عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 09 Feb 2008, 10:46 PM
أم جهان أم جهان غير متواجد حالياً
وفقها الله
 
تاريخ التسجيل: Oct 2007
المشاركات: 118
افتراضي

ص -48- والعاقل لا يقصد القاء الجمرة في قلبه فهو ناشئ فيه بغير اختياره وإذا كان هو السبب الحامل على المتكلم بالطلاق وغيره لم يكن ذلك أيضا مضافا إلى اختياره وإرادته وهذا كما ان إرادة السبب إرادة للمسبب فكراهة السبب وبغضه كراهة للمسبب يوضحه "الوجه الخامس" وهو : انك تقول للغضبان إذا اشتد غضبه ففعل ما لم يكن يفعله أو تكلم بما لم يكن يتكلم به قبل الغضب : هل اردت ذلك أو قصدته ? فيحلف انه ما اراده ولا قصده ولا كان له باختيار ويحلف انه وقع بغير اختيار ولا تنكر هذا فانك تجده من نفسك وتحقيق الأمر ان له فيه إرادة هو : محمول عليها حملة عليها الغضب فهي : كإرادة المكره بل المكره ادخل في الإرادة كما تقدم وهذا يدل على ان الغضبان أولى بعدم الوقوع من المكره . يوضحه "الوجه السادس" وهو : ان الخوف في قلب المكره كالغضب في قلب الغضبان لكن المكره مقهور بغيره من خارج والغضبان مقهور بغضبه الداخل فيه وقهر الاكراه يبطل حكم الأقوال التي اكره عليها ويجعلها بمنزلة كلام النائم والمجنون دون حكم الأفعال فانه يقتل إذا قتل ويضمن إذا تلف فكذلك قهر الغضب يبطل حكم أقوال الغضبان دون أفعاله حتى لو قتل في هذه الحالة قتل أو أتنلف شيئا ضمنه هذا كله في الغضبان الذي يكره ما قاله حقيقة فما من هو مريد له على تقدير عدم غضبه لاقتضاء السبب ذلك فليس من هذا الباب كمن زنت امراته فغضب فطلقها لانه لا يرى المقام مع زانية فلم يقصد بالطلاق إطفاء نار الغضب بل التخلص من المقام مع زانية فهذا يقع



ص -49- طلاقة فتأمل هذا الفرق فانه حرف المسالة ونكتتها وهذا بخلاف من خاصمته امرأته وهو يعلم من نفسه إرادة المقام معها على الخصومة وسوء الخلق ولكن حملة الغضب على ان شفي نفسه بالتكلم بالطلاق كسرا لها وأطفأء لنار غضبه . يوضحه "الوجه السابع" وهو : ان الغضبان يفعل أمورا من شق الثياب واتلاف المال وغير ذلك مما لو اكره حتى يتكلم بالطلاق لم ينفذ طلاقه ولغت أقواله فإذا فعل هو هذه الأمور علم ان الذي الجأه اليها اعظم من الاكراه فإن المكره لو اكره بها لم يفعلها وهذا قد فعلها ان المقتضي لفعلها فيه أولى من اقتضاء الاكراه لفعلها والمكره لو فعل به ذلك كان مكرها فالغضبان كذلك وهذا واضح جدا "فإن قيل" : المكره إذا تكلم بما اكره عليه دفع عنه الضرر والغضبان لا يدفع عنه بهذا القول ضررا فليس كالمكره . "قيل" لا ريب انهما يفترقان في هذا الوجه ولكن لا يوجب ذلك ان يكون الغضبان مختارا مريدا لما قاله أو فعله بك اكره شيء اليه وهذا امر لا يمكن دفعه . "فإن قيل" : فما الحامل على ما يكره ويؤديه من غير ان يتوصل به إلى ما هو احب اليه منه ? "قيل" لما كان الغضب عدو العقل وهو له كالذئب للشاة قل ما يتمكن منه الا اغتال عقله فقد إزاله الغضب وأطفأ ناره وهذا مقصود صحيح في نفسه لكن لما غاب عنه عقله قصد ازالة ذلك مما فيه ضرر عليه ليخفف عن نفسه ما هو فيه من البلاء ولولا ذلك لم يفعل ما لا يفعله في الرضا ولا تكلم بما لم يكن به فهو قصد ان يستريح ويسكن ويبرد غضبه بتلك الأقوال والأفعال وان لم يدفع ذلك عنه بجملته تلك الشدة فانها تخفف وتضعف فاقتضت رحمة الشارع به ان الغي أقواله في هذه الحال ان تمكن ان لا يترتب عليها اثرها وتكون كأقوال المبرسم والمجنون الهاجر ونحوهما و اما الأفعال فلا يمكن الغاء اثرها فرتب عليه موجب فعله .



