منتديات التصفية و التربية السلفية  
     

Left Nav الرئيسية التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة Right Nav

Left Container Right Container
 
  #1  
قديم 27 Aug 2010, 09:24 PM
أبو مالك بوبكر جامع أبو مالك بوبكر جامع غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: قسنطينة - الجزائر
المشاركات: 47
افتراضي مَا السَّبِيلُ إِلَى تَحْصِيلِ العِلْمِ النَّافِع؟ للعلامة الألباني - رحمه الله -

بسم الله الرحمن الرحيم


الحَمْدُ للهِ الذِي سَهَّلَ لِعِبَادِهِ المُتَّقِينَ إِلَى مَرْضَاتِهِ سَبِيلًا، وَأَوْضَحَ لَهُمْ طُرُقَ الهِدَايَةِ وَجَعَلَ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ عَلَيْهَا دَلِيلًا، وَاتَّخَذَهُمْ عَبِيدًا لَهُ فَأَقَرُّوا لَهُ بِالعُبُودِيَّةِ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِهِ وَكِيلًا، وَكَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ لَمَّا رَضُوا بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَالحَمْدُ للهِ الذِي أَقَامَ فِي أَزْمِنَةِ الفَتَرَاتِ مَنْ يَكُونُ بِبَيَانِ سُنَنِ المُرْسَلِينَ كَفِيلًا، وَاخْتَصَّ هَذِهِ الأُمَّةَ بِأَنَّهُ لَا تَزَالُ فِيهَا طَائِفَةٌ عَلَى الحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُهُ وَلَوِ اجْتَمَعَ الثَّقَلَانِ عَلَى حَرْبِهِمْ قَبِيلًا، يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إِلَى الُهدَى، وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الأَذَى، وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللهِ أَهْلَ العَمَى، وَيُحْيُونَ بِكِتَابِهِ المَوْتَى، فَهُمْ أَحْسَنُ النَّاسِ هَدْيًا، وَأَقْوَمُهُمْ قِيلًا، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحَيَوْهُ، وَمِنْ ضَالٍّ جَاهِلٍ لَا يَعْلَمُ طَرِيقَ رُشْدِهِ قَدْ هَدَوْهُ، وَمِنْ مُبْتَدِعٍ فِي دِينِ اللهِ بِشُهُبِ الحَقِّ قَدْ رَمَوْهُ، جِهَادًا فِي اللهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، وَبَيَانًا لِحُجَجِهِ عَلَى العَالَمِينَ وَبَيِّنَاتِهِ، وَطَلَبًا لِلزُّلْفَى لَدَيْهِ وَنَيْلِ رِضْوَانِهِ وَجَنَّاتِهِ. [من مقدمة كتاب «مفتاح دار السعادة» لابن القيم رحمه الله تعالى -].

أَمَّا بَعْدُ:

فـ: مَا السَّبِيلُ إِلَى تَحْصِيلِ العِلْمِ النَّافِع؟
وَكَيْفَ نُوَفِّق بَيْنَ الأَحَادِيث المُتَعَارِضَة؟
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيث النَّهْي عَنْ وَضْعِ الخَاتَم فِي الخِنْصَر، وَحَدِيث لُبْسِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الخَاتَم فِي الخِنْصَر؟

يُجِيبُكَ العَلَّامَةُ الأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-
فِي الشَّرِيطِ رَقْم [392] مِنْ «سِلْسِلَةُ الهُدَى وَالنُّور» [00:12:52]:


