(إتحاف النبلاء بما جاء في الاستدفاء بالنساء) كتبه أسامة الفرجاني و أذن بنشره علي الرملي.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد :
فقد انتشرت الأيام الماضية رسالة فيها بعض الآثار عن السلف في (الاستدفاء بالنساء) وعزاها صاحبها إلى مصنف ابن أبي شيبة رحمه الله ، فرجعت إلى مصنف ابن أبي شيبة للوقوف على أسانيد هذه الآثار ، ودرست هذه الأسانيد وخرجت بهذا البحث اليسير ، وسأذكر فيه هذه الآثار كلها بأسانيدها ، وأتبع كل أثر بحكمه ، ثم أختم هذا البحث بفقه هذه الآثار ، أسأل الله التوفيق والسداد .
وقد بوب الإمام ابن أبي شيبة بابا سماه [في الرجل يستدفئ بامرأته بعد أن يغتسل]، وأورد تحته الآتي :
الحديث الأول :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن بشير ، عن إبراهيم التيمي أن عمر كان يستدفئ بامرأته بعد الغسل .
حكمه : ضعيف ؛ للانقطاع بين (إبراهيم التيمي) و (عمر بن الخطاب) فإبراهيم ولد بعد وفاة عمر بنحو ثلاثين سنة .
الحديث الثاني :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء الخراساني ، عن أم الدرداء قالت : كان أبو الدرداء يغتسل ثم يجيء ،وله قرقفة يستدفئ به .
حكمه : ضعيف ؛ لأجل (عطاء الخراساني) وهو : عطاء بن أبي مسلم .
قال شعبة : حدثنا عطاء الخراساني وكان نسيا .
وقال ابن حبان : كان رديء الحفظ يخطيء ولا يعلم .
ثم هو أيضا يدلس ، ولم يصرح هنا بالسماع .
قال الحافظ في التقريب : صدوق يهم كثيرا ، ويرسل ويدلس .اهـ
والقرقفة : ارتعاش واضطراب في الأسنان بسبب البرد .
الحديث الثالث :
قال ابن أبي شيبة :حدثنا حفص وكيع ، عن مسعر ، عن جبلة ، عن ابن عمر قال : إني ﻷغتسل من الجنابة ثم أتكوى بالمرأة قبل أن تغتسل .
حكمه : صحيح ، رجاله كلهم ثقات ، (حفص بن غياث ، ووكيع بن الجراح ، ومسعر بن كدام ، وجبلة بن سحيم).
الحديث الرابع :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال : ذاك عيش قريش في الشتاء .
حكمه : حسن ، رجاله ثقات إلا إبراهيم بن مهاجر فمختلف فيه :
منهم من وثقه كابن سعد وابن شاهين والزهري .
ومنهم من ضعفه كابن معين وابن حبان والدارقطني .
ومنهم من توسط فقال (لا بأس به) كالثوري وأحمد والنسائي في رواية، وقال أبو داود : صالح الحديث .
ويرى الشيخ الألباني -رحمه الله - أن الأقرب هو قول من توسط ، فقد قال في [الصحيحة 317/2] : هو حسن الحديث إن شاء الله تعالى . اهـ
الحديث الخامس :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن حجاج بن أبي عثمان ،حدثنا يحيى بن أبي كثير ، قال : حدثني أبو كثير : قال قلت ﻷبي هريرة : الرجل يغتسل من الجنابة ثم يضطجع مع أهله ؟ قال : لا بأس به .
حكمه : صحيح ، رجاله كلهم ثقات ، (إسماعيل بن علية ، وحجاج بن أبي عثمان الصواف ويحيى بن أبي كثير ، وأبو كثير السحيمي) .
الحديث السادس :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، قال : كان الأسود يجنب فيغتسل ، ثم يأتي أهله فيضاجعها يستدفئ بها قبل أن تغتسل .
حكمه : ضعيف ، لعنعنة أبي إسحاق - وهو عمرو بن عبد الله السبيعي - فإنه مدلس ، ولم يصرح بالسماع .
الحديث السابع :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : كان علقمة يغتسل ثم يستدفئ بالمرأة وهي جنب .
حكمه : صحيح ، رجاله ثقات ، ولا تضر عنعنة الأعمش فإنها منه عن إبراهيم محمولة على الاتصال ، كما قال الإمام الذهبي رحمه الله في (ميزان الاعتدال 224/2) .
و (علقمة) هو ابن قيس النخعي ، ثقة ثبت فقيه عابد ،من كبار التابعين.
الحديث الثامن :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة أنه كان يستدفئ بامرأته ثم يقوم فيتوضأ وضوءه للصلاة .
حكمه : صحيح على شرط الشيخين .
وعلقمة هو - كما مر - : ابن قيس النخعي .
الحديث التاسع :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي أنه كان يغتسل من الجنابة ،ثم يجيء فيستدفيء بامرأته قبل أن تغتسل ، ثم يصلي ولا يمس ماء .
حكمه : ضعيف جدا ، فالراوي عن علي : الحارث بن عبد الله الأعور مجمع على ضعفه كما قال النووي في الخلاصة .
كما أن أبا إسحاق (السبيعي) وحجاجا (ابن أرطأة) مدلسان ولم يصرحا بالسماع .
الحديث العاشر :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا أبو خالد ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : إذا اغتسل الجنب ثم أراد أن يباشر امرأته فعل إن شاء .
حكمه : ضعيف جدا .
فيه ما في سابقه من العلل .
الحديث الحادي عشر :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : يباشرها وليس عليه وضوء .
