عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 27 Jun 2016, 11:39 PM
أبو إكرام وليد فتحون أبو إكرام وليد فتحون غير متواجد حالياً
موقوف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 1,798
افتراضي

الشبهة الخامسة
الردُّ على تأويل أبياتِ «البُرْدة» للبوصيري
وتفنيد شُبْهة الغُلُوِّ في ابن تيمية ـ رحمه الله ـ

قال شمس الدين بوروبي ـ هداه الله ـ:
«حَكَمُوا على الإمام البوصيري بالكفر لأنه قال:

يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ * سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمِمِ

مع أنَّ هذا البيت له أصلٌ في السنَّة .. أنَّ الناس يلوذون يومَ القيامة بآدَمَ...فإذا جاؤوا رسولَ الله ولاذوا به ... وقال:

فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا * وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ

«مِن» تبعيضيةٌ أي: أنَّ مِن بعضِ علمِ رسول الله ما أَطْلَعَهُ اللهُ عليه ليلةَ الإسراء والمعراج ...ثمَّ مَدَحُوا ابنَ تيمية: كتاب «العقود الدُّرِّية في مَناقِبِ ابن تيمية» لابن عبد الهادي، يمدح ابنَ تيمية بأنه أَعْلَمُ الخَلْقِ منذ أَنْ خَلَقَ اللهُ الخَلْقَ إلى يومِنا هذا...يقول:

يَا مَن حَوَى مِن عُلُومِ الْخَلْقِ مَا قَصُرَتْ * عَنْهُ الْأَوَائِلُ مُذْ كَانُوا إِلَى الآنَا

ويقول له:

إِنْ تُبْتَلَى بِلِئَامِ النَّاسِ يَرْفَعُهُمْ * دَهْرٌ عَلَيْكَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ قَدْ خَانَا

إِنِّي لَأُقْسِمُ ـ وَالْإِسْلَامُ مُعْتَقَدِي * وَإِنَّنِي مِنْ ذَوِي الْإِيمَانِ أَيْمَانَا ـ

لَمْ أَلْقَ قَبْلَكَ إِنْسَانًا أُسَرُّ بِهِ * فَلَا بَرِحْت لِعَيْنِ الْمَجْدِ إِنْسَانَا

هذا لم يَلْقَ قطُّ إنسانًا يُسَرُّ به، لا رسولَ الله ولا أبا بكرٍ الصدِّيقَ ولا عمر ولا علي ولا عثمان ولا آدَمَ ولا إبراهيم، وأنا أعجبُ كيف لا تعمد الجهاتُ الرسميةُ إلى منعِ هذه الكُتُبِ التي تُضلِّلُ الشبابَ وتُعلِّمُهم التكفيرَ والتبديع والتضليل».


الجواب:

اختلق صاحِبُ المُحاضَرةِ في هذا الكلام إفكًا، حين اتَّهم أهلَ السنَّةِ بتكفير البوصيري، مُلْصِقًا بهم تهمةَ التكفير قَصْدَ تنفيرِ الناس منهم ومِن دعوة التوحيد الخالص التي رفعوا شِعارَها، وعَقَدوا ألويتَها، كما بَهْرَجَ الباطلَ الصُّرَاحَ بألوانٍ مِن الحقِّ مُحاوِلًا بذلك مَحْوَ آثارِه وطَمْسَ أعلامه، فجَعَلَ لكلام البوصيري مَخْرَجًا شرعيًّا على الشفاعة العظمى لِيَسْلَمَ بذلك مِن التنديد والتفنيد.
ـ تفنيد فرية تكفير السلفية للبوصيري:

أمَّا رميُ أئمَّةِ التوحيد بتكفير البوصيري ففريةٌ تُبيِّنُ مدى الجَوْرِ المُتولِّدِ عن الحقد، وإلَّا فإنَّ أهل السنَّةِ السلفيِّين لا يُكفِّرون المُعيَّنَ إلَّا بعد تَحقُّقِ شروطٍ فيه وانتفاءِ مَوانِعَ عنه، وقد قام بالبوصيري صاحِبِ قصيدة «البُرْدةِ» مانعٌ مِن موانعِ التكفير هو الجهلُ بالعلم الشرعيِّ(١)، ونشأتُه في مُحيطٍ يُصوِّرُ له الشركَ توحيدًا والبدعةَ سنَّةً. وضِمْنَ هذا المنظور يقول ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «كنتُ أقول للجهمية مِن الحلولية والنُّفاةِ الذين نَفَوْا أنَّ اللهَ فوق العرش لمَّا وقَعَتْ محنتُهم: «أنا لو وافَقْتُكُمْ كنتُ كافرًا لأنِّي أَعْلَمُ أنَّ قولكم كفرٌ، وأنتم عندي لا تَكْفُرُون لأنَّكم جُهَّالٌ»، وكان هذا خطابًا لعُلَمائهم وقُضاتِهم وشيوخِهم وأُمَرائِهم، وأَصْلُ جَهْلِهم شُبُهاتٌ عقليةٌ حصَلَتْ لرؤوسهم في قصورٍ مِن معرفة المنقولِ الصحيح والمعقولِ الصريح المُوافِقِ له»(٢).

