلم و يذبح فيه الشباب الذي لم يتجاوز عمر العشرين؛ و ليس له ذنب سوى أنه طُلٍب لأداء الخدمة العسكرية فاستجاب طوعا أو كرها؟!

أين اجتهاد من يقلع العيون و يجدّع الأنوف و يقطع الشفاه...؟ !

أين اجتهاد من رأى حِلّ دم أبيه و أمه، منطلقا من مبدأ ’الولاء و البراء‘؟ !

أين اجتهاد من حوّل الحرائر من المسلمات سبيا؟!

أي ذنب ارتكب التاجر حتى استحقّ القتل؛ حين رفض أن يسلّم لهم أمواله؟!

فأين الاجتهاد هنا في إزهاق روحه؟!

أين اجتهاد من استباح دماء الشعب بحجة مشاركته في جريمة الانتخاب؟! {قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} (يونس 59)؟ !

هذه جرائم لم تقع إبّان الحركة القتالية اجتهادا طارئا على غير مثال سابق، و لكنها وقعت بعد الفتوى التي يسمّونها زورا ’شرعيّة !‘

هذه الجرائم استبحتموها على مكتب الفتوى بعد غياب التقوى، كالذي عند المشبوه بِلندن، قبل أن تستبيحوها على أرض ’حركة الجهاد!‘، فلا يقال حينئذ: إنها طرأت عليهم في ميدان القتال؛ لأنهم بيّتوها قبل دخول المعارك، و هي فتاوى لُقّنوها مراغَمة لفتاوى أهل العلم.

هذه الجرائم لم تقع على أرض (حركة الجهاد!) فلتة، و لكنها وقعت على أرض الغلوّ الذميم، فما أتعسكم و ما أضل سعيكم حين تفترون على جهاد الصحابة ما افتريتموه و تشبّهون أنفسكم بهم! !

5- إن أخطاء من أخطأ من الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ كانت على غير اختيار منهم، أما فظائعكم فإنكم ارتكبتموها و ترتكبونها و أنتم في سعة من وقت، و بعد تقدير و سوء تدبير.

و مثاله ما فعله أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ فإنه لم يكن له خيار في قتل المشرك أو تركه، فهما فرصتان لا ثالث لهما، و الوقت كان أضيق ما يكون، بحيث لا يسعه أن يدع المشرك بعد أن نطق بكلمة الإسلام ليستشير أو يستفتي، مع ذلك عنّفه رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ كلَّ ذلك التعنيف المشهور، و هو حِبّه ـ رضي الله عنه.

قتل أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ رجلا من المشركين بعد أن نطق هذا بكلمة الإسلام و هو في المعركة، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "أقال: لا إله إلا الله؟"

فقال أسامة: يا رسول الله! إنما قالها خوفا من السلاح.

قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!"

و في رواية أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: يا أسامة! أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!

قلت: يا رسول الله! إنما كان متعوّذا.

فقال: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟!

فمازال يكررها حتى تمنّيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم! ! رواه البخاري (6872)، و مسلم (158، 159).

فتأمل:
أ- إن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ت لم يمنعه كون القاتل هو حِبّه أسامة من تعنيفهن و تعظيم الجناية في عينيه، خلافا للمستخفّين بدماء المسلمين، مع أن أسامة كان متأوِّلا قاصدا نصرة الدين، مقاتلا رجلا من المشركين، لم ينطق بكلمة (لا إله إلا الله) إلا تحت بارقة السيف.

كل القرائن توحي بأنه لم يرد بكلمة التوحيد إلا حقن دمه، لا سيما و أنه مشرك من أصله، مع ذلك حرّم رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قتله، بل عنّف حِبّه هذا التعنيف الذي يُعهد عنه مثله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، حتى تمنى أسامة أنه لم يعرف الإسلام قبل هذه الحادثة، فأين هم الذين يعرفون لكلمة (لا إله إلا الله) حرمتها؟!

و على هذا، فمن كان متأسّيا برسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ فلا يجاملنّ هذه الجماعات المقاتلة كما لم يجامل رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حِبّه أسامة ـ رضي الله عنه ـ، مع أن ما بينه و بينهم من الفرق ما لا يخفى.

قال ابن التين: [في هذا اللوم تعليم و إبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفّظ بالتوحيد، و قال القرطبي: في تكريره ذلك و الإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام عن مثل ذلك]، من 'فتح الباري' لابن حجر (12 / 195-196).

ب- إن الرجل المقتول لم يكن مسلما و لا كان مسالما، و لكنه جاء مقاتلا، بل قتل من المسلمين عددا، بل كاد لا يسلم منه أحد، كما قال جندب بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ: (.. فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله..) رواه مسلم (160).

و بعد أن ذكر قتل أسامة له، قال له رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "لمَ قتلته؟

فقال: يا رسول الله ! أوجع في المسلمين، و قتل فلانا و فلانا، و سمّى نفرا، و إني حملت عليه، فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله!

قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: أ قتلته؟

قال: نعم!

قال: فكيف تصنع بـ (لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟!

قال: يا رسول الله! استغفر لي.

قال: و كيف تصنع بـ (لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟! فجعل لا يزيد على أن يقول: كيف تصنع بـ (لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟!" رواه مسلم (160).

هذا في حق مشرك آذى المسلمين بسيفه و قاتلهم، فكيف بقتل مسلم قد يكون مصليّا مزكيّا صوّاما، كل ذنبه أنه شرطي أو عسكري؟!

فكيف بقتل شعب مسلم ليس فيه أقليّات تُذكر من نصارى و يهود؟!

فلا إله إلا الله ما أشد قسوة القلوب!

قال عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج منها لمن أوقع نفسه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حلّه) رواه البخاري (6863).

فكيف ـ مع هذا كلّه ـ يدّعي مستحلّوا دماء الشرطة أن قتالهم نظيف، ثم هم يعيشون بالأموال المسروقة و المغتصبة من أهلها عَنوة، و يزهقون أرواح العساكر المسلمين و يذرونهم يتشحّطون في دمائهم و أهلوهم ينظرون؟!

جـ - إن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ وقع فيما وقع فيه، و لم يسبق له أن عرف حكم ما وقع فيه، و لا كان لديه واقعة تشبهها فيقيس عليها حالته فكان لا بد من اجتهاده، و كان لا بد من وقوع أحد أمرين: إما قتل الرجل أو تركه.

إذاً فالفُرَص التي لديه محدودة جدا، و لا سيما و هو في معركة، و قد وجد بين يديه مشركا شجاعا و مقاتلا قويا، لم يقدر عليه غيره.

كل هذه القرائن لم تشفع له عند رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حتى قال فيه ما قال، فكيف يكون قول رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ لقوم عرفوا حكم أهل العلم المسبَق ـ بل إجماعهم ـ على التنديد بأعمالهم، ثم تمادوا في المخالفة؟!!

فتأمل هذا ـ رحمك الله ـ متجردا عن الهوى، و متدثرا بلباس التقوى.

و اعلم أن هذا التصرف من رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ هو سيرته في الدماء، فلم يكن ـ صلى الله عليه و سلم ـ يتساهل فيها أبدا.

5- إن الأخطاء التي وقع فيها بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ رجعوا عنها، أما أنتم، فلا يمر عليكم يوم إلا ازددتم وحشية إلى وحشية، فأين وجه الشبه بينكم و بينهم، و أنتم لا تعترفون أصلا بأنكم أخطأتم؟!

بل كلما بلغكم أن العلماء ندّدوا بصنيعكم ازددتم حقدا و عمى، و لذلك فإن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ كان قد تلقّن درسا عظيما مما حصل له مع ذلك المشرك الوحيد، حتى إنه اعتزل جميع الدماء التي كانت بين المسلمين، قال وكيع: [سلِم من الفتنة من المعروفين: سعد، و ابن عمر، و أسامة بن زيد، و محمد بن سلمة].

قال الذهبي ـ رحمه الله ـ معلّقا على هذا في 'السير' (2 / 500-501): [قلت: انتفع أسامة من يوم النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ؛ إذ يقول له: "كيف بلا إله إلا الله يا أسامة؟!"، فكفّ يده و لزم بيته، فأحسن].

و لذلك لمّا دعاه علي ـ رضي الله عنه ـ ليشاركه في القتال المعروف بينه و بين مخالفيه في الجمل و صفّين اعتذر إليه، و لم يجبه إلى طلبه، فد روى البخاري (7110) و ابن سعد (4 / 71) عن حَرْملة مولى أسامة قال: (أرسلني أسامة إلى علي، و قال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلّف صاحبك؟ فقل له: يقول لك: لو كنتَ في شِدْق الأسد لأحببت أن أكون معك، و لكن هذا أمر لم أره).

قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ في 'الفتح' (13 / 67): [هذا هيّأه أسامة اعتذارا عن تخلّفه عن علي؛ لعلمه أن عليا كان ينكر على من تخلّف عنه، و لا سيّما مثل أسامة الذي هو من أهل البيت، فاعتذر بأنه لم يتخلّف ضنّاً منه بنفسه عن علي و لا كراهة له، و أنه لو كان في أشدّ الأماكن هولا لأحبّ أن يكون معه فيه و يواسيه بنفسه، و لكنّه إنما تخلّف لأجل كراهيته في قتال المسلمين، و هذا معنى قوله: (و لكن أمر لم أره)]، و في رواية ذكرها الذهبي في 'السير' (2 / 504-505) قال: (فو الله لا أدخل فيه أبدا).

قال ابن بطّال ـ رحمه الله ـ كما في 'الفتح' (13 / 68): [أرسل أسامة إلى عليّ يعتذر عن تخلّفه عنه في حروبه، و يعْلِمه أنه من أحب الناس إليه، و أنه يحب مشاركته في السراء و الضراء، إلا أنه لا يرى قتال المسلم، قال: و السبب في ذلك أنه لمّا قتل ذلك الرجل.. و لامه النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بسبب ذلك، آلى على نفسه أن لا يقاتل مسلما، فذلك سبب تخلّفه عن علي في الجمل و صفّين].

و قال أيضا كما في 'الفتح' (12 / 196): [كانت هذه القصة ـ أي قتل أسامة للمشرك ـ سبب حلف أسامة ألا يقاتل مسلما بعد ذلك، و من ثَمّ تخلّف عن علي في الجمل و صفّين].

و قد روى مسلم (158) قصة أسامة ـ رضي الله عنه ـ، وفيها أن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: (و أنا ـ و الله! ـ لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين، يعني أسامة، قال: قال رجل: ألم يقل الله: {و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كلّه لله} (الأنفال 39)؟ !فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة،و أنت و أصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة!).

و أما قصة خالد بن الوليد حين بُعث إلى بني جذيمة، فقد رواها البخاري (4339) عن ابن عمر قال: (بعث النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم و يأسر، و دفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: و الله! لا اقتل أسيري، و لا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ فذكرناه، فرفع النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ يديه، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين").

قلت: من ذا الذي أحيا الله قلبه بخوفه ثم لا يهتزُّ لهذه الدعوة النبوية؟

وخالد ـ رضي الله عنه ـ و ما أرداك ما خالد! سيف الله المسلول، و لكنّ أمر الدماء عظيم، فلذلك تبرأ رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ من عمله.

هذا، مع ان خالدا ـ رضي الله عنه ـ لم يقتل أولئك عن عمد و معاندة لفتاوى أهل العلم، و لم يقتل من شهد بين يديه بالإسلام، كما يفعل وحوش الجزائر، يشهد الرجل بين أيديهم بشهادة الإسلام و بالأيمان المغلّظة، و قد يكون صائما، فلا يمنعهم ذلك من ضرب عنقه، و يراقبون العسكري في كل حركاته و يقتلونه و لو كان خارجا من المسجد، بل كم من مصل أخرجوه من المصلى ليذبحوه، في حكايات يطول ذكرها! !

