عـنـايـة الأنـبـيـاء عـلـيـهـم الـسـلام بـالأخـلاق
لمّا كانت الأخلاق الحسنة مركوزة في الفطرة البشرية، و لمّا كان لها أثرها المعروف في صلاح الأمم و ربط الناس بعضهم ببعض، فإن الله بعث بها أنبياءه عليهم السلام إلى أممهم، و قص علينا في كتابه الكريم كثيرا من محاوراتهم الخلقية لهم.
كقصة عيسى صلى الله عليه و سلم في برِّه بوالدته و تجنبه التجبر، فقد أخبر الله تعالى عنه أنه قال: {و برّا بوالدتي و لم يجعلني جبارا شقيا} (مريم – 32).
و قصة شعيب صلى الله عليه و سلم في توفية الكيل و الميزان، فقد أخبر الله تعالى عنه أنه قال لقومه: {فأوفوا الكيل و الميزان و لا تبخسوا الناس أشياءهم و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين} (الأعراف - 85)
و قصة لوط صلى الله عليه و سلم في نهي قومه عن إتيان الذكران من دون النساء، فقد أخبر الله تعالى أنه أنّبهم قائلا لهم: {أتأتون الذكران من العالمين [] و تذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} (الشعراء – 165 – 166)، حتى قالوا فيه و في أتباعه كما في سورة الأعراف: {إنهم أناس يتطهرون} (الأعراف 82).
و قصة إسماعيل صلى الله عليه و سلم في صدق الوعد، فقد قال الله تعالى: {و اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا} (مريم – 54)، و غيرها.
أما نبينا صلى الله عليه و سلم فقد جاء بكمالها، و الآيات في هذا كثيرة يصعب حصرها، و من الآيات الجامعة للأصول الخُلُقية التي جاء بها، قوله: {و سارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها السماوات و الأرض أعدت للمتقين [] الذين ينفقون في السراء و الضراء و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و الله يحب المحسنين} (آل عمران – 133 – 134)، و قوله: {إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون} (النحل – 90).
و لمّا سأل النجاشي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسالة النبي صلى الله عليه و سلم، بيّن له أن الأخلاق الفاضلة من ميزاتها، فكان ممّا قال: (أيها الملك ! كنّا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، و نأكل الميتة، و نأتي الفواحش، و نقطع الأرحام، و نسيء الجِوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه و صدقه و أمانته و عفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده و نعبده و نخلع ما كنا نعبد و آباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان، وأمرنا بصدق الحديث و أداء الأمانة و صلة الرحم و حسن الجوار و الكف عن المحارم و الدماء، و نهانا عن الفواحش و قول الزور و أكل مال اليتيم و قذف المحصنة، و أمَرَنا أن نعبد الله وحده و لا نشرك به شيئا، و أمرنا بالصلاة و الزكاة و الصيام...)، إلى قول النجاشي له: (هل معك ممّا جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم ! فقال النجاشي: فاقرأ علي، فقرأ عليه صدر {كـهـيـعـص} (مريم – 1)، فبكى النجاشي – و الله – حتى أخضل لحيته، و بكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا و الذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة). أخرجه أحمد (1/202) بسند حسن.
ولقد بلغت شريعتنا الغاية في الإصلاح الخلقي، و من ذلك ما جاءت به من أحكام محكمة في حفظ الأنفس و العقول و الأعراض و الأموال،و لذلك حرّم الله قتل النفس بغير حق، و حرّم ما يغتال العقل من مشروب و غيره، و حرّم الزنى و ما إليه، و حرّم أكل أموال الناس بالباطل، و رتّب على ذلك عقوبات صارمة.
إن الغرض من هذا العرض السريع التذكيرُ بدعوة الأنبياء عليهم السلام، و أن ما عند الناس اليوم من مكارم الأخلاق هو امتداد دعوتهم، و بقايا خيرهم، فهذه الأخلاق و غيرها ممّا يُرى في بلاد الكفر من منة الله على عباده، لكن بقدر بعدهم عن الميراث النبوي يقع الخلل في أخلاقهم.
/-/-/-/-/-/-/
المصدر: "رفع الذل و الصَّغار عن المفتونين بخُلُق الكفار" / للشيخ عبد المالك رمضاني
|