ولبيانِ كَذِبِ المُحاضِرِ على عُلَماءِ السلفية نَسوقُ نَقْلَيْنِ لعَلَمَيْنِ مِن عُلَماءِ التوحيد يُبيِّنانِ حُكْمَهما على صاحِبِ قصيدة «البُرْدة»:

قال الشيخان حسينٌ وعبد الله ابنا الشيخ محمَّد بنِ عبد الوهَّاب: «إنَّ صاحِبَ «البُرْدة» وغيرَه، ممَّن يُوجَدُ الشركُ في كلامِه والغُلُوُّ في الدِّين وماتوا، لا يُحْكَمُ بكفرهم، وإنما الواجب إنكارُ هذا الكلام، وبيانُ أنَّ مَن اعتقد هذا على الظاهر فهو مُشْرِكٌ كافرٌ، وأمَّا القائل: فيُرَدُّ أمرُه إلى الله سبحانه، ولا ينبغي التعرُّضُ للأموات؛ لأنه لا يُعْلَمُ: هل تابوا أم لا»(٣).

وقال الشيخ عبد الله أبا بطين: «ولْيُعْلَمْ أنَّنا لم نجترئ على تكفيرِ مَن وَجَدْنا في كلامه ألفاظًا شركيةً كصاحب «البُرْدة» وأمثالِه، وهذه زلَّاتٌ عظيمةٌ ربَّما لو نُبِّهوا عليها لَتنبَّهُوا، ولا نَسُبُّ الأمواتَ وقد أَفْضَوْا إلى ما قدَّموا، ونسأل اللهَ ألا يُزيغَ قلوبَنا بعد إذ هَدَانَا وأَنْ يَهَبَ لنا مِن لَدُنْهُ رحمةً إنه هو الوهَّابُ»(٤).
تفنيد تأويل البيت الشعريِّ المحمول على الشفاعة:

قد يَتوهَّمُ مَن سَمِعَ المُحاضَرةَ أنَّ تأويلَ بيتِ قصيدة البوصيري: «يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ * سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمِمِ» على الشفاعة العظمى مِن تخريجات المُحاضِر المُتعالِم، وليس الأمرُ كذلك؛ فقَدْ تَلقَّفَه مِن ألَدِّ أعداءِ دعوة التوحيد في هذا العصر والذي قبله ﻛ: داود بنِ جرجيس العراقيِّ(٥)، وعبد الله الغُماريِّ المغربيِّ(٦) وغيرِهما، وزيادةً في التلبيس لم يَجْرُؤْ على تسميةِ مَن سَلَفُه: إمَّا خجلًا بهم، وإمَّا تشبُّعًا بما لم يُعْطَ، وأَحْلاهُما مُرٌّ.

أمَّا ما يتعلَّقُ بالبيت الشعريِّ مِن «البُرْدة» وحَمْلِه على الشفاعة العُظْمى فغيرُ سليمٍ؛ لأنَّ «الحادث العَمِم» عند الصوفية هو العامُّ والشاملُ لجميع الخَلْق، وهذا محصورٌ ـ عندهم ـ في القيامة الصغرى وهي الموت، والقيامةِ الكبرى وهي الساعة، وبهذا فسَّرَ شُرَّاحُ «البُرْدة» البيتَ(٧)، وقد جاء البيتُ بأسلوب الحصر نافيًا بذلك كُلَّ مَلاذٍ له إذا حلَّتْ به الحوادثُ، ما عدا النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ الشاعرُ ـ في دعائه وندائه ـ يُظْهِرُ الفاقةَ والتضرُّعَ للمسؤول بتوحيده وإفرادِه لهذا المطلوب العظيم والخَطْبِ الجسيم؛ الشيءُ الذي يزيد الأمرَ نكارةً.

فاحتمالُ كونِ الشاعر قَصَدَ الشفاعةَ العظمى في الساعة الكبرى بعيدٌ وتأويلٌ مُتكلَّفٌ تأباهُ نظائرُه في القصيدة مِن الاستجارة والاستغاثة بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومنها قولُ البوصيري:

إِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَعَادِي آخِذًا بِيَدِي * فَضْلًا وَإِلَّا فَقُلْ: يَا زَلَّةَ القَدَمِ

يقول الخريوتيُّ في شرحه لهذا البيت مِن «البُرْدة»: «والمرادُ به: حالةُ الموت وما بعده، والأخذُ باليد عبارةٌ عن النصر والإمدادِ والمعونة ودفعِ البلاية»(٨).

