سرعةُ استجابةِ الصحابةِ رضي اللهُ عنهمْ لأمرِ اللهِ تعالى و رسولِه صلى اللهُ عليهِ و سلمَ
الحمد لله رب العالمين و صلى الله و سلم على نبينا محمد الصادق الأمين و على آله و صحبه الطيبين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
و بعد، فإنَّ من خطابات ربِّنا عزَّ و جلَّ لعبادِه المؤمنين قوله تعالى {يَا أيُّهَا الذينَ آمَنُوا استَجِيُبوا للهِ وللرَّسولِ إذَا دعاكُم لما يُحْيِيكمْ} (الأنفال 25) ، قال الشيخ المفسر عبدُ الرحمنِ السعدي رحمه الله تعالى:"يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمانُ منهم و هوَ الاستجابةُ للهِ و للرَّسولِ، أي : الانقيادُ لما أمرا به، و المبادرةُ إلى ذلكَ، و الدعوةُ إليهِ، و الاجتنابُ لما نهيَا عنه، و الانكفافُ عنه، و النهيُ عنه".
و منَ المؤمنين الذين يدخلونَ في هذا الخطابِ صحابةُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ و سلم، الذين همْ "خيارُ أهلِ الأرضِ بعد نبيهم ارتضاهُم اللهُ عزَّ وَ جلَّ لنَبِيِّه و خلقهَم أنصارًا لدينِه فهمْ أئمةُ الدينِ و أعلامُ المسلمين" (شرح السنة للمزني)، الذينَ قالَ فيهمُ النبي صلى اللهُ عليه و سلمَ :"لا تسبُّوا أصحَابي، فوَ الذي نفسي بيدِه لو أنَّ أحدكُم أنفقَ مثلَ أحدٍ ذهبًا، ما أدركَ مدَّ أحدِهم و لا نصيفَه" متفق عليه، و هم الذينَ أجمعتْ الأمةُ على خيريتِهم و أفضليتِهم بعدَ نبينَا صلى الله عليه و سلمَ، و حُق لهم ذلكَ فقدْ قال بن مسعود رضي الله عنه :"منْ كانَ منكم متأسيًا فليتأس بأصحابِ محمدٍ صلى الله عليه و سلم، فإنهم كانُوا أبرَّ هذه الأمةِ قلوبًا و أعمقَها علمًا و أقلهَا تكلفًا و أقومَها هديًا و أحسنَها حَالا" رضي الله عنهم أجمعين.
و إنَّ صحابةَ نبينَا صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنهم كانوا سباقينَ للانقيادِ لما أمرَ به اللهُ و رسولُه مسارعين للانتهاءِ عمَّا نهيا عنه، و مواقفهُم الكثيرةُ تشهدُ لهم بذلكَ.
و منْ تلكم المواقف هذه الأمثلةُ اليسيرةُ من سيرتهم العطرةِ :
1 ـ قصةُ تحريمِ الخمرِ :
ـ منه ما ثبتَ عندَ البخاري في صحيحه في كتابِ تفسيرِ القرآنِ قال : حدثنا أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا ثابت ، عن أنس رضي الله عنه : أن الخمر التي أهريقت الفضيخ ، وزادني محمد البيكندي ، عن أبي النعمان ، قال : كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة ، فنزل تحريم الخمر ، فأمر مناديا فنادى ، فقال أبو طلحة : اخرج فانظر ما هذا الصوت ، قال : فخرجت فقلت : هذا مناد ينادي : " ألا إن الخمر قد حرمت " ، فقال لي : اذهب فأهرقها ، قال : فجرت في سكك المدينة ، قال : وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ ، فقال بعض القوم : قتل قوم وهي في بطونهم ، قال : فأنزل الله : {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} ".
ـ و منه ما جاء عند مسلم في كتاب الأشربة باب تحريم الخمر قال : وحدثنا يحيى بن أيوب ، حدثنا ابن علية ، قال : وأخبرنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، قال : كنت أسقي أبا طلحة ، وأبا دجانة ، ومعاذ بن جبل في رهط من الأنصار ، فدخل علينا داخل ، فقال : " حدث خبر نزل تحريم الخمر " ، فأكفأناها يومئذ وإنها لخليط البسر والتمر ".
2 ـ قصة تحويل القبلة :
ـ من ذلك ما أورده البخاري في صحيحه في كتاب تفسير القرآن قال : حدثنا أبو نعيم ، سمع زهيرا ، عن أبي إسحاق ، عن البراء رضي الله عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى ، أو صلاها ، صلاة العصر وصلى معه قوم " فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، قال : أشهد بالله ، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت ، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا ، لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله : {وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم}".
ـ و كذلك ثبت في صحيحه في كتاب تفسير القرآن قال : حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان ، حدثني عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، بينما الناس في الصبح بقباء ، جاءهم رجل فقال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وأمر أن يستقبل الكعبة ، ألا فاستقبلوها ، وكان وجه الناس إلى الشأم ، فاستداروا بوجوههم إلى الكعبة ".
3 ـ قصة تحريم لحوم الحمر الأهلية :
ـ فقد جاء عند البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد والسير قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن أيوب ، عن محمد ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : صبح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ، وقد خرجوا بالمساحي على أعناقهم ، فلما رأوه قالوا : هذا محمد ، والخميس محمد ، والخميس ، فلجئوا إلى الحصن ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال : " الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم ، فساء صباح المنذرين " ، وأصبنا حمرا ، فطبخناها ، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ، فأكفئت القدور بما فيها".