يَجِب عَلَى طُلَّابِ العِلمِ جميعاً، إذا أرَادُوا التَّفقُّهَ فِعلاً فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه ِوآلِهِ وَسَلَّم عَلَى المَنهَجِ الذِي سَبَقَ مِنَّا بَيَانُهُ؛ يَجِب أَنْ يَتَوسَّعُوا فِي مَعرِفَةِ أصْلَينِ اثنَيْنِ مِنْ أُصُولِ عُلومِ الشَّرِيعَة؛ أمَّا الأَصْلُ الأَوَّل: فَهُوَ المَعرُوف عِنْدَ الفُقَهَاء بِـ«أُصُولِ الفِقهِ»، أَمَّا الأَصْلُ الآخَر: فَهُوَ المعرُوفُ بِـ«أُصُولِ عِلْمِ الحَدِيث»، وَلَا يَتَمَكَّنُ طَالِبُ العِلْمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِعْلاً طَالِبَ عِلْمٍ، أَوْ أنْ يَصِيرَ وَيَتَرَقَّى فِي دَرَجَاتِ هَذَا العِلْم حَتَّى يُصبِح عَالِماً يَلْجَأ النَّاس إِليْهِ لِحَلِّ مَشَاكِلِهِم، إِلَّا إذَا اعْتَمَدَ عَلَى هَذَيْنِ الأَصْلين:«أُصُول عِلْم الفِقْه»وَ«أُصُول عِلْم الحَدِيث»، لِأنَّهُ بِهِمَا يَتَمَكَّن مِنْ مَعرِفَةِ الحَقّ مِنَ الخَطَأ، وَالهُدَى مِنَ الضَّلَال.

مِنْ هَذِهِ القَوَاعِد الفِقْهِيَّة الأُصُولِيَّة قَوْلُ العُلَمَاءِ: إِذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ أَحَدُهُمَا يُبِيحُ شَيْئًا وَالآخَر يَنْهَى عَنهُ -وَالمَقْصُود بِالنَّصَّيْنِ هُوَ لَا شَكّ أَنَّهُ الْقُرْآن وَالسُّنَّة وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا إِلَّا كَمَا ذَكَرْنَا اسْتِعَانَةً عَلَى فَهْمِهِمَا- فَإِذَا جَاءَ نَصَّانِ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَان، فَكَيْفَ التَّوْفِيق بَيْنَهُمَا؟ وُجُوهُ التَّوفِيق كَثِيرَة وَكَثِيرَة جِدًّا، مُجْمَلَةٌ فِي بَعْضِ كُتُبِ الحَدِيث، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا الحَافِظ العِرَاقِي فِي شَرْحِهِ لِمُقَدِّمَةِ عُلُومِ الحَدِيث لابْنِ الصَّلَاح، فَأَوصَلَهَا إِلى أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ وَجْهٍ، مِائَةُ وَجْهٍ، بِوَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الوُجُوه أَوْ بِأَكْثَر يُمْكِن التَّوفِيق بَيْنَ حَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ بَيْنَ آيَةٍ وَحَدِيث، مِنْ هَذِهِ الوُجُوه التِي تَتَعَلَّق بِالجَوَاب عَنِ السُّؤَالِ الأَوَّل الذِي كَانَ:

أَنَّ هُنَاكَ حَدِيثًا فِي صَحِيح ابْن مَاجَهْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نَهَى عَنْ وَضْعِ الخَاتَم فِي الخِنْصَر، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ وَضَعَ ذَلِك.

لِلإِجَابَة عَنْ هَذَا الإِشْكَال، كَيْفَ يَنْهَى وَكَيْفَ يَفْعَلْ؟ تَأْتِي هَذِهِ الْقَاعِدَة الهَامَّة «إِذَا تَعَارَضَ حَاظِرٌ - حَاظِر مِنَ الحَظْر؛أَيْ مَانِع- وَمُبِيح قُدِّمَ الحَاظِر عَلَى المُبِيح»، وَبِهَذِهِ القَاعِدَة تَزُولُ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَة وَكَثِيرَة جِدًّا، بَعْضُ النَّاس يَتَنَبَّه لَهَا فَيَكُونُ الصَّوَابُ بِجَانِبِهِ، وَالبَعْضُ الآخَر لَا يَتَنَبَّه فَيَقَع فِي الخَطَأ أَوْ فِي التَّأوِيل الذِي يَلْزَمُ مِنْهُ كَثِيرٌ أَوْ قَلِيلٌ مِنَ التَّعْطِيل.

