يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} والقوَّام صيغة مبالغة، أي: كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو العدل في حقوق الله وحقوق عباده، فالقسط في حقوق الله أن لا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته.
والقسط في حقوق الآدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك كما تطلب حقوقك. فتؤدي النفقات الواجبة، والديون، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، من الأخلاق والمكافأة وغير ذلك.
ومن أعظم أنواع القسط القسط في المقالات والقائلين، فلا يحكم لأحد القولين أو أحد المتنازعين لانتسابه أو ميله لأحدهما، بل يجعل وجهته العدل بينهما، ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان، حتى على الأحباب بل على النفس.اهـ من تفسيره.
لقد كثر التشنيع على بعض مشايخ الإصلاح بدعوى ثنائهم على مخالف ما ، أو على كتابٍ علميٍّ بحتٍ لمبتدع !
ومن ذلك أنه لمّا أثنى الشيخ عبدالخالق ماضي على كتاب "العجالة" لعابدين (1)، طار بذلك القوم و عدّوه من المثالب العظيمة ، و الأخطاء المنهجية التي لا تغتفر !
بل تعدّوا فجعلوا الثناء على الكتاب ثناء على صاحبه ضرورة ! فألزموه بعد ذلك البراءة منه ، فتبرأ ولم يقبلوا منه !
و كذلك فعل القوم مع ثناء الشيخ عزالدين رمضاني على الشيخ محمد باي بلعالم رحمه الله!
هذا و الشيخ محمد باي على أشعرية فيه ، فهو فقيه مالكي قويّ ، لم يعرف بالعداوة لا للسّلفية ولا لأهلها ، بل لم أجد في مؤلفاته -في حدود بحثي- مؤلفًا خاصا لخدمة العقيدة الأشعرية ، إلاّ ما تناثر في بعض شروحه للمتون الفقهية الّتي تناولت في مقدماتها بعض مسائل الاعتقاد كشرحه على متن البشار وغيره .
وهذا شأن شراح الفقه من المخالفين ، فكم من شرح لكتاب من كتب المقاصد أو الآلة عدا كتب العقيدة ، تجد من أئمة السّلفيين شرحا لها و اعتناء بليغًا بها ، فحذ مثلا ألفية السيوطي وفي السيوطي من البدع ما فيه ، بل خذ شروحهم على الآجرومية و الجوهر المكنون للأخضري ، بل خذ في الفقه المالكي مختصره و متن ابن عاشر و غيرها من متون العلم و كتبه ، مما صُنِّف لتحقيق تلك العلوم و تفهمها لا لتأصيل بدعة ما ، ترى عجبًا من الاعتناء و كتابة و تدريسًا.
فلذلك تجدهم –مثلا- يرشدون الناس إلى كتب البلاغة الجرجانية مع كونه أشعريًا ، ولا يرشدون لكتب البلاغة الزمخشرية لتبايُن الرجلين في منهجية التأليف ، فالأول يؤلف للعلم وحده ، و الثاني يؤلف في العلم لنصرة اعتقاده!
و لأجل هذا المعنى يقول العلامة عبيد الجابري في بيان كيفية التعامل مع كتب المبتدعة ، فيقول في القسم الثالث منها :
«الثالثُ ما كان خالياً من البدعة، صاحبهُ مبتدع مُؤلفه مبتدع ولكنَّ الكتاب ليس فيه بدعة، يؤلفُ مثلاً في الفقه، في الطهارة، في البيوع، ولا يدسُّ، يقول ليس لي شأن، أنا أؤلف أطلب المعيشة، أطلب الرزق من هذا التأليف، أو يأخذ مثلاً كتاباً من كُتُب الحديث ويرتبه وينظمُ أبوابهُ ويُرقمه فقط، ولا يدخل شيئاً من بدعته، فهذا إذا أرشدك إليه عالمٌ متمكنٌ أرشدك إلى هذا الكتاب، وقال لك: إن كتاب فُلان ليس فيه بدعة، طالعتهُ وخبَرتهُ، الكتاب الفلاني ليس فيه شيءٌ من بِدَعِه، فلا مانع من قراءته» اهـ. (2)
وأردفُ -أيضا- فقرةً من جواب الشيخ محمد علي فركوس –وفقه الله- في توجيه الاستفادة من كتب المبتدعة ، يقول فيها : «..........فقد كان من عدل سلفنا الصالح ، قبول الحقِّ من أيِّ جهة كان ، إذ لا أثرَ للمتكلِّم بالحقِّ في قَبوله ورفضه؛ ولذلك استفاد علماؤنا مِنْ كُتُبِ ابنِ حجرٍ والنوويِّ والقرطبيِّ والغزَّاليِّ مِنَ الأشاعرة وغيرهم؛ وفي هذا السياقِ قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «فمَنْ هَدَاهُ اللهُ سبحانه إلى الأخذ بالحقِّ حيث كان ومع مَنْ كان ولو كان مع مَنْ يبغضه ويُعاديه، وردِّ الباطل مع مَنْ كان ولو كان مع مَنْ يُحِبُّه ويُواليه؛ فهو ممَّنْ هُدِيَ لِمَا اختُلِفَ فيه مِنَ الحقِّ»(الصواعق ظ¢/ظ¥ظ،ظ¦)»اهـ كلام الشيخ.(3)
و ها هنا أمور :
لو كان كلّ ثناء على مخالف ما ، أو كتابٍ له انحرافًا ، فما يقول قومنا فيمن يثني على كتاب زندقة و ضلالة ، ويردف كلامه بثلب اعتقاد المؤلِّف على وجهٍ ضعيف باردٍ ، لا يقوم أمام ذلك الثناء الفخم؟ !