ـ و كذلك ثبت عنده أيضا في كتاب المغازي قال : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب ، عن محمد ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه جاء ، فقال : أكلت الحمر ، فسكت ، ثم أتاه الثانية ، فقال : أكلت الحمر ، فسكت ، ثم أتاه الثالثة فقال : أفنيت الحمر ، فأمر مناديا فنادى في الناس : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية "، فأكفئت القدور وإنها لتفور باللحم".
4 ـ قصة طرح رسول الله صلى الله عليه و سلم خاتم الذهب :
ـ جاء في السنن الكبرى للنسائي كتاب الزينة قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب ، وكان يجعل فصه في باطن كفه ، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب ، فطرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطرح الناس خواتيمهم ، واتخذ خاتما من فضة ، فكان يختم به ، ولا يلبسه ".
5 ـ قصة اختمار نساء الصحابة رضي الله عنهن :
ـ جاء في كتاب الآداب للبيهقي، باب ما تصلي فيه المرأة من ثياب قال : أخبرنا يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا بحر بن نصر قال : قرء على ابن وهب ، أخبرني مالك ، وابن أبي ذئب ، وهشام بن سعد وغيرهم أن محمد بن زيد القرشي ، حدثهم عن أمه أنها سألت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب ؟ فقالت : " في الخمار والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها . هذا هو الصحيح موقوف ، وروي مرفوعا . وروي في حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار " . وفي حديث عائشة قالت : " لما نزلت هذه الآية : {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} : أخذ نساء الأنصار إزارهن فشققنه من نحو الحواشي فاختمرن به ".
6 ـ قصة نزول الآيات الأواخر من سورة البقرة :
ـ روى الحاكم في المستدرك في كتاب التفسير قال : أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري ، ثنا محمد بن عبد السلام ، ثنا إسحاق بن إبراهيم ، أنبأ وكيع ، ثنا سفيان ، عن آدم بن سليمان ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، يحدث ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : لما نزلت هذه الآية {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} شق ذلك عليهم ما لم يشق عليهم مثل ذلك ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قولوا سمعنا وأطعنا " فألقى الله الإيمان في قلوبهم فقالوا : سمعنا وأطعنا . فأنزل الله عز وجل لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لها ما كسبت ، وعليها ما اكتسبت إلى قوله تعالى أو أخطأنا قال : قد فعلت . إلى آخر البقرة " " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ".
ـ و كذلك ما جاء عند الإمام أحمد في المسند قال : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن حميد الأعرج، عن مجاهد ، قال : دخلت على ابن عباس ، فقلت : يا أبا عباس ، كنت عند ابن عمر ، فقرأ هذه الآية فبكى . قال : أية آية ؟ قلت : {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}، قال ابن عباس : إن هذه الآية حين أنزلت ، غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غما شديدا ، وغاظتهم غيظا شديدا ، يعني ، وقالوا : يا رسول الله ، هلكنا ، إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا ، وبما نعمل ، فأما قلوبنا فليست بأيدينا . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قولوا : سمعنا وأطعنا " قالوا : سمعنا وأطعنا ، قال : فنسختها هذه الآية : {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون إلى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} ، فتجوز لهم عن حديث النفس ، وأخذوا بالأعمال".
فهذه بعض مواقف صحابةِ رسولنا صلى الله عليه و سلم رضي الله عنهم أجمعين، سرعةٌ في الاستجابةِ لأمر الله تعالى و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم، و سرعةٌ في الانتهاءِ عما نهيا عنه، فكانوا خيرَ هذه الأمة و أفضلَها و أكملَها إيمانًا، و أكثرها حبًّا لله تعالى و لرسولِه صلى الله عليه و سلم و لدينِ الإسلامِ.
ألَا و قدْ علمنا و تعلمنا منْ سيرةِ هؤلاءِ الأخيار و مواقفهم، فلننظرْ في أنفسنَا و في واقعنا و مجتمعاتنَا، و لنقفْ على أمرٍ واحد من أوامرِ النبي صلى الله عليه و سلمَ، ألا وهوَ قوله عليه الصلاة و السلام:"لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنَّ أحدكُم أنفقَ مثلَ أحدٍ ذهبًا، ما أدركَ مدَّ أحدِهم و لا نصيفَه" ، فهل استجاب الشيعةُ الروافضُ لهذا الأمرِ ؟ الجوابُ : لا، فقد سبُّوا و شتمُوا هؤلاء الأخيارِ، بل و كفَّروهم.
و هل استجاب سلايميةُ الكذابُ الدجالُ لأمر نبيهِ صلى الله عليه و سلم ؟ الجواب : لا، فقد ذهبَ يطعنُ في هؤلاء على الملإ على التلفازِ و لا يبالي.
و هل استجابَ بنُ سعدٍ و السليماني وغيرهم ؟ الجواب : لا.
و لكن استجابَ أهل السنة أهل الحق لأمر نبيهم صلى الله عليه و سلم، و انقادوا و بادروا، ودعوا إلى هذه العقيدة الصافية في الصحابة الأخيار، و ذبُّوا عنهم.
و يكفي في هذا المقامِ قولُ أبي زرعة الرازي رحمه الله تعالى فإنهُ يبينُ غيرةَ السلفِ على صحابةِ رسول الله صلى الله عليه و سلم حيثُ قال :"إذَا رأيتَ الرجلَ ينتقصُ أحدًا منْ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه و سلم فاعلمْ أنهُ زنديقٌ، و ذلكَ أنَّ الرسولَ عندنَا حقٌّ، و القرآنُ حق، و إنما أدى إلينا هذا القرآنَ و السننَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه و سلم، و إنما يريدونَ أن يجرحُوا شهودَنا، ليبطلوا الكتابَ و السنةَ، و الجرحُ بهم أولى، و هم زنادقةٌ" و ما في كتب أهل السنة الكثير فليراجع.
و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين، و الحمد لله رب العامين.