إتحاف السُّنيِّ بالعلاقة بين كرامة الوليِّ وآية النَّبيِّ
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد:
فإن مراتب خرق العادة ثلاثة: «آيات الأنبياء، ثم كرامات الصَّالحين، ثم خوارق الكفَّار والفجَّار كالسَّحرة والكهَّان وما يحصل لبعض المشركين وأهل الكتاب والضُّلال من المسلمين»، والثالث هو ما يسمى بالحال الشَّيطانيِّ، والفرق بين هذه الخوارق أحد أسباب تصنيف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه: «النُّبوَّات».
والنَّاس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام:
1ـ منهم من يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء، وستأتي الإشارة إلى حجتهم وجوابها.
2ـ ومنهم من يظنُّ أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان وليًّا لله.
3ـ والموفَّقون الَّذين يؤمنون بما كان لغير الأنبياء من الكرامات، ويفرقون بينها وبين ما كان لغيرهم من الأحوال الشَّيطانيَّة. ولهذا الغرض صنَّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتابه الآخر في هذا الباب «الفرقان بين أولياء الرَّحمن وأولياء الشَّيطان».
ثم إنَّ من أصول أهل السُّنَّة والجماعة الإيمان بما صح وثبت من كرامات الأولياء الَّتي هي من دلائل صدق نبوَّة النَّبيِّ وتعدُّ كذلك من آياته، ولبيان هذه النِّقاط من كلام العلماء رحمهم الله وصنيعهم كان المقال -والحامل عليه عتابٌ لطيف وصلني عن أخي أبي معاذ محمَّد مرابط –حفظه الله ووفقه- فأهديه له تلبيةً لرغبته فأرجو أن تقرَّ عينه به- وقد رتَّبت الكلام فيه على ثلاثة مسائل
المسألة الأولى: الإيمان بكرامات الأولياء والفرق بينها وبين آيات الأنبياء
«الكرامات جمع كرامة والكرامة في اللغة: من الإكرام، وهو ما يؤتى المكرم من هبة وعطية وهي في باب الكرامة من الله عز وجل، وفي الاصطلاح عرفت كرامة الولي بأنها: «أمر خارق للعادة جرى على يد وليٍّ»»[شرح العقيدة الطحاوية للشيخ صالح] وأمَّا أولياء الله تعالى فقد بينهم الله تعالى بقوله: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون»[يونس: 62-63] واشتهر قول شيخ الإسلام رحمه الله: «فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا».
فمن أصول أهل السُّنة والجماعة الإيمان بما صحَّ من كرامات الأولياء قال أبو جعفر الطَّحاويُّ رحمه الله في «عقيدته»: «ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم»، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الواسطيَّة»: «ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء وما يجري على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات...»، وصنَّف اللالكائي رحمه الله كتاب «كرامات أولياء الله عز وجل» فذكر فيه أدلَّتها وما ورد منها في كتاب الله جل وعلا، وما جاء في سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، وما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم وعمن جاء بعدهم.
وهي موجودة إلى قيام السَّاعة إذ أخبر النَّبي صلى الله عليه وسلم عن عدم تمكُّن المسيح الدَّجال من قتل الشابِّ الَّذي عرف صفاته وهي من الكرامات، وكذلك يقال: أنَّ سبب الكرامة وهي الولاية لا تزال موجودة إلى يوم القيامة فكذلك الكرامة.«شرح العقيدة الواسطيَّة»لابن عثيمين رحمه الله (632-633).
وخالف أهلَ السنة والجماعة في هذا الأصل المعتزلةُ، فقالوا: «لا تخرق العادة إلا لنبيٍّ، وكذَّبوا بما يذكر من خوارق السَّحرة والكهان، وبكرامات الصَّالحين»[«النبوات»(129-130)]، وقولهم في ذلك «ظاهر البطلان، فإنَّه بمنزلة إنكار المحسوسات» [«شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز (758-759)].
والحامل لهم على إنكارها قولهم: «لو صحَّت لاشتبهت بالمعجزة فيؤدي إلى التباس النَّبي بالولي، وذلك لا يجوز».