ويقول البوصيريُّ ـ أيضًا ـ:

حَاشَاهُ أَنْ يُحْرَمَ الرَّاجِي مَكَارِمَهُ * أَوْ يَرْجِعَ الجَارُ مِنْهُ غَيْرَ مُحْتَرَمِ

قال الخريوتيُّ شارحًا البيتَ: «وحاصِلُ معنى البيتِ: أنه عليه السلام مُنزَّهٌ عن أَنْ يَحْرِمَ راجِيَه وسائلَه مِن الإكرام، أو يَرُدَّ المستجيرَ منه بغيرِ احترامٍ؛ فإنه معدنُ الكرامات ومنبعُ الاحترامات، بل جميعُ أهلِ الدنيا مستغيثٌ بذاته عليه السلام»(٩).

ويقول البوصيري ـ أيضًا ـ:

مَا سَامَنِي الدَّهْرُ ضَيْمًا وَاسْتَجَرْتُ بِهِ * إِلَّا وَنِلْتُ جِوَارًا مِنْهُ لَمْ يُضَمِ

وَلَا الْتَمَسْتُ غِنَى الدَّارَيْنِ مِنْ يَدِهِ * إِلَّا الْتَمَسْتُ النَّدَى مِنْ خَيْرِ مُسْتَلَمِ

ومعنى ذلك: أي: ما ظَلَمَني أهلُ الدهرِ في وقتٍ مِن الأوقات وطلبتُ مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنْ يُدْخِلَني في جِوارِه ليَحْمِيَنِي مِن ضيمِ الدهر إلَّا وقرَّبَني منه(١٠).

وأَشَدُّ مِن ذلك دعاؤه النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنْ يَصْفَحَ عنه وأَنْ يَقْبَلَ عُذْرَه بقوله:

يَا مَنْ خَزَائِنُ جُودِهِ مَمْلُوءَةٌ * كَرَمًا وَبَابُ عَطَائِهِ مَفْتُوحُ

نَدْعُوكَ عَنْ فَقْرٍ إِلَيْكَ وَحَاجَةٍ * وَمَجَالُ فَضْلِكَ للعُفَاةِ(١١) فَسِيحُ

فَاصْفَحْ عَنِ العَبْدِ المُسِيءِ تَكَرُّمًا * إِنَّ الكَرِيمَ عَنِ المُسِيءِ صَفُوحُ

وَاقْبَلْ ـ رَسُولَ اللهِ ـ عُذْرَ مُقَصِّرٍ! * هُوَ ـ إِنْ قَبِلْتَ ـ بِمَدْحِكَ المَمْدُوحُ

فِي كُلِّ وَادٍ مِنْ صِفَاتِكَ هَائِمٌ * وَبِكُلِّ سِرٍّ مِنْ نَدَاكَ سَبُوحُ(١٢)

فليس في كلام الشاعرِ إلَّا استغاثةٌ ولِياذٌ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهو عينُ الشرك؛ لأنه استغاثةٌ بالأموات واتِّخاذٌ لهم وسائطَ بين الخَلْقِ وبين الله تعالى، واللِّياذُ عبادةٌ كالعِياذ؛ فلا تُطْلَبُ إلَّا مِن الله وَحْدَه لا شريك له، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٦ وَإِن يَمۡسَسۡكَ ٱللَّهُ بِضُرّٖ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَۖ وَإِن يُرِدۡكَ بِخَيۡرٖ فَلَا رَآدَّ لِفَضۡلِهِۦۚ يُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ١٠٧﴾ [يونس]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فِي ٱلۡبَحۡرِ ضَلَّ مَن تَدۡعُونَ إِلَّآ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: ٦٧]، وقال تعالى: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٠ بَلۡ إِيَّاهُ تَدۡعُونَ فَيَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَيۡهِ إِن شَآءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ ٤١﴾ [الأنعام].

ودلَّتِ السنَّةُ على أنَّ الدعاء ـ بمُخْتَلَفِ أنواعِه ـ عبادةٌ؛ ففي حديث النعمان بنِ بشيرٍ مرفوعًا: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ»، ثمَّ قرأ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي﴾ [غافر: ٦٠](١٣)، ومِن أنواع الدعاء: الاستعاذةُ والاستعانة والاستغاثة والاستجارة، ولا يجوز صرفُ شيءٍ منها إلَّا لله وَحْدَه؛ فمَن صَرَفَها لغيره تعالى فهو مُشْرِكٌ بالله تعالى.

وقد تَتابَعَ العلماءُ العدولُ على إنكارِ ما حَوَاهُ البيتُ المذكور مِن مُنْكَرٍ، واتَّفَقَتْ كلمتُهم على أنه مِن صُوَرِ الشرك وألوانِ الغُلُوِّ المَقيت، قال الشيخ محمود شكري الألوسي ـ رحمه الله ـ كاشفًا عمَّا في قول البوصيري مِن الباطل: «وأمَّا ما انتقده أهلُ العلم والدين على كلام البوصيري فكثيرٌ جدًّا، مِن ذلك قولُه:

يَا أَكْرَمَ الخَلْقِ مَا لِي مَنْ أَلُوذُ بِهِ * سِوَاكَ عِنْدَ حُلُولِ الحَادِثِ العَمِمِ... إنَّ قول البوصيري هذا أَشْنَعُ وأَبْشَعُ...؛ لِما تَضمَّنَهُ مِن الحصر، ولِما فيه مِن اللِّياذ بغير الله في الخَطْب الجَلَلِ والحادثِ العمِمِ وهو قيامُ الساعة، وقد قال تعالى: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤٠﴾ [الأنعام]؛ فدُعاءُ غيرِ الله في الأمور العامَّة الكُلِّيَّةِ أَبْشَعُ مِن دُعاءِ غيرِه في الأمور الجزئية؛ ولذلك أخبر أنَّ عُبَّاد الأصنامِ لا يَدْعُون غيرَه عند إتيان العذاب أو إتيانِ الساعة التي هي الحادث العَمِمُ»(١٤).