ص -50- "فإن قيل" : فيلزمكم على هذا انه لوحلف في هذه الحال ان لا تنعقد يمينه "قيل" قد قال بذلك جماعة من السلف والخلف واختاره من لا يرتاب في امامته وجلالته وكان يقرن بالأئمة الكبار اسماعيل بن اسحاق القاضي . "فان قيل" لكن المنقول عن الصحابة وجمهور التابعين والأئمة الاربعة اعتبار نذر اللجاج والغضب وان تنازعوا في موجبه فأوجب مالك واهل العراق الوفاء به كنذر التبرر وخبر الليث بن سعد والشافعي واحمد بن حنبل بين فعله وبين فعله وبين كفارة اليمين ولم يقل احد منهم : انه لا ينعقد وانه لغو . وقد ذكر الله تعالى الكفارة في الإيمان كلها ولم يحصل منها يمين الغضب دون يمين الرضا . "قيل" نعم هذا حق ولكن اليمين لما قصد صاحبها الحض أو المنع كانت الكفارة رافعة لما حصل بها من الضرر بخلاف الطلاق والعتاق فانهما اتلاف محض لملك البضع والرقبة ولا كفارة فيهما فالضرر الحاصل بوقوعهما لا يندفع بكفارة ولا غيرها وكما انه يفرق في الإكراه بين نوع ونوع فالإكراه يبيح الأقوال عندنا وعند الجمهور وكل قول اكره عليه بغير حق فانه باطل وأبو حنيفة يفرق بين نوع ونوع والإكراه على الأفعال ثلاثة أنواع . "نوع" لا يباح بالإكراه كقتل المعصوم وإتلاف أطرافه "ونوع" يبيحه الإكراه بشرط الضمان كإتلاف مال المعصوم . "ونوع" مختلف فيه كالزنا والشرب والسرقة وفيه روايتان عن الإمام احمد فما أمكن تلافيه أبيح بالإكراه كالأقوال والأموال وما كان ضرره كضرر الإكراه لم يبح به كالقتل فانه ليس قتل المعصوم بحياة المكره أولى من العكس .



ص -51- "واما الأفعال" كالقران يدل على رفع الإثم فيها . كقوله تعالى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} "الوجه الثامن" : أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع للغضبان ان يقول : "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" وان يتوضأ وان يتحول عن حالته فإن كان قائما فليقعد وإذا كان قاعدا فليضطجع . قال : "ان الغضب من الشيطان وان الشيطان من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" . وهذا يدل على انه محمول عليه من غيره وان الشيطان يغضبه ليحمله بغضبه على



ص -52- فعل ما يحبه الشيطان وعلى التكلم به وما يضاف إلى الشيطان مما يكره العبد ولا يحبه فلا يؤاخذ به الإنسان كالوسوسة والنسيان كما قال فتى موسى لموسى {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} فالله تعالى لا يؤاخذ بالوسوسة ولا بالنسيان اذ هما من اثر فعل الشيطان في القلب وقد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم ان الغضب من الشيطان" فيكون اثره مضافا اليه أيضا فلا يؤاخذ به العبد كأثر النسيان فإنه لو حلف ان لا يتكلم بكذا فتكلم به ناسيا لم يحنث لعدم قصده وإرادته لمخالفة ما عقد يمينه عليه وان كان قاصدا للكلام فانه لم يقع منه الا بقصده وإرادته وهذه حال الغضبان فانه لم يقصد حقيقة ما تكلم به وموجبه بل جرى على لسانه كما جرى كلام الناسي على لسانه بل قصد الناسي للتكلم اظهر من قصد الغضبان ولهذا يقول الناسي : قصدت ان أقول كذا وكذا والغضبان يحلف انه لم يقصد "الوجه التاسع" : إن المقصود في العقود معتبرة في عقدها كلها والغضبان ليس له قصد معتبر في حل عقدة النكاح كما ليس له قصد في قتل نفسه وولده واتلاف ماله فانه يفعل في الغضب هذا ويقول : هذا فإذا لم يكن له قصد معتبر لم يصح طلاقه "فإن قيل" : هذا ينقص عليكم بالهازل فانه يصح طلاقه وان لم يكن له فيه قصد "قيل" : الفرق بينهما : ان الهازل قصد التكلم باللفظ وأراده رضا واختيار منه لم يحمل على التلفظ به وغايته ان لم يرد حكمة وموجبه وذلك إلى الشارع ليس إيه فالسبب الذي اليه قد اتى به اختيارا وقصدا مع علمه به لم يحمل عليه والسبب إلى المشرع ليس اليه فلا يصح اعتبار احدهما بالآخر وكيف يقاس الغضبان على المتخذ آيات الله هزؤا وهذا من افسد القياس ?



ص -53- "الوجه ا لعاشر" ان الغضب مرض من الأمراض وداء من الأدواء فهو في أمراض القلوب نظير الحمى والوسواس والصرع في أمراض الا بدان فالغضبان المغلوب في غضبه كالمريض والمحموم والمصروع المغلوب في مرضه والمبرسم المغلوب في برسامه وهذا قياس صحيح في الغضبان الذي قد اشتد به الغضب حتى لا يعلم ما يقول واما إذا كان يعلم ما يقول ولكن يتكلم به حرجا وضيقا وغلقا لا قصدا للوقوع فو يشبه المبرسم والهاجر من الحمى من وجه ويشبه المكره القاصد للتكلم من وجه ويشبه المختار القاصد للطلاق من وجه فهو متردد بين هذا وهذا وهذا ولكن جهة الاختيار والقصد فيه ضعيف فإنه يعلم من نفسه انه لم يكن مختارا لما صدر منه من خراب بيته وفراق حبيبه وكونه يراه في يد غيره فان كان عاقلا لايختار هذا إلا ليدفع به ما هو اكره إليه منه أو ليحصل به ما هو أحب إليه فإذا انتفى هذا أو هذا لم يكن مختارا لذلك وهذا امر يعلمه كل إنسان من نفسه فصار تردده بين المريض المغلوب والمكره المحمول على الطلاق وأيهما كان فانه لا ينفذ طلاقه . "فان قيل" الفرق بينهما ان المريض المغلوب لا يملك نفسه في الحال والمكره وان يملك نفسه لكنه لا يملك دفع المكروه عنه وأما الغضبان فإنه يملك نفسه . كما قال النبي: "ليس الشديد بالصرعه ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب"



