الحمد لله رب العالمين ، نحمده سبحانه على نعمه ونشكره على توفيقه وامتنانه .
وبعد :
فقد أنعم الله على بلاد الجزائر بعلماء ومشايخ فضلاء يجتهدون و ويبذلون أوقاتهم ويفنون أعمارهم من أجل نشر الحق وتبليغه للناس ، والدعوة الى المنهج السلفي الذي كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن سار على هديهم ، فهنيئا للسلفين بهؤلاء الأفاضل الامجاد .
ومن بين المشايخ الذين يصدعون بالحق على المنابر ويدعون الى السنة في دروسهم ويعلمون الناس في مجالسهم فضيلة الشيخ الدكتور أبو محمد عبد الخالق ماضي إمام مسجد الإصلاح بالكاليتوس بالجزائر العاصمة ، فهنيئا مرة أخرى لأهل الكاليتوس ولأهل العاصمة خاصة ولأهل الجزائر عموما بوجود أمثال هؤلاء.
ومنذ أيام شاء الله أن أحضر درسا للشيخ في مسجده في شرح موطأ الإمام مالك رحمه الله ، فكان المسجد ممتلئا عن آخره ، فكان منظر طلاب الشيخ وهم يسارعون الى المسجد حاملين كراريسهم وكتبهم يسر كل سلفي ويغيض كل خلفي .
ومما قاله الشيخ نصيحة للطلاب كلمة وقعت موقعها ، فأردت أن أنقلها لإخواني عسى الله أن يبارك فيها وينفع بها ، وأذكرت بعض الاثار والنصوص الدالة على معناها ومقتضاها .
قال الشيخ حفظه الله :
" لاتتكلم قبل أن تتعلم "
ومعنى هذه كلمة بتعبير آخر:
"تعلم قبل أن تتكلم "
فهذه نصيحة ذهبية من الشيخ حفظه الله أرد أن يربي طلبته على أصل مهم عند أهل السنة ألا وهو قول البخاري رحمه الله : باب العلم قبل القول والعلم وقول الله تعالى : "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " فبدأ بالعلم قبل القول والعمل ، قال العيني في شرح صحيح البخاري : " أي هذا باب في بيان أن العلم قبل القول والعمل أراد أن الشيء يُعلم أولا ثم يُقال ويُعمل به فالعلم مقدم عليهما "، وقال ابن المنير كما في فتح الباري : " أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنية المصححة للعمل ".
ولأهمية هذا الاصل عند أهل السنة وعلمائها ، دعوا إليه وربوا الناس عليه ، فهذاالشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذكر كلام البخاري في ثلاثة الأصول ـــ ومن المعروف ان المتن من المتون التي يبتدئ بها طالب العلمــــ وقد ذكر الشيخ صالح أل الشيخ حفظه الله في شرحه على هذا المتنأن مشايخ الدعوة كانوا يدرسون هذا المتن للطلاب، ويعلمونه إياهم ويحفظونه لهم لأنه اشتمل على كثير من أصول الدين ، فسلفنا رحمهم كانوا يربون الناس على هذا الأصل العظيم ويغرسونه في صدورهم لأنه كبير النفع وكثير الفائدة ، الذي من تمسك به بإذن الله سيكون من الموفقين الناجحين ومن تركه كان من زمرة الجاهلين المتعالمين القائلين على الله بغير علم .
وقد تضافرت النصوص في التحذير من القول على الله بغير علم ، والكلام عن جهل والخوض في مسائل لا معرفة للعبد بها فقد قال الله جل وعلا "( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) ، وقد عقد ابن القيم فصلا في اعلام الموقعين حول تحريم القول على الله بغير علموقال :"وقدحرم الله سبحانه القول عليه بغيرعلم في الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرمات بل جعله في المرتبة العليا منها" (1)،
وقال في مدارج السالكين" القول على الله بغير علم هو أشد المحرمات تحريما وأعظمها إثما ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان ولا تباح بحال" ، وقال " وهو أصل الشرك والكفر وعليه أسست البدع والضلالات ، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بغير علم " ،(2) ،
وكما قيل من تكلم في دين الله بلا علم فهو آثم مخطئ ولو أصاب الحق .
وقال الله تعالى : وقال تعالى (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا ) (الإسراء:)36) قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان شراحا لهذه الآية " نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم، ويشمل ذلك قوله: رأيت ولم ير، وسمعت ولم يسمع، وعلمت ولم يعلم ، ويدخل فيه كل قول بلا علم ـ وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم."
وهدا هو آخر الزمان إذ أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سينتشر الجهل وتظهر الرويبضة كما جاء في الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ الله لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " ، فالجاهل إذ تصدر وكان رأسا فانه سيسأل عن المسائل لكنه بجهله وعدم علمه لن يجيب ، والطامة الكبرى أن تأخذه العزة والأنفة في غير محلها وأن يرى نفسه ذليلا إن لم يجب الناس لأن مكانه الزائف بين الناس معرض للزوال ، فتجده يفتي ويجيب السائل ويجتهد ويقيس بين الأحكام ويوقع عن الله بلا علم ، فيلقي نفسه في الهلكة ويَضل ويُضلل ، فيتوجب عليك أيها المسلم عموما وطالب العلم خصوصا أن تتعلم قبل أن تتكلم ، وأن لا تتكلم بما لا تعلم ،وأعلم أن ليس العيب في الجهل إنما العيب في الإصرار على الجهل ، والذي ينتج عنه الكلام في دين الله بغير علم ،
قال ابو الطيب المتنبي :
ولم أر اليوم من امور الناس عيبا الا كنقص القادرين على التمام.