ثم إن خالدا ـ رضي الله عنه ـ قتلهم؛ لأنه لم يفهم قولهم: (صبأنا) الذي أرادوا به الإسلام؛ لأن هذه الكلمة تحتل معنى: أسلمنا، كما تحتمل معنى خرجنا من دين إلى ين، و هذا المعنى الثاني هو الذي كثُر استعماله عندهم بعد بعثة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و هو الذي فهمه خالد ـ رضي الله عنه ـ، قال ابن حجر في 'فتح الباري' (8 / 57): [و يؤيّده فهمه أن قريشا كانوا يقولون لكل من أسلم: صبأ، حتى اشتهرت هذه اللفظة و صاروا يطلقونها في مقام الذمّ، و من ثَمّ لمّا أسلم ثمامة بن أُثال و قدم مكة معتمرا، قالوا له: صبأت؟ قال: لا بل أسلمت].

و على كل حال فقصّة خالد ـ رضي الله عنه ـ أخرجها البخاري (4339) و (7189) كما مرّ، و عبد الرزاق (9434) و (18721) و ابن معين في 'جزئه' (17) و أحمد (2/ 151) و عبدُ بن حُميد في 'المنتخب' (729) و النسائي في 'المجتبى' (8 / 237) و كذا في 'الكبرى' (5961) و 8596) و الطحاوي في 'مشكل الآثار' (3230) و (3231) و ابن حبّان (4749) و البيهقي في 'السنن الكبرى' (9 / 115) و في 'دلائل النبوة' (5 / 113-114).

و لم أجد في هذه الطرق كلّها أن عدد الذين قتلهم خالد بلغ ثلاثة آلاف كما زعم المشبوه، و لا أدري فلعلّه أراد أن يكثّر لخالد قتلاه؛ ليخفّف الحِمل على ظهور مجرميه في الجزائر؛ لأن المصيبة إذا عمّت خفّت، كما كثّر للصحابة أخطاء خياليّة في القتل حتى وصلت عنده إلى مجلّدات، فانظر كيف يعمل الضلال بصاحبه! !

و هكذا لا يصطنعون لساحاتهم صفوا حتى يكدّروا ساحات خيرَة البشر، و الله المستعان!

و على كلّ حال، فإن التّقيّ الورِع لا يزيّن للناس انتهاك حرمات المسلمين متذرّعا بأخطاء المخطئين، و لو كان المخطئون الممثّل بهم من أهل الصلاح و الخير، كهذا الذي يستدل بأخطاء من اخطأ من الصحابة} لأن الصواب لا يُستدلّ له بالخطأ، و الخطأ خطأ مهما كان مصدره، و وقوع الشريف فيه لا يزكّيه، و أين وجل من يقرأ: {و من يقتل مؤمنا متعمّدا فجزاؤه جهنّم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعدّ له عذابا عظيما} (النساء 93)؟ !

سبحان الله! أيقتل الرجل أمّه و أباه المسلمين باسم الدين، عمدا و بإصرار، ثم يجيء المشبوه يستدلّ له بخطأ من أخطأ من الصحابة في الدماء ليهوّن من شأن جريمته؟!

و الحقيقة أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا أورع الناس عن الدماء، و ما وقع لهم فيها من خطأ فهو قليل جدا في سنوات طويلة و جهاد مستمر، و كان لهم فيها تأويل، و أي تأويل!

و قد كانوا كافّين عن الفتن؛ إذ لم يبلغ عدد من دخل في صفِّين ثلاثين منهم من بين عشرة آلاف صحابي تقريبا، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'منهاج السنة' (6 / 236-237): [و أما الصحابة، فجمهورهم و جمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة، قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدّثنا أبي، حدّثنا إسماعيل ـ بن عُليّة ـ حدثنا أيوب ـ يعني السَّخيتاني ـ عن محمد بن سيرين قال: (هاجت الفتن و أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين)، و هذا الإسناد من أصح الأسانيد على وجه الأرض، و محمد بن سيرين من أورع الناس في منطِقِه، و مراسيله من أصح المراسيل.

و قال عبد الله: حدثنا إسماعيل حدثنا منصور بن عبد الرحمن، قال: قال الشّعبي: (لم يشهد الجمل من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ غير علي و عمّار، فإن جاؤوا بخامس فأنا كذّاب!)

و قال عبد الله: حدثنا أبي، حدثنا أمية بن خالد، قال: قيل لشعبة: إن أبا شيبة روى عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا، فقال: كذب ـ و الله! ـ لقد ذاكرت الحكم بذلك، و ذاكرناه في بيته، فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خُزيْمة بن ثابت.

هذا النفي يدل على قلة من حضرها، و قد قيل: إنه حضرها سهل ابن حنيف و أبو أيّوب، و كلام بن سيرين مقارب؛ فما يكاد يذكر مائة واحد، و قد روى بن بطة، عن بُكير بن الأشج، قال: أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان، فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم].

و عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "إن بين يدي الساعة الهَرْج، قال: فلنا: و ما الهَرْج؟ قال: القتل و الكذب، قلنا: أكثر ممّا يقتل المسلمون في فروج الأرض؟ قال: إنه ليس بقتلكم الكفّار، قال: يقتل الرجل أباه، يقتل أخاه، يقتل عمّه، يقتل ابن عمه، يقتل جاره، قال: قلنا: و معنا يومئذ عقولنا؟ قال: ينتزع عقول أكثر ذلك الزمان، و يخلف له هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء، و ليس هم على شيء، قال (أبو موسى): و أيم الله! إن تدركني و إياكم تلك الأمور، و أيم الله! ما لي و لكم منها مخرج فيما عهد إلينا نبينا ـ صلى الله عليه و سلم ـ إلا أن نخرج منها كما دخلنا، لا نحدث فيها شيئا" رواه أحمد (4 / 406) و البزّار (8 / 3047) و ابن ماجه (3959) و غيرهم بإسناد صحيح.

مع هذه الزواجر التي تنخلع لها القلوب الحية، فإن المشبوه قد قال في خطبته عن ثورة هؤلاء الثائرين: ”هو الجهاد الواضح: أن الجزائري يقتل الجزائري! لماذا يقتله؟ لأن هذا جند الله، و هؤلاء جند الطاغوت! ! أ رأيتم في هذا الوقت جهادا بمثل هذا الوضوح؟!!“.

6- لقد تكلّم المشبوه هنا عن الأخطاء ليوهمنا أنه مقتنع بأخطاء جماعته، لكن كلامه الأخير يشهد بأنه لا يرى تخطئتهم، فعلام إذاً الاستدلال بأخطاء الصحابة و هو في معرض تصويب جماعته؟ تأمل هذا؛ فإنه مخادعة!

و لقد جُرّب على من لم يوَفّق للرجوع عن أخطائه أنه إذا حوصر بها اجتهد في التنقيب عن أخطاء منتقديه؛ نقلا للمعركة من ميدانها إلى ميدان آخر، و استعمالا للطريقة الهجومية في الدفاع عن النفس، و منهم من يبحث في سيرة أهل الصلاح لعله يجد عندهم شيئا من جنس أخطائه، فيسارع لإبرازها؛ سترا على نفسه، و لا يكترث في ذلك لعله يطعن في الأولياء الصالحين، إنما همّه الأكبر هو أن ينجو بنفسه، حتى إني قرأت لرجل كتابة فتح فيها ملفا للأنبياء، و ذكر أن فلانا النبيَّ أخطأ في كذا، و آخر أخطأ في كذا، كلّ ذلك ليسلّك نفسه مما كسبت يداه! !

و هذه الشناعة تدل على أن صاحبها لم يتب مهما سمّى خطأه خطأ أو ذنباً؛ فليس أكثر من المشاكلة اللفظية، بل هو من باب {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم}؛ لأنه لو تاب لشغله ذنبه عن تتبع ذنوب منتقديه، فكيف إذا كان يتتبع أخطاء الأنبياء عليهم الصلاة و السلام؟!

7- المخادعة الأخرى هي أن المشبوه ذكر أن أخطاء الصحابة لم تمنع من جهادهم، و كأن العلماء منعوا جماعته من الجهاد بسبب أخطائهم في القتال فقط، و هذا من حِدَته عن أصل البحث؛ لأن علماءنا نفوا عنهم وصف الجهاد لعدم توفر أسبابه و شروطه، فافهم هذا ـ أخي القارئ! ـ حتى لا تُجرَّ إلى بحث جانبي، و لذلك كنت إذا رحلت إلى الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ لاحظت أنه كان يعطينا الجواب، و يأتينا منه بالصواب، غير مكترث كثيرا بما يجري عندنا.

و ليس المقصود من هذا الكلام الإعراض عن التعرف على واقع ما يُفتي فيه، و إنما المقصود منه أن الشيخ ينطلق من مقدّمة و أصل:

فأمّا المقدمة: فتتمثل في معرفة الشيخ بتشابه واقع البلاد الإسلامية اليوم، فيكون من التقعُّر ف الكلام تطويل ذيل الواقع المراد وصفه، و قد قال الله ـ تعالى ـ: {ما يُقال لك إلا ما قيل للرسل من قبلك} (فصّلت 43).

و أما الأصل: فهو الذي يركّز عليه دائما ـ رحمة الله عليه ـ، و يتمثّل في النظر في عمل هؤلاء، فإن وافقوا السنة في إصلاحهم كانوا على الجادة، و إن خالفوها خولِفوا، و لا أكاد أنسى حوارا جرى بينه ـ رحمه الله ـ و بين امرأة من بلدتنا، و ذلك حين أخذت الجبهة الإسلامية للإنقاذ مقاعد البرلمان سنة (1411 هـ) تقريبا، و المرأة سلفيّة لا توافق الجبهة في مسالكها، لكن يبدوا أن الوضع السياسي الجديد يومها استفزّها، حتى قالت للشيخ: لقد انتصرت الجبهة في الانتخابات البرلمانية!

فأجابها الشيخ على الفور: لا! لم تنتصر!

فقالت: بلى!

فعارضها الشيخ بقوة، فصمدت في وجهه؛ لأنها لم تكن تشكّ فيما ترى، حتى كان من قولها أن قالت متعجّبة: أنا أعيش في الجزائر، و أخبرك ـ يا شيخ! ـ بأن جبهة الإنقاذ أخذت أكثر المقاعد في البرلمان! !

ثم بيّن لها الشيخ وجه كلامه؛ و هو أن العبرة لا تكمن في النتيجة، و إنما تكمن في النظر في الطريق، و ذكر لها أن الجبهة المذكورة لم تسلك طريق الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ في الإصلاح، لأن الإصلاح النبوي لم ينطلق من الإصلاح السياسي، و إن كانت السياسة من الدين بلا ريب، فيكون انتصارها حينئذ هزيمة، و وصولها انقطاعا؛ لأن النصر يعقب الاتباع لا الابتداع، فإن الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم} (محمد 7)، و لا ريب أن عمل المرء بسنة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـمن أعظم ما ينصر به ربّه، قال الله ـ عز و جل ـ: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريّون نحن أنصار الله آمنّا بالله و اشهد بأنا مسلمون (52) ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا فاكتبنا مع الشاهدين (53)} (آل عمران)، فسمّاهم الله أنصارا له؛ لأنه اجتمع فيهم توحيد الله و المتابعة لرسوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، إذا فنصر الله ـ عز و جل ـ ليس مجرد تعاطف مع الإسلام، و إنما هو عمل بالإسلام، و الله المستعان على ذلك.

ذكرت القصة بالمعنى، و ذكرتها لبيان قوّة يقين الشيخ ـ رحمه الله ـ، و أن هذا اليقين هو الذي يعيش به السلفيون، و هو الذي يجب أن يراجِع فيه الحركيّون أنفسهم، و فيها عبرة لمن يُعْنون بالدعوة و الجهاد و السياسة و قلوبهم ضعيفة اليقين بطريق رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، لا سيّما و قد صدقت فراسة الشيخ فيهم، {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون} (النمل 52).

و لذلك كنت أتعجّب كثيرا حين أُسْأل عن تفاصيل الوضع في الجزائر، و أقول: لسنا بحاجة كبيرة إلى ذلك؛ لأنه يمكننا أن نعرف هذه الجماعات بحسب أخذها بهذا الأصل، فإذا وجدناهم يأخذون المسالك السياسية أو الدموية أو غيرها مما يخالف المسلك النبوي حكمنا عليهم بلا كبير معاناة، و الله وليّ التوفيق.

