عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 19 Apr 2014, 03:53 PM
فتحي إدريس
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي بحث ماتع للحافظ ابن دقيق العيد رحمه الله حول المراد بـ"الصلاة الوسطى"

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:


فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في المراد بالصلاة الوسطى في قوله تعالى: ((حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين))[البقرة: 238] على أقوال عدة، يقول الحافظ ابن حجر –رحمه الله-: «قَد اختلف السَّلف في المراد بالصلاة الوسطى وجمع الدِّمياطي في ذلك جزءا مشهورا سماه "كشف الغطا عن الصلاة الوسطى"(1) فبلغ تسعة عشر قولا»ـ["فتح الباري"(8/246)].

وليست هذه الأقوال في الدرجة نفسها قوة فقد قال الحافظ ابن الملقن –رحمه الله-: «وأصح الأقوال فيها الصبح والعصر، وأصحها العصر»["الإعلام بفوائد عمدة الأحكام"(2/276)].

ولعله السبب في اكتفاء ابن دقيق العيد –رحمه الله- ببحث هذين القولين ، إذ أنه ذكر مسالك من رجح أنها صلاة الصبح وأجاب عنها بأجوبة بديعة ماتعة نافعة، في بحث رائق ضمنه كتابه الفذ ["إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام"(172-175)] فدونك كلامه –رحمه الله-:

«...العلماء اختلفوا في تعيين الصَّلاة الوسطى فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنها العصر، ودليلهما هذا الحديث (2) مع غيره، وهو قوي في المقصود؛ وهذا المذهب هو الصحيح في المسألة.

وميل مالك والشافعي إلى اختيار صلاة الصبح، والذين اختاروا ذلك اختلفوا في طريق الجواب عن هذا الحديث.
فمنهم من سلك فيه:

1- مسلك المعارضة.

وعورض بالحديث الذي رواه مالك من حديث أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين أنه قال «أمرتني عائشة: أن أكتب لها مصحفا، ثم قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة العصر وقوموا لله قانتين، ثم قالت: سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».

وروى مالك أيضا عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع قال: «كنت أكتب مصحفا لحفصة أم المؤمنين، فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وصلاة العصر وقوموا لله قانتين».

ووجه الاحتجاج منه: أنه عطف " صلاة العصر " على " الصلاة الوسطى " والمعطوف والمعطوف عليه متغايران.

ويقع الكلام في هذا من وجهين:

أحدهما: أنه يتعلق بمسألة أصولية، وهو أن ما روي من القرآن بطريق الآحاد - إذا لم يثبت كونه قرآنا - فهل يتنزل منزلة الأخبار في العمل به؟ فيه خلاف بين الأصوليين.

والمنقول عن أبي حنيفة: أنه يتنزل منزلة الأخبار في العمل به، ولهذا أوجب التتابع في صوم الكفارة للقراءة الشاذة " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " والذي اختاره: خلاف ذلك.

وقالوا: لا سبيل إلى إثبات كونه قرآنا بطريق الآحاد، ولا إلى إثبات كونه خبرا؛ لأنه لم يرو على أنه خبر.

الثاني: احتمال اللفظ للتأويل، وأن يكون ذلك كالعطف في قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
فقد وجد العطف هاهنا مع اتحاد الشخص، وعطف الصفات بعضها على بعض موجود في كلام العرب.

2- وربما سلك بعض من رجح أن الصلاة الوسطى صلاة الصبح: طريقة أخرى وهو ما يقتضيه قرينة قوله تعالى {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] من كونها " الصبح " الذي فيه القنوت.

وهذا ضعيف من وجهين:

أحدهما: أن " القنوت " لفظ مشترك، يطلق على القيام، وعلى السكوت، وعلى الدعاء، وعلى كثرة العبادة فلا يتعين حمله على " القنوت " الذي في صلاة الصبح.

الثاني: أنه قد يعطف حكم على حكم، وإن لم يجتمعا معا في محل واحد مختصمين به، فالقرينة ضعيفة.

3- وربما سلكوا طريقا أخرى، وهو إيراد الأحاديث التي تدل على تأكيد أمر صلاة الفجر. كقوله - صلى الله عليه وسلم - «لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا» ولكونهم كانوا يعلمون نفاق المنافقين بتأخرهم عن صلاة العشاء والصبح.

وهذا معارض بالتأكيدات الواردة في " صلاة العصر " كقوله - صلى الله عليه وسلم - «من صلى البردين دخل الجنة» وكقوله: «فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» وقد حمل قوله عز وجل {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} [ق: 39] على صلاة الصبح والعصر.

بل نزيد، فنقول: قد ثبت من التشديد في ترك صلاة العصر ما لا نعلمه ورد في صلاة الصبح. وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله».

4- وربما سلك من رجح الصبح طريق المعنى.

وهو أن تخصيص الصلاة الوسطى بالأمر بالمحافظة لأجل المشقة في ذلك، وأشق الصلوات: صلاة الصبح؛ لأنها تأتي في حال النوم والغفلة. وقد قيل: إن ألذ النوم إغفاءة الفجر، فناسب أن تكون هي المحثوث على المحافظة عليها.

وهذا قد يعارض في صلاة العصر بمشقة أخرى، وهي أنها وقت اشتغال الناس بالمعاش والتكسب، ولو لم يعارض بذلك لكان المعنى الذي ذكره في صلاة الصبح ساقط الاعتبار، مع النص على أنها العصر، وللفضائل والمصالح مراتب لا يحيط بها البشر، فالواجب اتباع النص فيها.

5- وربما سلك المخالف لهذا المذهب مسلك النظر في كونها " وسطى " من حيث العدد.

وهذا عليه أمران:

أحدهما: أن " الوسطى " لا يتعين أن تكون من حيث العدد، فيجوز أن تكون من حيث الفضل، كما يشير إليه قوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143] أي عدولا.

الثاني: أنه إذا كان من حيث العدد، فلا بد من أن يعين ابتداء في العدد يقع بسببه معرفة الوسط، وهذا يقع فيه التعارض، فمن يذهب إلى أنها " الصبح " يقول: سبقها المغرب والعشاء ليلا، وبعدها الظهر والعصر نهارا، فكانت هي الوسطى.

ومن يقول " هي المغرب " يقول: سبق الظهر والعصر وتأخر العشاء والصبح، فكانت المغرب هي وسطى، ويترجح هذا بأن صلاة الظهر قد سميت الأولى.
وعلى كل حال: فأقوى ما ذكرناه: حديث العطف الذي صدرنا به، ومع ذلك: فدلالته قاصرة عن هذا النص الذي استدل به على أنها " العصر " والاعتقاد المستفاد من هذا الحديث أقوى من الاعتقاد المستفاد من حديث العطف.
والواجب على الناظر المحقق: أن يزن الظنون، ويعمل بالأرجح منها»اهـ.

والله الموفق.

____________
(1) مطبوع بعنوان: "كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى" تحقيق: مجدي فتحي السيد، نشر: دار الصحابة للتراث.
(2) حديث علي رضي الله عنه: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» . وفي لفظ لمسلم «شغلونا عن الصلاة الوسطى - صلاة العصر - ثم صلاها بين المغرب والعشاء».


التعديل الأخير تم بواسطة فتحي إدريس ; 20 Apr 2014 الساعة 12:01 AM
رد مع اقتباس