مَثَلا: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم عَنِ الشُّر بِ قَائِمًا وَشَرِبَ قَائِمًا، قَالَ «الفَخِذُ عَوْرَة» وَحَسَرَ عَنْ فَخِذِهِ، نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَر مِنْ أَرْبَع وَتَزَوَّجَ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام بِأَكْثَر مِنْ أَرْبَع، كَيْفَ التَّوْفِيق؟ القَاعِدَة: «إِذَا تَعَارَضَ الحَاظِر وَالمُبِيح قُدِّمَ الحَاظِر عَلَى المُبِيح» وَالآن، نَهَى أَنْ يَتَخَتَّم فِي الخِنْصَر، النَّهْيُ هُوَ المُقَدَّم، أَمَّا هُوَ تَخَتَّم - وَأَنَا أَذْكُر هَذَا وَأَقُولُ تَحَفُّظاً حَسْبَ مَا جَاءَ فِي السُّؤَال لِأَنِّي لا أَسْتَحْضِرُهُ - لَكِن إِذَا وُجِدَ الحَدِيث هَكَذَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم تَخَتَّمَ بِالصُّورَة التِي نَهَى فَحِينَئِذٍ لَا إِشْكَال، لأَنَّ النَّهْيَ مُقَدَّمٌ عَلَى الفِعْلِ، لِمَاذَا يُقَدَّم النَّهْى عَلَى الفِعْل؟ بَلْ هُنَاكَ قَاعِدَةٌ ثَانِيَة هِيَ أَوْسَع مِنَ القَاعِدَة الأُولَى، القَاعِدَةُ الأُولَى تَقُول: «إِذَا تَعَارَضَ حَاظِر وَمُبِيح قُدِّمَ الحَاظِر عَلَى المُبِيح»القَاعِدَة الثَّانِيَة تَقُول: «إِذَا تَعَارَضَ القَوْلُ وَالفْعْل قُدِّمَ القَوْلُ عَلَى الفِعْل» سَوَاءٌ كَانَ حَاظِرًا أَوْ آمِرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِك.

فَحِينَئِذٍ الجَمْعُ بَيْنَ الحَدِيثين المُخْتَلِفين فِيمَا يَتَعَلَّق بِالتَّخَتُّم فَهُوَ أَنْ نُقَدِّم نَهْيَهُ عَلَيْهِ السَّلَام، لأَنَّهُ أَوَّلًا حَاظِرٌ، وَثَانِيًا لأَنَّهُ قَوْلٌ، وَالقَوْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الفِعْل، لِمَاذَا ذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى تَقْدِيم القَوْل عَلَى الفِعْل بِعَامَّة؟ وَتَقْدِيمِ الحَاظِرِ عَلَى المُبِيحِ بِخَاصَّة؟

أَمَّا فِيمَا يَتَعَلَّق بِتَقْدِيمِ القول عَلَى الفِعْل لأَنَّ القَوْلَ تَشْرِيعٌ عَام لِجَمِيعِ المُسْلِمِين، أَمَّا فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالَسَّلاَّم فَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَمْرًا مِنْ ثَلاثَةِ أُمُور:

الأَمْرُ الأَوَّل: أَنْ يَكُونَ عَلَى الأَصْل، وَالأَصْلُ هُوَ الإِبَاحَة، الأَصْلُ هُوَ بَرَاءَة الذِّمَّة، بَيْنَمَا تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ أَحْكَام جَدِيدِة.

وَيُمْكِن أَنْ يَكُونَ: فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم لِحَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَة، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لا يُتْرَكُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الَسَلاَّم.

وَيُمْكِن أَخِيراً أَنْ يَكُونَ: مِنَ الأُمُور الخَاصَّة بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم التِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِين.

أَمَّا تَقْدِيم الحَاظِر عَلَى المُبِيح فَذَلِكَ أَوْلَى، لأَنَّهُ أَوَّلا قَوْلٌ، وَثَانِيًا أَنَّهُ حَاظِرٌ، وَالأَصْلُ فِي الأَشْيَاء الإِبَاحَة، فَإِذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ مِنْ خُصُوصِيَاتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَرُورَة أَوْ حَاجَة أَلَحَّتْ عَلَيْهِ بِهِ، حِينَئِذٍ يُقَال: كَانَ هَذَا فِي الأَمْرِ الأَوَّل قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ التَّشْرِيعُ الجَدِيد، فَمِنْ أَجْلِ هَاتين القَاعِدَتين «الحَاظِر مُقَدَّم عَلَى المُبِيح» «القَوْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الفِعْل» لا تَتَعَارَضُ الأَدِلَّة عِنْدَ طُلَّاب العِلْم فِي مِثْلِ الأَمْثِلَة التِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَهِيَ كَثِيرَة وَكَثِيرَة جِدًّا.