تنبيه:

هذه الحجة التي وارى بها أبو قتادة عورة وحوشه هي نفسها التي احتج بها الخوارج الإباضية، كما نص عليه صاحبهم ناصر بن سليمان السابعي في كتابه ’الخوارج و الحقيقة الغائبة‘ (ص 123-124)، و استدل عندها بثلاث قصص، وافقه أبو قتادة على اثنتين منها، إحداهما قصة أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ المذكورة آنفا ـ و الأخرى قصة خالد بن الوليد مع أبي بكر و عمر ـ رضي الله عنهم ـ، إلا أن مؤلّف هذا الكتاب لم يعثر على أكثر من تلك الثلاث، بينما يرى المشبوه أنه قادر على جمعها في مجلدات!

كما أن المشبوه يراها أمرا طبيعيا في حركة الجهاد، بينما كان الإباضي أقرب إلى الصواب منه حين رآها حالات شاذة، فقال: ”و لو استعرضنا العهود الراشدة لوجدناها لا تخلو من مثل هذه الحالات الشاذة“.

و هكذا، حنانَيْك بعض الشرّ أهون من بعض!
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 02 Jun 2008, 12:19 AM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

المؤيّدون


لست أعني بالمؤيّدين عامة المسلمين؛ فإن هؤلاء قد يؤيّدون الثائرين على دولتهم بمحض العاطفة الدينية، لا سيما إذا صحب ذلك ظلم من الراعي للرعيّة، فإن عادة هؤلاء أنهم يثورون طلبا لحقوقهم، و غضبا لحظوظهم، فإذا وجدوا من يبرز لهم هذا في صورة دينية تشبّثوا به و ازداد تحمّسهم له، لست أعني هؤلاء بهذا الفصل، و لكني أعني أولئك الذين نصّبوا أنفسهم للدعوة، الذين يوظّفون كل شيء للوصول إلى السلطة، فيبدؤون بتحصيل السلطة الدينية التي تجعل الناس ينقادون إليهم بلا سوط، حتى إذا كثر سوادهم، و جُرّت أذيالهم، طمحوا في الوثوب على السلطان، و يسلكون غالبا لذلك الجسّ اللطيف، أو المسّ العنيف، فيتمثّل الأول في المطلب السياسي، و الثاني في حزّ النواصي، و قد قضت العادة أن من دخل في الأول لم يخرج منه إلا إلى الثاني، و الأمر لله.

إن الذين أُلقموا بوق التأييد لم تطرف أعينهم منذ أن دخل من دخل في أحد المسلكين السابقين، فهم إن وجدوا أصحاب الحلول السياسية أيّدوا، و إن وجدوا أصحاب الحلول الدّمويّة أيّدوا، فإن رأوا من السلطان فتورا ألقَوا، و إن رأوا منه بطشا اتقوا! !

و لعل القارئ الذكي قد أدرك أنني أقصد أهل التقيّة، لا من كان فيه من الشجاعة بقيّة؛ فإن هؤلاء يُعرفون بما أوتوا من وضوح، و لكن أولئك...

إن بعض البلاد الإسلامية التي شبّت فيها نار الفتنة حتى شابت، ما منع صَحوَ سمائها إلا الغيوم المستخفية.

و من أمثلة المؤيّدين:

عائض القرني لم ير خطيئة على هؤلاء! !

بعد هذه الفضائح التي يخجل المسلم أن تنسب إلى دينه، و بعد وقوعها بسنوات، يجيء الشيخ عائض القرني مؤيّدا، و نافخا في أصحابها نفَسا جديدا، فيقول في كتابه ’كونوا ربّانيين‘ (ص 45): ”و أصبحت مسألة الجزائر كأنها خطيئة فعلتها الأمة، و الحركة في الجزائر و الأصوليّون في الجزائر و غير ذلك، و سوف تلحق بها البوسنة و الهرسك و الصومال؛ لأن هذه الوسائل لا تترك قبيحا إلا وسّعته و ضخّمته، و أعطته من الهالة و الحجم حتى يقتنع الأغبياء و البسطاء من الناس بما تقول! !

فينبغي أن يُذبّ عن أعراض هذه الجماعات، و هذه الدعوات الصالحة الناصحة،و هؤلاء الأخيار الذين يهدّدون عالم الكفر، و يزحفون في زحف مقدّس على دوَل الوثنية، و هم جديرون بقدر جهدهم! ! !“.

قلت: لقد قيل لغرض ما: إن عائضا قد تراجع! !

قلنا: عن ماذا، و كتابه هذا يُطبع في طبعته الأولى سنة (1421 هـ)؟ !

أي بعد ميلاده الجديد!

فلا هو استفاد من أيّامه بالرجوع إلى منهج أهل السنة و الجماعة في معاملة الفرق، و لا هو انتصح بما كتبته له عن مسألة الجزائر و هو يعلمه، أو قد سمع به على الأقل، مع هذا فإنه لم ير إلى الآن ـ و هو فقيه الواقع! ! ـ خطيئةً فَعَلتها تلك الجماعات! !

و ما أدري متى زحفت هذه الجماعات على دول الوثنية، و لا متى كفّت يدها عن عالم الإسلام و توجّهت إلى عالم الكفر؟!

إن هذا لشيء عجيب! !

و أقول أيضا: اسألوه و اسألوا الشيخ سلمان العودة و مريديهما عن تلك البشاعة التي نقلتها عن أولئك الوحوش، و هم كانوا و لا يزالون يؤيّدون و ينافحون عنهم، و يبهتون أهل الصدق بالتكذيب، و يرمونهم بضعف الولاء و البراء، فهل يجرؤون على تكذيب هذه الأخبار بعد أن صوّرنا لهم وثائقها التي فيها شهادة القوم على أنفسهم؟!

هم الذين مدّوهم في الغيّ و أطالوا عمر الفتنة بإسرافهم في ممالأتهم و تكثير سوادهم، بل ما بسقت أغصانها، و غلظت جذوعها إلا بتشجيعهم لهم و تصوير جرائمهم في صورة جهاد شرعي، و الله المستعان! !

و لو هداهم الله ـ عز و جل ـ للاعتراف بجرائم ’مجاهديهم !‘ ـ و هذا الذي نرجوه من قلوبنا ـ فإن التبعة لا تزال لاحقة بهم حتى يبيّنوا للناس جليّة الأمر؛ و إلا فإن جيوشا جرّارة ممن تربّى في محاضنهم تستعدّ لتفعل كما فعل أولئك، أو لتُستدرَج إليه إن لم تقتنع بهذه الوحشية بادي الرأي، و لو تصوّرنا الشيخ سلمان العودة قام و تبرّأ من أن يُنسب إليه أو إلى منهجه هذا الذي قتل أمه و أباه، فهل تسهل تبرئته من تشجيعه بل توريطه لهذا الشاب في مثل هذا الغلوّ، و قد نقلت في كتابي 'مدارك النظر في السياسة' (ص 370 و م بعدها من الطبعة الرابعة) تحريض سلمان لهذه الجماعات الهمجية نحو الدماء، و ذلك في الوقت الذي بدأت فيه الدماء المسلمة تراق في الجزائر، و منها قوله للجزائريين في (ص 376): ”... و تصبر و تتحمّل، و تبذل من القتلى الذين نحتسبهم عند الله ـ تعالى ـ شهداء“؟!!

تلك هي صنائعهم و لمّا يتمكّنوا بعد، فكيف لو تمكّنوا؟!

لقد كان من فضل الله على هذه الأمة أنه لا يمكّن لهم في الأرض؛ روى ابن ماجه (174) بإسناد حسن، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ قال: "ينشأ نشء يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلّما خرج قرن قُطع" قال ابن عمر: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول: "كلّما خرج منهم قُطع ـ أكثر من عشرين مرة ـ حتى يخرج من عِراضهم الدجال".

قال وهب بن منبِّه المتوفَّى ـ رحمه الله ـ في أوائل القرن الثاني من الهجرة: (إني قد أدركت صدر الإسلام، فو الله! ما كانت للخوارج جماعة قطّ إلا فرّقها الله على شرّ حالاتهم! و ما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه! و ما اجتمعت الأمة على رجل قطّ من الخوارج! و لو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض، و قُطعت السبل، و قُطع الحج عن بيت الله الحرام! و إذاً لعاد أمر الإسلام جاهلية، حتى يعود الناس يستعينون برؤوس الجبال كما كانوا في الجاهلية، و إذاً لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلا ليس منهم رجل إلا و هو يدعو إلى نفسه بالخلافة، و مع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلاف يقاتل بعضهم بعضا، و يشهد بعضهم على بعض بالكفر، حتى يصبح الرجل المؤمن خائفا على نفسه و دينه و دمه و أهله و ماله، لا يدري أين يسلك أو مع من يكون! !“ رواه ابن عساكر في 'تاريخ دمشق' (17 / ق 478-483)، و أورده المزيّ في 'تهذيب الكمال' (31 / 150-156) و الذهبي في 'سير أعلام النبلاء' (4 / 553-555).

و قد بيّن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ أن سبب ضرب الذلة عليهم هو أن الجزاء من جنس العمل، فروى ابن أبي شيبة (7 / 487) بإسناد صحيح عنه أنه قال: (لا يمشينّ الرجل منكم إلى ذي سلطان ليذلّه، فلا ـ و الله! ـ لا يزال قوم أذلّوا السلطان أذلّاء إلى يوم القيامة)، و روى البخاري في 'التاريخ الكبير' (6 / 206) و ابن سعد في الطبقات (7 / 164) و ابن أبي حاتم في 'تفسيره' (3 / ق178 / أ – المحموديّة)و الآجري في 'الشريعة' (62) عن الحسن البصري ـ رحمة الله عليه ـ أنه قال في الخوارج: (و الله! ما جاؤوا بيوم خير قطّ...).

و أي خير في قوم وصل بهم الغلو إلى غزو قرى المسلمين، و قتل الآباء! !

قوم ضُربت عليهم الذلّة، و لو مُكّنوا لنسخوا الملّة.

فلينظر هؤلاء المدافعون عنهم بعد اليوم في العواقب قبل الولوج، لا سيما إذا أُكرموا بأهل النصح و الشفقة، و قد قيل:

و أحزم الناس من لو مات من ظمأ [][][] لا يقرب الورد حتى يعرف الصدرا

و من هؤلاء المؤيّدين:

عدنان عرعور لا ينصح بوضع السلاح

زار الشيخ عدنان عرعور الجزائر و الأحزاب السياسية في نشوتها، لا سيما ما كان منها ذا توجه إسلامي، فكان له بعض الكلام الجيّد في الموضوع، الأمر الذي جعلني و بعض طلبة العلم نُسَرُّ بذلك، لكن سرعان ما تكدّر سرورنا ببعض التصرفات، منها أنه لفت انتباهي عدم رضى الشيخ عدنان عنا في ردودنا على جبهة الإنقاذ يومها، فكنّأ إذا فتحنا موضوع انتقادهم نرى على وجهه علامات الاستياء، و لكنّه لم يكن يصرّح لنا بذلك، و إنما يعرّض بنا، فاتهمنا أنفسنا، و حملنا الأمر على حسن الظن به.

و الأمر الثاني: هو أننا شرحنا له قصة حمل السلاح في الجزائر من قِبَل المسمى مصطفى بويعلى و جماعته، فكان يحكي لنا أنه وقع في سوريا مثل ذلك، و أنه استفتاه في تلك البلاد بعض من يسمّيهم ’مجاهدين !‘ في أنه همَّ بوضع السلاح، فأخبره بعدم جواز ذلك؛ لأن من فقه الشيخ عدنان أنه لا يحلّ لمن حمل السلاح ـ و لو مخطئا! ـ أن يتراجع؛ فقد قال في محاضرة ’أهميّة معرفة المنهاج و خطورة الخروج عنه‘: ”إذا تمكّن الناس من الجهاد في بلد فلا يحلّ لهم أن يتركوه أبدا، و لو أخطأوا في البدء به! !“.

قال هذا في الجزائر في الوقت الذي كانت تضطرب ربوعها بالفتن، و هو يعلم أن جماعات فيها قد حملت السلاح باسم الجهاد!

