3- لقد وقع المشبوه في مصيبة عظيمة؛ إذ جعل الذين يجدون الصحف المعلقة أفضل من غيرهم، مع أنه لم ينتبه إلى أنه جاء في الحديث ذكر الأنبياء و الملائكة، فتكون نتيجة هذا (الاجتهاد المبتكَر!) أن متأخري المسلمين أفضل من الأنبياء؛ و لذلك ذكر ابن تيمية هذا الحديث ثم قال كما في 'مجموع فتاواه' (11 / 371-372): [هو يدل على أن إيمانهم عجب، أعجب من إيمان غيرهم، و لا يدل على أنهم أفضل؛ فإن في الحديث أنهم ذكروا الملائكة و الأنبياء، و معلوم أن الأنبياء أفضل من هؤلاء الذين يؤمنون بالورق المعلق]، و قال ابن حجر في 'المالي المطلقة' (ص 39-40): [المراد بالأفضلية: التي قبله، و أنها ليست على الإطلاق... و الأفضلية محمولة على ما تقدم من تفضيل الإيمان بالغيب].
فانظر إلى نتائج الانطلاق في تفسير النصوص من غير مبالاة بآراء الفقهاء!!
لقد كان السلف الأول يرى الزهد في علم العالم حتى يموت علامة هلاك؛ قال سلمان الفارسي – رضي الله عنه –: (لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم أو يعلم الآخِر؛ فإن هلك الأول قبل أن يعلم أو يتعلم الآخر هلك الناس) رواه الدارمي (1 / 78 و 79) من طريقين، ومن إحداهما ابن بطة في 'الإبانة / الإيمان' (42)، و في كل منهما عطاء بن السائب، و هو صدوق اختلط، و حديثه القديم صحيح، و الراويان عنه هنا ممن روى عنه في حال الاختلاط، لكن تابعهما سفيان الثوري عند عمر النَّسفي في 'القند في ذكر علماء سمرقند' (ص 445)، و به يصح الأثر؛ فإن سماع سفيان من عطاء قديم، كما في 'الجرح و التعديل' لابن أبي حاتم (6 / 334).
إن العلماء اليوم متوافرون و الحمد لله، و المشبوه يريد منا أن نسعى في هلكتنا كما فعل هو بنفسه و بجماعته؛ إذ توفي جمع كبير من أهل العلم في وقت متقارب، و لم تحظ ركبه بمزاحمة واحد منهم، بل هو دائب التنفير منهم، و هذا الذي أراد تقريره هنا – من الاستغناء بالكتاب عن فهم أهل العلم – قد حذر منه ابن مسعود – رضي الله عنه –، فقال: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض، و قبضه أن يُذهب بأصحابه، عليكم بالعلم؛ فإن أحدكم لا يدري متى يُفتقر إليه أو يُفتقر إلى ماعنده، إنكم ستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله و قد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم و إياكم و التبدّع، و إياكم و التنطع، و إياكم و التعمق، و عليكم بالعتيق)، رواه معمر في 'جامعه' المطبوع في آخر 'مصنف عبد الرزاق' (11 / 252) و الدارمي (1/66) و ابن نصر في 'السنة' (85) و غيرهم، كلهم من طريق قلابة عن ابن مسعود، و هو لم يسمع منه كما في 'مجمع الزوائد' (1/126)، لكن رواه موصولا البيهقي في 'المدخل' (388) من رواية أبي إدريس الخولاني عنه.
و الشاهد من هذا الأثر القوي؛ فإن ابن مسعود أكد أن العلم يؤخذ من العلماء الأحياء، كما أنه حذر من قوم يدعون إلى خير كتاب، ألا وهو كتاب الله، على الرغم من ذلك فإنه لم يشفع لهم في الكفاية العلمية، بل حذّر معه من البدع؛ لأن البدع تحيا بهذه الذريعة، فلله درّه – رضي الله عنه –، فكأنه قد خُرِقت له الحجب!