ويردُّ عليهم أنَّ «هذه الدَّعوى إنَّما تصحُّ إذا كان الوليُّ يأتي بالخارق ويدَّعي النُّبوَّة، وهذا لا يقع»[«شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (759)].
أما الفرق بين كرامات الأولياء وآيات الأنبياء فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه «النُّبوات»(804) أنَّ كرامات الأولياء معتادة من الصَّالحين، ومعجزات الأنبياء فوق ذلك؛ وأنَّ آيات الله تعالى كبيرة وصغيرة، والآيات الكبرى مختصَّة بالأنبياء قال تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: «لقد رأى من آيات ربه الكبرى» وقال تعالى عن موسى: «فأراه الآية الكبرى»، وأما الآيات الصُّغرى الَّتي قد تكون للصَّالحين فمع وجود جنسها إلا أنَّها لا تكون مماثلة لآية النَّبيِّ في قدرها وكيفيَّتها، كتكثير الطَّعام مثلا، وعدم الاحتراق بالنَّار، فيشارك الوليُّ النبيَّ في جنس الآية فقط لا في قدرها وكيفيَّتها، وهذا خلافا للأشاعرة الَّذين يسوُّون بين كرامات الأولياء وآيات الأنبياء من كل وجه.
وأشار شيخ الإسلام رحمه الله (138-141) إلى أنَّ بعض الفروق ضعيفة «من مثل قولهم: إن الكرامة يخفيها صاحبها، أو الكرامة لا يتحدى بها.
ومن الكرامات ما أظهرها أصحابها؛ كإظهار العلاء بن الحضرمي المشي على الماء، وإظهار عمر مخاطبة سارية على المنبر، وإظهار أبي مسلم لما ألقي في النار أنها صارت عليه بردا وسلاما...
ومنها ما يتحدى بها صاحبها أن دين الإسلام حق كما فعل خالد بن الوليد لما شرب السم، وكالغلام الذي أتى الراهب وترك الساحر وأمر بقتل نفسه بسهمه باسم ربه وكان قبل ذلك قد خرقت له العادة فلم يتمكنوا من قتله».
المسألة الثانية: كرامة الوليِّ من دلائل نبوَّة النَّبي
يظهر هذا الأمر للمتأمِّل في صنيع الأئمَّة ممَّن كتب في هذا المبحث كـ«دلائل النبوة» لأبي نعيم الأصبهاني والبيهقي رحمهما الله، فإنَّهم يذكرون من ضمن دلائل النُّبوة كرامات وقعت للصَّحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقد أشار إلى هذه المسألة القرافي رحمه الله في كتابه «الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة»(371-372) فقال: «وكفى بعمر وشيعته دليلا على صحَّة نبوَّته عليه السَّلام فإن أتباع المبطلين لا تكون لهم الكرامات ولا تخرق لهم العادات، وعمر رضي الله عنه بنادي سارية من المدينة وسارية في أرض فاريين «يا سارية الجبل» فسمعه سارية من هنالك، فالكرامة للاثنين في السماع والاستماع رضي الله عنهم أجمعين».
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه «النُّبوات»(501-502): «كرامات الأولياء هي من دلائل النُّبوَّة، فإنَّها لا توجد إلا لمن اتَّبع النَّبيَّ الصَّادقَ».
ومن الَّلطائف أنَّ الطَّريقة المشهورة عند المتكلِّمين تقرير النُّبوَّة بالمعجزات فقط، وكثيرٌ منهم يلتزمُ إنكار خرق العادات لغير الأنبياء حتى لا تشتبه في زعمهم بالمعجزة التي حصروا دليل النبوة فيها، فيؤدي ذلك إلى إبطال النبوة، فانتقلوا من تضييق إلى إنكار، نسأل الله أن يسلمنا من طرائقهم وأن يعافينا من صنيعهم.
وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون النبوَّة بالدلائل الصَّحيحة المتنوعة والتي منها كرامات الأولياء، فالأولون ضيقوا فضيق الله عليهم، والآخرون وسعوا ففتح الله عليهم!