الثالث: في الوقت الذي كان يشرح لنا ـ ظاهرا ـ أن جهاد أولئك السوريين خطأ، فقد كان يحكي لنا من بطولاتهم قصصا عجيبة في مدحٍ و اغتباط! !

الرابع: أنه كان يتكلّم بلسان سلفي في مساجد السلفيين، فإذا خلا بغيرها لوى لسانه! !

و هذا كلّه تجاوزناه يومها، إلى أن مرّت السنوات، فإذا بي أفاجأ بشريط له بعنوان ’معالم في المنهج‘ رقم (3)، فسمعت الشيخ عدنان يقول: ”حزب فيه ناس ينصحونها، هذا الطريق، انتبهوا! احذروا! لكن هل يوجد مسلم يجيء يقف في وجهها؟! فإذا كانت على خطأ في هذا السبيل، و نحن ما نراه، لكن هل يجوز أن يأتي مسلم فيقف أمام حزب إسلامي، و يكون هو مشغلة بينه و بين هذا الحزب؟! فكلٌّ على شاكلته يعمل؛ فهذه الجبهة ترى الوصول الآن السريع بدل ما يستلم الشيوعيون أو العلمانيون أو الجزأريون، أو إلى غير ذلك... ! ! !“.

قلت: ’الجزأريون‘ هم أحد حَناحَي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فكيف جمعها الشيخ عدنان مع الشيوعيين و العلمانيين الذين ينبغي أن يحاربوا، و في الوقت نفسه يستغرب صنيع من يواجه الجبهة؟!

و عند سماعي لهذا الهذيان أيقنت أن الرجل لا يستحق منا هذا النفَس كله في تحسين الظن به، و التغافل عن زلّاته.

ثم تمرّ السنوات أيضا و يخبرنا بعض إخواننا الذين كانوا يناظرون بعض الجماعات المسلّحة في الجزائر، أن منهم من كانت تحدّثه نفسه بالتوبة و الإقلاع عن إراقة الدماء، و لكن أصحابه يثبّطونه عن ذلك بفتوى من الشيخ عدنان عرعور! !

ثم استمعت إلى حوار بينه و بين أحد إخواننا، ألا و هو الشيخ العيد بن سعد شريفي، و الشريط معروف عند أهل الجزائر متداول باسم ’مكالمة هاتفية بين عدنان و العيد‘، سأله هذا الأخير بصراحة محرجة: هل أفتيتَ الجماعة المسلحة بالجزائر بالبقاء على ما هي عليه؟

فتلعثم... ثم جحد حين تكلّم.. !

ثم ألزمه السائل بكلامه المحفوظ عند الجماعة المسلّحة، فإذا بالشيخ عدنان يتذكّر أمرا مهمّا عنده: فيقول: هذه المكالمة الآن مسجّلة؟

فقيل له: نعم!

فجعل يلوذ بالفرار من الموضوع بإحياء موضوعات أخرى، كموضوع التحزّب و الدعوة، بل حتى موضوع تعدد الزوجات!

و جعل يمنّ على الدعوة الإسلامية بأنه كان في الجزائر ينهى عن التحزّب و الفتن1، مع أن كلامه الذي نقلته عنه قريبا يناقضه؛ لأنه لم يعتبر في العقلاء من يردّ على جبهة الإنقاذ: ذلك الحزب السياسي المعروف، فكيف يكون الشيخ عدنان من العقلاء و قد كان يرد على جبهة الإنقاذ فيما زعم؟!

فهو بين إحدى اثنتين:
- إما أن له مذهبا قديما، كان يرى فيه الردّ على جبهة الإنقاذ، و ذلك يوم أن اختُلس عقله، و من كان كذلك فقد رُفع عنه القلم حتى يفيق!

ثم انتحل مذهبا جديدا، ألا و هو مذهب ’العقلاء!‘، فمنعه ’عقله!‘ من الرد عليهم، لكن يشكل عليه أنه في هذا الوقت يتمدّح بكونه كان يردّ عليهم، فبأي ’العدنانين‘ نعتدّ؟!!

- و إما أنه كاذب فيما ادّعى؛ لأنك تجده في مراكز السلفيين يردّ على الحزبيّين، كما تجده في مراكز الحزبيّين يردّ على السلفيّين، و ستراه إن شاء الله، و حقيقة أمره أنه يؤيّد المناهج الثورية، لكن على تقيّة! !

إلا أنّ هذا ’الذكاء!‘ لم يفلته من القبضة؛ لأن الذنب لا يُنسى و الديّان لا يموت، ففي الوقت الذي كان يطالبه فيه السائل بأن ينصح لهذه الجماعات بوضع السلاح و الدخول في السِّلم، كان عدنان يرفض أن يقدّم لهم النصح في ذلك، يعني: ما دمتَ تزعم أنك لم تتكلّم بما نُسب إليك، فيسعك الآن أن تنصح لهم بخلاف ما نُسِب إليك!

بل كرّر السائل عليه خبر أن الحكومة قد أمّنت المقاتلين إن هم سلّموا أنفسهم، و بيّن له صدق ذلك في الواقع، فاستمات الشيخ عدنان في إبائه، على الرغم من معرفته و ثقته به! !

و أصرّ على التعمية، إلى أن سلّ الله لسانه من جوفه، فقال: ”أنا قلت لهم: لا تبدؤوهم بقتال! ! !“.

و قد ظن أنه بهذا الجواب لم يقل شيئا، فإذا بها الفضيحة التي كان الشيخ عدنان يريد كتمانها، و لكنّ الله أراد لها الظهور عن طريقه هو نفسِه.

و قد قلت: هي فضيحة؛ لأنها تتضمن ثلاثة أمور:

الأول: البقاء في جبال الإرهاب: إرهاب المسلمين!

الثاني: المحافظة على السلاح!

الثالث: الإذن بالقتال، إن هم قوتلوا! !

إذاً فما نُسب إلى الشيخ عدنان صدق لا كذب.

و كيف يجوز له أن يسوّغ لهم مقابلة القتال بالقتال، و أصل حملهم للسلاح حرام؟!

و هل يُداوى خطأ حمل السلاح بأفظع منه، ألا و هو استعمال السلاح و استحلال الأرواح المعصومة؟!

و قد سبق أن نقلت أن القول بقتال السلطان دفاعا عن النفس هو مذهب بعض الخوارج، و الله المستعان.

يُضاف إلى هذا أنه سُئل في الجزائر بعد محاضرة ’قواعد معرفة الحق‘ عن المظاهرات و المسيرات، بعد أن ظهر من هذه المظاهرات و المسيرات شرّ كبير من دماء و تخريب و فرقة، فقال: ”في الأصل أن هذه المظاهرات و المسيرات ليست من دين الله في شيء...“

ثم نسخ هذا مباشرة بقوله: ”لكن لاحظ المسألة، أولا: أن هذا إذا كان عالما فاضلا راشدا، ثم نظر مع الشورى، فنظر في ’المصلحة و المفسدة!‘، ثم اتخذ أمره بهذا، بالأمر، فإن رأيت جواز ذلك فاخرج!! و إن رأيتَ عدم جواز هذا فلا نخرج؛ لأنه ليس بملزم! ! لكن المسيرة إذا صحّت ـ و أنا لا أدري ـ إذا صحّت، أن المسيرة إذا صحّت2، فكانت مسيرة دعوية لا مسيرة سياسيّة! ! !“.

فانظر إلى هذا الجواب؛ هل تخرج منه بنتيجة؟!

و هل هذا الجواب يخفف من شرّ المسيرات أو يزيدها؟!

و هل هذا الجواب يحسم مادة الحزبية أو يزيدها؟!

و الشيخ عدنان يعلم أن الحزبية الإسلامية اليوم تتحرّق على هذه الوسائل المستوردة من الكفّار و لا تفرّط فيها! !

لم يهمّنا كثيرا قوله: ”لا ادري“؛ لأنه لا عيب على من لا يدري ما دام طالبا للعلم، لكن العيب الأكبر أن يفتي في دين الله من لا يدري، و شر من ذلك أن يفتي بفتوى ذات لسانين كما ترى!

و إن كان يرى أنه بهذا الجواب المعلّق بحبال المكر و الخديعة قد نال به حظوة عند حزب ’جبهة الإنقاذ‘ و من يسايرها من أصحاب الثورات، و أنه ـ في المقابل ـ قد أبقى على الشعرة التي بينه و بين السلفيين، فليعلم أن الله يغار على دينه من أن يتلاعب به المتشبّهون بأهل الفتوى؛ فيوشك أن يجعل حامدهم لهم ذامّاً، فاتق الله يا عدنان! و ليكن جوابك تديّناً، لا تزيّناً، قال الله ـ عز و جل ـ: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم و الله و رسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} (التوبة 62).

و من ذلك أن سُئل في الجزائر عن جماعات التكفير، فأجاب ببرودة، و سمّاهم إخوانا له، و أمرهم فقط بأن يكونوا حكماء، كما في آخر شريط ’تفسير سورة محمد (1)‘ !

و من ذلك إيجابه على مسلمي الجزائر التعاون مع الحزبيين، و هذا لا يحتاج إلى أن أحيل فيه إلى شريط؛ لأنه في أكثر المحاضرات التي ألقاها في تلك البلاد.

و من ذلك أيضا قوله: ”و إن كل من يظلم المسلمين، و كل من يعادي دين الإسلام، و كل من لا يقيم حكم الله ـ عز و جل ـ وجب عليه أن يتنحّى بأي وسيلة هو يتنحّى بها، و إلا نُحّي إن وُجد الرجال! !

ثمّة سؤال: إذا قام مسلمون بانقلاب، في بلد ما، و أنت تقول: هذا لا يجوز، فما عليهم؟ أقول: و قد وقع الأمر و تمّ، فوجب علينا دعمهم و نصرتهم؛ فهم إخواننا و أحبابنا، فإذا أخطأوا في الطريق و قد وصلوا، فالحمد لله الذي نجوا، فيجب أن نتسارع و نتعاون سريعا لخلق هذا المجتمع المؤمن المسلم الذي لا يصلح بينه و بين حكومته اختلاف!“ من شريط ’براءة السلفيين من مطاعن المدخليين‘ (1/1).

لقد جعل الشيخ عدنان مستحقّي الخروج من الحكّام ثلاثة أصناف:

الأول: الظالمون.

الثاني: المعادون لدين الإسلام.

الثالث: الذي لا يقيمون حكم الله.

و أنت ترى ـ أخي القارئ! ـ أن في هذا الإطلاق خطورة ظاهرة؛ لأن مجرّد ظلم وليّ الأمر لا يخوّل لأحد الخروج عليه؛ فقد روى البخاري (7054) و مسلم (1849) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى لله عليه و سلم ـ قال: "من رأى من أميره شيئا يكرهه، فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات، إلا مات ميتة جاهلية".

و أنا أعلم أن الشيخ عدنان يستعمل هذا الأسلوب غير الدقيق ليضمن لنفسه المخارج عند المضايق، فيقول هذا ليحمده الحركيّون على أنه دعا بإطلاق للخروج، و تكلّم عن الحكم بغير ما أنزل الله على طريقتهم؛ فلا ينفضّوا عنه، و إذا عارضه السلفيون بالاعتراض السابق سارع للقول: إنهم مترصّدون، و لا يفهمون كلامي؛ فإنني أقصد من الحكّام من اجتمع فيه تلك الأوصاف كلّها: ظلم و معاداة للإسلام، و حكم بغير ما أنزل الله!

و هذه الطريقة في التلبيس يعرفها كل من يعرف الشيخ عدنان، و لي عليه من أمثالها ما يقارب كتابا كاملا، بل لقد كتبت فيه هو نفسه ـ هداه الله ـ كتابة، فما شعرت إلا و هو مجلّد ضخم، و قد نظرت في فصوله، فوجدت بين يديّ فصلين هما أطول فصول الكتاب، ألا و هما فصل تلبيسات عدنان، و فصل كذبات عدنان، و ذلك من كثرة ما عند الرجل من هذا النوع، ثم لمّا رأيت طول الكتاب، أعرضت عن ذلك كلّه، و اعتصرت منه هذا المختصر الذي بين يديك.