ـ وقال محمَّد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله ـ عن هذا البيت: «فانظر كيف نَفَى كُلَّ مَلاذٍ ما عدا عَبْدَ الله ورسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم، وغَفَلَ عن ذِكْرِ ربِّه وربِّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟! إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون»(١٥).

وعلى فرضِ التسليم بحملِ البيت على الشفاعة العظمى فإنَّ استغاثة الناسِ بالأنبياء يومَ القيامة إنما هي استغاثةٌ بأحياءٍ حاضرين قادرين، وتلك مشروعةٌ بنصوصٍ شرعيةٍ مِن كتابٍ وسنَّةٍ، ومشروطةٌ برِضًا مِن الله تعالى على الشافع وكونِ الشفاعة مَرْضيَّةً لله تعالى، يقع الإذنُ أو الأمرُ تفضُّلًا منه وكرمًا لقوله تعالى: ﴿يَوۡمَئِذٖ لَّا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُۥ قَوۡلٗا ١٠٩﴾ [طه]، بخلافِ الاستغاثة بالموتى ـ ولو كانوا أنبياءَ فممنوعةٌ، والاستدلالُ بالأوَّل المشروعِ لتقريرِ الثاني غيرِ المشروعِ هو عينُ شبهةِ المشركين في تجويزِ عبادة الأولياء. قال تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ فِي مَا هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ كَٰذِبٞ كَفَّارٞ ٣﴾ [الزُّمَر]؛ فاعتذارُ أنصارِ «البُرْدة» المذكورُ مِن أنهم يطلبون الشفاعةَ فقط هو مِن قبيلِ اعتذار المشركين عن عبادة الأصنام، يَلُوكها المُنافِحون عن الضلال، ويتوارثونها جيلًا عن جيلٍ، وإنما تَتغايَرُ الأحداثُ وتتبدَّلُ الشخصياتُ، والشبهةُ واحدةٌ لا تتغيَّرُ ولا تَتبدَّلُ.

كما أنَّ الشفاعة لا تُطْلَبُ مِن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولم يُنْقَلْ عن أحَدٍ مِن أصحابه رضي الله عنهم السابقين إلى الخير والمُتنافِسين لتحصيله، ولا عن أحَدٍ مِن أئمَّةِ الإسلام بعدهم أنه دعاهُ صلَّى الله عليه وسلَّم أو طَلَبَ منه شفاعةً، ولو كان خيرًا لَسبقونا إليه، وإنما سبيلُ تحصيلها سؤالُها مِن الذي وَهَبَها لرسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وهو اللهُ مالكُ المُلكِ الآمرُ لنبيِّه أَنْ يقول: ﴿قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعٗا﴾ [الزُّمَر: ٤٤].

قال الشيخ عبد العزيز محمَّد آل عبد اللطيف ـ رحمه الله ـ: «ويزعم بعضُ المُتعصِّبين للقصيدة أنَّ مُرادَ البوصيريِّ طَلَبُ الشفاعة؛ فلو صحَّ ذلك فالمحذورُ بحاله؛ لِما تَقرَّرَ أنَّ طَلَبَ الشفاعةِ مِن الأموات شركٌ؛ بدليلِ قوله تعالى: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّ‍ُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ١٨﴾ [يونس]؛ فسمَّى اللهُ تعالى اتِّخاذَ الشُّفَعاءِ شركًا»(١٦).
ـ تفنيد تأويل البيت الشعريِّ الثاني المحمولِ على التبعيض:

وأمَّا قول المُحاضِرِ المُتعالِم: «فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ الدُّنْيَا وَضَرَّتَهَا * وَمِنْ عُلُومِكَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ: «مِنْ» تبعيضيةٌ، أي: أنَّ مِن بعضِ علمِ رسول الله ما أَطْلَعَهُ اللهُ عليه ليلةَ الإسراء والمعراج..».