ص -54- "قيل" : من الغضب ما يمكن صاحبه أن يملك نفسه عنده وهو الغضب في مبادئه فإذا استحكم وتمكن منه لم يملك نفسه عند ذلك وكذلك الحزن الحامل على الجزع يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا استحكم وقهر لم يملك نفسه وكذلك الغضب يمكن صاحبه أن يملك نفسه في أوله فإذا تمكن واستولى سلطانه على القلب لم يملك صاحبه قلبه فهو اختياري في أوله اضطراري في نهايته كما قال القائل

يا عاذلي والأمر في يده هلا عذلت وفي يدي الأمر

وهكذا السكران سبب السكر مقدور له يمكنه فعله وتركه فإذا اتى بالسبب خرج الأمر عن يده ولم يملك نفسه عند السكر فإذا كان السكر الذي هو مفرط بتعاطي أسبابه ويقدر على ملك نفسه باجتنابها قد عذر الصحابة وغيرهم من الفقهاء صاحبة إذا طلق في هذه الحال مع كونه غير مغدور في تعاطي سببه فلان يعذر سكران الغضب الذي لم يفر مع شدة سكره على سكر الخمر أولى وأحرى . "الوجه الحادي عشر" وهو أن من الناس من إذا لم ينفذ غضبه قتله غضب غضبه ومات أو مرض أو اغشي عليه كما يذكر عن بعض العرب أن رجلا سبه فأراد أن يرد على الساب فامسك جليس له بيده على فمه ثم رفع يده لما ظن أن غضبه قد سكن فقال : قتلتني رددت غضبي في جوفي ومات من ساعته فإذا نفذ مثل هذا غضبه بقتل أو ظلم لغيره لم يعذر بذلك السكران واما إذا نفذ بقول فانه يمكن اهدار قوله وان لا يترتب اثره عليه كما أهدر الله سبحانه دعاءه و لم يرتب اثره عليه ولم يستجبه له ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى انه لا يجلد القذف في حال الخصومة والغضب وانما يجلد به إذا اتى به اختيارا وقصدا لقذفه وهو قول قوي جدا ويدل عليه ان الخصم لا يعذر بجرحه لخصمه وطعنه فيه حال الخصومة بقوله : هو فاجر ظالم غاشم يحلف على الكذب ونحو ذلك : ومن يحده في هذه الحال يفرق بين قذفه وطلاقة بان القدف حق لآدمي وانتهاك لعرضه أو قدحه في نفسه فيجري مجرى اتلاف نفسه وماله فلا يعذر فيه بالغضب لا



ص -55- سيما ولو عذر فيه بذلك لامكن كل قاذف ان يقول في حال الغضب فيسقط الحد بخلاف الطلاق فانه يمكن ان يدين فيما بينه وبين الله والحق لا يعدوه . والمقصود انه إذا تكلم بالطلاق دواء لهذا المرض وشفاء له بإخراج هذه الكلمة من صدره وتنفسه بها فمن كمال هذه الشريعة ومحاسنها وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة ان لا يؤاخذ بها ويلزم بموجبها وهو لم يلتزمه . "الوجه الثاني عشر" : ان قاعدة الشريعة ان العوارض النفسية لها تأثير في القول اهدارا واعتبارا وإعمالا والغاء وهذا كعارض النسيان والخطأ والاكراه والسكر والجنون والخوف والحزن والغفلة والذهول ولهذا يحتمل من الواحد من هؤلاء من القول ما لا يحتمل من غيره ويعذر بما لا يعذر به غيره لعدم تجرد القصد و الإرادة ووجود الحامل على القول ولهذا كان الصحابة يسال احدهم الناذر : في رضا قلت ذلك ام في غضب ? فان كان في غضب امره بكفارة يمين لانهم استدلوا بالغضب على ان مقصوده الحض والمنع كالحلف لا التقرب وقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} فجعل عارض السكر مانعا من اعتبار قراءة السكران وذكره وصلاته كما جعله النبي صلى الله عليه وسلم مانعا من صحة إقراره لما امر باستنكاه من اقر بين يديه بالزنا وجعله مانعا من تكفير من قال له ولأصحابه : هل انتم الا عبيد لأبي



ص -56- وجعل الله سبحانه الغضب مانعا من إجابة الداعي على نفسه واهله وجعل سبحانه الاكراه مانعا من كفر المتكلم بكلمة الكفر وجعل الخطأ والنسيان مانعا من المؤاخذة بالقول والفعل



