منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 24 Oct 2015, 03:31 PM
أبوعبدالرحمن عبدالله بادي
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي فك القيد والكبل عما أُُشكل في قوله تعالى: "حتى اذا استيئس الرُّسل"


الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:

فإن الله عز وجل خلق الخلق ليعبدوه وبربوبيته يفردوه، وأنزل عليهم كتابه ليفهموه ويتدبروه، قال الله تعالى: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب.ص 29.

قال السعدي رحمه الله:


ليدبروا آياته: أي هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود.

و انطلاقا من هذا الأمر الرباني وعملا بهذا التوجيه الإلهي استشكل سلفنا الصالح آية في كتاب الله نشأ عن تنوع الضمائر وتعددها في نفس الآية وكما قال العلماء:"الاستشكال علم" حتى وصل الأمر ببعضهم الى أن يضيق صدره وينشغل فكره ،وكان حين يقرأ هذه الآية تبلغ منه كل مبلغ من أجل ذلك الإشكال الذي كان يراوده ولكنه بمجرد سؤاله أهل العلم حتى فرج الله همه وكشف غمه كما روى ابن جرير في تفسيره عند قوله تعالى : "حتى اذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء" يوسف 109 برقم 20008 قال:

حدثني المثنى، قال: حدثنا عارم أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثني إبراهيم بن أبي حرة الجزري، قال: سأل فتى من قريش سعيد بن جبير، فقال له: يا أبا عبد الله، كيف تقرأ هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنَّيت أن لا أقرأ هذه السورة: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) ؟ قال: نعم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم، وظن المرسَلُ إليهم أن الرُّسُل كَذَبوا. قال: فقال الضحاك بن مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكَّأ!! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا!

وروى أيضا بسنده الى ربيعة بن كلثوم، قال: حدثني أبي، أن مسلم بن يسار، سأل سعيد بن جبير ; فقال: يا أبا عبد الله، آية بلغت مني كل مبلغ: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) ، فهذا الموتُ، أن تظنّ الرسل أنهم قد كُذِبوا، أو نظنّ أنهم قد كَذَبوا، مخففة! قال: فقال سعيد بن جبير: يا أبا عبد الرحمن، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم، وظن قومُهم أن الرسل كذبتهم = (جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) . قال: فقام مسلم إلى سعيد، فاعتنقه وقال: فرّج الله عنك كما فرّجت عني.20009.

و دفعا لهذا الإشكال وردا لما يرد في الآية من ظن واحتمال ،أحببت أن أسلط الأضواء لأفك القيد على هذه الآية جامعا ما تيسر من أقوال المفسرين في معانيها على تنوعها و كثرة مبانيها، معتمدا على تقسيم شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله لأقوال السلف فيها وقد جاء تقسيمه في خمسة أقوال سأعرضها تباعا من كلامه في تفسيره مقتصرا على بعض ما نقله عن السلف من آثار مع إضافة ما تيسر من أقوال المفسرين رحمهم الله تعالى.

القول الأول:

قال رحمه الله:

القول في تأويل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القُرَى) ، فدعوْا من أرسلنا إليهم، فكذبوهم، وردُّوا ما أتوا به من عند الله = (حتى إذا استيأسَ الرسل) ، الذين أرسلناهم إليهم منهم أن يؤمنوا بالله، ويصدِّقوهم فيما أتوهم به من عند الله وظن الذين أرسلناهم إليهم من الأمم المكذِّبة أن الرسل الذين أرسلناهم قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله، من وَعده إياهم نصرَهم عليهم (جاءهم نصرنا) .

وذلك قول جماعة من أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

19987 - حدثنا أبو السائب سلم بن جنادة، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن ابن عباس، في قوله: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) ، قال: لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومُهم، وظنَّ قومهم أن الرسل قد كذَبَوهم، جاءهم النصر على ذلك، فننجّي من نشاء.

19989- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: (حتى إذا استيأس الرسل) ، أن يسلم قومهم، وظنّ قوم الرسل أن الرسل قد كَذَبُوا جاءهم نصرنا.