و من ذلك أيضا قوله في شريط ’معالم في المنهج‘ (3): ”إذا جماعة من الجماعات رفضت الانضمام للدولة الإسلامية، فما على المسلمين إلا أن يُذَبّحوهم، حتى و لو يتّموا بأطفالهم، هم و أطفالهم بيحرّقوهم و يبيدوهم! !“.

قلت: كيف تكون فرحة خوارج هذا الزمان و هم يسمعون هذا الكلام؟!

هذه هي حجة الغلاة من الخوارج عندنا بالضبط، و هي حجة ابن الأزرق قديما!

ثم بيّن أنه ينبغي تعطيل الجهاد من أجل هذا، فقال: ”و هذا من أوجب الواجبات على الدولة الإسلامية، قبل مقارعة الأعداء، و لا يجوز للدولة الإسلامية أن تفتح الحصون، و هناك حزب رافض البيعة؛ اقتداء بقوله "عليكم بسنّتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي"!!“.

و من ذلك:

عدنان يبرّر التكفير و التفجير:

بدأت فتنة الشيخ عدنان لمّا أخذ يجوب أمريكا و أوربا و غيرها بإثارة ردود على العلامة المحدّث ربيع بن هادي المدخلي، و فرّغ من عمره و عمر الدعوة سنتين صرحتين خالصتين لمثالب الشيخ، لا سيما في شريط ’جلسة في الأندلس‘ الذي أتى فيها بشريط للسيخ، كان الشيخ ربيع يذكر كلام زينب الغزالي في مدح سيد قطب، و ردّ عليه فيه، فقال عدنان: لماذا ينقم عليّ مدحي سيّدا و قد فعل أكثر منه؟! فقطع عدنان كلام الشيخ عن أوّله، و أسمعه الحضور على أساس أنه من كلام الشيخ، فخرج الناس ناقمين على الشيخ ربيع، و ورّط الشيخ محمداً المغراوي في غمز الشيخ، مع أن صاحبه الحقيقي هو تلك المرأة!

و زعم الشيخ عدنان بفرنسا سنة (1420 هـ) في ’شريط براءة السلفيين في الرد على المدخليين (2 / 2)‘ أن هذا كان في مسجد الرضا بمنطقة الخَرْج، مع أنه لا وجود لهذا المسجد بتلك المنطقة، و إنما هو في جُدّة!

كما زعم أن الشيخ ربيعا قال هذا الكلام في سيّد قطب منذ سنتين و نصف تقريبا، أي بعد أن عرف سيّدا و حذّر منه عاد ليثني عليه، مع أن تاريخ الشريط الذي هو ’جلسة في مسجد الرضا‘ كان قبل ذلك بتسع سنوات! ! !

و الحقيقة أنني استبنت وجهة هذا الرجل ـ بعد مبالغة في تحسين الظن به ـ عند استماعي لهذا الشريط، و بان لي أنه آية في التلبيس! !

و مما قاله في رحلته إلى أوربا، كما في شريط ’براءة السلفيين من مطاعن المدخليين‘ (4 / 4): ”أسباب التطرف: ’بعض الشيوخ! !‘ و بعض قوى الأمن في العالم الإسلامي بخاصة؛ فإنّ كثيرا من الشيوخ لم يحسنوا التربي، و إن كثيرا من قوى الأمن لم يحسنوا المعالجة، نحن لا نرى التكفير، و لا نرى التطرف، لكن ماذا ترون من شاب سُجن في سجون عبد الناصر، و قُيّدت يديه (هكذا)، شاب عمره عشرين، ثلاثين (هكذا)، ما عنده من العلم إلا قليلا (هكذا)، سُجن و رُبّط، و رُبّطت يداه، و كُبّل، ثم أُطلق عليه كلب جائع، ينهش من بدنه، بالله عليكم: ماذا يقول هذا الشاب؟“

ثم أجاب: ”يكفّر! و يكفّر! و يكفّر! و يفجّر! و يفجّر! و يفجّر!

هذه ما كانت معالجة، هذه معالجة يهودية!

شاب أخطأ، حتى و لو دخل في تنظيم سرّي، كان ينبغي على قوى الأمن أن تعالج هذه القضية، لا أن تنتقم من هؤلاء الشباب، فضلا عن الظلم الصريح الواضح في ردّ الشريعة، في الكفر بالشريعة، في كذا و كذا و كذا...

عن الصدّ عن سبيل الله! ! !

شاب دخل السجن، عمره عشرون سنة، ماذا تراه يفعل؟!

فهذا هو من أسباب التطرف، هذان السببان“.

قلت: كأن هؤلاء هم أول من يؤذى، حتى يُجابوا بهذا الجواب العاطفي!

إن هذا التحليل لا يزيد صاحب الفتن إلا رسوخا في الفتن، و طمأنينة إلى الحلول الدموية؛ ما دام يُسند قضيّته إلى هذا المحامي.

لقد شكى الصحابة إلى رسول الله ما كانوا يلقون من قريش، فما كان جوابه؟

روى البخاري (6943) عن خبّاب بن الأرتّ قال: (شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ و هو متوسّد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُشقّ باثنتين و ما يصدّه ذلك عن دينه، و يُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب و ما يصدّه ذلك عن دينه، و الله! ليُتِمنّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، و لكنكم تستعجلون".

فانظر كم بين العلاجين: علاج عدنان،و علاج سيّد ولد عدنان!

و من ذلك أن:

عدنان يرفض تسمية البلدان المسلمة بمجتمعات إسلامية:

الشيخ عدنان عرعور معروف بدفاعه عن سيد قطب، و كثرة استدلاله بكتبه، و نظرة خاطفة في مؤلّفاته تغنيك عن قيل و قال؛ فلا يكاد الرجل يكتب بضع صفحات إلا استشهد بكلام سيّد!

و لسيّد قطب حكمٌ خاص على المجتمعات الإسلامية، و سوف أجلّي هذا في القسم الثاني من الكتاب إن شاء الله، إلا أنني اكتفي هنا بنقلٍ واحد عنه، جعل سيد يعدد فيه المجتمعات الجاهلية و يحددّها، فكان مما قال في ’معالم في الطريق‘ (ص 101ـ ط. دار الشروق 1407 هـ): ”و أخيرا يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة! ! !“.

فهل يقصد سيد أنها في منزلة بين منزلتين: لا هي مسلمة، و لا هي كافرة؟

الجواب عند سيد نفسه، حيث قال في ( 98): ”إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم“.

لقد تأثر الشيخ عدنان بهذا التكفير الصارخ حتى رفض تسمية البلدان المسلمة: مجتمعات إسلامية، و هذا مما تشمئز له النفوس، و معلوم أن آل قطب هم الذين اشتهروا بذلك، و استعاضوا منه اسم ’مجتمعات جاهلية‘ كما مرّ، و أما الشيخ عدنان فتسمع هذا بصوته في شريط ’رد الدكتور عبد الله الفارسي على رسالة عدنان عرعور‘ (2)، حيث قال: ”ما كان ينبغي لك أن تقول أنّ (هكذا) المسلمين الآن ـ و الله! ـ وصلوا، ما قلت أنا، أقول: المسلمون هؤلاء ما نكفرهم أعيانا، لكن مجتمعاتهم هذه ليست مجتمعات إسلامية؛ بدليل رفضهم للشريعة الإسلامية، الآن ضربنا أمثلة كثيرة! ! !

و أنا أعرف أنه قامت بعض الحكومات، وتريد تطبيق الإسلام، و عجزت عن ذلك، لأن الشعب نفسه لا يرضى بهذا! ! “

لا تغترّ بقوله: ”لا نكفّر الشعوب! “ و لا بقوله: ”ما نكفّرهم أعيانا“؛ لأنه لا يغني عنه شيئا، و هو يرفض أن يسمي مجتمعاتهم: مجتمعات إسلامية ، و قال: ”نحن لا نكفّر الشعوب! لكن جاء هذا الاستعمار فظهر الكفر في الحكم، ثم بعد ذلك تسلّل الكفر إلى الشعوب“ المصدر السابق.

فتأمل إطلاقه الكفر على الحكّام؛ لتعلم سبب تعلّف الجماعات التكفيرية التي ذكرتها في أوّل الرد عليه به، و لا يخفى عليه أنه يلقي محاضرته هذه في أوساط تعجّ بالشباب المشبّع بالتكفير!

و تأمّل رميه الشعوب بالكفر، و رميه لها برفض الشريعة؛ تفهم رفضه لتسمية مجتمعاتهم بـ ’الإسلامية‘، و الأمر لله!

و أطلق الكفر على عموم الناس، فقال: ”بل ـ و الله! ـ إن بلادا كافرة، عبرتُ فيها أسهل مما عبرت بعض البلاد الإسلامية، من الذي صنع هذا؟ نحن الذين سكتنا عن الطواغيت أول ما سكتنا، ثم جرّ هذا الكفر إلى عموم الناس! !“ و هذا من شريط مسجل في الجزائر في ’تفسير بعض آيات الحجرات‘ وجه (ب).

و في هذا الكلام تهييج واضح على الحكّام، وتكفير فاضح لعموم الأنام، فلتقرّ أعين الحزبيين من السياسيين و كذا التكفيريين، و لتثبت أقدامهم في ما هم فيه!

و يزيد في التهييج السابق المبني على التكفير الماحق، فيقول: ”كثير من الحكّام أولئك الذين كفروا بدين الله، و كفروا بالله العظيم، كثير أولئك!

لكن هل شعبنا، هل مجتمعنا هذا مجتمع مسلم؟ فقط كفر حكّامه فننقلب عليهم؟!

فإن كانت المسألة كذلك فلا يجوز لك أن تنام الليلة إلا و تخرج على الحكام، لكن شعبنا أو بعض شعبنا ـ حتى لا نتحسس! ـ صاروا أفسد من حكامهم، فما أنتم صانعون؟

نعم! لقد كان الواجب منذ دخول الاستعمار ـ على كافة أشكاله و ألوانه ـ كان الواجب رده فورا، أن يقوم المسلمون قومة رجل واحد، فيدفعوا هذا العدوّ اللدود عن ديارهم، و لكنّ الله لم ينصرهم؛ لأنهم خذلوه و أضاعوا دينهم، فخذلهم الله و ضيّعهم!“.

و تتفلّت تقيّته من تحت لسانه أحيانا، فيأتي بمنكر القول في تكفير الشعب الباكستاني؛ بسبب الانتخابات التي اغترّ فيها بأصحاب الأموال كما يذكر هو، و يقول في شريط له بعنوان ’ميزات الدعوة‘: ”إن المسلمين في باكستان باعوا دينهم بخمس مائة رُبِّيّة، و نجحَت بالأغلبية المطلقة كما تعلمون، فأي زعم لكم أن هذا مسلم؟!!!“.

أمنزلة بين المنزلتين؟

قال الشيخ عدنان صراحة في شريط ’ميزات الدعوة‘: ”يقول قائل: أنت حيّرتنا! لا نقول: نكفّر هذا المجتمع؟! و لا نقول: مسلم؟!“.

ثم أجاب بقوله: ”إي نحن نقول: إنه مجتمع مسلم أفراده! أما كمجتمع: ليس بمسلم، كمجتمع كبيئة! !

أما كأفراد: نعم! مسلمون؛ لأننا لا نكفّر الأفراد؛ و الدليل على ذلك أن هذا المجتمع كمجتمع ليس بمسلم! !“.

ثم ذكر دليله الغريب الذي جعله يوقف المسلمين في برزخ بين الكفر و الإسلام كالمعتزلة، فقال: ”احسبْ نسبة المصلّين فيه! و احسب نسبة الكاسيات العاريات بين التقيات الورعات! !

و احسب نسبة الذين يتعاطون الخمر و الربا و القمار! ! !“.

قلت: إذا فحساباته في رفض تسمية المجتمعات الإسلامية بـ ’الإسلامية‘ تنطلق من كبائر الذنوب، فهذا مذهب من؟!

و من غرائب التكفير أن:

عدنان يكفّر الأشاعرة:

قال في ’معالم في المنهج‘ شريط (4): ”و الله! لو متُّ على عقيدة أبي لكنت كافرا، و كان أبي يشهد الجماعة، بل أهل البلد كلّهم شهود بصلاحه ـ رحمه الله ـ، و لو متُ على عقيدته لكنت من الكافرين! !