ص -57- وعارض الغضب قد يكون أقوى من كثير من هذه العوارض فإذا كان الواحد من هؤلاء لا يترتب على كلامه مقتضاه لعدم القصد فالغضبان الذي لم يقصد ذلك أن لم يكن أولى بالعذر منهم لم يكن دونهم يوضحه "الوجه الثالث عشر" ان الطلاق في حال الغضب له ثلاث صور "أحداها" ان يبلغه عن امرأته أمر يشتد غضبه لأجله ويظن انه حق فيطلقها لاجله ثم يتبين انها بريئة منه فهذا في وقوع الطلاق به وجهان أصحهما انه لا يقع طلاقه لإنه إنما طلقها لهذا السبب والعلة والسبب كالشرط فكانه قال ان كانت فعلت ذلك فهي طالق فإذا لم تفعله لم يوجد الشرط وقد ذكر المسالة بعينها ابو الوفاء ابن عقيل وذكر الشريف ابن ابي موسى في إرشاده فيما إذا قال أنت طالق إن دخلت الدار بفتح الهمزة مرارا وهو يعرف العربية ثم تبين أنها لم تدخل لم تطلق ولا يقال هو ها هنا قد صرح بالتعليل بخلاف ما إذا لم يصرح به فان هذا لا تأثير له فإنه قد أوقع الطلاق لعلة فإذا انتفت العلة تبينا انه لم يكن مريدا لوقوعه بدونها سواء صرح بالعلة أو لم يصرح بها وغاية الأمر ان تكون العلة بمنزلة الشرط وهو لو قال انت طلق وقال اردت ان فعلت كذا وكذا دين فيما بينه وبين الله تعالى وقد ذكر أصحاب الشافعي احمد فيما إذا كاتب عبده على عوض فاداه اليه فقال : انت حر ثم تبين ان العوض مستحق لم يعتق مع تصريحه بالحرية فالطلاق أولى بعدم الوقوع في هذه الصورة . "الصورة الثانية" ان يكون قد غضب عليها لامر قد علم وقوعه منها فتكلم بكلمة الطلاق قاصدا للطلاق عالما بما يقول عقوبة لها على ذلك فهذا يقع طلاقه اذ لو يقع هذا الطلاق لم يقع اكثر الطلاق فانه غالبا يقع مع الرضا "92 مكرر" "الصورة الثالثة" : ان لا يقصد امرا بعينه ولكن الغضب حمله على ذلك وغير عقله ومنعه كمال التصور والقصد فكان بمنزلة الذي فيه نوع من السكر والجنون فليس هو غائب



ص -58- العقل بحيث لا يفهم ما يقول بالكلية ولا هو حاضر العقل بحيث يكون قصده معتبرا فهذا لا يقع به الطلاق أيضا كما لا يقع بالمبرسم والمجنون يوضحه "الوجه الرابع عشر" ان المجنون والمبرسم والموسوس والهاجر قد يشعر احدهم بما قاله ويستحي منه وكذلك السكران ولهذا لم يشترط اكثر الفقهاء في كونه سكران ان يعدم تمييزه بالكلية بل قد قال الإمام احمد وغيره : انه الذي يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من رداء غيره وفعله من فعل غيره . والسنة الصريحة الصحيحة تدل عليه فان النبي صلى الله عليه وسلم امر ان يستنكه من اقر بالزنا مع انه حاضر العقل والذهن يتكلم بكلام مفهوم ومنتظم صحيح الحركة ومع هذا فجوز النبي صلى الله عليه وسلم ان يكون به سكر يحول بينه وبين كمال عقله وعلمه فامر باستنكاهه والمقصود ان هؤلاء ليسوا مسلوبي التمييز بالكلية وليسوا كالعقلاء الذين لهم قصد صحيح فان ما عرض لهم أوجب تغير العقل الذي منع صحة القصد فلم يبق احدهم يقصد قصد العقلاء الذي مراده جلب ما ينفع ودفع ما يضر فلم يتصور احدهم لوازم ما تكلم به ولا غاب عقله عن الشعورية بل هو ناقص التصور ضعيف القصد والغضبان في حال غضبه قد يكون اسوا حالا من هؤلاء وأشبه بالمجانين ولهذا يقول ويفعل مالا يقوله المجنون ولا يفعله "فإن قيل" فهل يحجر عليه في هذه الحال كما يحجر على المجنون "قيل" لا والفرق بينهما ان هذه الحالة لا تدوم فهو كالذي يجن أحيانا نادرا ثم يفيق فانه لا يحجر عليه نعم لو صدر منه تلك الحال قول عن غير قصد منه كان مثل القول الصادر عن المجنون في عدم ترتب أثره عليه ولا ريب انه قد يحصل للغضبان اغماء وغشي وهو في هذه الحالة غير مكلف قطعا كما يحصل ذلك للمريض فيزيل تكليفه حال الاغماء حتى ان بعض الفقهاء لا يوجب عليه قضاء الصلاة في هذه الحالة إلحاقا بالمجنون كما يقوله الشافعي واحمد يوجب عليه القضاء إلحاقا له بالنائم .



ص -59- وأبو حنيفة يفرق بين الطويل والزائد على اليوم والليلة فيحلفه بالمجنون وبين القصير الذي هو دون ذلك فيلحقه بالنوم وقد ينكر كثير من الناس ان الغضب يزيل العقل ويبلغ بصاحبه إلى هذه الحالة فإنه لا يعرف من الغضب الا ما يجد من نفسه وهو لم يعلم غضبا انتهى إلى هذه الحالة وهذا غلط فان الناس متفاوتون في الغضب تفاوتا عظيما فمنه ما هو كالنشوة ومنه ما هو كالسكر ومنه ما هو كالجنون ومنه ما هو سريع الحصول سريع الزوال وعكسه ومنه سريع الحصول بطئ الزوال وعكسه كما قسمه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأقسام



ص -60- وقوى الناس متفاوته تفاوتا عظيما في ملك تقواهم عند الغضب والطمع والحزن والخوف والشهوة فمنهم من يملك ذلك ويتصرف فيه ومنهم من يملكه ذلك ويتصرف فيه "الوجه الخامس عشر" ان الغضبان الذي قد انغلق عليه القصد والرأي وقد صار إلى الجنون والعارض اقرب منه إلى العقل الثابت أولى بعدم وقوع طلاقه من الهازل المتلفظ بالطلاق في حال عقله وان لم يرده بقلبه وقد الغي طلاق الهازل بعض الفقهاء وهو احدى الروايتين عن الإمام احمد حكاها ابو بكر عبد العزيز وغيره وبه يقول بعض اصحاب مالك إذا قام دليل الهزل فلم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق ولا ريب ان الغضبان أولى بعدم وقوع طلاقه من هذا "الوجه السادس عشر" ان جماعة من اصحابنا لم يشترطوا في الجنون والمبرسم ان لا يكون ذاكرا لطلاقه وان كان ظاهر نص احمد انه متى ذكر الطلاق لزمه فانه قال في رواية ابي طالب في المجنون يطلق فقيل له لما افاق انك طلقت امراتك فقال انا ذاكر اني طلقت ولم يكن عقلي معي فقال إذا كان يذكر انه طلق فقد طلقت . قال ابو محمد المقدسي وهذا هو المنقول عن الإمام احمد فيمن كان جنونه لذهاب معرفته بالكلية وبطلان حواسه فأما من كان جنونه لنشاف أوكان مبرسما فإن ذلك يسقط حكم تصرفه مع ان معرفته غير ذاهبة بالكلية فلا يضره ذكر الطلاق ان شاء الله انتهى كلامه .



ص -61- معلوم ان الغضبان الممتلىء اسوا حالا ممن جنونه من نشاف أو برسام واقل احواله ان يكون مثله يوضحه "الوجه السابع عشر" وهو ان الموسوس لا يقع طلاقه صرح به اصحاب ابو حنيفة وغيرهم . وما ذاك الا عدم صحة العقل والإرادة منه فهكذا هذا "الوجه الثامن عشر" : انه لم يقل احد ان مجرد التكلم بلفظ الطلاق موجب لوقوعه على أي حال كان بل لابد من امر اخر وراء التكلم باللفظ وطائفة اشترطت ان ياتي به في حال التكليف فقط سواء قصده أو جرى على لسانه من غير سواء اكره عليه أو اتى به اختيارا وهذا مذهب من يوقع طلاق المكره والطلاق الذي يجري على لسان العبد من غير قصد منه وهو المنصوص عن ابي حنيفة في الموضعين وطائفة اشترطت مع ذلك ان ياتي باللفظ مختار قاصدا له وهو قول الجمهور الذين لا ينفدون طلاق المكره . ثم منهم من اشترط مع ذلك ان يكون عالما بمعناه فان تكلم به اختيارا غير عارف بمعناه لم يلزمه حكمه وهذا قول من يقول لا يلزم المكلف أحكام الأقوال حتى يكون عارفا بمدلولها وهذا هو الصواب . ومنهم : من اشترط مع ذلك ان يكون مريدا لمعناه ناويا له فان لم ينو معناه ولم يرده لم يلزمه حكمه وهذا قول من يقول : لا يلزم لصريح الطلاق النية وقول من لا يوقع الطلاق الهازل . وهو قول في مذهب الإمام احمد ومالك في المسالتين فيشترط هؤلاء الرضا بالنطق اللساني والعلم بمعناه وإرادة مقتضاه .



ص -62- ومنهم : من يشترط مع ذلك كون الطلاق مأوذنا فيه من جهة الشارع و هو قول من لا يوقع الطلاق المحرم وهو قول طائفة من السلف من الصحابة والتابعين و من بعدهم . وقال عمر بن عبدالسلام الخشني : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا عبدالوهاب بن عبد المجيد الثقفي حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر انه قال : في الرجل يطلق امراته وهي حائض لا يعتد بذلك وحسبك بهذا الاسناد إذا صح رواه محمد بن حزم قال : حدثنا يوسف بن عبدالله قال : حدثنا احمد بن عبدالله بن عبد الرحيم قال : حدثنا احمد بن خالد قال : حدثنا محمد بن عبدالسلام فذكره . وهذا مذهب افقه التابعين على الاطلاق سعيد بن المسيب حكاه عنه الثعلبي في تفسير سورة الطلاق .



ص -63- وهو مذهب افقه التابعين من اصحاب ابن عباس وهو طاوس قال عبدالرزاق عن جريج عن عبدالله بن طاووس عن ابيه : انه كان لا يرى طلاقا مما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وكان يقول : وجه الطلاق يطلقها طاهرا من غير جماع وإذا استبان حملها . وهذا مذهب خلاس بن عمرو قال ابن خزم : حدثنا محمد بن سعيد بن ساث قال : حدثنا عباس بن اصبع قال : حدثنا محمد بن قاسم بن محمد قال : حدثنا محمد بن عبدالسلام الخشني قال : حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا عبدالرحمن من مهدي قال : حدثنا هشام بن يحيى عن قتادة عن خلاس بن عمرو انه قال : في الرجل يطلق امراته وهي حائض فقال : لا يعتد بها . وهذا قول ابي قلابة قال ابن ابي شيبة : حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن ابي قلابة قال : إذا طلق الرجل امراته وهي حائض فلا يعتد بها . وهذا اختيار ابن عقيل في كتابه الواضح في اصول الفقه صرح به في مسالة النهي يقتضي الفساد



ص -64- وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية وهو احد الوجهين في مذهب احمد وقال ابو جعفر الباقر لا طلاق الا على بينة ولا طلاق الا على طهر من غير جماع وكل طلاق في غضب أو يمين أو عتق فليس بطلاق الا لمن اراد الطلاق والمقصود ان هؤلاء يشترطون في وقوع الطلاق اذن الشارع فيه وما لم يأذن فيه الشارع فهو عندهم لاغ غير نافذ قال شيخ الاسلام وقولهم اصح في الدليل من قول من يوقع الطلاق الذي لم يأذن فيه الله وسوله ويراه صحيحا لازما والمقصود ان احدا لم يقل ان مجرد التكلم بالطلاق موجب لترتب اثره على أي وجه كان "الوجه التاسع عشر" ان هذا مقتضى نص احمد كما تقدم تفسيره الاغلاق في رواية حنبل بالغضب وقال عبد الله ابنه في مسائلة سالت ابي عن المجنون إذا طلق في وقت زولان عقله . . . . أيجوز ? قال ابي : كل من كان صحيح العقل فزال عقله عن صحته فطلق فليس طلاقه بشيء فهذا عموم كلامه وذاك خاصة فقد جعل تغير العقل عن صحته مانعا من وقوع الطلاق ولا ريب ان اغلاق الغضب بغير العقل عن صحته .



