من وحي سورة التكاثر
قوله تعالى : { ألهاكم التكاثر . حتى زرتم المقابر . كلا سوف تعلمون . ثم كلا
سوف تعلمون . كلا لو تعلمون علم اليقين . لترون الجحيم . ثم لترونها عين اليقين .
ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } [ سورة التكاثر]
أخلصت هذه السورة للوعد والوعيد و التهديد ، وكفى بها موعظة
لمن عقلها .
فقوله تعالى : { ألهاكم } أي : شغلكم على وجه لا تعذرون فيه ،
فإن الإلهاء عن الشيء هو الاشتغال عنه : فإن كان بقصد ، فهو
محل التكليف ، وإن كان بغير قصد - كقوله صلى الله عليه وسلم
في الخميصة(1) : (( إنها ألهتني آنفا عن صلاتي )) (2) - كان
صاحبه معذورا ، وهو نوع من النسيان ، وفي الحديث : فلها صلى
الله عليه وسلم عن الصبي (3) ، أي : ذهل عنه ، ويقال : لها
بالشيء ، أي : اشتغل به ، وله عنه إذا انصرف عنه . واللهو
للقلب ، واللعب للجوارح ، ولهذا يجمع بينهما . ولهذا كان قوله :
{ ألهاكم التكاثر } : أبلغ في الذم من (شغلكم) ، فإن العامل قد
يستعمل جوارحه بما يعمل وقلبه غير لاه به ، فاللهو هو ذهول
وإعراض .
و {التكاثر } : تفاعل من الكثرة ، أي : مكاثرة بعضكم لبعض .
وأعرض عن ذكر المتكاثر به إرادة لإطلاقه وعمومه وأن كل ما
يكاثر به العبد غيره – سوى طاعة الله ورسوله وما يعود عليه
بنفع معاده - ،فهو داخل في هذا التكاثر ... فالتكاثر في كل شيء ،
من مال ، أو جاه ، أو رئاسة ، أو نسوة ، أو حديث ، أو علم –
ولا سيما إذا لم يحتج إليه - .... والتكاثر في الكتب ، والتصانيف ،
وكثرة المسائل ، وتفريغها ، وتوليدها ...والتكاثر أن يطلب الرجل
أن يكون أكثر من غيره ، وهذا مذموم ، إلا فيما يقرب إلى الله ،
فالتكاثر فيه منافسة في الخيرات ومسابقة إليها.
وفي "صحيح مسلم" من حديث عبد الله بن الشخير – بكسر الشين
- ، أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلموهو يقرأ : { ألهاكم
التكاثر }. قال : (( يقول ابن آدم : مالي ! مالي ! وهل لك من مالك
إلا ما : تصدقت فأمضيت ، أو أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت
؟ ! )). (4)
(1) الخميصة : كساء مربع له أعلام.
(2) قطعة من حديث رواه : البخاري [ 8- كتاب الصلاة ، 14- باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها ، 1/ 482/ 373 ] ومسلم [ 5- كتاب المساجد ، 15- باب كراهة الصلاة في ثوب له اعلام ،1/ 391/ 556 ]،عن عائشة رضي الله عنها.
(3) قطعة من حديث رواه : البخاري [78- كتاب الأدب ، 108- باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه ، 10/ 575 / 2191 ]، ومسلم [ 38- كتاب الأدب ، 5- باب استحباب تحنيك المولود ،3/ 1293/ 2149 ]، عن سهل بن سعد رضي الله عنه .
(4) رواه مسلم [53- كتاب الزهد والرقائق ،4/ 2273/ 2958 ].
منقول من كتاب (الفوائد) للإمــام ابن قيم الجوزية