20008 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عارم أبو النعمان، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثني إبراهيم بن أبي حرة الجزري، قال: سأل فتى من قريش سعيد بن جبير، فقال له: يا أبا عبد الله، كيف تقرأ هذا الحرف، فإني إذا أتيت عليه تمنَّيت أن لا أقرأ هذه السورة: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) ؟ قال: نعم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم، وظن المرسَلُ إليهم أن الرُّسُل كَذَبوا. قال: فقال الضحاك بن مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكَّأ!! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا!

20009- حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا ربيعة بن كلثوم، قال: حدثني أبي، أن مسلم بن يسار، سأل سعيد بن جبير ; فقال: يا أبا عبد الله، آية بلغت مني كل مبلغ: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا) ، فهذا الموتُ، أن تظنّ الرسل أنهم قد كُذِبوا، أو نظنّ أنهم قد كَذَبوا، مخففة! قال: فقال سعيد بن جبير: يا أبا عبد الرحمن، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم، وظن قومُهم أن الرسل كذبتهم (جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) . قال: فقام مسلم إلى سعيد، فاعتنقه وقال: فرّج الله عنك كما فرّجت عني.

20018 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا محمد بن فضيل، عن جحش بن زياد الضبي، عن تميم بن حذلم، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية:"حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا"، قال: استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا بالتخفيف.

قال السَّمين رحمه الله:

قوله تعالى: {كُذِّبُوا} قرأ الكوفيون» {كُذِبوا} «بالتخفيف والباقون بالتثقيل. فأمَّا قراءةُ التخفيف فاضطربت أقوالُ الناسِ فيها، ورُوي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت:» معاذَ اللَّه لم يكنِ الرسلُ لِتَظُنُّ ذلك بربها "وهذا ينبغي أن لا يَصِحَّ عنها لتواتُرِ هذه القراءة"وقد وَجَّهها الناسُ بأربعة أوجه، أجودُها: أن الضميرَ في» وظنُّوا «عائدٌ على المرْسَل إليهم لتقدُّمهم في قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} سورة يوسف، الآية: 109، ولأن الرسلَ تَسْتدعي مُرْسَلاً إليه. والضمير في «أنهم» و «كُذِبوا» عائد على الرسل، أي: وظنَّ المرْسَل إليهم أنَّ الرسَلَ قد كُذِبوا، أي: كذَّبهم مَنْ أُرْسِلوا إليه بالوحي وبنصرهم عليهم.

الى أن قال رحمه الله بعد أن ذكر الوجه الثاني والثالث:

الرابع: أن الضمائر كلَّها تَرْجِعُ إلى المرسَل إليهم، أي: وظَنَّ المرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذبوهم فيما ادَّعوه من النبوَّة وفيما يُوْعِدون به مَنْ لم يؤمنْ بهم من العقاب قبلُ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد قالوا: ولا يجوز عَوْدُ الضمائر على الرسل لأنهم مَعْصومون.

وقرأ ابن عباس والضحاك ومجاهد «كَذَبوا» بالتخفيف مبنياً للفاعل، والضمير على هذه القراءة في {ظنُّوا} عائد على الأمم وفي {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} عائدٌ على الرسل، أي: ظنَّ المرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم فيما وعدوهم به من النصر أو من العقاب.............«وقرأ مجاهد «كَذَبوا» بالتخفيف على البناء للفاعل على: وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَبوا فيما حَدَّثوا به قومهم من النُّصْرة: إمَّا على تأويل ابن عباس، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يَرَوا لموعدهم أثراً قالوا لهم: قد كَذَبْتُمونا فيكونون كاذبين عند قومهم أو: وظنَّ المرْسَلُ إليهم أن الرسلَ قد كَذَبوا.
حاشية البرهان في علوم القرآن للحوفي 344/1

قال الآلوسي رحمه الله في روح المعاني:

وقيل: إن الضمائر الثلاثة للمرسل إليهم لأن ذكر الرسل متقاض ذاك، ونظير ذلك قوله:
أمنك البرق أرقبه فهاجا ... وبت أخاله دهما خلاجا
فإن ضمير إخاله للرعد ولم يصرح به بل اكتفى بوميض البرق عنه، وإن شئت قلت: إن ذكرهم قد جرى في قوله تعالى:" أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" فيكون الضمير للذين من قبلهم ممن كذب الرسل عليهم السلام، والمعنى ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوة وفيما وعدوا به من لم يؤمن من العقاب.