ص -65- "الوجه العشرون" : ان الفقهاء اختلفوا في صحة حكم الحاكم في الغضب على ثلاثة أقوال : وهي ثلاثة أوجه في مذهب احمد : "احدها" : لا يصح و لا ينفذ لان النهي يقتضي الفساد "والثاني" : ينفذ "والثالث" : ان عرض له الغضب بعد فهم الحكم نفذ حكمه وان عرض له قبل ذلك لم ينفذ . فان الحاكم يجب ان يكون عالما عدلا فمن نفذ حكمه قال : الغضب لا يمنع العلم والعدل . فقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم للزبير في شراج الحرة وهو غضبان .



ص -66- ومن لم ينفذ حكمه قال الغضب يمنعه كمال المقصود وحسن القصد فيمنعه العلم والعدل ولا يصح القياس على النبي صلى الله عليه وسلم فانه معصوم في غضبه ورضاه فكان إذا غضب لم يقل الا حقا كما كان في رضاه كذلك ومن فرق قال إذا علم الحق قبل الغضب لم يمنعه الغضب من العلم و حينئذ فيمكنه ان ينفذ الحق الذي علمه وإذا غضب قبل الفهم لم ينفذ حكمه لإمكان ان يحول الغضب بينه وبين الفهم وهؤلاء يحتجون بقضية الزبير وان النبي صلى الله عليه وسلم انما عرض له الغضب بعد فهم الحكومة والمقصود ان الغضب إذا اثر عند هؤلاء في بطلان الحكم علم ان كلام الغضبان غير كلام الراضي المختار وان للغضب تاثيرا في ذلك "الوجه الحادي والعشرون" ان وقع الطلاق حكم شرعي فيستدعي دليلا شرعيا والدليل اما كتاب أو سنة أو اجماع أو قياس يستوي فيه حكم الأصل والفرع وليس شيء منها موجودا في مسالتنا وإذا شئت قلت الدليل اما نص أو معقول نص وكلاهما منتف وان شئت قلت لو ثبت الوقوع لزم وجود دليله واللازم منتف فالملزوم مثله "والوجه الثاني والعشرون" ان نكاح هذا مثبت بإجماع فلا يزول الا بالإجماع مثله وان شتت قلت : نكاحه قبل صدور هذا اللفظ منه ثابت بالإجماع والأصل بقاؤه حتى يثبت ما يرفعه . "الوجه الثالث والعشرون" : ان جمهور العلماء يقولون ان طلاق الصبي المميز العاقل لا ينفذ ولا يصح . هذا قول ابي حنيفة ومالك والشافعي واحدى الروايتين عن الإمام احمد اختارها الشيخ ابو محمد وهو قول اسحق مع كونه عارفا باللفظ وموجبه



ص -67- بكلماته اختيارا وقصدا وله قصد صحيح وإرادة صحيحة وقد امر الله سبحانه بابتلائه واختياره في تصرفاته وقد نفذ صبر عمر به الخطاب وصيته واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم قصده واختياره في التخيير بين ابويه فالغضبان الشديد الغضب الذي قد اغلق عليه باب القصد والعلم أولى بعدم وقوع طلاقه من هذا بلا ريب "فان قيل" الغضبان مكلف وهذا غير مكلف لان القلم مرفوع عنه "قيل" نعم الأمر كذلك ولكن لا يلزم من كونه مكلفا ان يترتب الحكم على مجرد لفظة كما تقدم كيف والمكره مكلف ولا يصح طلاقه والسكران مكلف والمريض مكلف ولا يلزم من كون العبد مكلفا ان لا يعرض له حال يمنع اعتبار أقواله ونقص افعاله "الوجه الرابع والعشرون" : ان غاية التلفظ بالطلاق ان يكون جزء سبب والحكم لا يتم الا بعد وجود سببه وانتفاء ما نعه وليس مجرد التلفظ سببا تاما باتفاق الأئمة كما تقدم وحينئذ فالقصد والعلم والتكليف اما ان تكون بقية أجزاء الكسب أو تكون شروطا في اقتضائه أو يكون عدمها مانعا من تاثيره وعلى التقادير الثلاثة فلا يؤثر التكلم بالطلاق بدونها وليس مع من أوقع طلاق الغضبان والسكران والمكره ومن جرى على