فها هو الشّيخ محمد فركوس ، يقول عن كتاب ابن سينا "الإشارات" :
هو كتاب الإشارات و التنبيهات لابن سينا ، ألفه في آخر حياته ، و أضاف إلى فصول المنطق والطبيعيات والإلهيات فصلا خاصًا بالتصوّف، ويمتاز الكتاب بسموّ التعبير وعمق الآراء، الأمر الذي يجعله مستقلا عن نظريات المدارس الأخرى، وعليه مآخذ عقدية. اهـ (4)
نعم أيّها الإخوة كتاب ابن سينا لا غيره. و لقائل أن يقول لعل كتاب "الإشارات" كتاب لطيف لم يحوِ ضلالات كبيرة ، فكان التنبيه على ما فيه بحسبه!
و الحق أن تكفير الأئمة لابن سينا كان بسبب ما بثّه في الإشارات وغيره من القول بقدم العالم ! و إنكار البعث الجثماني! عدا انتحاله مذهب غلاة الجهمية، و إقراره أنه قرمطي عبيدي هو وأبوه وكلّ أهل بيته!
أوّه ! المعاد الجثماني ؟! و قدم العالم ؟!
نعم يا أخي ، وهذا ما قاله الإمام ابن القيم -رحمه الله- عنه : " وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم [يعني : الحاكم بأمر الله ، العُبَيْدي ، الذي كان يحكم بمصر] .
فكان من القرامطة الباطنية، الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا ربٍّ خالق، ولا رسولٍ مبعوث جاء من عند الله تعالى" اهـ (5)
وعلى احتمال أن في كتابه بعض الحقّ ،فإنّه بلغة الفلاسفة , ومرقوم لنصرة الزندقة و الضلالة ، ولذلك حرّم ابن الصلاح –رحمه الله- قراءة كتبه جملةً ، وقال فيه :(وَلم يكن من الْعلمَاء بل كَانَ شَيْطَانا من شياطين الْإِنْس وَكَانَ حيران فِي كثير من أمره ينشد كثيرا :
إِن كنت أَدْرِي فعليّ بَدَنَهْ *** من كَثْرَة التَّخْلِيط من أَنهْ ) اهـ (6)
فليس ابن سينا من يُرْشَدُ إلى كتبه أو يمتدح تصنيفه ، وليس –والله- سامي التعبير ، و لا عميق الآراء !
و أي سموّ وعمقٍ في الزندقة و سب الصحابة ، والقول بقدم العالم ، ونفي الصفات جملة ، وإنكار البعث الجثماني، وادّعاء أن النبوة رياضة، و الزعم أن كلام الله فيوض لا حقيقة! وزد و زد من الضلالات و الكفريات !
و إننا نسوق هذا الاعتراض إلزامًا ، لا تشنيعًا ، فما أنتم قائلون !.
****
و عودا على بدء ، فإنّ الشيخ محمد باي نظير الشيخ محمد الطاهر آيت علجت ، في الفقه و علم الآلة بل و أشبه به في مواقفه من السّلفيين التي لم تكن مواقف معاداة ولا منافرة !
وها هنا أمران :
الأول : اعلموا أنّ الشيخ عبدالمجيد جمعة -وفقه الله- ، لم يكن مجرّد رجل أثنى على الطاهر آيت علجت ، بل كان ينصح الإخوة السلفيين أن يدرسوا على هذا الأشعريّ !! بل أكثر من ذلك ، فقد كان يوصي أحد إخواننا أن يُقْرِأ الشّيخ محمدا الطاهر السّلام ، ويقول له : سلّم على شيخنا !
و هذا بعدما نصحه بالدراسة على الشيخ محمد الطاهر ، فما أنتم قائلون يا مصعفقة ! (7)
أكنتم تجعلون هذا الصنيع في جملة الانحرافات المنهجية للشيخ جمعة؟!
إنّي أعيذكم أن تفعلوا ذلك بالشيخ جمعة، فاتقوا الله و توبوا من صنيعكم هذا مع مشايخ الإصلاح !