قال أبو جعفر الطبري:

والقراءة على هذا التأويل الذي ذكرنا في قوله: (كُذِبُوا) بضم الكاف وتخفيف الذال. وذلك أيضًا قراءة بعض قراءة أهل المدينة وعامة قراءة أهل الكوفة.

وإنما اخترنا هذا التأويل وهذه القراءة، لأن ذلك عقيب قوله: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) ، فكان ذلك دليلا على أن إياس الرسل كان من إيمان قومهم الذين أهلكوا، وأن المضمر في قوله: (وظنوا أنهم قد كذبوا) ، إنما هو من ذكر الذين من قبلهم من الأمم الهالكة، وزاد ذلك وضوحًا أيضًا، إتباعُ الله في سياق الخبر عن الرسل وأممهم قوله: (فنجي من نشاء) ، إذ الذين أهلكوا هم الذين ظنوا ان الرسل قد كذبتهم، فكَذَّبوهم ظنًّا منهم أنهم قد كَذَبوهم.

القول الثاني:

قال أبو جعفر الطبري رحمه الله:

وقد ذهب قوم ممن قرأ هذه القراءة-قراءة التخفيف بضم الكاف وتخفيف الذال-، إلى غير التأويل الذي اخترنا، ووجّهوا معناه إلى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظنَّتِ الرسل أنهم قد كُذِبوا فيما وُعِدُوا من النصر.

ذكر من قال ذلك:
20023 - حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، قال: قرأ ابن عباس: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا) ، قال: كانوا بشرًا ضَعفُوا ويَئِسوا.

20024 - قال: حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرني ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، قرأ: (وظنوا أنهم قد كُذِبوا) ، خفيفة، قال ابن جريج: أقول كما يقول: أخْلِفوا. قال عبد الله: قال لي ابن عباس: كانوا بشرًا. وتلا ابن عباس: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [سورة البقرة: 214] قال ابن جريج: قال ابن أبي مليكة: ذهب بها إلى أنهم ضَعُفوا فظنوا أنهم أخْلِفوا.

قال السَّمين رحمه الله عند ذكره لتوجيه الناس لقراءة التخفيف :

الثاني: أنَّ الضمائرَ الثلاثةَ عائدة على الرسل. قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه» {حتى إذا اسْتَيْئَسوا} من النصر {وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا}، أي: كَذَّبَهم أنفسُهم حين حَدَّثَتْهم أنهم يُنْصَرون أو رجاؤُهم لقولهم رجاءٌ صادق ورجاءٌ كاذب، والمعنى: أن مدَّة التكذيب والعداوةِ من الكفار، وانتظارَ النصر من اللَّه وتأميلَه قد تطاولت عليهم وتمادَتْ، حتى استشعروا القُنوط، وتَوَهَّموا ألاَّ نَصْرَ لهم في الدنيا فجاءهم نَصْرُنا «انتهى/فقد جعل الفاعلَ المقدر: إمَّا أنفسُهم، وإمَّا رجاؤُهم، وجعل الظنَّ بمعنى التوهم فأخرجه عن معناه الأصلي وهو تَرَجُّحُ أحدِ الطرفين، وعن مجازه وهو استعمالُه في المتَيَقَّن.

الثالث: أنَّ الضمائرَ كلَّها أيضاً عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من الترجيح، وإلى هذا نحا ابن عباس وابن مسعود وابن جبير، قالوا: والرسل بَشَرٌ فَضَعُفوا وساءَ ظَنُّهم، وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء فإنها عبارة غليظة على الأنبياء عليهم السلام، وحاشى الأنبياء من ذلك، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ كثيرة هذا التأويلَ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك.

قال الزمخشري:
«إن صَحَّ هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظنِّ ما يَخْطِر بالبال ويَهْجِس في القلب مِنْ شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وأمَّا الظنُّ الذي هو ترجيحُ أحدِ الجائزين على الآخر فغير جائز على رجلٍ من المسلمين، فما بالُ رسلِ اللَّه الذين هم أعرفُ بربهم؟» قلت: ولا يجوز أيضاً أن يقال: خَطَر ببالهم شبهُ الوسوسة، فإنَّ الوسوسة من الشيطان وهم مَعْصومون منه.