نَعَمْ، اِرْفَعْ صَوْتَكْ.

السَّائِل:نَجِدُ أَنَّ بَعْضَ العُلَمَاء مِنْ شُرَّاح الحَدِيث، مِثْلَ النَّوَوِي مَثَلًا فِيمَا ذَكَرْتَ مِنْ تَعَارُضِ أَحَادِيثِ الشُّرْبِ قَائِمًا وَفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، يَقُولُ النَّوَوِي فِي هَذَا: نَذْكُرُ الصَّوَابَ فِي المَسْأَلَة، وَهُوَ أَنَّ نَهْيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيه، وَأَنَّ فِعْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالَسَّلاَّم وَأَنَّ أَمْرَهُ بِالاسْتِقَاءِ كَمَا هُوَ لِلاسْتِحْبَابِ فَلَا إِشْكَالَ وَلَا تَعَارُض، فَنَجِدُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ حَاظِرٌ وَنَصٌّ مُبِيح، يَقُولُونَ: إِنَّ النَّصَّ المُبِيح يُخَفِّف وَأَنَّ فِعْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والَسَلاَّم...

الشَّيْخ: مَا سَمِعْتُ كَلامَكَ الأَخِير، أَمَّا الأَوَّل مَفْهُوم (كلُّو).

السَّائِل:إِذَا جَاءَ نَصٌّ حَاظِر مَانِع وَجَاءَ نَصٌّ مُبِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فَإِنَّ النَّصَّ المُبِيح، أَوْ أَنَّ فِعْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والَسَلاَّم يُخَفِّف مِنْ حُرْمَةِ هَذَا الشَّيْء فَيَنْتَقِلُ مَثَلًا مِنَ التَّحْرِيمِ إِلَى الكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّة، أَوْ يَنْتَقِلُ مِنَ الوُجُوبِ إِلَى الاِسْتِحْبَابِ، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَدْ تَرَكَ هَذَا الشَّيْءَ الذِي أَمَرَ بِهِ.

الشَّيْخ: فَهِمْتُ عَلَيْكَ، وَالجَوَابُ سَبَقَ ضِمْناً فِيمَا قُلْتُهُ آنِفاً، وَهُوَ:

أَنَّ بَعْضَ العُلَمَاءِ يَتَأَوَّلُونَ بَعْضَ النُّصُوص لِلتَّوْفِيق بَيْنَ الحَاظِر وَالمُبِيح، فَيَقَعُونَ فِي شَيْءٍ مِنَ التَّأْوِيل الذِي لَا يَجُوز، وَالآنَ لَابُدَّ مِنْ تَفْصِيل القَوْل عَلَى هَذَا الإِيجَاز بَعْدَ أَنْ جَاءَ هَذَا السُّؤَال:

أَوَّلًا: يُمْكِن أَنْ يُصَارَ إِلَى مِثْل هَذَا التَّأْوِيل فِيمَا لَوْ ثَبَتَ لَدَيْنَا أَنَّ شُرْبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم كَانَ بَعْدَ النَّهْيِ، وَأَظُنُّ أَنْ لَا أَحَدَ يَسْتَطِيع أَنْ يُثْبِتَ لَنَا أَنَّ فِعْلَهُ -شُرْبَهُ قَائِماً- كَانَ بَعْدَ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم، هَذَا أَوَّلًا. وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِحَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ ثَانِيًا. وَلَا أَقُول وَثَالِثًا: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ خُصُوصِيَّة لَهُ، لَكِنِّي أَقُول: لَا يُمْكِن إِثْبَات أَنَّ شُرْبَهُ قَائِماً كَانَ بَعْدَ النَّهْيِ وَلِغَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ، هَذَا لَا يُمْكِن إِثْبَاتُهُ، يَعْنِي شَيْئين هُنَا؛ التَّأَخُّر -تَأَخُّر الفِعْل عَنِ النَّهْي- وَمَعَ التَّأَخُّر فَعَلَهُ لِغَيْرِ حَاجَة، لَوْ تَوَفَّرَ هَذَانِ الشَّرْطَان: تَأَخُّر الفِعْل المُخَالِف لِلنَّهْيِ، وَمَعَ التَّأَخُّر كَانَ لا لِغَيْر، حِينَذَاكَ يَصِحّ هَذَا التَّأْوِيل.