ص -68- لسانه بغير قصد منه الا مجرد السبب أو جزؤه بدون شرطه وانتفاء مانعه وذلك غير كاف في ثبوت الحكم والله اعلم "الوجه الخامس والعشرون" انه لو سبق لسانه بالطلاق و لم يرده دين فيما بينه وبين الله تعالى ويقبل منه ذلك في الحكم في احدى الروايتين عن احمد الا ان تكذبه قرينه والرواية الاخرى يدين ولا يقبل في الحكم وكذلك قال أصحاب الشافعي إذا سبق الطلاق إلى لسانه بغير قصد فهو لغو ولكن لا تقبل دعوى سبق اللسان الا إذا ظهرت قرينة تدل عليه فقبلوا منه في الباطن دون الحكم الا بقرينة وكذلك قال اصحاب مالك : من سبق لسانه إلى الطلاق لم يقع عليه الطلاق قالوا : ويقبل في الفتوى . وابو حنيفة لا يرى سبق اللسان مانعا من وقوع الطلاق وعنه في سبق اللسان في العتق روايتان وقرر اصحابه بان المراة تملك بضعها لسبب يستوي فيه القصد وعدم



ص -69- القصد كالسكران والمكره والهازل وكالرضاع بالاتفاق فزوال البضع لا يختلف في سببه القصد وعدم القصد بخلاف العتق فان السبب الذي يملك به نفسه يختلف فيه القصد وعدمه وروى ابو يوسف عن ابي حنيفة التسوية بينهما ثم اختلف اصحابه فقالت طائفة هما سواء في الوقوع وقالت طائفة بل هما سواء في عدم الوقوع والمقصود ان سبق اللسان إلى الطلاق من غير قصد له مانع من وقوعه عند الجمهور والغضبان إذا علم من نفسه ان لسانه سبقه بالطلاق من غير قصد جاز له الاقامة على نكاحه ويدين في الفتوى واما قبوله في الحكم فيخرج على الخلاف والأظهر انه ان قامت قرينة ظاهرة تدل على صحة قوله قبل في الحكم والغضب الشديد من اقوى القرائن ولا سيما فان كثيرا ممن يطلق في شدة الغضب يحلف بالله جهد يمينه انه لم يقصد الطلاق وانما سبق لسانه وحينئذ فالجمهور لا يوقعون عليه الطلاق كما صرح به اصحاب احمد والشافعي ومالك . وفي قوله في القضاء ثلاثة أقوال اصحها انه ان قامت قرينة ظاهرة على صحة قوله قبل والا فلا
فصل
وما يبين أن الغضبان قد يتكلم في الغضب بما لا يريده ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول سمعت رسول الله يقول: "إنما أنا بشر وإني اشترطت على ربي عز وجل أي عبد من المسلمين شتمته أبو سببته أن يكون ذلك له زكاة وأجرا"



ص -70- وفي مسند الإمام احمد من حديث مسروق عن عائشة قالت : "دخل على النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فاغلظ لهما وسبهما قالت فقلت : يا رسول الله لمن اصاب منك خير ما اصاب هذان منك خير قالت فقال "أو ما علمت ما عاهدت عليه ربي عز وجل قلت ايما مؤمن سببته أو جلدته أو لعنته فاجعلهما له مغفرة وعافية" وفي الصحيحين من حديث ابي هريرة انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم ايما عبد مؤمن سببته فاجعل ذلك قربة اليك يوم القيامة" وفي بعض الفاظ الحديث "انما انا بشر ارضى كما يرضى البشر واغضب كما يغضب البشر فايما مؤمن سببته أو لعنته فاجعلها له زكاة" فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم مريدا لما دعا به في الغضب لما شرط على ربه وساله ان يفعل بالمدعو عليه ضد ذلك اذ من الممتنع اجتماع إرادة الضدين وقد صرح بإرادة احدهما مشترطا على ربه فدل على عموم إرادته لما دعا به في الحال الغضب هذا وهو النبي صلى الله عليه وسلم معصوم الغضب كما هو معصوم الرضا وهو مالك لفظه بتصرفه فكيف بمن لم يعصمه في غضبه وتمليكه ويتصرف فيه غضبه ويتلاعب الشيطان به فيه وإذا كان الغضبان يتكلم بما لا يريده ولا يريد مضمونه فهو بمنزلة المكره الذي يلجا إلى الكلام أو يتكلم به باختياره ولا يريد مضمونه والله اعلم . "فان قيل" : ما ذكر ثم معارض بما يدل على وقوع الطلاق فان الغضبان اتى بالسبب اختيارا واراد في حال الغضب ترتب اثره عليه ولا يضر عدم إرادته له في حال



ص -71- رضاه اذ الاعتبار بالإرادة انما هو التلفظ بخلاف المكره فانه محمول على التكلم بالسبب غير مريد لترتب اثره عليه وبخلاف السكران المغلوب عقله فإنه غير مكلف والغضبان مكلف مختار فلا وجه لإلغاء كلامه . "فالجواب" : ان يقال ان اريد بالاختيار رضاه به وايثاره له فليس بمختار وان اردتم انه يوقع بمشيئته وإرادته التي هو غير راض بها ولا باثرها فهذا بمجرده لا يوجب ترتب الاثر فان هذا الاختيار ثابت للمكره والسكران فانا لا نشترط في السكران ان لا يفرق بين الأرض والسماء بل المشترط في عدم ترتب اثر أقواله انه يهذي ويخلط في كلامه وكذلك المحموم والمريض وابلغ من هذا الصبي المراهق للبلوغ إذ هو من أهل الإرادة والقصد الصحيح ثم لم يترتب على كلامه أثره وكذلك من سبق لسانه بالطلاق ولم يرده فانه لا يقع طلاقه وقد أتى باللفظ في حال الاختيار غير سكره ولكن لم يقصده والغضبان وان قصده فلا حكم لقصده في حال الغضب لما تقدم من الأدلة الدالة على ذلك وقد صرح أصحابنا بان من كان جنونه لنشاف أو برسام لا يقع طلاقه ويسقط حكم تصرفه إن كانت معرفته غير ذاهبة بالكلية ولا يضره ان يذكر الطلاق وانه أوقعه وما ذكرناه من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ربه ان يجعل سبه لمن سبه في حال غضبه صريح في انه مريد له إذ لو أراده واختار لم يسأل ربه أن يفعل بالمدعو عليه ضد ما دعا به عليه إذ لا يتصور إرادة ضدين في حالة واحدة وهذا وحده كاف في المسالة فهذا ما ظهر في هذه المسألة بعد طول التأمل والفكر ونحن من وراء ا لقبول والشكر لمن رد ذلك بحجة يجب المصير إليها ومن وراء الرد على من رد ذلك بالهوى والعناد والله المستعان وعليه التكلان "وصلى الله على سيد المرسلين" وخاتم النبيين وعلى اله وأصحابه وعترته وأنصاره صلاة دائمة بدوام ملك الله عز وجل تم نسخها على يد حامد بن أديب التقي لقبا الأثري مذهبا في أواخر رمضان سنة 1327