وأن تعود لسانك كلمة " لا ادري " لآنه قد قالها من هو أفضل منك ومني ، فإن الجرأة على الفتيا والمسارعة إليها ضرب من التعالم ونوع منه خفي ، فالسلف كانوا لا يتحرجون ولا يستثقلون ولا يجدون بأس في قولهم " لا ادري " ، بل يأمرون الطلاب بقول لا اعلم فيما لا يعلمونه ، بل ان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا ادري فيما لا يعلمه ، وقال الشعبي " نصف العلم لا ادري " (3) ، والمتأمل في مشايخنا أنهم يسألون عن مسائل فيرجعون العلم الى الله ، من غير حرج ولا بأس ، لأنهم عرفوا قدر وعظم شأن الكلام في دين الله عز وجل ، فإنهم بعلم تكلموا وبحكمة سكتوا فحفظهم الله وثبتهم على السنة .
ويقول الشيخ احمد بازمول حفظه الله في شرحه لقول ابن سيرين رحمه الله " وقول ابن سيرين رحمه الله (العلم دين) يدل على مسالة عظيمة عند اهل العلم الا وهي تحريم الكلام في دين الله بغير علم ، وقال سعيد بن جبير " ويل للذي يقول لما لا يعلم : انني اعلم " ، وقال محمد بن سيرين : " لأن يموت الرجل جاهلا خير من ان يقول ما لا يعلم "(4).
وكما نهينا عن الكلام بغير علم امرنا بالتعلم ، ففد جاءت نصوص كثيرة وأثارة محفوظة تأمر بالتعلم وتحض عليه قال الله جل وعلا :" قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون " ،قال ابن ناصر السعدي في شرح هذه الآية " لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء كما لا يستوي اليل والنهار والضياء والظلام والماء والنار " ، وروى ابن ماجة والترمذي وحسنه الألباني من طريق أبي هريرة رضي الله عته أنه قال:"سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :" أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّم ".
وبسبب مناقضة هذا الأصل العظيم عانت الأمة الإسلامية الويلات وذاقت الأوقات المُمِرَّات وظهرت الفتن حتى قسمت ظهور المسلمين وشتت جمعهم ، بسبب تصدر الجهال وتعالم الصغار وتسابق الرعاع الى التدريس والفتوى وهم لم يبلغوا درجة طالب علم حقيقي فضلا على ان يكون ممن يقتدى بهم في علمهم واعمالهم وممن يرجع إليهم في الفتوى ، فيأتون بالعجائب وتسمع منهم القول وتنكر ، لأنه كما قيل قديما " من تكلم في غير فنه اتى بالعجائب " ،ويظنون انهم أنهم للحق ناصرين وبالسنة آخذين ولم يعلموا أنه للسنة محاربين وللحق مخذليننعوذ بالله من أناسٍ تَشَيّخوا قبل أن يَشِيخوا فتجد البناء والنجار ( وهذا ليس انتقاصا من هذه المهن ، بل هو الواقع المؤلم ) فتجده يفتي بغير علم ولربما تجد لا يصلى ويفتي في دين الله عز وجر ، فأي بلية أعظم من هذه ،
فاتقوا الله ايها المسلمون ، واعرفوا لأنفسكم قدرها فانه رحم الله مرء عرف قدر نفسه ، واحذر من الغرور المميت الذي يجرك الى السقوط ولن تستطيع النهوض ، فإن الغرور علامة السقوط ، كما قال الشيخ حسن ايت علجت" والله ما رايت شخصا في هذه الدعوة المباركة يغتر بنفسه ويعتد بها ويعجب بنفسه إلا آل مآله إلى السقوط ، قد يطير كالنمل ، النمل إذا قرب موته وفناؤه يطير ، يخرج له جناحين فيطير فإذا طار يموت ، هكذا الغرور يطير بصاحبه وقتا ثم يسقط ويموت ويذوب فالحذر الحذر من الغرور والتصنع والاعجاب بالنفس " (5).
فان كنت ياأيها السلفي على ماذكر من قبل في كلامك من غير علم فاتق الله وعد ، عد الى حقيقة منهج السلف في العلم قبل القول والعمل ، وإن كنت غير ذلك أي أنك ممن يطلب العلم ويجتهد ولا يتكلم بما لا يعلم فاتق الله واثبت على هذا و زد أكثر في طلبك واجتهادك ، فإنك الموفق وأبشر بالذي يسرك فإنك على الهدى الصراط المستقيم .
وصلى الله وسلم على نبينا ومحمد والهوصحبه ،وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
(1) ــــ إعلامالموقعين (1/ 38)
(2) ـــانظر شرح قول ابن سيرين .
(3) ـــ اعلام الموقعين(2/185، 186) .
(4) ــ شرح قول ابن سيرين .
(5)ـــ محاضر بعنوان وقفات تربوية من حياة شيخ الاسلام ابن تيمية .
بارك الله فيك أخي و نعم هذه الأخوة التي اشتمت علي أخوة في الله و كذالك أخوة النسب . اعزك الله ووفقك لكل لما يحبه ويرضه و ثبتنا الله واياكم علي الحق المبين
لا تتكلم قبل أن تتعلم
العرض العادي