أَمَا -وَلا سَبِيلَ فِي اعْتِقَادِي- وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْم فَلْيَتَفَضَّلْ بِهِ، لا سَبِيلَ فِي اعْتِقَادِي إِلَى إِثْبَات هَذين الأَمْرين، وَأَرْجُو الإِنْتِبَاه لِمَا أَقُول حَتَّى لا يُفَاجِئَنَا أَحَدٌ، فَيَقُول مَثَلاً: شَرِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم مِنْ زَمْزَمْ قَائِمًا، وَهَذَا المَفْرُوض أَنَّهُ فَي آخِر حَيَاتِهِ، فَأَنَا أَقُول شَرْطَانِ اثْنَان: أَنْ يَتَأَخَّرَ الفِعْلُ، وَأَنْ يَثْبُتَ أَنَّ هَذَا الفِعْل كَانَ لَا لِحَاجَة، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ كَانَ لِغَيْرِ ضَرُورَة .

شَيْءٌ ثَانِي وَمُهِمّ جِدًّا: هَذَا التَّأْوِيل يُسْتَسَاغُ فِيمَا لَوْ كَانَ هُنَاكَ فَقَطْ نَهْيٌ، أَمَا وَهُنَاكَ أَشَيَاء أُخْرَى تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ المَصِير إِلَى مِثْلِ هَذَا التَّأْوِيل بِالرَّغْم أَنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مَا ذَكَرْتُ آنِفًا مِنَ الجَهْلِ بِتَأَخُّرِ الفِعْلِ، وَأَنَّهُ فُعِلَ لِغَيْرِ حَاجَة، وَاضِحْ إِلَى هُنَا؟ طَيِّبْ.

أمَّا هَذَا الشّيء، فَهُوَ:

أَوَّلاً: يُمْكِنُ لِكُلِّ فَقِيهٍ أَنْ يَتَأَوَّلَ نَهيَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم عَنْ شَيْءٍ مَا بِأَنَّهُ لِلتَّنْزِيهِ وَلَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ بِشُبْهَة مِنْ تِلْكَ الشُّبَه، لَكِنْ إِذَا وَقَفَ أَمَامَهُ نَصٌّ يَحُولُ بَيْنُهُ وَبَيْنَ التَّأْوِيلِ المَذْكُور فَحِينَئِذٍ سَيَضْطَرُّ أَنْ يَقِفَ مَعَنَا فِيمَا ذَكَرْنَا مِنَ الوُقُوف مَعَ الحَاظِر وَتَرْك النَّصّ المُبِيح لِسَبَب مِنَ الأَسْبَاب الثَّلَاثَة.

مَثَلًا عِنْدَنَا حَدِيثُ مُسْلِم: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم عَنِ الشُّرْبِ قَائِماً»، مُمْكِن تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيه، وَلَكِنْ مَاذَا نَقُولُ فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى وَهِيَ فِي صَحِيح مُسْلِم: «زَجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا»، وَأَنَا أَدْرِي وَأَعْلَم أَنَّ العُلَمَاء يَتَأَوَّلُونَ النَّهْيَ تَارَةً لِلتَّحْرِيم وَتَارَةً لِلتَّنْزِيه، وَلَكِنِّي لا أَعْلَم أَنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ - فَضْلا عَنْ أَنَّنِي لا أَعْلَم أَنَّهُمْ فَعَلُوا - فَتَأَوَّلُوا الزَّجْرَ بِمِثْلِ مَا تَأَوَّلُوا النَّهْيَ، لأَنَّ الزَّجْرَ فِيمَا أَفْهَمْ أَبْلغُ مِنَ النَّهْي، فَالزَّجْرُ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ مُبَالَغَة فِي النَّهْيِ، فَإِذَا كَانَ الزَّجْرُ قَدْ جَاءَ فِي الرِّوَايَة الصَّحِيحَة عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا، حَالَ هَذَا اللَّفْظُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَأْوِيل النَّصّ بِأَنَّهُ لِلْكَرَاهَة التَّنْزِيهِيَّة، (لَأَنُّو) الكَرَاهَة التَّنْزِيهِيَّة قَدْ يُنْهَى عَنْهَا وَلَكِنْ لا يُزْجَرْ عَنْهَا .