4- [عِش رجبا ترى عجبا]! لقد أسقط المشبوه أصح طريق للعلم، ألا و هي التعلم على أيدي أهل العلم، و زعم انه لا حاجة إلى الرجوع إلى العلماء بعد الجيل الأول، على الرغم من إجماع السلف على ضرورة الرحلة للطلب، و ما من مصنف في أدب الطلب إلا و هو يذكر ذلك، بل أفرد بعضهم لذلك مصنفا خاصا، كالخطيب البغدادي 'الرحلة في طلب الحديث'، و كيف يخلد الإنسان إلى الكتب و قد كان السلف يرون أن من أخذ العلم من علماء بدله و لم يرحل، يرونه محروما؟! روى الخطيب في كتابه المذكور (14)عن يحيى بن معين قال: [أربعة لا تؤنِس منهم رشدا: حارس الدرب، و منادي القاضي، و ابن المحدث، و رجل يكتب في بلده و لا يرحل في طلب الحديث'؟!
هذا فيمن أخذ العلم عن العلماء و لم يرحل، فكيف بمن لا يرى مجالستهم من أصول الطلب؟!
روى حنبل بن إسحاق في 'جزئه' (39) و ابن أبي شيبة في (13/ 496) و أبو نعيم (2 / 283) أن أبا قلابة قال: [مثل العلماء كمثل النجوم و الأعلام التي يقتدي بها الناس، فإذا توارت ترددوا في الحيرة].
إن كليم الله موسى – صلى الله عليه و سلم – سمع بوجود علم عند رجل يقال له الخَضِر، فما برح حتى رحل ليأخذ العلم على يديه، مع أنه كان يأتيه الوحي من الله – عز و جل –، بل كلمه ربه بلا واسطة، كما قال الله – عز و جل –: {و كلم الله موسى تكليما} (النساء 164)، بل أخبر الله – عز و جل – أنه بلغ الحرص به على ذلك إلى الاستهانة بكل ما يكلفه في سبيل الوصول إلى هذه الغاية النبيلة، و لو أداه إلى سفر ذي حُقُب طويلة، كما قال الله – عز و جل –: {و إذ قال موسى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا} (الكهف 60).
و روى أبو داود (2750) بسند صحيح عن مكحول أنه قال: (كنت عبدا بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني، فما خرجت من مصر و بها علم إلا حويت عليه فيما أُرى، ثم أتيت الحجاز، فما خرجت منها و بها علم إلا حويت عليه فيما أُرى، و ثم أتيت العراق، فما خرجت منها و بها علم إلا حويت عليه فيما أُرى، ثم أتيت الشام، فغربلتها...).
و لذلك تجد العلماء إذا ترجموا للأعلام ذكروا شيوخهم و تلاميذهم، بل كانوا يرون أن نبوغ الرجل يُعلم من كثرة شيوخه، و لاسيّما إذا كان الشيوخ من الحذّاق، فقد جاء في 'تهذيب الكمال' (32 / 333) أن يعقوب ابن سفيان الفسوي – رحمه الله – قال: [كتبت عن ألف شيخ و كَسْر، كلهم ثقات]، و قال الذهبي في 'تذكرة الحفاظ' (3 / 1032) في ترجمة ابن مَندَه _ رحمه الله تعالى –: [و عدة شيوخه الذين سمع و أخذ عنهم ألف و سبع مائة شيخ... و ما بلغنا أن أحدا من هذه الأمة سمع ما سمع، و لا جمع ما جمع!].
و اعلم أن أخذ العلم من الكتب حسن، و لكن في الاقتصار عليه قصور ظاهر، و المأثور عن السف هو التحذير من طلب العلم على من بضاعته العلمية مقصورة على المرقوم في الصحف، فقد روى بن عبد البر في 'التمهيد' (1 / 46) عن سليمان بن موسى أنه قال: [لا يُؤخذ العلم عن صُحُفِيّ](1)، و روى ابن أبي حاتم في 'الجرح و التعديل' (3 / 402)، بإسناده إلى أيوب السَّختياني أنه قال: (لا ترو عن خلاس؛ فإنه صحفي)، بل كانوا يخوّفون من أخذ القرآن نفسه ممن لم يأخذه من أفواه القرّاء، مع أنه الكتاب الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، فروى أبو أحمد العسكري في 'أخبار المصحِّفين' (ص 32) بإسناده إلى سعيد بن عبد العزيز التنوخي يقول: [كان يُقال: لا تحملوا العلم عن صحفي، و لا تأخذوا القرآن عن مصحفي].