ص -73- المطلقة
قصيدة لاديب العراقي معروف افندي الرصافي في الانتصار لمذهب المؤلف وشيخه عليهما رحمة الرحمة والرضوان .

بدت كالشمس يحضنها الغروب فتاة راع نضرتها الشحوب

منزهة عن الفحشاء خود من الخفرات انسة عروب

نور تستجد بها المعالي وتبلى دون عفتها العيوب

صفا ماء الشباب بوجنتيها فحامت حول رونقه القلوب

ولكن الشوائب ادركته فعاد وصفوه كدر مشوب

ذوي منها الجمال الغض وجدا وكاد يجف ناعمه الرطيب

اصابت من شيبتها الليالي ولم يدرك ذؤابتها المشيب

وقد خلب العقول لها جبين تلوح على اسرته النكوب

الا ان الجمال إذا علاه نقاب الحزن منظره عجيب



حليلة طيب الاعراق زالت به عنها وعنه بها الكروب

رعى ورعت فلم تر قط منه ولم ير قط منها ما يريب

توثق حبل ودهما حضورا ولم ينكث توثقه المغيب

فغاضب زوجها الخلطاء يوما بامر للخلاف به نشوب

فاقسم بالطلاق لهم يمينا وتلك النية خطا وحوب

وطلقها على جهل ثلاثا كذلك يجهل الرجل الغضوب

وافتى بالطلاق طلاق بت ذوو فتيا تعصبهم عصيب

فبانت عنه لم تات الدنايا ولم يعلق بها الذام المعيب



ص -74- فظلت وهي باكية تنادي بصوت منه ترتجف القلوب

لماذا يا نجيب صرمت حبلي وهل اذنبت عندك يا نجيب

ومالك قد جفوت جفاء قال وصرت إذا دعوتك لا تجيب

ابن ذنبي الي فدتك نفسي فاني عنه بعدئذ اتوب

اما عاهدتني بالله ان لا يفرق بيننا الا شعوب

لئن فارقتني وصددت عني فقلبي لا يفارقه الوجيب

وما ادماه ترتع حول روض ويرتع خلفها رشا ربيب

فما لفتت اليه الجيد حتى تخطفه بازمتيه ذيب

فراحت من تحرقها عليه بداء مالها فيه طبيب

تشم الارض تطلب منه ريحا وتنجب والبغام هو النحيب

وتمزع في الفلاة لغير وجه وأونة لمصرعه تؤوب

باجزع من فؤادي يوم قالوا برغم منك فارقك الحبيب



فاطرق راسه خجلا واغضى وقال ودمع عينيه سكوب

نجيبة اقصري عني فاني كفاني من لظي الندم اللهيب

وما والله هجرك باختياري ولكن هكذا جرت الخطوب

فليس يزول حبك من فؤادي وليس العيش دونك لي يطيب

ولا اسلو هواك وكيف اسلو هوى كالروح في له دبيب

سلي عني الكواكب و هي تسري بجنح الليل تطلع أو تغيب

فكم غالبتها بهواك سهدا ونجم القطب مطلع رقيب

خذي من نور "رنتجن" شعاعا به للعين تنكشف الغيوب

والقيه بصدري وانظريني ترى قلبي عليك به ندوب

وما المكبول القى في خضم به الامواج تصعد أو تصوب

فراح يغطه التيار غطا إلى ان تم فيه له الرسوب

باهلك يا ابنة الامجاد مني إذا أنا لم يعد بك لي نصيب



ص -75- الا قل في الطلاق لموقعيه بما في الشرع ليس له وجوب

غلوتم في ديانتكم غلوا يضيق ببعضه الشرع الرحيب

اراد الله تيسيرا وانتم من التعسير عندكم ضروب

وقد حلت بامتكم كروب لكم فيهن لا لهم الذنوب

وهي حبل الزواج ورق حتى كاد إذا نفخت له يذوب

كخيط من لعاب الشمس ادلت به في الجو هاجرة حلوب

يمزقه من الافواه نفث ويقطعه من النسم الهبوب

فدى "ابن القيم" الفقهاء كم قد دعاهم للصواب فلم يجيبوا

ففي "اعلامه" للناس رشد ومزدجر لمن هو مستريب

نحا فيما اتاه طريق علم نحاها شيخه الحبر الاديب

وبين حكم دين الله لكن من الغالين لم تعه القلوب

لعل الله يحدث بعد امرا لنا فيخيب منهم من يخيب

رد مع اقتباس