شَيْءٌ ثَانٍ وَأَخِير: لَقَدْ جَاءَ فِي مُسْنَد الإِمَام أَحْمَد وَغَيْرِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم رَأَى رَجُلًا يَشْرَبُ قَائِماً فَقَالَ لَهُ: يَا فُلَان! أَتَرْضَى أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الهِرّ؟ قَالَ: لَا يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فَقَدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ الشَّيْطَان» هَذِهِ قَرِينَة أَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان، وَالمُتَبَادَر مِنْ مِثْلِ هَذَا النَّصّ وَالحَالَةُ هَذِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِن تَفْسِير هَذَا التَّعْبِير بِأَنَّهُ لِلْكَرَاهَة التَّنْزِيهِيَّة، ثُمَّ يَأْتِي أَخِيرًا تَمَامُ الحَدِيث، فَيَقُولُ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة لِهَذَا أَوْ لِغَيْرِهِ «قِيءْ، قِيءْ» أَيْ؛ أَفْرِغْ، أَخْرِجْ هَذَا المَاء الذِي شَرِبْتَهُ قَائِمًا، لأَنَّ الشَّيْطَانَ شَارَكَكَ فِيهِ، فَهَلْ أَيْضًا يُقَالُ فِي هَذَا الأَمْرِ الثَّقِيل عَلَى الطِّبَاع، إِنَّهُ أَيْضًا لِلْكَرَاهَة التَّنْزِيهِيَّة؟ هَذَا مَا أَسْتَبْعِدُهُ جِدًّا، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى التَّصْرِيح بِأَنَّ هَذَا النَّهْي الوَارِد فِي الأَحَادِيث الْكَثِيرَة - النَّهْي عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا - بَعْضُ عُلَمَاءِ الحَنَفِيَّة الذِينَ هُمْ مِنْ أَوْسَع النَّاس فِي تَأْوِيلِ النَّهْي إِلَى الْكَرَاهَة فَقَال: (أنُّو) هَذَا الحَدِيث يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيم الشُّرْب قَائِمًا، هَذَا لِغَيْرِ المَعْذُور. وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الأَحَادِيث أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم شَرِبَ قَائِمًا أَنَّهُ كَانَ مَعْذُوراً، أَوْ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ، لأَنَّ الأَصْل هُوَ بَرَاءَة الذِّمَّة كَمَا قُلْنَا، وَالأَصْل فِي الأَشْيَاء الإِبَاحَة، وَالشَّرِيعَة لَمْ تَأْتِ طَفْرَةً وَاحْدَةً، بَل الخَمْر المُحَرَّمَة بِإِجْمَاع الأُمَّة، تَعْلَمُونَ جَمِيعًا الأَدْوَار التِي دَارَتْ فِي تَحْرِيمِهَا، فَمَا بَالُكُمْ فِي الشُّرْبِ قَائِما، هَلْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ الوَاجِبَاتِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم أَنْ يَنْهَى النَّاسَ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا؟ لَا، أَنَا أَعْتَقِد أَنَّ هَذَا مَا جَاءَ إِلاَّ فِي الأَزْمِنَة المُتَأَخِّرَة، أَيْ فِي العَهْد المَدَنِي، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِن الأُمُور المُتَعَلِّقَة بِالعَقِيدَةِ وَالتَّوْحِيد .

هَذَا جَوَاب مَا سَأَلْتَ مِنْ ذَهَابِ بَعْضِ العُلَمَاء إِلَى تَأْوِيلِ النَّهْيِ لِلْكَرَاهَة، فَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَذَا التَّأْوِيل أَمْرَانِ اثْنَان بِاخْتِصَار :

الأَمْر الأَوَّل: أَنَّنَا لَا نَعْلَم أَنَّ الفِعْلَ كَانَ بَعْدَ النَّهْيِ وَالزَّجْرِ، وَبَعْدَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الَسَلاَّم لِمَنْ شَرِبَ قَائِماً: «قِيءْ».

وَثاَنِيًا: أَنَّ بَعْض أَلْفَاظ الحَدِيث تَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ تَأْوِيل النَّهْي لِلتَّنْزِيه.

...

رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
الألباني, العلم, تزكية

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


Powered by vBulletin, Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd
Salafi Tasfia & Tarbia Forums 2007-2013