ألأم اللؤم تخلُّف القلوب عن محبة من هذا شأنه، وتعلقها بمحبة سواه
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه الداء والدواء ص324 مجيبا السائل ما نصه:
اعلم أن أنفع المحبة على الإطلاق وأوجبها وأعلاها وأجلها محبة من جبلت القلوب على محبته، وفطرت الخليقة على تألهه، وبها قامت الأرض والسماوات، وعليها فطرت المخلوقات، وهي سر شهادة أن لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل له والخضوع والتعبد، والعبادة لا تصلح إلا له وحده، والعبادة هي كمال الحب مع كمال الخضوع والذل، والشرك في هذه العبودية من أظلم الظلم الذي لا يغفره الله، والله تعالى يـُحَبُّ لذاته من جميع الوجوه، وما سواه فإنما يـحب تَبَعاً لمحبته.
وقد دل على وجوب محبته سبحانه جميع كتبه المنزلة، ودعوة جميع رسله، وفطرته التي فطر عباده عليها، وركّب فيهم من العقل، وما أسبغ عليهم من النعم، فإن القلوب مفطورة مجبولة على محبة من أنعم عليها وأحسن إليها، فكيف بمن كل الإحسان منه، وما بخلقه جميعهم من نعمة فمنه وحده لا شريك له، كما قال تعالى:{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُـمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَـجْئَرُونَ } [النحل:53]، وما تعرَّف به إلى عباده من أسمائه الحسنى وصفاته العلان وما دلت عليه آثار مصنوعاته من كماله وبهائه وجلاله وعظمته.
والمحبة لها داعيان: الجمال، والجلال، والرب تعالى له الكمال المطلق من ذلك، فإنه جميل يحب الجمال كله له، والإجلال كله منه، فلا يستحق أن يحب لذاته من كل وجه سواه.
قال الله تعالى:{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تـُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونـِي يـُحْبِبْكُمُ اللهُ } [آل عمران:31].
والوَلاية أصلها الحب، فلا موالاة إلا بحب، كما أن العداوة أصلها البغض، والله ولي الذين آمنوا وهم أولياؤه، فهم يوالونه بمحبتهم له، وهو يواليهم بمحبته لهم، فالله تعالى يوالي عبده بحسب محبته له.
ولهذا أنكر على من يسوِّي بينه وبين غيره في المحبة، وأخبر أن من فعل ذلك فقد اتخذ من دونه أندادا يحبهم كحب الله، قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يـُحِبُّونـَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالذِّينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ } [البقرة:165].
وأخبر عمن يسوّي بينه وبين الأنداد في الحب، أنهم يقولون في النار لمعبوديهم: { تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ } [الشعراء:97-98].
وبهذا التوحيد في الحبّ أرسل الله جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، وأطبقت عليه دعوة جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، ولأجله خلقت السماوات والأرض والجنة والنار، فجعل الجنة لأهله، والنار للمشركين به، وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن عبد حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين )، فكيف بمحبة الرب جل جلاله؟
وقال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ( لا، حتى أكون أحب ليك من نفسك )، أي لا تؤمن حتى تصل محبتك إلى هذه الغاية.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا في المحبة ولوازمها، أفليس الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه وتبارك اسمع وتعالى جده ولا إله غيره، أولى بمحبة عباده من أنفسهم؟
وكل ما منه إلى عبده المؤمن يدعوه إلى محبته، مما يحب العبد ويكره، فعطاؤه ومنعه، ومعافاته وابتلاؤه، وقبضه بسطه، وعدله، وفضله، وإماتته وإحياؤه، ولطفه، وبره، ورحمته وإحسانه، وستره وعفوه، وحلمه وصبره على عبده، وإجابته لدعائه، وكشف كربه، وإغاثة لهفته، وتفريج كربته من غير حاجة منه إليه، بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه، كل ذلك داع للقلوب إلى تألهه، ومحبته، بل تمكينه عبده من معصيته وإعانته عليها، وستره حتى يقضي وطره منها وكلاءته وحراسته له، وهو يقضي وطره من معصيته، وهو يعينه ويستعين عليها بنعمه - من أقوى الدواعي إلى محبته، فلو أن مخلوقا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك لم يملك قلبه عن محبته، فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس - مع إسائته؟ فخيره إليه نازل، وشره إليه صاعد، يتحبب إليه بنعمه وهو غني عنه، والعبد يتبغّض إليه بالمعاصي وهو فقير إليه، فلا إحسانه وبره وإنعامه عليه يصده عن معصيته، ولا معصية العبد ولؤمه، يقطع إحسان ربه عنه.