قلت له مرة: أين الله، و أنا صغير؟

فقال: إن الله في الكون كالسَّمن في اللبن مخلوط!

هكذا سمع من مشايخه، و هكذا تربّى عليه، و أما من قال ـ في اعتقادهم ـ أن الله فوق عرشه فهو زنديق مجسّم حاصر الله ـ عز و جل ـ في مكان“.

إن الشيخ عدنان يصرّح بلا تحفظ بهذا الحكم الواضح في التكفير، و قد قلت: إنه في الوقت الذي يزعم أنه يرد على جماعة التكفير، يخوض لجّة من التكفير و قف بساحلها جماعات التكفير، و إنني لأعرف عنه من التكفير الغالي ما لم أسمعه عن أحد من غلاة هؤلاء!

----------------------------

1: كيف ذلك و قد سمعته في محاضرة ’صفات الطائفة المنصورة‘ ألقاها في الجزائر، يقول: ”نتجمّع على السياسة! ! !“؟ !و قد قيل له: هل تُعتبر الأحزاب السياسية الموجودة حاليا من الفرق التي ذكرها النبي في حديثه الذي يذكر الفِرق؟ فقال: ”أقول هذه أوّل زيارة للجزائر، فأحب أن آتي زيارة ثانية! !“
قلت: فأين شجاعة عدنان و أين الردّ على الحزبيّين؟!
2:يريد القصة التي جاء السؤال عنها في المحاضرة، ألا و هي خروج الصحابة في شعاب مكة، و هي ضعيفة؛ فإن فيها ابن أبي فروة، و هو لا يُحتجّ به، كما بيّنه العلامة ابن باز ـ رحمه الله ـ في ردّه على الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق لمّا استدل بهذه القصة، راجع الفتوى في 'مجموع فتاوى و مقالات متنوعة' للشيخ ـ رحمه الله ـ (8 / 245-246)، و هي بتاريخ: (14/4/1415 هـ).

التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 02 Jun 2008 الساعة 12:30 AM
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 03 Jun 2008, 12:19 AM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

و من ذلك:

تعريف العبادة عند الشيخ عدنان:

استمعت إلى شريط للشيخ عدنان عرعور يفسّر فيه ’أوّل سورة الصافات‘ ألقاه في الجزائر، فلمّا جاء إلى قول الله ـ تعالى ـ: {إن إلهكم لواحد} (الصافات 4)، أتى فيه بتفسير غريب للعبادة التي تُخرج صاحبها من ملّة الإسلام، فقد قال: ”من يدري ما معنى العبادة؟...“.

ثم أجاب بنفسه، فقال: ”فإذا أحببتَ شيئا أشدّ من حبك لله، أو أحببته في معصية الله فقد عبدته!

الذلّ ، الخضوع، الخوف، الطاعة، هذه العبادة: فإذا أطعت و خِفت من غير الله في معصية الله! !“.

النقد:

1- ينبغي تذكّر أن الشيخ عدنان يتكلّم هنا عن توحيد العبادة و ما ينقضها.

2- ينبغي التنبّه إلى أنه طرح سؤالا في تعريف العبادة، ثم لم يعرّفها، و إنما هجم على تعريف ما يناقضها، أي أنه ذكر ما يرتدّ به المرء عن دين الإسلام، و (نسي!) أن يذكر ما يدخل به في دين الله، مما يبيّن لك العقلية المستعجلة في تكفير الناس التي يؤصّل لها المذهب الحروري!

3- جعل الشيخ عدنان من أحبّ شيئا في معصية الله عابدا له! فلنسأله: هل يوجد في العصاة من لا يحب المعصية التي يرتكبها؟!

4- و جعل أيضا من أطاع غير الله في معصية الله عابدا له! !

و كنت كتبت في المُسودة أن الشيخ عدنان لم يُسبَق إلى هذا التعريف، ثم حذفته؛ لأنني تذكّرت أنه مسبوق إليه من قِبل شيخه، ألا و هو سيّد قطب الذي يستميت عدنان في الدفاع عنه، حتى قيل: إنه مجنون سيّد!

قال هذا الأخير في ’ظلال القرآن‘ (3 / 1198): ”إن من أطاع بشرا في شريعة من عند نفسه ـ و لو في جزئية صغيرة ـ فإنما هو مشرك، و إن كان في الأصل مسلما ثم فعلها، فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضا! ! !“

هذا الشيخ! و ذاك التلميذ! !

و إذا كان الشيخ يقول ما يشاء؛ لأنه لم يُشهد له إلا بعقيدة الخلف، فأين سلفيّة التلميذ الذي ملأ الدنيا صخبا؛ إثباتا لسلفيته بالقوّة، و إن كان السلف يرفضون هذه التعريفات الحرورية؟!

و هاك التفصيل السلفي لمسألة الطاعة و دلالتها على الشرك أو ما دونه:

قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'فتاواه' عند تفسير قوله ـ تعالى ـ: {اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما أُمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} (التوبة 31)، بعد أن ساق بعض الآيات، منها قوله (7 / 69-71): [و قوله في سياق الآية: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا لإله إلا الله يستكبرون} (الصافات 35)، و لا ريب أنها تتناول الشركين: الأصغر و الأكبر، و تتناول أيضا من استكبر عما أمره الله به من طاعته؛ فإن ذلك من تحقيق قول لا إله إلا الله، فإن الإله هو المستحق للعبادة، فكلما يعبد به الله فهو من تمام تألّه العباد له، فمن استكبر عن بعض عبادته سامعا مطيعا في ذلك لغيره لم يحقق قول لا إله إلا الله في هذا المُقام.

و هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا؛ حيث أطاعوهم في تحليل ما حرّم الله و تحريم ما أحلّ الله، يكونون على وجهين:

أحدهما: أن يعلموا أنهم بدّلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرّم الله، و تحريم ما أحلّ الله؛ اتباعا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، و قد جعله الله و رسوله شركا، و إن لم يكونوا يصلّون لهم و يسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين ـ مع علمه أنه خلاف الدين، و اعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله و رسوله ـ مشركا مثل هؤلاء.

و الثاني: أن يكون اعتقادهم و إيمانهم بتحريم الحلال و تحليل الحرام ثابتا، لكنّهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت في الصحيح عن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه قال: "إنما الطاعة في المعروف"1، و قال: "على المسلم السمع و الطاعة فيما أحبّ أو كره، ما لم يُؤمر بمعصية"2،و قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"3، و قال: "من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه"4].

5- و جعل أيضا من خاف غير الله في معصية الله عابدا له! !

فهل يبقى ـ مع هذه التعريفات ـ مسلم على وجه الأرض؟!

و اعلم أن الخوف أربعة أقسام:

الأول: خوف الشر، و هو أن يُخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر أو قتل أو نحو ذلك بقدرته و مشيئته، و يتصوّر أن الميّت أو الغائب المَخوف يتبعه في سرّه و علنه، و هذا الخوف لا يجوز تَعلّقُه بغير الله أصلا؛ لأن هذا من لوازم الإلهية، و هو الذي كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم و آلهتهم، و لهذا يخوّفون بها أولياء الرحمن، كما قال الله ـ تعالى ـ: {و يخوّفونك بالذين من دونه} (الزمر 36).

و هذا الخوف لا يكون العبد مسلما إلا بإخلاصه لله ـ تعالى ـ و إفراده بذلك دون من سواه.

الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف من الناس، فهذا محرّم، و قد قال رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "لا يمنعن أحدَكُم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه أو شهده أو سمعه" رواه أحمد (3 / 5)، و هو صحيح.

الثالث: خوف وعيد الله الذي توعّد به العصاة، و هو الذي قال الله فيه: {ذلك لمن خاف مقامي و خاف وعيد} (إبراهيم 14)، و هذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان.

الرابع: الخوف الطبيعي، كالخوف من عدوّ و سَبُع و هدم و غرق، فهذا لا يُذ/ّ، و هو الذي ذكره الله عن موسى ـ صلى الله عليه و سلم ـ في قوله: {فخرج منها خائفا يترقّب} (القصص 21).

انتهى ملخّصا من 'تيسير العزيز الحميد' للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ ـ رحمه الله ـ (ص 484-486).

فأنت ترى ـ أخي القارئ! ـ أنه ليس كل خوف يُخرِج من الملّة أو يَدخل في عبادة غير الله، و الله وليّ التوفيق.

و سؤال واحد نطرحه على الشيخ عدنان ليقاس عليه، ألا و هو: ما حكم من ارتكب معصية و خاف في ذلك أن يطلع عليها أبوه؟ ما حكم امرأة تزني و هي خائفة ف ذلك من غير الله، أي من زوجها مثلا؟

و ما حكم من ارتكب حدّاَ من حدود الله و هو خائف من السلطان؟

و بهذا تدرك خطورة تعريف عدنان السابق للعبادة: ”فإذا أطعتَ و خفتَ من غير الله في معصية الله! !“، و به تعرف من أين أتي في خروجه على هذه الأمة بمثل تلك الشذوذات.

عدنان يؤاخي الخوارج:

من الأسباب التي جعلتني أزداد ريبة في دعوة الرجل قبل أن أطلع على حقيقة دعوته، أنني سمعته مرة يقول: ”الخوارج إخواننا! !“، و من غير سبب واضح، و لا مناسبة ظاهرة و لا خفية، فقلت: إما أنه يفعل ذلك؛ ردّا على الذين يتبرّؤون من أهل البدع، و إما أنه يفعله؛ ردّا على الذين يكفّرونهم، فأما هذه فلا تقبل منه؛ لأن تكفير الخوارج هو مذهب بعض السلف، قال ابن تيمية كما في 'مجموع فتاواه' (28 / 518): [فإن الأمة متفقون على ذمّ الخوارج و تضليلهم، و إنما تنازعوا في تكفيرهم، على قولين مشهورين في مذهب مالك و أحمد، و في مذهب الشافعي أيضا نزاع في كفرهم].

ثم القائل به اليوم من طلبة العلم أو العلماء قليل جدا، فلم يبق إلا السبب الأول، لا سيما و للرجل قواعد غريبة في حماية أهل البدع، لم أجدها ـ و لا هو وجدها ـ في كتاب أحد من أهل العلم طيلة خمسة عشر قرنا، كمثل قوله: ”إذا حكمتَ حوكمت، و إذا دعوت أُجِرت! !“، و قوله: ”نصحّح و لا نجرّح“، ثم يا ترى: هل نحن بحاجة إلى مؤاخاة الخوارج في هذا الوقت الذي طفح فيه كيلهم، و وصل إلى السهل و الجبل شرّهم؟!

و من الغرائب أن هذا الرجل لم يُعرف له شيوخ، مع ذلك فهو مولع بالإبداع، فيبتدع القواعد و يخترع الأصول، و يريد من الناس أن يحفظوها عنه، و يمتعض إذا لم تكتب عنه! ! !

هذا، و قد سُئل الشيخ عدنان عرعور كما في شريط ’براءة السلفيين من مطاعن المدخليين‘ (2 / 2) عن قوله: ”الخوارج إخواننا“؟

فأجاب بقوله: ”إيه! أقولها و أقولها إلى يوم القيامة! !

اللي بيغرِّرني ـ المشكلة ـ أئمّة! مثل ما غرّرني بكتب الشيخ ناصر، ما سمعوا ـ هذا الأحمق! ـ قول عليٍّ في الخوارج: إخواننا بغوا علينا؟!

هذه واحدة، اصبر! فيه واحدة ثانية: المسلم أخوك؟

يا حبيبي! ما دمت تقول: (مسلم)، فهو أخوك ـ رغم أنفك ـ و لو ضال؟! و لو مبتدع؟! باسألك: وبن الدليل؟

يُقال: (المسلم أخو المسلم)، و لو مبتدع؟

و لو مبتدع! بس الخارج من الإسلام!

ماذا جرى: خرج من الأخوة؟!

يعني الأخوة و الإسلام متلازمتان (هكذا)، لكن فيه أخوّة عامة، و أخوة خاصة.

فقيل له: ألا يدخل في هذا الباب الولاء و البراء؛ إذا قلنا مثلا: نتبرّأ من أهل البدع و نبغضهم...؟

فقاطع عدنان السائل قائلا: إذا عليٌّ ـ أنا (ماني) أعلم مِن عليّ، أقول على اللغة الشامية: أُقبل راس علي ـ هو الذي ورّطني، ماذا أفعل؟!