حكمه : صحيح ، وعنعنة قتادة هنا لا تضر ، فإن الراوي عنه هو شعبة ، وقد قال شعبة : كفيتكم تدليس ثلاثة ، الأعمش وأبي إسحاق وقتادة [معرفة السنن للبيهقي 35/1]
وقال أبو عوانة في مستخرجه :حدثنا نصر بن مرزوق ، حدثنا أسد بن موسى قال : سمعت شعبة يقول : كان همتي من الدنيا شفتي قتادة ، فإذا قال (سمعت) : كتبت ، وإذا قال (قال) : تركت . اهـ
مع أن تدليس قتادة في الجملة قليل مغتفر كما قال العلامة الألباني- رحمه الله - في (الصحيحة 614/5) : تدليس قتادة قليل مغتفر ، ولذلك مشاه الشيخان ، واحتجا به مطلقا كما أفاده الذهبي ، وكأنه لذلك لم يترجمه الحافظ في التقريب بالتدليس ، بل قال فيه (ثقة) .اهـ
الحديث الثاني عشر :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع ، عن مبارك ، عن الحسن قال : لا بأس أن يستدفئ بامرأته بعد الغسل.
حكمه : ضعيف ، فمبارك - وهو ابن فضالة - صدوق يدلس ويسوي كما قال الحافظ في التقريب، ولم يصرح هنا بالسماع .
الحديث الثالث عشر :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع ، عن مسعر ، عن حماد : أنه كان يكرهه حتى يجف .
حكمه : صحيح ، وحماد هو : ابن أبي سليمان الفقيه المعروف ، وهو من صغار التابعين .
الحديث الرابع عشر :
قال ابن أبي شيبة : حدثنا شريك ، عن حريث ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل من الجنابة ثم يستدفئ بي قبل أن أغتسل .
حكمه : ضعيف ، فشريك وهو (ابن عبد الله النخعي) صدوق يخطيء كثيرا ، قاله الحافظ في التقريب .
و (حريث) - وهو ابن أبي مطر الفزاري - ضعيف .
وقد أخرج ابن ماجه هذا الحديث في سننه من طريق المصنف .
وأخرجه الترمذي من طريق هناد عن وكيع عن حريث به .
وقد حكم عليه بالضعف العلامة الألباني رحمه الله ، كما في ضعيف الترمذي برقم 123 ، ابن ماجه برقم 128 .
وأما قول الإمام الترمذي رحمه الله (هذا حديث ليس بإسناده بأس) فمتعقب ،تعقبه العلامة عبد المحسن العباد - حفظه الله - بقوله [بل فيه بأس] (شرح جامع الترمذي شريط 27)
فتلخص من هذا ثبوت :
1) قول ابن عمر : إني ﻷغتسل من الجنابة ثم أتكوى بالمرأة قبل أن تغتسل .
2) قول ابن عباس : ذاك عيش قريش في الشتاء .
3) قول أبي هريرة (لا بأس) لمن سأله عن (الرجل يغتسل من الجنابة ثم يضطجع مع أهله) .
4) قول إبراهيم : كان علقمة يغتسل ثم يستدفئ بالمرأة وهي جنب .
5) قول سعيد بن المسيب [يباشرها وليس عليه وضوء] .
6) وكراهية حماد لذلك حتى يجف .
فقه هذه الآثار :
1) أن بشرة الجنب طاهرة ؛ ﻷن الاستدفاء إنما يحصل من مس البشرة البشرة [شرح مشكاة المصابيح للمباركفوري 307/2]
2) طهارة عرق المرأة الجنب ، ولعابها وسؤرها ، كالرجل الجنب ، وكذا الحائض والجنب . [المصدر السابق] .
3) أن الرجل إذا اغتسل فلا بأس أن يستدفئ بامرأته ، قال الترمذي : [وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين]
فاستدفاء الرجل بامرأته لا بأس به ، لكن لا يقال (هو سنة !) ،
يقول الشيخ العلامة عبد المحسن العباد حفظه الله : إذا حصل أن الرجل فعل هذا فليس هناك مانع يمنع منه ، لكن لا يقال : إن ذلك سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ﻷن الحديث بذلك ضعيفا . اهـ (شرح جامع الترمذي شريط 27)
وهنا أود التنبيه أن إيراد الأئمة المصنفين كابن أبي شيبة والترمذي وابن ماجه لهذه الأحاديث في كتاب الطهارة : يدلك على أن مرادهم بذلك (أن الجنب ليس نجسا) ، ولو كان مرادهم بيان سنية الاستدفاء لأوردوا هذه الآثار في كتاب النكاح .
والمقصود أن الاستدفاء لا مانع منه ، لعدم المانع الشرعي ، وأكدت هذه الآثار هذا الجواز ، والله أعلم .
وأجدها فرصة طيبة في هذا المقام ﻷذكر إخواني بمكانة مصنف ابن أبي شيبة ،
وحسبك قول الحافظ ابن كثير رحمه الله في (البداية والنهاية 315/10) : المصنف الذي لم يصنف أحد مثله قط ،لا قبله ولا بعده! .اه
ـ
كما لا يفوتني أن أنبه أن دراستي السابقة هي لأسانيد ابن أبي شيبة خاصة ، فالأحكام السابقة هي على هذه الأسانيد ، وأشكر في الختام الشيخ عليا الرملي على تفضله بمراجعة بحثي ، والحمد لله رب العالمين .
كتبه أخوكم : أسامة الفرجاني
***تنبيه : قد راجع هذا البحث وأذن بنشره : الشيخ علي الرملي