وقال الفارسي أيضا: «إنْ ذهب ذاهب إلى أن المعنى: ظنَّ الرسلُ الذين وعد اللَّه أمَمَهم على لسانهم قد كُذِبوا فيه فقد أتى عظيماً "لا يجوزُ أَنْ يُنْسَبَ مثلُه" إلى الأنبياء ولا إلى صالحي عبادِ اللَّه، وكذلك مَنْ زعم أنَّ ابنَ عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضَعُفوا فظنوا أنهم قد أُخْلفوا، لأن اللَّه تعالى: {لَايُخْلِفُ الْمِيعَاد} و {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: معناه وظنُّوا حين ضَعُفوا وغُلبوا أنهم قد أُخْلفوا ما وعدهم اللَّه به من النصر وقال: كانوا بشراً وتلا قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حتى يَقُولَ الرسولُ} سورة البقرة، الآية: 214.
حاشية البرهان في علوم القرآن للحوفي 344/1

قال الآلوسي رحمه الله في روح المعاني:

وأجاب بعضهم بأنه يمكن أن يكون أراد رضي الله تعالى عنه بالظن ما يخطر بالبال ويهجس بالقلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وذهب المجد بن تيمية إلى رجوع الضمائر جميعها أيضا إلى الرسل مائلا إلى ما روي عن ابن عباس مدعيا أنه الظاهر وأن الآية على حد قوله تعالى: إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [الحج: 52] فإن الإلقاء في قلبه وفي لسانه وفي علمه من باب واحد والله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان، ثم قال: والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح كما هو في اصطلاح طائفة من أهل العلم ويسمون الاعتقاد المرجوح وهما فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»
وقال سبحانه: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم: 28] فالاعتقاد المرجوح هو ظن وهو وهم، وهذا قد يكون ذنبا يضعف الإيمان ولا يزيله وقد يكون حديث النفس المعفو عنه كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل»
وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحرق حتى يصير حمما أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال صلى الله عليه وسلم: «أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان» وفي حديث آخر «إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»
ونظير هذا ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام إذ قال له ربه: أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبى» فسمى النبي صلى الله عليه وسلم التفاوت بين الإيمان والاطمئنان شكا بإحياء الموتى، وعلى هذا يقال: الوعد بالنصر في الدنيا لشخص قد يكون الشخص مؤمنا بإنجازه ولكن قد يضطرب قلبه فيه فلا يطمئن فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه كذب، فالشك والظن أنه كذب من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب وإن كان فيها ما هو ذنب، فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث، وفي قص مثل ذلك عبرة للمؤمنين بهم عليهم السلام فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك فلا ييأسوا إذا ابتلوا ويعلمون أنه قد ابتلي من هو خير منهم وكانت العاقبة إلى خير فيتيقن المرتاب ويتوب المذنب ويقوى إيمان المؤمن وبذلك يصح الاتساء بالأنبياء، ومن هنا قال سبحانه: "لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ" ولو كان المتبوع معصوما مطلقا لا يتأتى الاتساء فإنه يقول التابع أنا لست من جنسه فإنه لا يذكر بذنب فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ما إذا علم أنه قد وقع شيء وجبر بالتوبة فإنه يصح حينئذ أمر المتابعة كما قيل: أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم أبو البشر آدم ومن يشابه به فما ظلم. ولا يلزم الاقتداء بهم فيما نهوا عنه ووقع منهم ثم تابوا عنه لتحقق الأمر بالاقتداء بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه ووقع منهم ولم يتوبوا منه، وما ذكر ليس بدون المنسوخ من أفعالهم وإذا كان ما أمروا به وأبيح لهم ثم نسخ تنقطع فيه المتابعة فما لم يؤمروا به ووقع منهم وتابوا عنه أحرى وأولى بانقطاع المتابعة فيه اه.

ولا يخفى أن ما ذكره مستلزم لجواز وقوع الكبائر من الأنبياء عليهم السلام وحاشاهم من غير أن يقروا على ذلك والقول به جهل عظيم ولا يقدم عليه ذو قلب سليم، على أن في كلامه بعد ما فيه، وليته اكتفى بجعل الضمائر للرسل وتفسير الظن بالتوهم كما فعل غيره فإنه ما لا بأس به، وكذا لا بأس في حمل كلام ابن عباس على أنه أراد بالظن فيه ما هو على طريق الوسوسة ومثالها من حديث النفس فإن ذلك غير الوسوسة المنزه عنها الأنبياء عليهم السلام أو على أنه أراد بذلك المبالغة في التراخي وطول المدة على طريق الاستعارة التمثيلية بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب باعتبار استلزام كل منهما لعدم ترتب المطلوب فاستعمل ما لأحدهما في الآخر.