الثاني : أنّ الشيخ لزهر سنيقرة أثنى على الحبيب بن الطاهر وكتابه (الفقه المالكي وأدلته) ! بل وعلى الغريانيّ الإخواني و كتابه ، و وصفه بالفقه و التمكن فيه ! (8)
هذا ولتعلموا أنّ الحبيب بن الطاهر لم يكن إنسانًا لطيفا مسالمًا لأهل السّنة ، بل كان خادمًا للعقيدة الأشعرية ، منافحًا عنها ،ساعيًا في إحياء مصنفات التّونسيين فيها ، فقد حقق جملة من كتبهم منها (9) :
ظ،-تحقيقه كتاب: (مبلغ الطالب إلى معرفة المطالب) لعلي المؤخر الصفاقسي، وهو شرح على (العقيدة النورية في اعتقاد الأئمة الأشعرية) لعلي بن سالم النوري الصفاقسي.
ظ¢ـ تحقيقه كتاب (تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد) تأليف الشيخ علي المؤخر كذلك، وهو شرح على جوهرة التوحيد للقاني ، وهي من أشهر منظومات الأشاعرة التي منها البيت الشائع ، الذي هو قانون الأشاعرة :
وكلّ نص أوهم التشبيها // أوِّله أو فوض و رُمْ تنزيها
ظ£ـ تحقيقه كتاب (النكت المفيدة في شرح الخطبة والعقيدة) ، لمحمد بن سلامة الأنصاري التونسي، وهو شرح لعقيدة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني.
ظ¤-ـ تحقيقه كتاب (تحرير المقالة في شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني) لأحمد القلشاني ـ قسم العقيدة ـ (بالاشتراك مع غيره).
ظ¥ـ دراسة بعنوان : (ابن أبي زيد القيرواني وعقيدته في “الرسالة” و”الجامع”، دراسة في المنهج والمضمون).
وهذه الكتب الثلاثة الأخيرة هي من أخطر ما يكون من كتبه ، لأنها كتب عمدت إلى كتاب الرسالة للإمام ابن أبي زيد القيرواني السلفي ، فشرحته بنفس أشعري ، و طوعته لهوى المؤولة منهم و المفوّضة ، و أخطر من ذلك دراسته الموضوعية المزعومة حول اعتقاد القيرواني في الرسالة و الجامع ،فإن الحبيب بن الطاهر اجتهد في محاولة إظهار أن اعتقاد القيرواني هو نفس اعتقاد الأشاعرة ، وهذا من أوضح الزيف عند العقلاء ، ومن أخطره على الدهماء .
ظ¦ـ تحقيق كتاب (الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به) للقاضي أبي بكر الباقلاّني.
ظ§ـ تحقيق كتاب (هداية المريد لجوهرة التوحيد) ، لإبراهيم اللّقاني (وهو شرح المؤلف لمنظومته جوهرة التوحيد).
فها هم أولاء الفقهاء المالكيون الّذين ينصح بهم الشيخ لزهر ، وهم أخطر على معتقد السلف من غيرهم ، فمن الذي غرّر بالمبتدئين و وجههم ناحية المنحرفين ، ليقتبسوا بزعمه الفقه أو علوم الآلة ، انطقوا يا منصفون ؟!
ولا حول ولا قوة إلا بالله
كتبه : محبّ المنصفين و مبغض الكائلين بمكياليْنِ!
أبو عبدالرحمن امحمد العكرمي
ليلة الأحد ظ،ظ£ محرم ظ،ظ¤ظ¤ظ* هجري
الموافق ظ¢ظ£ سبتمبر ظ¢ظ*ظ،ظ¨ ميلادي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - كنت كتبتُ في مقال (فأر الحقول) أن الشيخ عبدالخالق أثنى فيما مضى على عابدين ، حتى لقيته يومًا ما ، ونبهني -رفع الله شأنه- أنه إنما أثنى على كتاب العجالة لا على المؤلف ، وأنه لم يسبق له ثناء على عابدين صرف ، حتى أنه تحدى الطاعنين أن يثبتوا ذلك الادّعاء ! فلأجل هذا الغلط الذي سبق ، وجب التنبيه ، و أكرر ها هنا الاعتذار من الشيخ كتابةً.
7 - خبر حثّ الشيخ جمعة الإخوة على الدّراسة عند الشيخ محمد الطاهر شائع ذائع قارب حدّ الاستفاضة إن لم نقل إنّه متواتر ، ومع ذلك فقد حدّثني به أخد خواص الشيخ قبل سنين عددا ! و قد صرّح به كذلك أخونا يوسف بلقاضي ، إذ قد نصحه بالدراسة عليه منذ زمن، ومن أراد أن يتأكد فليسأل الشّيخ نفسه ، على أنني أحسب الشيخ أعقل من أن ينكر مثل هذا الخبر الشّائع ، فلا حاجة للتثبت منه أصلا.
جزاك الله خيرا أخي أبا عبد الرحمن
كتاب "تحقيق مفتاح الوصول" للشيخ فركوس لو اطلع عليه المصعفقة وأعملوا فيه قواعدهم الجائرة لما خرجوا إلا بالتحذير من الشيخ وإلحاقه بمشايخنا الأفاضل.
ولكن المصعفقة لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يعدلون.
الكيل بمكيالين عند المهمّشة!! (الموقف من كتب المخالفين والمثنين عليها،أنموذجًا)
العرض العادي