المسألة الثالثة: كرامة الولي من آيات النَّبي
والفرق بين هذه المسألة والَّتي قبلها أنَّ الثَّانيَّة لها علاقة بصحَّة نبوَّة النَّبيِّ فهي كالشَّاهد على صدق دعواه فلهذا أدرجت ضمن دلائل النبوة، أما الثالثة فبعد الإقرار بصحَّة نبوته فإنها تكون من آيات ذلك النَّبيِّ لأنَّ الوليَّ ما أكرم بها إلا لاتِّباعه للنَّبيِّ فلذلك كانت من آياته، والله أعلم.
وهذه تكرَّرت الإشارة إليها من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه «النُّبوات»، ومن ذلك قوله رحمه الله (865-866): «ولا يقدر أحد من مكذبي الرسل أن يأتي بمثل آيات الأنبياء، وأما مصدقوهم فهم معترفون بأن ما يأتون به هو من آيات الأنبياء...».
وقوله رحمه الله(541): «وقد ذكر غير واحد من العلماء أن كرامات الأولياء معجزات لنبيهم، وهي من آيات نبوته، وهذا هو الصواب...».
وقوله رحمه الله (603-604): «فكرامات الأولياء هي من آيات الأنبياء، فإنها مختصة بمن شهد لهم بالرسالة، وكل ما استلزم صدق الشهادة بنبوتهم فهو دليل على صدق هذه الشهادة، سواء كان الشاهد بنبوتهم المخبر بها هم أو غيرهم، بل غيرهم إذا أخبر بنبوتهم وأظهر الله على يديه ما يدل على صدق هذا الخبر كان أبلغ في الدلالة على صدقهم من أن يظهر على أيديهم».
وقوله رحمه الله (823) بعد أن أشار إلى أنَّ في ما يظهر على المؤمنين بالأنبياء من الآيات بسبب الإيمان بهم فيه قولان قال: «والقول الثاني وهو القول الصحيح أن آيات الأولياء هي من جملة آيات الأنبياء فإنها مستلزمة لنبوتهم ولصدق الخبر بنبوتهم فإنه لولا ذلك لما كان هؤلاء أولياء ولم يكن لهم كرامات».
وممَّن أشار إلى هذا كذلك تلميذه العلَّامة الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه «البداية والنهاية»(9/48) فكان يقول بعد إيراده لكرامة حدثت لوليٍّ أوردها في كلامه عن دلائل النُّبوَّة: «وهي معدودة من المعجزات، لأن كل ما ثبت لولي فهو معجزة لنبيه».
ومن ههنا: «ذكر غير واحد من العلماء أن كل معجزة لنبيٍّ من الأنبياء فهي في الحقيقة معجزة لخاتمهم محمَّد صلى الله عليه وسلم وذلك أن كلَّا منهم بشَّر بمبعثه وأمر بمتابعته...وذكر غير واحد من العلماء أن كرامات الأولياء معجزات لأنبيائهم لأن الولي إنما نال ذلك ببركة متابعته لنبيه وثواب إيمانه به»«البداية والنهاية»(9/307).