و سبب ذلك أن فهمك للكتاب قد يقر بك عن مراد صاحبه، كما أنه يقصر بك عن أدب صاحبه، بل الحق أنك ما سيرت طرفك في دعوات بعض الرجال الذين عُرفوا بالغلو في الاستقلالية و الإقذاع في أعراض أهل العلم إلا وجدت منشأ غلطهم من الزهد في مجالس العلماء، و من تحسين الظن بالنفس.
أما أن ذلك قد يكون سببا في سوء الفهم فواضح، و لذلك ارتبطت كثرة أخطاء المخطئين بالصحفيين، كما في 'ميزان الاعتدال' للذهبي (2 / 652)، حيث قال في ترجمة عبد الملك بن حبيب: [أحد الأئمة، و مصنف الواضحة، كثير الوهم صحفي].
و أما أن صاحبه يُحرم أدب العلم؛ فلأن من العلم ما لا يُفهم على حقيقته إلا بالمثال الحي كما يُقال، و لذلك روى الخطيب في 'الجامع لأخلاق الراوي و السامع' (10) عن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد أنه قال: [قال لي أبي: يا بني! إيت الفقهاء و العلماء، و تعلم منهم، و خذ من أدبهم و أخلاقهم و هديهم؛ فإن ذاك أحب إلي من كثير من الحديث]؛ و ذلك لأن المرء قد يحدوه الاستكثار من العلم و استعجال تحصيله إلى ترك مجالسة العلماء، فيتوهم أن انقطاعه عن أهله يغزر عليه منه.
و أما أنه سبب في الزهو بالنفس و التيه و الغرور؛ فلأن هذه الأدواء يكسرها التواضع، و التواضع لا يؤتاه من لم يعرف الفضل لأهله و لم يثن ركبتيه بين أيديهم، و قد قال ابن حجر في 'لسان الميزان' (4 / 326) عند ترجمة عمرو بن محمد بن إسحاق العطار: [... لا يعده أحد شيئا و لا يُكترث به؛ لإعجابه بنفسه، و كان أكبر من يذكر له الحفاظ يقول: صحفي!].
و في تعرفه قال المُنَاوي في 'التوقيف على مهمات التعاريف' (ص 449): [و الصحيفة قطعة من الجلد أو قرطاس كتب فيه، و إذا نسب إليها قيل: صَحَفي بفتحتين، و معناه يأخذ العلم منها دون المشايخ]، و قال العسكري في 'تصحيفات المحدثين' (1 / 24): [و أما معنى التصحيف و قولهم (صحفي)، فقد قال الخليل بن أحمد: الصحفي الذي يروي الخطأ على قراءة الصحف باشتباه الحروف، و قال غيره: أصل هذا أن قوما كانوا أخذوا العلم من الصحف من غير أن يلقوا فيه العلماء، فكان يقع فيما يروونه التغيير، فيقال عندها: قد صحفوا، أي قد رووه عن الصحف، فهو مصحّف، و مصدره التصحيف].
و لذلك أنشد بعضهم:
لنا صاحب مولع بالخلاف [][][] كثير الخَطاء قليل الصواب
ألجُّ لُجاجا من الخنفساء و أز [][][] رَبَا حسدًا و رماه بعاب
إذا ذكروا عنده عالما [][][] كثير الخَطاء قليل الصواب
و ليس من العلم في كفه [][][] إذا ذُكر العلم غر التراب
أحاديث ألفها شَوْكَر [][][] و أخرى مؤلفة لابن داب
فلو كان ما قد روى عنهما [][][] سماعا و لكنه من كتاب
رأى أحرفا شُبّهت بالهجاء [][][] سواء إذا عدّها في الحساب
---------------------------
1: هذه النسبة على الحكاية، و إلا فقد خطّأ بعضهم ذلك؛ و قالوا لأن النسبة هنا أخذت من الصحف جمع صحيفة، و الأصل النسبة تؤخذ أن من المفرد، فيقال: صَحَفِيّ، كَحَنَفِي، نسبة إلى حنيفة، انظر 'تدريب الراوي' (2 / 208).
التعديل الأخير تم بواسطة أبو البراء إلياس الباتني ; 10 May 2008 الساعة 09:36 PM
|