فلم يخرج عن عادته في التدليس، وغايةُ ما في الأمر أنه أضافَ إليه جهلًا عريضًا بالعربية وتبجُّحًا قبيحًا بتطبيق قواعدها، وكُلُّ مَن له أَدْنى معرفةٍ بعلم اللغة العربية يُدْرِكُ المقصودَ الظاهر للشاعر؛ ﻓ «مِن» التبعيضيةُ في كلامه داخلةٌ على كلمةِ «علومِك» أي: مِن بعضِ علومك، ولم تدخل على «علم اللوح والقلم»؛ فهي باقيةٌ على عمومها وشمولِها لكونها مُفْرَدةً مُضافةً؛ فيكون المعنى: «مِن بعض علومك كُلُّ علمِ اللوح المحفوظ وكُلُّ علمِ القلم»؛ وعليه فالرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في نظرِ الشاعر ـ يعلم الغيبَ، وهو بعضُ عِلْمِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا ما قالَهُ شُرَّاحُ «البُرْدة»:

قال الأزهريُّ: «فإنك أَعْظَمُ الخَلْقِ على الله تعالى ... وعِلْمَيِ اللوحِ والقلم مِن عِلْمك، وأنتَ الحقيقُ بذلك، والمعوَّلُ في الشفاعة عليك، ولا أَقْطَعُ رجائي منك»(١٧).

ويقول الحسينيُّ: « ... وإِنَّ مِن علومك التي أفاضَها اللهُ عليك: عِلْمَ اللوح والقلم»(١٨).

ولعلَّ المُحاضِرَ أخَذَ تأويلَ البيتِ مِن الهيتميِّ حيث قال عند شرحِه البيتَ: «ووجهُ كونِ علمِ اللوح المحفوظِ مِن بعضِ علومه صلَّى الله عليه وسلَّم: أنَّ الله أَطْلَعَهُ ليلةَ الإسراء على جميعِ ما في اللوح المحفوظ وزادَهُ علومًا أُخَرَ كالأسرار المُتعلِّقةِ بذاته سبحانه وتعالى وصفاتِه»(١٩).

ومحاوَلتُه فاشلةٌ؛ لأنَّ ادِّعاءَ إِطْلاعِ اللهِ نبيَّه ليلةَ الإسراء على جميعِ ما في اللوح المحفوظ يفتقر إلى دليلٍ، ولم يأتِ في قصَّةِ الإسراء شيءٌ مِن هذا، وهي أمورٌ غيبيةٌ لا تَثْبُتُ بمجرَّدِ الرأي، وكُلُّ مَن روى قصَّتَه مِن الرُّواة لم يذكروا ما ذَكَرَه الهيتميُّ، ولو حَصَلَ لنُقِل.

ولا يخفى مُناقَضةُ هذا الادِّعاء لخصوصية الله تعالى في استئثاره بعلم الغيب كما أخبر به تعالى في قوله: ﴿ وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ ٥٩﴾ [الأنعام]، قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: «أُعْطِيَ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مَفَاتِحَ الغَيْبِ»(٢٠)، وقد أَمَرَ ـ سبحانه ـ نبيَّه أَنْ يقول: ﴿قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُ﴾ [النمل: ٦٥]، وقال كذلك: ﴿وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ﴾ [الأعراف: ١٨٨].

وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للجارية التي كانَتْ تُغنِّي: «مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللهُ» عندما قالت: «وفينا رسولُ الله يعلم ما في غَدِ»(٢١).

وإنما بَنَى صاحبُ «البُرْدة» هذا على أصلٍ مِن أصول الصوفية يَتَّضِحُ مِن قول صاحِبِ «النفحات»: «ولا يخفاك ما سَبَقَ غيرَ مرَّةٍ أنه لولاه لَما وُجِدَ لوحٌ ولا قلمٌ كما في الحديث القدسيِّ: «لولاك لولاك ما خَلَقْتُ الأفلاكَ»، لا سيَّما وقد خُلِقَ اللوحُ والقلمُ وسائرُ الأفلاك مِن نوره صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فيكون عِلْمُ اللوحِ والقلم مِن ضِمْنِ علومه صلَّى الله عليه وسلَّم»(٢٢).

تلك هي عقيدةُ القوم مؤسَّسةً على حديثٍ كذبٍ مُخْتَلَقٍ: «لولاك ما خلقتُ الأفلاكَ»(٢٣)، ويكفي لبطلانه قولُه تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦﴾ [الذاريات].

وكذلك اعتقادُهم بأنَّ النبيَّ خُلِق مِن نورٍ مُعارِضٌ للآيات الدالَّة على بشريته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. قال تعالى: ﴿قُلۡ سُبۡحَانَ رَبِّي هَلۡ كُنتُ إِلَّا بَشَرٗا رَّسُولٗا ٩٣﴾ [الإسراء]، وقال ـ أيضًا ـ: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٞ تَنتَشِرُونَ ٢٠﴾ [الروم]، وهُمْ كُلُّهم مخلوقون مِن ترابٍ بلا استثناءٍ.

وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ»(٢٤)، قال الشيخ الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ: «وفيه إشارةٌ إلى بطلان الحديث المشهور على ألسنة الناس: «أوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ نورُ نبيِّك يا جابرُ!» ونحوِه مِن الأحاديث التي تقول بأنه صلَّى الله عليه وسلَّم خُلِقَ مِن نورٍ؛ فإنَّ هذا الحديثَ دليلٌ واضحٌ على أنَّ الملائكة فقط هم الذين خُلِقوا مِن نورٍ؛ دون آدَمَ وبَنِيهِ»(٢٥).
ـ تفنيد حَمْلِ كلامِ ابنِ عبد الهادي على الغُلُوِّ في ابن تيمية ـ رحمهما الله ـ:

تحميلُ كلامِ ابنِ عبد الهادي مَحامِلَ لم يُصرِّحْ بها، وتَصوُّرُ إلزاماتٍ لا تَلْزَمُ كلامَه كتفضيله ابنَ تيمية ـ رحمه الله ـ على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وسائرِ أصحابه الكرام، لا يَصْدُرُ إلَّا مِن نفسٍ أُشْبِعَتْ حِقدًا، وارتَوَتْ بغضًا لعَلَمٍ شَهِدَ له المُخالِفُ قبل المُوافِقِ بسَعَةِ عِلْمِه ودقَّةِ فَهْمِه. وجُرأةُ المُحاضِرِ في بُغْضِ أعلام السنَّة وجبالِ العلم والثقةِ ظاهرةٌ لا يُخْفِيها، وباديةٌ لا يسترها بالتلميحات والإشارات كشأن الحاقدين الآخَرين.

ولو أنَّ المُحاضِرَ الحقود أَعْمَلَ القاعدةَ اللغوية التي بها سوَّغَ غُلُوَّ البوصيري صاحبِ «البُرْدة» في هذا المَقامِ لَزال عنه الإشكالُ، ولكِنْ عمَّاهُ التعصُّبُ، ودَفَعَهُ الشنآنُ إلى البغي؛ إذ «مِن» ـ في كلام ابنِ عبد الهادي ـ تبعيضيةٌ دخَلَتْ على قوله: «علوم الخَلْق»، والمعنى: «مَنْ حَوَى بعضَ علومِ الخَلْق الذي قَصُرَتْ عنه الأوائلُ».

ويمكن أَنْ تكون «مِن» بيانيةً أي: لبيانِ الجنس، ويكونُ المعنى ـ حينئذٍ ـ: «الذي حَوَى علمًا مِن جنسِ علوم الخَلْق ـ لا مِن جنسِ علوم غيرِهم ـ الذي قَصُرَتْ عنه الأوائلُ».

أمَّا الحمل الأوَّلُ فلا غموضَ فيه، وأمَّا الثاني ـ وهو بيانُ الجنس ـ فلا يَلْزَمُ منه عمومٌ ولا خصوصٌ لأنه معنًى عارضٌ يُلْتَمَسُ مِن قرينةٍ خارجيةٍ، هذا مِن جهةٍ.

ومِن جهةٍ أخرى، فإنَّ الألف واللام في «الأوائل» للعهد، ويَقْصِدُ بهم الأوائلَ الذين هم في مرتبة شيخ الإسلام ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ، ويجوز شرعًا تفضيلُه عليهم، وليسَتِ الجنسيةَ التي تعمُّ كُلَّ مَن سَبَقَهُ ولو مِن الأنبياء والصحابةِ الممنوعِ شرعًا المُفاضَلةُ عليهم ممَّن جاء بعدهم.

وهل يُعْقَلُ أَنْ يفهم رجلٌ سَلِمَ قلبُه مِن الحسد وصحَّ عقلُه ممَّا يَشِينُه أَنْ يَنْسِبَ إلى ابنِ عبد الهادي ـ رحمه الله ـ أنه يَدَّعي مَعيشةَ سبعةِ قرونٍ لقي فيها النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وصحابتَه الكِرامَ، وفاضَلَ بينهم وبين ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ، فضلًا عن أَنْ يُفضِّله عليهم، وإنما المُنْصِفُ يفهم ظاهِرَ كلامِه وحقيقتَه في تفضيله ابنَ تيمية ـ رحمه الله ـ على عُلَماءِ عصره الذين لَقِيَهُمُ ابنُ عبد الهادي بنفسه، وكانوا المُقَدَّمين على غيرِهم.

وممَّا يُوضِّحُ أنَّ مقصود ابنِ عبد الهادي تَفوُّقُ ابنِ تيمية على أترابه قولُه في موضعٍ آخَرَ: «هو الشيخ الإمام الربَّانيُّ، إمامُ الأئمَّة، ومفتي الأمَّة، وبحرُ العلوم، سيِّدُ الحُفَّاظ، وفارسُ المعاني والألفاظ، فريدُ العصر، وقريعُ الدهر(٢٦)، شيخُ الإسلام، وعلَّامةُ الزمانِ، ترجمانُ القرآن»(٢٧).

وعلى نحوِ صنيعِ ابنِ عبد الهادي حَذَا جماعةٌ مِن العلماء؛ إذ أخبروا عن شيخ الإسلام ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ بما عَلِموا مِن سَعَةِ اطِّلاعه على أقوالِ المُوافِقِ والمُخالِفِ، ومنهم:

ـ ابن حجرٍ ـ رحمه الله ـ: ومِن ضمنِ كلامه قولُه: «وفَاق الأقرانَ، وَصَارَ عَجَبًا فِي سرعةِ الاستحضار، وقُوَّةِ الجَنان، والتوسُّع في المنقول والمعقول، والإطالةِ على مَذاهِبِ السلف والخلف»(٢٨).