وأشار الحافظ ابن كثير رحمه الله إلى أنَّ شيخه شيخ الشَّافعيَّة كمال الدين أبا المعالي محمد بن علي الأنصاري السَّماكي –نسبة إلى أبي دجانة سماك بن خرشة الأوسي رضي الله عنه- المعروف بابن الزَّملكاني رحمه الله ذكر في مختصر اختصره من «سيرة» الإمام ابن إسحاق رحمه الله فأورد فيه فصلا في هذا الباب ولم يستوعب فسئل ابن كثير رحمه الله من تكميله ممن لا يرد طلبه، وأنه كان يسمع من شيخه أبي الحجاج المزي رحمه الله أن أول من تكلم في هذا المقام الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، وأشار إلى أن أبا نعيم الأصبهاني رحمه الله عقد فصلا لهذا في كتابه «دلائل النبوة» وكذلك ابن حامد في كتابه «دلائل النبوة» وهو كتاب جليل حافل، وكذلك الصرصري الشاعر يورد في بعض قصائده أشياء –وكان ابن كثير رحمه الله يقول عن الصرصري حسَّان أهل زمانه- ثم أشار إلى أنه سيورد في كتابه «البداية والنِّهاية» مجامع ما ذكر بأوجز عبارة وأقصد إشارة، وقد نقل أنَّ شيخه الزملكاني رحمه الله قال: «وبيان أن كل معجزة لنبي فلنبينا صلى الله عليه وسلم مثلها أو أتم يستدعي كلاما طويلا وتفصيلا لا يسعه مجلدات عديدة ولكن ننبه بالبعض على البعض، فلنذكر جلائل معجزات الأنبياء عليهم السَّلام» فمن أراد الوقوف على ما أورد فعليه بـ«البداية والنِّهاية» فهو فصل فيه فوائد جمَّة، واستنباطات بديعة نافعة، تفتح العقول، وتصقل الأذهان، ولم أشأ أن أخلي المقال من إشارة لطيفة وخطفة عابرة فأكتفي بنقل ما أشار إليه العلَّامة ابن عثيمين رحمه الله في «شرح العقيدة الواسطيَّة»(ص629) إذْ قال:
«قال العلماء: كل كرامة لولي فهي آية للنبي الذي اتبعه لأن الكرامة شهادة من الله عز وجل أن طريق هذا الولي طريق صحيح.
وعلى هذا ما جرى من الكرامات للأولياء من هذه الأمَّة فإنَّها آيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال بعض العلماء: ما من آية لنبي من الأنبياء السابقين إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم مثلها.
فأورد عليهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لم يلق في النار فيخرج حيا كما حصل ذلك لإبراهيم.
فأجيب: بأنه جرى ذلك لأتباع الرسول عليه الصلاة والسلام كما ذكره المؤرخون عن أبي مسلم الخولاني وإذا أكرم أتباه الرسول عليه الصلاة والسلام بجنس هذا الأمر الخارق للعادة دل ذلك على أن دين النبي صلى الله عليه وسلم حق لأنه مؤيد بجنس هذه الآية التي حصلت لإبراهيم.
وأورد عليهم أن البحر لم يفلق للنبي صلى الله عليه وسلم وقد فلق لموسى!
فأجيب: بأنه حصل لهذه الأمة فيما يتعلق في البحر شيء أعظم مما حصل لموسى وهو المشي على الماء كما في قصة العلاء بن الحضرمي حيث مشوا على ظهر الماء وهذا أعظم مما حصل لموسى لأن موسى مشى على أرض يابسة.
وأورد عليهم أن من آيات عيسى إحياء الموتى ولم يقع ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأجيب: بأنه حصل وقع لأتباع الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قصة الرجل الذي مات حماره في أثناء الطريق فدعا الله تعالى أن يجيبه فأحياه الله تعالى.
وأورد عليهم إبراء الأكمه والأبرص.
فـأجيب: بأنه حصل من النبي صلى الله عليه وسلم أن قتادة بن النعمان لما جرح في أحد ندرت عينه حتى صارت على خده فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخذها بيده ووضعها في مكانها فصارت أحسن عينيه، فهذه من أعظم الآيات» اهـ.
وقد دخل بعض ولد قتادة رضي الله عنه وهو عاصم بن عمر بن قتادة على عمر بن عبد العزيز فسأل عنه فأنشأ يقول:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه /// فردت بكف المصطفى أحسن الرد فعادت كما كانت لأول أمرها /// فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد فقال عمر بن عبد العزيز:
تلك المكارم لا قعبان من لبن /// شيبا بماء فعادا بعد أبوالا هذه إشارة، وما بقي فشأنه كما قال ابن مالك رحمه الله في ألفيَّته بعد أن ذكر مواضع عدم جواز الابتداء بالنَّكرة: «وليُقَسْ ما لم يُقَل» ما دامت القاعدة معروفة، مع الاطِّلاع على ما ورد في الباب.
وهذا جهد المقل، فنسأل الله تعالى أن يعفو عنا، والحمد لله أولا وآخرا.
التعديل الأخير تم بواسطة أبو معاذ محمد مرابط ; 06 Feb 2015 الساعة 10:32 PM
|