إلى أن قال رحمه الله:

وذكر المجد في هذا المقام تحقيقا غير ما ذكره أولا وهو أن الاستيئاس وظن أنهم مكذوبين كليهما متعلقان بما ضم للموعود به اجتهادا، وذلك أن الخبر عن استيئاسهم مطلق وليس في الآية ما يدل على تقييده بما وعدوا به وأخبروا بكونه وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الله تعالى إذا وعد الرسل بنصر مطلق كما هو غالب اخباراته لم يعين زمانه ولا مكانه ولا صفته، فكثيرا ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم يدل عليها خطاب الحق تعالى بل اعتقدوها بأسباب أخرى كما اعتقد طائفة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام ويطوفون به أن ذلك يكون عام الحديبية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا ورجا أن يدخل مكة ذلك العام ويطوف ويسعى فلما استيئسوا من ذلك ذلك العام لما صدهم المشركون حتى قاضاهم عليه الصلاة والسلام على الصلح المشهور بقي في قلب بعضهم شيء حتى قال عمر رضي الله تعالى عنه مع أنه كان من المحدثين: ألم تخبرنا يا رسول الله أنا ندخل البيت ونطوف؟ قال: بلى أفأخبرتك إنك تدخله هذا العام؟ قال: لا. قال: إنك داخله ومطوف به، وكذلك قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه فبين له أن الوعد منه عليه الصلاة والسلام كان مطلقا غير مقيد بوقت، وكونه صلى الله عليه وسلم سعى في ذلك العام إلى مكة وقصدها لا يوجب تخصيصا لوعده تعالى بالدخول في تلك السنة، ولعله عليه الصلاة والسلام إنما سعى بناء على ظن أن يكون الأمر كذلك فلم يكن، ولا محذور في ذلك فليس من شرط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كل ما قصده، بل من تمام نعمة الله تعالى عليه أن يأخذ به عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده إن كان كما كان في عام الحديبية، ولا يضر أيضا خروج الأمر على خلاف ما يظنه عليه الصلاة والسلام،
فقد روى مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال في تأبير النخل: «إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله تعالى شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله تعالى»
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين: «ما قصرت الصلاة ولا نسيت ثم تبين النسيان»
وفي قصة الوليد بن عقبة النازل فيها "إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا" [الحجرات: 6] الآية وقصة بني أبيرق النازل فيها "إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً" [النساء: 105] ما فيه كفاية في العلم بأنه صلى الله عليه وسلم قد يظن الشيء فيبينه الله تعالى على وجه آخر، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو- هو- هكذا فما ظنك بغيره من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، ومما يزيد هذا قوة أن جمهور المحدثين والفقهاء على أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد في الأحكام الشرعية ويجوز عليهم الخطأ في ذلك لكن لا يقرون عليه فإنه لا شك أن هذا دون الخطأ في ظن ما ليس من الأحكام الشرعية في شيء، وإذا تحقق ذلك فلا يبعد أن يقال: إن أولئك الرسل عليهم السلام أخبروا بعذاب قومهم ولم يعين لهم وقت له فاجتهدوا وعينوا لذلك وقتا حسبما ظهر لهم كما عين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية لدخول مكة فلما طالت المدة استيأسوا وظنوا كذب أنفسهم وغلط اجتهادهم وليس في ذلك ظن بكذب وعده تعالى ولا مستلزما له أصلا فلا محذور. وأنت تعلم أن الأوفق بتعظيم الرسل عليهم السلام والأبعد عن الحوم حول حمى ما لا يليق بهم القول بنسبة الظن إلى غيرهم صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم.