ـ وماذا عَسَى المُحاضِرُ ـ الحقود ـ مُعلِّقًا على كلام ابنِ دقيق العيد الأصوليِّ في ابنِ تيمية ـ رحمهما الله ـ لمَّا لَقِيَه: «ما أظنُّ بقي يُخْلَقُ مِثْلُك»(٢٩).

وقد صَدَقَ السبكيُّ الشافعيُّ حين قال لبَعْضِ مَن ذَكَرَ له الكلامَ في ابن تيمية: «وَاللهِ يَا فلانُ مَا يبغض ابنَ تيمية إلَّا جاهلٌ أَو صاحبُ هوًى؛ فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحِبُ الهوى يصدُّه هَوَاهُ عن الحقِّ بعد معرفته به»(٣٠).

وأمَّا قول المُحاضِرِ ـ هداهُ الله ـ: «أنا أعجبُ كيف لا تعمد الجهاتُ الرسميةُ إلى مَنْعِ هذه الكتبِ التي تُضلِّلُ الشبابَ وتُعلِّمُهم التكفيرَ والتبديع والتضليل».

فجوابُه: أنَّ التكفير حكمٌ شرعيٌّ لا يجوز إلغاؤه أو إسقاطُه، وهو حقٌّ مِن حقوق الله تعالى الذي فرَّق بين الناسِ بالإيمان والكفر فقال سبحانه: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ ٢﴾ [التغابن]، ومِن إقامةِ شَرْعِ الله تعالى وصفُ مَن يَسْتحِقُّ الكفرَ بأنه أهلٌ له، كإلحاقِ وصفِ الإيمان بمن استجمع شرائطَه وأركانَه.

وإذا كان المُحاضِرُ الجاهلُ يقصد بقوله: «التكفير»: الغُلُوَّ فيه؛ فيقال له ـ عندئذٍ ـ: اتِّهامُ السلفيةِ بأنها تُعلِّمُ الناسَ تكفيرَ مَن لا يَسْتحِقُّهُ تهمةُ الجُبَناء الجاحدين لجهود السلفيِّين في إرساء الوسطية والاعتدال المأمورِ بهما، مُجانِبين بذلك طرَفَيِ الانحراف مِن الخوارج الذين غالَوْا في نصوص الوعيد حتَّى حَكَمُوا بالكفر على مَن لا يَسْتَحِقُّه، والمرجئةِ الذين تَمسَّكوا بنصوص الوعد إلى حدِّ اعتبارِ أنَّ الإيمان لا يضرُّ معه معصيةٌ. والسلفيةُ ـ ولله الحمدُ ـ يَتَّبِعون الكتابَ والسنَّةَ ويُطيعون اللهَ ورسولَه؛ فيتَّبِعون الحقَّ ويرحمون الخَلْق، ويكفي شاهدًا لردِّ بهتانه التطبيقُ العمليُّ في سنوات الجمر التي مرَّتْ بها الجزائرُ؛ فمَن الذي أَسْهَمَ في إطفاءِ نارِ الغُلُوِّ في التكفير وواجَهَ شبهاته المُتتالِيةَ؟ أهي كُتُبُ الصوفيةِ أم جهودُ عُلَماءِ السلفية؟! إذ لم تتمكَّنْ سائرُ الطوائفِ والنِّحَلِ الممكَّنِ لها بالبلد مِن صدِّ غاراتِ التكفريين، وعَجَزُوا عن ردِّ غُلُوِّهم لفَقْرِهم العلميِّ وضَعْفِهم مِن ناحيةِ التحصيل العِلميِّ الشرعيِّ، حتَّى اسْتُنْجِدَ بعُلَماءِ السلفيةِ ومؤلَّفاتِهم المحتويةِ على التأصيلات النافعة المُزيلةِ للأفهام السقيمة؛ فعمَّ بذلك الخيرُ ـ بإذن الله تعالى ـ وانتشر الأمنُ وفَهِمَ العوامُّ ـ فضلًا عن الخواصِّ ـ البَوْنَ الشاسعَ بين التكفيريين الغُلَاةِ وبين وسطيةِ السلفية، وعندها امتلأَتْ قلوبُ المُبْتدِعةِِ حَنَقًا بهذا الفتح، ومازالوا قَلِقين مُضْطرِبِينَ، وللخير مُتربِّصين، فلمَّا ضُيِّقَ على السلفيةِ راحوا يُلَبِّسون، وبالباطل يُدلِّسون، إلى أَنْ نَطَقَ المُحاضِرُ بالإفك والبهتان، وما ذلك إلَّا نكرانٌ للجميل وجَحْدٌ للفضل، وما يقالُ في التكفير يقال كذلك في التضليل والتبديع.

وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.