يا أخي! ما لها علاقة بالولاء و البراء هذه، هذا حكم شرعي: الخارجي مسلم و إلا لا؟

فإذا قلت: أنا لا أراه مسلم (هكذا)، نقول: لا تقل عنه أخوك... انتبه!

و إذا قلت: مسلم، لزمك تقول إيش؟ أخوك؛ لقول الله ـ تعالى ـ: {إنما المؤمنون إخوة} (الحجرات 10)، "المسلم أخو المسلم"، لكن له حقوق الأخوّة الإسلامية، و له حقوق البعض؛ واجبنا أن نبغض لبدعته و ضلالته! !“.

النقد:

1- لقد أوهم الشيخ عدنان أن عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال في الخوارج: (إخواننا بغوا علينا)، و استدلّ به على قوله هو: ”الخوارج إخواننا! !“، مع أن عليّا ـ رضي الله عنه ـ قاله في أصحاب الجمل لا الخوارج؛ كما روى ابن أبي شيبة في 'مصنفه' (15 / 256) و البيهقي في 'سننه' (8 / 173، 182) و أبو العرب في 'المحن' (105-106) عن أبي البختري قال: [سُئل عليّ عن أهل الجمل، قال: قيل: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فرّوا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا].

و أما ما جاء في حق الخوارج، فقد روى عبد الرزاق (10 / 150) و ابن أبي شيبة (15 / 332) و ابن نصر في 'تعظيم قدر الصلاة' (591-594) و البيهقي (8 / 174) عن طارق بن شهاب قال: (كنت عند علي، فسُئل عن أهل النهر، أهم مشركون؟ قال: من الشرك فرّوا، قيل: فمنافقون هم؟ قال:: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا).

و في سند عبد الرزاق انقطاع، إلا أن الذي عند ابن أبي شيبة و ابن نصر صحيح موصول، و هذا لفظه كما ترى، ليس فيه كلمة (إخواننا).

و قد أورد ابن كثير في 'البداية و النهاية' (10 / 591) رواية بلفظ (إخواننا) في حق الخوارج، لكنه أحسن صنعا؛ حيث ساقها بسندها من ’كتاب الخوارج‘ للهيثم بن عدي عن إسماعيل بن أبي خالد، و الهيثم هذا منكر الحديث، كما في ترجمته في 'تاريخ بغداد' (14 / 50)، و يدل على نكارة ما روى أن ابن نصر روى في كتابه السابق (593) الأثر نفسه، لكن من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد بإسناده، إلا أنه بلفظ: (قوم حاربونا)، و هو إسناد صحيح، فدلّ على أن لفظ (إخواننا بغوا علينا) من منكرات الهيثم.

و لذلك قال بن تيمية ـ رحمه الله ـ في 'رسالة فضل أهل البيت و حقوقهم' (ص 29): [و قد ثبت عن أمير المؤمنين عليّ ـ رضي الله عنه ـ من وجوه أنه لمّا قاتل أهل الجمل لم يسبِ لهم ذرية، و لم يغنم لهم مالا، و لا أجهز على جريح، و لا اتبع مدبرا، و لا قتل أسيرا، و أنه صلّى على قتلى الطائفتين بالجمل و صفّين، و قال: (إخواننا بغوا علينا)، و أخبر أنهم ليسوا بكفّار و لا منافقين، و اتبع فيما قاله كتاب الله و سنة نبيّه ـ صلى الله عليه و سلم ـ؛ فإن الله سمّاهم إخوة، و جعلهم مؤمنين في الاقتتال و البغي، كما ذكر في قوله: {و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} (الحجرات 9)].

و قال أيضا في (ص 31): [و لا يستوي القتلى الذين صلى عليهم و سمّاهم (إخواننا)، و القتلى الذين لم يصلّ عليهم، بل قيل له: من الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟ فقال: هم أهل حروراء.

فهذا الفرق بين أهل حروراء و بين غيرهم، الذي سمّاه أمير المؤمنين في خلافته بقوله و فعله؛ موافقا لكتاب الله و سنة نبيّه، و هو الصواب الذي لا معدل عنه لمن هُدي رشده]، و كذلك قال في 'مجموع الفتاوى' (28 / 518) و في 'منهاج السنة' (4 / 497) و (7 / 406)، و هذا من دقّته ـ رحمه الله ـ.

و ما استصوبه ابن تيمية هنا هو الرواية التي اعتمدها القرطبي في 'تفسيره' (16 / 323-324).

2- لو فرضنا أن هذا الأثر قاله علي ـ رضي الله عنه ـ في حق الخوارج، فنسأل الشيخ عدنان: هل قاله عليّ ليكسر حاجز الولاء و البراء، أم أنه قاله لغرض آخر؟

هل قاله ليثبتَ لهم الأخوّة التي تتبعها المحبة و الغضّ من فضائحهم، كما يفعل عدنان نكاية في السلفيين؟!

لقد قاله عليّ ـ رضي الله عنه ـ ليرفع عنهم وصف الكفر فقط؛ لأن قوما كانوا يبغضونهم في الله ـ و هو المطلوب ـ فجعلوا يسألون عن إسلامهم و كفرهم، فكان الجواب على وفقِهِ، فأي محل لمقولة عدنان هنا؟!

و انظر لذلك ـ إن شئت ـ 'التمهيد' لابن عبد البر ـ رحمه الله ـ (23 / 336).

هذا الجواب جدليّ، أي على فرض أن عليّا قاله في الخوارج، و إلا فقد علمتَ أنه قاله في أصحاب الجمل؛ و لذلك روى ابن أبي شيبة (15 / 277 و 292) بسند صحيح عن محمد بن علي الباقر (أن رجلا ذكر عند علي أصحاب الجمل حتى ذكر الكفر، فنهاه عليّ).

و يوضّحه ما يأتي:

3- وهو أن النصوص قد تواترت في الأمر بقتال الخوارج و التشريد بهم و فضحهم و التبرؤ منهم، فما هي نسبة هذا الأثر ـ لو صحّ أنه في الخوارج ـ أمام حشد من الأحاديث و الآثار التي يعسر حصرها؟!

منها قول النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "طوبى لمن قتلهم أو قتلوه".

و قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "هم شرّ الخلق و الخليقة".

و قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد"

و قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "من لقيهم فليقتلهم؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة" رواها كلّها البخاري و مسلم.

و قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "الخوارج كلاب النار" رواه الترمذي (3000) و ابن ماجه (176) و غيرهما، و هو صحيح.

و النصوص فيهم كثيرة، بل لا يوجد مثلها و معشارها في حق غير الخوارج، و قد أخبرني أحد الإخوة أنه قال للشيخ عدنان عقب محاضرته: [إن رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول: "الخوارج كلاب النار"، و أنت تقول: ”الخوارج إخواننا“؟! قال: فما أحار جوابا! !].

4- إن عدنان يقعّد ـ لنسف قاعدة الولاء و البراء ـ قاعدته هذه في الأخوّة، و هذا من أفسد ما أتى به ـ هداه الله ـ؛ لأنه يرفع حكم البراءة من أهل البدع؛ بناء على أنهم مسلمون، و هذا من أعجب ما تسمع، و إلا فقد أمر الله نبيّه ـ صلى الله عليه و سلم ـ أن يتبرّأ من كل من فرّق دينه إلى فرق و أحزاب، فقال: {إن الذين فرّقوا دينهم و كانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبّئهم بما كانوا يفعلون} (الأنعام 159).

و تبرّأ النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ من بعض المعاصي، كما تبرّأ من أهلها، مع أنها دون بدع الخوارج، كمثل قوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" رواه الترمذي، و هو حسن.

و لا يزال السلف يتبرؤون من أهل البدع، فقد ظهرت القدرية في عهد عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، فلم يقل: هؤلاء إخواننا! و أنتم ـ يا من شغلكم الشاغل الردّ على إخوانكم! ـ منفّرون، و ينقصكم الأدب و الحكمة، بل روى مسلم (8) عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا و حُمَيد بن عبد الرحمن الحِميَريّ حاجّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوُفّّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطّاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا و صاحبي، أحدنا عن يمينه و الآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكِل الكلام غليّ، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قِبَلنا ناس يقرؤون القرآن و يتقفّرون العلم، و ذكر من شانهم، و أنهم يزعمون أن لا قدر، و أن الأمر أُنُفٌ، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم و أنهم برآء مني...).

بل روى ابن أبي شيبة (7 / 557) أن عمر بن عبد العزيز تبرّأ من الخوارج أنفسهم، فهل يكون قد تبرّأ من إخوانه؟!

و إذا كان عدنان يحرص على تسمية الخوارج بـ ’إخوانه‘، فإن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ كانوا يسمّونهم (أعداء الله)، و يأمرون بقتالهم، بل منهم من أمر بقتال غلامه حين لحق بهم، كما روى ابن سعد (4 / 301) و أحمد (4 / 357،382) و ابن أبي عاصم في 'السنة' (906) و اللالكائي في 'شرح أصول الاعتقاد' (2312) بإسناد حسّنه الألباني في 'ظلال الجنة' عن سعيد بن جهمان قال: (كناّ نقاتل الخوارج و فينا عبد الله بن أبي أوفى، و قد لحق له غلام بالخوارج، و هم من ذلك الشطّ و نحن من ذا الشطّ، فناديناه أبا فيروز! أبا فيروز! ويحك هذا مولاك عبد الله بن أبي أوفى؟! قال: نِعم الرجل هو لو هاجر، قال: ما يقول عدوّ الله؟ قال: قلنا: يقول: نعم الرجل لو هاجر، قال: فقال: أهجرة بعد هجرتي من رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ؟! ثم قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقول: طوبى لمن قتلهم و قتلوه).

و في 'صحيح البخاري' (4728) عن مصعب قال: (و كان سعد ـ أي بن أبي وقّاص رضي الله عنه ـ يسمّيهم الفاسقين)، هكذا و الشيخ عدنان يؤاخيهم!

و قال البخاري في 'صحيحه' (12 / 282-الفتح): [و كان ابن عمر يراهم شرار خلق الله]، هكذا و الشيخ عدنان يؤاخيهم!

و كان من الصحابة من يتعوّذ منهم، و الشيخ عدنان يؤاخيهم، فقد روى ابن المنذر في 'تفسيره' (242) بسند حسن في قصة قتل جماعة من الخوارج بالشام، و جزّ رؤوسهم عن أجسادهم، و قد أُلقيت بدرج المسجد، قال أبو غالب: (كنت في المسجد جالسا، فجاء أبو أمامة فدخل المسجد، فصلّى ركعتين خفيفتين، قال: ثم توجّه نحو الرؤوس، فظننت أنه سيكون له فيها كلام، قال: فاتّبعته و هو لا يشعر، فلمّا رآها قال: كلاب النار، كلاب النار، كلاب النار! شرّ قتلى تحت ظلّ السماء، شرّ قتلى تحت ظلّ السماء!خير قتلى من قتلوه، خير قتلى من قتلوه، خير قتلى من قتلوه! قال: و كان يتكلّم بهذا الكلام و هو يبكي، قال: فدنوت منه، فقال: أبو غالب؟ قلت: نعم! أما إنهم قِبلك كثير، قلت: أجل! قال: عافاك الله منهم، أعاذك الله منهم، أعاذني الله منهم...].

5- إن استدلال الشيخ عدنان بقول علي ـ رضي الله عنه ـ: (إخواننا بغوا علينا) يذكّرك بأصحاب الشذوذ الذين يتركون المحكم من النصوص و يتعلّقون بالمتشابه، الذين قال الله فيهم: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله} (آل عمران 7)، و إلا فلماذا يُعرِض عن تلك النصوص المتواترة و المتظاهرة في ذمّ الخوارج و في التبرّؤ منهم إلى هذا الأثر اليتيم، مع أنه لم يرِد به صاحبه الخوارج كما سبق؟!