قال القرطبي رحمه الله في تفسيره:


. وَقِيلَ: الْمَعْنَى ظَنَّ الْأُمَمُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوا فِيمَا وَعَدُوا بِهِ مِنْ نَصْرِهِمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ظَنَّ الرُّسُلُ أَنَّ اللَّهَ أَخْلَفَ مَا وَعَدَهُمْ. وَقِيلَ: لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الرِّوَايَةُ، لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالرُّسُلِ هَذَا الظَّنُّ، وَمَنْ ظَنَّ هَذَا الظَّنَّ لَا يَسْتَحِقُّ النَّصْرَ، فَكَيْفَ قَالَ: (جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)؟! قال القشيري أبو نصر: ولا يبعد إن صَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَنَّ الْمُرَادَ خَطَرَ بِقُلُوبِ الرُّسُلِ هَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَقَّقُوهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَفِي الْخَبَرِ:" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ". وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: قَرُبُوا مِنْ ذَلِكَ الظَّنِّ، كَقَوْلِكَ: بَلَغْتُ الْمَنْزِلَ، أَيْ قَرُبْتُ مِنْهُ. وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَالنَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا بَشَرًا فَضَعُفُوا مِنْ طُولِ الْبَلَاءِ، وَنَسُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُخْلِفُوا، ثُمَّ تَلَا:" حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ"[البقرة: 214]. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: وَجْهُهُ عِنْدَنَا أَنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تَخَافُ بُعْدَ مَا وَعَدَ اللَّهُ النَّصْرَ، لَا مِنْ تُهْمَةٍ لِوَعْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِتُهْمَةِ النُّفُوسِ أَنْ تَكُونَ قَدْ أَحْدَثَتْ، حَدَثًا يَنْقُضُ ذَلِكَ الشَّرْطَ وَالْعَهْدَ الَّذِي عُهِدَ إِلَيْهِمْ، فَكَانَتْ إِذَا طَالَتْ عَلَيْهِمُ الْمُدَّةُ دَخَلَهُمُ الْإِيَاسُ وَالظُّنُونُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

قال أبو جعفر الطبري رحمه الله:


وهذا تأويلٌ وقولٌ، غيرُه من التأويل أولى عندي بالصواب، وخلافه من القول أشبه بصفات الأنبياء، والرسل إن جاز أن يرتابوا بوعدِ الله إياهم ويشكوا في حقيقة خبره، مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسَل إليهم فيعذروا في ذلك، فإن المرسَلَ إليهم لأوْلى في ذلك منهم بالعذر.
وذلك قول إن قاله قائلٌ لا يخفى أمره.

القول الثالث:

قال أبو جعفر الطبري رحمه الله:

وقد ذُكِر هذا التأويل الذي ذكرناه أخيرًا-يعني القول الثاني- عن ابن عباس لعائشة، فأنكرته أشد النُكرة فيما ذكر لنا.
* ذكر الرواية بذلك عنها، رضوانُ الله عليها:

20029 - حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، قال: قرأ ابن عباس: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا) ، فقال: كانوا بشرًا، ضعفوا ويئسوا قال ابن أبي مليكة: فذكرت ذلك لعروة، فقال: قالت عائشة: معاذ الله! ما حدَّث الله رسوله شيئًا قطُّ إلا علم أنه سيكون قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى ظن الأنبياء أن من تبعهم قد كذّبوهم. فكانت تقرؤها:"قَدْ كُذِّبُوا"، تثقلها.

20031 -قال: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: حدثني صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عروة،
عن عائشة قال: قلت لها قوله: (حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا)، قال: قالت عائشة: لقد استيقنوا أنهم قد كُذِّبوا. قلت:"كُذِبوا". قالت: معاذ الله، لم تكن الرُّسل تظُنُّ بربها، إنما هم أتباع الرُّسُل، لما استأخر عنهم الوحيُ، واشتد عليهم البلاء، ظنت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم (جاءهم نصرنا) .

وجاء في تفسير ابن أبي حاتم قال:أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى قِرَاءَةً أنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدَ ابن كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ يَقُولُ هَذِهِ الآيَةُ "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا" فَقَالَ الْقَاسِمُ: فَأَخْبَرَهُ عَنِّي أَنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا" تَقُولُ: كَذَّبَتْهُمْ أَتْبَاعُهُمْ.

قال أبو جعفر الطبري رحمه الله :

فهذا ما روي في ذلك عن عائشة، غير أنها كانت تقرأ:"كُذِّبُوا"، بالتشديد وضم الكاف، بمعنى ما ذكرنا عنها: من أن الرسل ظنَّت بأتباعها الذين قد آمنوا بهم، أنهم قد كذَّبوهم، فارتدُّوا عن دينهم، استبطاءً منهم للنصر.
وقد بيّنا أن الذي نختار من القراءة في ذلك والتأويل غيرَه في هذا الحرف خاصّةً.