فألأم اللؤم تخلُّف القلوب عن محبة من هذا شأنه، وتعلقها بحبة سواه.
وأيضا: فكل من تحبه من الخلق ويحبك إنما يريدك لنفسه وغرضه منك، والله تالى يريدك لك، كما في الأثر الإلهي: ( عبدي! كل يريدك لنفسه، وأنا أريدك لك )، فكيف لا يستحي العبد أن يكون ربه له بهذه المنزلة، وهو معرض عنه مشغول بحب غيره، قد استغرق قلبه بمحبة سواه؟
وأيضا، فكل من تعامله من الخلق إن لم يربح عليك لم يعاملك، ولا بد له من نوع من أنواع الربح، والرب تعالى إنما يعاملك لتربح أنت عليه أعظم الربح وأعلاه، والدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بواحدة وهي أسرع شيء محوا.
وأيضا فهو سبحانه خلقك لنفسه، وخلق كل شيء لك في الدنيا والآخرة، فمن أولى منه باستفراغ الوسع في محبته وبذل الجهد في مرضاته؟!
وأيضا فمطالبك – بل مطالب الخلق كلهم جميعا – لديه، وهو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين، أعطى عبده قبل أن يسأله فوق ما يؤمله، يشكر القليل من العمل ونميه، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه، يسأله من في السماوات والأرض، كل يوم هو شأن، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلِّطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، بل يحب الملحين في الدعاء، ويحب أن يُسأل، ويغضب إذا لم يُسأل، يستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه، ويستره حيث لا يستر نفسه، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه، دعاه بنعمه وإحسانه وأياديه إلى كرامته ورضوانه فأبى، فأرسل رسله في طلبه، وبعث إليهم معهم عهده، ثم نزل سبحانه بنفسه وقال:( من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له ). كما قيل: أدعوك للوصل تأبى، أبعث رسولي في الطلب، أنزل إليك بنفسي، ألقاك في النُّوام.
وكيف لا تحب القلوب من لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا يجيب الدعوات، ويقبل العثرات، ويغفر الخطيئات، ويستر العورات، ويكشف الكربات، ويغيث اللَّهفات، وينيل الطلبات سواه؟
فهو أحق من ذكر، وأحق من شكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأبصر من ابتغيَ، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، وأرحم من استرحم، وأكرم من قصد، وأعز من التجئَ إليه، وأكفى من توكل العبد عليه، وأرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأشد فرحا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا يئس من الحياة ثم وجدها !!
وهو الملك لا شريك له، والفرد فلا ند له، كل شيء هالك إلا وجهه، لن يطاع إلا بإذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يطاع فيشكر، وبتوفيقه ونعمته أطيع، ويعصى فيغفر، ويعفو وحقه أضيع، فهو أقرب شهيد، وأجل حفيظ، وأوفى بالعهد، وأعدل قائم بالقسط،حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وكتب الآثار، ونسخ الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب لديه مكشوف، وكل أحد إليه ملهوف، وعنت الوجوه وجهه، وعجزت العقول عن إدراك كنهه، وذلت الفطر والأدلة كلها على امتناع مثله وشبهه، وأشرقت لنور وجهه الظلمات، واستنارت له الأرض والسماوات، وصلحت عليه جميع المخلوقات،( لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
ما اعتاض باذل حبه لسواه من***عوض ولو ملك الوجود بأسره
فأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يجعلنا ممن آثر حبه على هواه، وابتغى بذلك قربه ورضاه.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
التعديل الأخير تم بواسطة فتحي إدريس ; 18 Mar 2011 الساعة 06:58 PM