(١) انظر: ضوابط مسألة العذر بالجهل في خاتمة «توجيه الاستدلال بالنصوص الشرعية على العذر بالجهل في المسائل العقدية» للشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ.
(٢) «الردُّ على البكري» (٢٥٩). ويمكن مراجعةُ فتوى الشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ الموسومة ﺑ: «في حكم إطلاقِ الكفر على مَن أتى بالكفريات» تحت رقم: (٤٩٧).
(٣) «الدُّرَر السنيَّة في الأجوبة النجدية» (١٠/ ١٤٨).
(٤) «الردُّ على البردة» (ص ٤٩).
(٥) هو داود بنُ سليمان بنِ جرجيس البغداديُّ، النقشبنديُّ الخالديُّ. وُلِدَ سنة: (١٢٣١ﻫ)، استوطن نجدًا، وتَلَقَّى شيئًا مِن العلوم الشرعية عن طريق بعض مَشايِخِ نجدٍ كأبي بطينٍ، ثمَّ ما لَبِثَ أَنْ أظهر العداوةَ، ودَعَا إلى الاستعانة والاستغاثة بقبر أبيه، والاستمدادِ مِن الأموات، وألَّف في ذلك كُتُبًا ﻛ: «صلح الإخوان»، و«المنحة الوهبية في ردِّ الوهَّابية». هَلَك يوم الإثنين ١٩ مِن رمضان سنة: (١٢٩٩ﻫ). [انظر: «الأعلام» للزركلي (٢/ ٣٣٢)، «دعاوى المُناوِئين» لعبد العزيز آل عبد اللطيف (١/ ٦٣)].
(٦) هو عبد الله بنُ محمَّد الصدِّيق الغماري الطنجي. وُلِد سنة: (١٣٢٨ﻫ) الموافق ﻟ: (١٩١٠م). له كُتُبٌ تَضمَّنَتْ مَزالِقَ عقديةً منها: «الإعلام بأنَّ التصوُّف مِن شريعة الإسلام» و«أولياءُ وكراماتٌ» و«إتحاف الأذكياء بجوازِ التوسُّل بسيِّد الأنبياء» و«إعلام الراكع الساجد بمعنى اتِّخاذ القبور مساجد» و«القول المُقْنِع في الردِّ على الألبانيِّ المبتدع». تُوُفِّيَ سنة: (١٤١٣ﻫ) الموافق ﻟ: (١٩٩٣م).
(٧) «عصيدة الشهدة» للخريوتي (٢١٨).
(٨) «عصيدة الشهدة» للخريوتي (٢١٤).
(٩) المصدر السابق.
(١٠) «العمدة شرح البردة» (٤١١ ـ ٤١٣).
(١١) العُفاةُ: طُلَّاب المعروف، [انظر: «كتاب العين» للخليل (٢/ ٢٥٨)، «الصحاح» للجوهري (٦/ ٢٤٣٣)].
(١٢) انظر: «ديوان البوصيري» (ص ٩٠).
(١٣) أخرجه أبو داود (١٤٧٩)، والترمذيُّ (٣٢٤٧). وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (٥/ ٢١٩).
(١٤) انظر: «جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية» لشمس الدين الأفغاني (٢/ ١١٨٣).
(١٥) «الدرُّ النضيد في إخلاص كلمة التوحيد» للشوكاني (٢٦).
(١٦) «قوادحُ عقديةٌ في بردة البوصيري» لعبد العزيز محمَّد آل عبد اللطيف (١٩٧).
(١٧) «شرح البردة» للأزهري.
(١٨) المصدر السابق.
(١٩) «العمدة شرح البردة» للهيتمي (٦٩٩).
(٢٠) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١/ ٤٠١).
(٢١) أخرجه البخاريُّ (٤٠٠١) واللفظُ لابن ماجه (١٨٩٧)، عن الرُّبَيِّعِ بنت مُعوِّذٍ رضي الله عنهما.
(٢٢) «النفحات الشاذلية في شرح البردة البوصيرية» لحسن العدوي الحمزاوي (٣/ ٥٤٤).
(٢٣) انظر: «الموضوعات» للصغَّاني (٥٢)، «الفوائد المجموعة» للشوكاني (١١٦)، «السلسلة الضعيفة» للألباني (١/ ٤٥٠).
(٢٤) أخرجه مسلمٌ (٢٩٩٦).
(٢٥) «السلسلة الصحيحة» للألباني (١/ ٨٢٥).
(٢٦) القريعُ: السيِّد، وتأتي: بمعنى المختارِ والْغَالِب، [انظر: «تاج العروس» (٢١/ ٥٤٠)، «لسان العرب» (٨/ ٢٦٧)].
(٢٧) «العقود الدُّرِّية مِن مَناقِبِ شيخ الإسلام أحمد بنِ تيمية» لابن عبد الهادي (١٨).
(٢٨) «الدُّرَر الكامنة» لابن حجر (١/ ١٦٩).
(٢٩) انظر: «البداية والنهاية» لابن كثير (١٤/ ٣٢).
(٣٠) انظر: «الردَّ الوافر» لابن ناصر الدين الدمشقي (٢٤).