القول الرابع:


وقال آخرون ممن قرأ قوله:"كُذِّبُوا" بضم الكاف وتشديد الذال، معنى ذلك: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم ويصدِّقوهم، وظنَّت الرسل، بمعنى: واستيقنت، أنهم قد كذّبهم أممهم، جاءَتِ الرُّسل نُصْرَتنا. وقالوا:
"الظن" في هذا بمعنى العلم، من قول الشاعر:
فَظُنُّوا بِأَلْفَيْ فَارِسٍ مُتَلَبِّبٍ ... سَرَاتُهُمْ فِي الفَارِسِيّ المُسَرَّدِ
ذكر من قال ذلك:

20033 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن وهو قول قتادة : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظنوا أنهم قد كُذِّبوا"، أي: استيقنوا أنه لا خير عند قومهم، ولا إيمان (جاءهم نصرنا) .

20034 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (حتى إذا استيأس الرسل) ، قال: من قومهم (وظنوا أنهم قد كذِّبوا) ، قال: وعلموا أنهم قد كذبوا (جاءهم نصرنا) .
قال أبو جعفر: وبهذه القراءة كانت تقرأ عامة قرأة المدينة والبصرة والشأم، أعني بتشديد الذال من"كُذِّبُوا" وضم كافها.

قال السمين في حاشية البرهان في علوم القرآن للحوفي 344/1:


ويجوز أن يعودَ الضميرُ في «ظنُّوا» على الرسل وفي {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} على المرْسَل "إليهم"، أي: وظنَّ الرسلُ أن الأممَ كَذَبَتْهم فيما وعدوهم به مِنْ أنَّهم يؤمنون به، والظنُّ هنا بمعنى اليقين واضح.

قال أبو جعفر الطبري رحمه الله:

وهذا التأويل الذي ذهب إليه الحسن وقتادة في ذلك، إذا قرئ بتشديد الذال وضم الكاف، خلافٌ لما ذكرنا من أقوال جميع من حكينا قوله من الصحابة، لأنه لم يوجه"الظن" في هذا الموضع منهم أحدٌ إلى معنى العلم واليقين، مع أن"الظنّ" إنما استعمله العرب في موضع العلم فيما كان من علم أدرك من جهة الخبر أو من غير وجه المشاهده والمعاينة. فأما ما كان من علم أدرك من وجه المشاهدة والمعاينة، فإنها لا تستعمل فيه"الظن"، لا تكاد تقول:"أظنني حيًّا، وأظنني إنسانًا"، بمعنى: أعلمني إنسانًا، وأعلمني حيًا. والرسل الذين كذبتهم أممهم، لا شك أنها كانت لأممها شاهدة، ولتكذيبها إياها منها سامعة، فيقال فيها: ظنّت بأممها أنها كَذَّبتها.

القول الخامس :

قال أبو جعفر الطبري رحمه الله:

وروي عن مجاهد في ذلك قولٌ هو خلاف جميع ما ذكرنا من أقوال الماضين الذين سَمَّينا أسماءهم وذكرنا أقوالهم، وتأويلٌ خلاف تأويلهم، وقراءةٌ غير قراءةجميعهم، وهو أنه، فيما ذُكِر عنه، كان يقرأ:"وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا" بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال.
ذكر الرواية عنه بذلك:

20035 - حدثني أحمد بن يوسف، قال: حدثنا أبو عبيد، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، أنه قرأها:"كَذَبُوا" بفتح الكاف بالتخفيف.
وكان يتأوّله كما:

20036 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: استيأس الرجل أن يُعَذَّبَ قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَبوا = (جاءهم نصرنا) ، قال: جاء الرسلَ نصرنا. قال مجاهد: قال في"المؤمن" (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ، قال: قولهم:"نحن أعلم منهم ولن نعذّب". وقوله: (وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ، [سورة غافر: 83] ، قال: حاق بهم ما جاءت به رسلهم من الحق.

قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها،لإجماع الحجة من قرأة الأمصار على خلافها. ولو جازت القراءة بذلك، لاحتمل وجهًا من التأويل، وهو أحسن مما تأوله مجاهد، وهو: حتى إذا استيأس الرسل من عذاب الله قومَها المكَذِّبة بها، وظنَّت الرسل أن قومها قد كَذَبوا وافتروا على الله بكفرهم بها ويكون"الظن" موجِّهًا حينئذ إلى معنى العلم، على ما تأوَّله الحسن وقتادة.

هذا آخر ما تيسر جمعه من نقول وآثار وأقوال من تكلم في هذه الآية العظيمة التي أسأل الله عز وجل أن يكون قد انجلى عنها الغبار و زال عنها الاشكال من عقول ذوي الاعتبار ومن كان عنده مزيد فائدة وأقوال بالنفع عائدة فلا يبخل إخوانه في هذا الصرح العلمي المبارك والحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات.





الملفات المرفقة
نوع الملف: pdf فك القيد والكبل عما أُشكل في قوله تعالى حتى اذا استيئس الرسل.pdf‏ (586.0 كيلوبايت, المشاهدات 1704)

التعديل الأخير تم بواسطة أبوعبدالرحمن عبدالله بادي ; 24 Oct 2015 الساعة 08:42 PM
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 24 Oct 2015, 06:44 PM
ابومارية عباس البسكري ابومارية عباس البسكري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
الدولة: الجزائر بسكرة
المشاركات: 703
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى ابومارية عباس البسكري
افتراضي

جزاك الله خيرا وبارك الله فيك أخي بادي
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 Oct 2015, 11:28 AM
أبو البراء
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

أحسنت أخي عبد الله، أحسنَ الله لك الجزاء والعاقبة.
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26 Oct 2015, 11:59 AM
يوسف صفصاف يوسف صفصاف غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2012
الدولة: اسطاوالي الجزائر العاصمة
المشاركات: 1,199
إرسال رسالة عبر MSN إلى يوسف صفصاف إرسال رسالة عبر Skype إلى يوسف صفصاف
افتراضي

بارك الله فيك أخي عبد الله، أفدت و أجدت.
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26 Oct 2015, 05:44 PM
أبو عبد السلام جابر البسكري أبو عبد السلام جابر البسكري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Feb 2014
المشاركات: 1,229
إرسال رسالة عبر Skype إلى أبو عبد السلام جابر البسكري
افتراضي

مقال مسدد وبه زال الإشكال المحدد
جزاك الله خيرا أخي بادي ورزقك العلم والفهم.
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 26 Oct 2015, 09:36 PM
شعبان معتوق شعبان معتوق غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Aug 2015
الدولة: تيزي وزو / معاتقة.
المشاركات: 331
افتراضي

مقالٌ مميز، جزاك الله خيرًا و بارك فيك أخي عبد الله.
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 27 Oct 2015, 08:11 PM
أبوعبدالرحمن عبدالله بادي
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي


الإخوة الفضلاء: عباس، يوسف،جابر،شعبان

جزاكم الله على مروركم وتعليقكم

الشيخ خالد فتح الله عليك بركات من السماء والأرض وأنار دربك ويسر أمرك ونفع بك.
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 31 Oct 2015, 04:50 PM
عبد الرحمن رحال عبد الرحمن رحال غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Oct 2013
الدولة: الجزائر / بسكرة.
المشاركات: 347
افتراضي

جزاك الله خيرا أخي أبا عبد الرحمن.
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 06 Dec 2015, 04:58 PM
أبوعبدالرحمن عبدالله بادي
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

أحسن الله إليك أبا أنس
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 07 Dec 2015, 12:37 PM
أبو أمامة حمليلي الجزائري أبو أمامة حمليلي الجزائري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jun 2011
الدولة: مدينة أبي العباس غرب الجزائر
المشاركات: 409
إرسال رسالة عبر MSN إلى أبو أمامة حمليلي الجزائري إرسال رسالة عبر Skype إلى أبو أمامة حمليلي الجزائري
افتراضي

أحسن الله إليكم أخي بادي على ما خطت يداك .
رد مع اقتباس
  #11  
قديم 29 Dec 2016, 03:59 PM
أبوعبدالرحمن عبدالله بادي
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي


جزاك الله خيرا ونفع بك أبا أمامة.
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
تفسير, حتى إذااستيأس الرسل, قرآن

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013