6- أذكّر القارئ بشيء سبق أن أشرت إليه، و هو أنه لمّا ذكر له الشيخ العيد شريفي أن جماعات التكفير أعداؤنا، تلقّفها الشيخ عدنان في الهواء و لم يترك له وقتا لاسترجاع نفَسه، و قال: ليسوا أعداءنا! !

بل سمعته في محاضرة في ’التكفير‘ يذكر جماعات التكفير، فكرّر وصفهم بـ’إخواننا‘ ما لا أحصي، و ذكر أنه يتعمّد ذلك! ! !

هذا يوضّح لك أن القضية ليست في أن عليّا قال أو لم يقل، و إنما القضيّة أن الشيخ عدنان مستميت في الذبّ عن القوم.

و تأمّل أيضا كيف يثني على الخوارج بأحسن باب من أبواب الشريعة، ألا و هو الإخلاص، كما قال في شريط ’معالم في المنهج‘ (5): ”إننا جميعا لن نصل إلى درجة إخلاص الخوارج و صفاء نيّاتهم، و حتى كثرة عبادتهم، و قد تقرّحت جباههم و تشقّقت جباههم! !“.

هكذا يجعل الخوارج أعلى درجة في الإخلاص من جميع الأمة: بصلحائها و أوليائها و علمائها! !

و لم يكتنف الشيخ عدنان بتزكية قلوب الخوارج حتى زكّى علمهم، فقال في محاضرة له في مدينة دنهاخ بهولندا في رمضان 1419 هـ: ”بيني و بينكم سرّ: ظواهر النصوص مع الخوارج! مثل حديث: "لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن، و لا يسرق السارق حين يسرق و هو مؤمن"، و غير ذلك من مثل هذه الأحاديث! ! “.

و يزيد هذا الضلال قوّة، فيقول كما في شريط ’التكفير بين التأصيل و التجهيل‘: ”و لا أخفيكم سرّا أن ظواهر الأدلة معهم، و هي قويّة! ! !“.

و قال أيضا كما في شريط ’الوحدة الإسلامية‘: ”الخوارج إنما أخذوا الأدلة من الكتاب و السنة، و هم أنقى في هذه القضية من كثير من المسلمين الذين لا يدرون نصوص الكتاب و السنة! ! !“.

قلت: و هذا دليل على أن الرجل متأثّر بمذهبهم؛ لأن شبهاتهم علقت بقلبه حتى سمّاها ’أدلة‘، و وصفها بـ’القوة‘.

و يزيد الشيخ عدنان في ضلاله قائلا في محاضرة ’الوحدة الإسلامية‘ وجه (أ)، عند قول الله ـ تعالى ـ: {و من يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} (الجن 23)، قال: ”الآية واضحة في ظاهرها أن من فعل معصية، من عصى الله ـ عز و جل ـ أو عصى رسوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ كان من الخالدين في النار، فما حجتكم ـ يا إخوة! ـ على الخوارج؟

هذه حجة الخوارج، فما حجّتكم؟!

أو تظنّون أن الخوارج درسوا في فرنسا، و أخذوا شهادة بالفلسفة و علم الاجتماع، و جاؤوا للدين؟!

الخوارج إنما أخذوا الأدلّة من الكتاب و السنة! و هم أنقى في هذه القضية من كثير من المسلمين و الذين لا يدرون نصوص الكتاب و السنة! !“.

قلت: {إنا لله و إنا إليه راجعون}! فلتقرّ عيون الخوارج بهذا ’المحامي المحتسب! ‘، فـ:
- قوله: ”الخوارج ليسوا هم الذين يخرجون عن الحكام، و يكفّرون بالكبيرة!“، هذا قاله في تخفيف اللوم عنهم، أو في التخفيف من جريمة الخروج و التكفير، و كل هذا أعرفه عنه، و لو لا ضيق المقام لنقلت عنه أشياء حقّها أن تُفرد بكتاب خاص بها لطولها و كثرتها.

- و قوله: ”ظواهر النصوص مع الخوارج!“، هذا قاله في تزكية علمهم.

- و قوله: ”هم أصفى سريرة من كثير من أهل السنة! ! “، هذا قاله في تزكية بواطنهم، و غيره كثير...

فيا ترى ما السر في اجتهاد الشيخ عدنان لتبييض التاريخ الأسود للخوارج؟ و اربط هذا بما سبق أن بيّنت لك من رأي عدنان في الخروج و تشجيعه على قراءة الكتب التي تؤيّد التفجيرات و الاغتيالات، كمثل قوله عن سيّد قطب: ”كتب في هذا العصر في قضايا المنهاج، و معظم ما كتبه كان مصيبا فيه ـ رحمه الله! ـ و أحلى كتاب له في المنهاج كتابه ’لماذا أعدموني؟‘!!“.

تجد كلامه هذا بصوته في شريط 'رد الدكتور عبد الله الفارسي على عدنان عرعور'.

مع أن هذا الكتاب الذي أشاد به الشيخ عدنان قد بيّن فيه مؤلّفه طريقته في إرشاد ’الإخوان المسلمين‘ إلى اغتيال الشخصيات و هدم المنشآت، انظر منه (ص 50) إلى ما بعدها، و سوف أنقله في القسم الثاني من الكتاب ـ إن شاء الله ـ.

ثم قال عدنان: ”أضرب مثالا في رجل مظلوم، جعله الله شهيدا من شهداء الإسلام، ألا و هو سيد قطب ـ رحمه الله ـ ..

استشهدت بكلام سيد قطب عند بعض الناس، لمَ؟

الرجل له ما له و عليه ما عليه، فإنه تكلّم في قضايا المنهاج، لا أعلم أحدا على وجه الأرض تكلّم في قضايا المنهاج بمثل ما تكلّم به سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ ... ! ! ! و من أعظم كتبه ’معالم في الطريق‘ و ’لماذا أعدموني؟‘ و تصوّره عن المجتمعات الإسلامية، و ما تكلّم فيها! ! !“.

قلت: تأمّل هذا الغلوّ، ثم إن تصوّر سيّد عن المجتمعات هو أنها كافرة برمّتها، و قد مرّ نقله من كلامه، مع ان في كلٍّ من الكتابين قرّر سيد قطب كفر المجتمعات الإسلامية، و هو في كتاب ’معالم في الطريق‘ أوضح، كما سيأتي بيانه في القسم الثاني من كتابي هذا ـ إن شاء الله ـ.

و كلمة واحدة أتعجّل نقلها هنا ليتأكدّ القارئ من تكفير سيد لجميع المجتمعات الإسلامية، فقد قال في ’معالم في الطريق‘ (ص103-ط. دار الشروق سنة 1407 هـ): ”و إذا تعيّن هذا فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلّها يتحدد في عبارة واحدة: أنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلّها و شرعيتها في اعتباره! ! !“.

و حتى لا يلبّس عدنان ـ كعادته ـ بأن سيّدا لا يقصد كل المجتمعات، فإنني أزيده نقلا من هذا الكتاب، و ذلك قوله في (ص 8) منه: ”وجود الأمة المسلمة يُعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة! ! !“.

مع هذا الوضوح، فقد دافع الشيخ عدنان على سيد قطب في ’التيه و المخرج‘ (ص 68-69) دفاعا مستميتا، و زعم أنه لا يقصد تكفير المسلمين!

وهذا الذي يصوّبه الشيخ عدنان مع الأسف، بل يرى أنه لم يتكلّم أحد في هذا العصر بأحسن منه فيما ذكر، و إلى الله المشتكى!

ثم أعود إلى كلام عدنان الأول لأقول: تأمّل كيف يخفّف من خطأ هذا المسلك: مسلك الخوارج، بل يحرص دائما على تزكية نيّات أصحابه، فقد قال في شريط ألقاه في الجزائر، لكنه غير معنون، و هو عندي، قال: ”تسمعون كثيرا من الدعاة:
- هذا سبيله الرصاص!

- و هذا سبيله الدعوة!

- و هذا سبيله الجهاد!

- و هذا سبيله الانقلاب العسكري!

- و هذا سبيله المظاهرات!

- و هذا سبيله... ! !

فلا اختلاف بيننا على أن نيّاتهم جميعهم ـ إن شاء الله ـ حسنة! ! !“.

و قال في شريط ’معالم في المنهج‘ (13): ”بعض الإخوة ـ نحسبهم على خير عظيم و إخلاص كبير ـ نهجوا بعض المناهج الاغتيالية!“.

قلت: إذاً فليهنأ أبو قتادة و جماعته من سفّاكي الدماء بهذه البشرى!

إنه يصحح نيات هؤلاء في كل مناسبة، و يدّعي لذلك الاتفاق، لكنه إذا تحدّث عن خيرة الناس يطعن في نيّّاتهم بطريقته المعروفة، فقد قال عن الصحابة الذين كانوا في غزوة أحد، و نزل فيهم قول الله ـ عز و جل ـ: {منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الآخرة}، قال عدنان:

”منكم من يريد الكرسي!

و منكم من يريد الزعامة!

و منكم من يريد الدينار!

و منكم من يريد المنصب!

و منكم من يريد المنصب!

و منكم من يريد الآخرة“.

فتأمّل ـ أيها القارئ! ـكيف يصحّح نيّات أولئك المنحرفين عن دعوة الرسل، فلمّا جاء لذكر خيرة أتباع الرسل ـ و هم الصحابة رضوان الله عليهم كما ذكر هو نفسه ـضرب لهم الأمثلة السيئة، بل وصفهم بها، فأي ولاء و أي براء عند الرجل؟!

روى البخاري (7094) عن سعيد بن جبير قال: (خرج علينا عبد الله بن عمر، فرجونا أن يحدّثنا حديثا حسنا، قال: فبادرنا إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن! حدّثنا عن القتال في الفتنة، و الله يقول: {و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة} (الأنفال 39)، فقال: هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمك؟ إنما كان محمد ـ صلى الله عليه و سلم ـ يقاتل المشركين، و كان الدخول في دينهم فتنة، و ليس كقتالكم على الملك).

و الشاهد من هذه الرواية أن عبد الله بن عمر خاطبه أحد الخوارج بما يتخاطب به الثوريون اليوم، فلم يمنعه خطابه بالقرآن من أن يطعن عليه في نيّته، بقوله: (ليس كقتالكم على الملك!).

و لمّا استدل الخوارج على علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بقول الله ـ تعالى ـ: {إن الحكم إلا لله} (يوسف 40)، طعن في نيّاتهم ـ مع أنهم أفضل من هؤلاء الذين صحح نياتهم عدنان ـ و قال فيهم قولته المشهورة: (كلمة حق أُريدَ بها باطل) رواه مسلم.

فقوله: (أريدَ بها باطل) طعن في الإرادة، التي هي أدلّ شيء على نية المرء، كما قال ابن تيمية كما في 'مجموع فتاواه' (28 / 176): [فإذا كان العبد قصده و مراده و توجهه إلى الله، فهذا صلاح إرادته و قصده].

و من دقيق فقه البخاري ـ رحمه الله ـ أنه ذكر في كتاب فضائل القرآن من 'صحيحه' حديثين في الخوارج، و بوّب له بقوله: 'باب إثم من راءى بقراءة القرآن، أو تأكّل به، أو فجر به'، كما في 'الفتح' (9 / 99)، فأين الإخلاص؟!

قال ابن حجر في (12 / 293) و هو يتحدّث عن الخوارج: [أي ينطقون بالشهادتين و لا يعرفونها بقلوبهم].

و قال أيضا (12 / 288): [و المراد أنهم يؤمنون بالنطق لا بالقلب].

و قال العلامة ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ كما في شريط 'لقاء الباب المفتوح' (11) في (11 جمادى الأولى 1413 هـ)، تسجيلات الاستقامة بمدينة عنيزة، قال: [و لهذا أمر النبي ـ عليه الصلاة و السلام ـ بقتالهم؛ لأنهم ـ و إن تشدّدوا في الدين ـ فهم مارقون منه، لو فتّشت عن قلوبهم لوجدتها سوداء صمّاء، لا يصل إليها الخير و النور، و العياذ بالله].

-- --------------------------

1: رواه البخاري.
2: رواه البخاري (6725) و مسلم (1839) و غيرهما.
3: رواه أحمد (1 / 131) و هو صحيح.
4: رواه أحمد (3 / 67) و ابن ماجه (2863) و هو صحيح.
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013