عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 12 Dec 2009, 12:36 PM
أبو إبراهيم خليل الجزائري أبو إبراهيم خليل الجزائري غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2009
المشاركات: 379
افتراضي " خُذُوا حِذْرَكُمْ " بقلم الشّيخ الفاضل عبد الخالق ماضي الجزائري حفظه الله .

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.


" خُذُوا حِذْرَكُم "



بقلم الشيخ الفاضل :



عبد الخالق ماضي الجزائري


- حفظه الله و رعاه -





الحمد لله رب العالمين ، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .

و بعد :

فكثيرا ما نسمع من جهات متعددة سواء منها وسائل الإعلام أو ما ينشره الكتاب ، الكلام على " الأمن " موصوفا بعدد من الأوصاف ، مثل " الأمن العسكري " و " الأمن السياسي " و " الأمن الإقليمي " و " أمن الدولة " و " الأمن الغذائي " إلى غير ذلك من أنواع الأمن ، و المراد منها كلها بصورة عامة توفير الأمان و الطمأنينة لسلامة هذه الأشياء.

و لكن لا تجد من يتكلم عن الأمن الديني – أعني توفير الأمان و الطمأنينة على دين الله عز و جل – مع أنه أعز شيء عند صاحبه ، بل هو أولى الأشياء التي ينبغي الاهتمام بتوفير الأمن له و العمل على صيانته مما يخاف عليه من تحريفه ، أو الطعن فيه ، أو الفتوى في أحكامه من غير تأهل لذلك ، و لا أريد من خلال هذه الكلمات الموجزة أن أتوسع في الكلام على الأمن الديني من حيث الدفاع عنه بالسنان و قتال أعدائه و إعداد العدة لذلك ، و إنما الغرض من هذه الكلمات هو تحقيق الأمن لهذا الدين – و المقصود تأمين الديانة الصحيحة للمسلمين – من أناس نصبوا أنفسهم مفتين و موجهين و منظرين ، يتكلمون في دين الله بما يحلو لهم ، من غير علم و لا تأهل ، فصارهذا الدين ألعوبة يمتطي ظهرها كل دعي ، و الله تعالى يقول لك أيها المسلم : { و لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } [ الإسراء : 36 ] .

وهؤلاء العادون المعتدون على دين الله و المتسببون في ضلال الناس و غوايتهم أصناف :

- صنف دفعهم جماسهم و تدينهم و غيرتهم على دينهم ليتسرعوا في الفتوى و لما يكتمل علمهم
، و لا نضج فقههم و لا أخذوا عن العلماء الكبار ، فتصدروا لهذا الأمر قبل أن يصدروا و شهدوا قبل أن يستشهدوا ، و رموا بكل رمية فطاش الرمي فأصاب الحبيب و أخطأ البغيض .

فالنصيحة لهؤلاء الطيبين أن لا يتعجلوا الأمر و أن يسيروا في طريق طلب العلم ، و يصبروا حتى تكون لهم الأهلية للفتوى و التوجيه ، و ذلك بدراسة العلوم الشرعية كالتفسير و علومه ، و الحديث و علومه ، و الفقه و علومه ، و كتب الفتاوى ، و غيرها من علوم الشريعة و سير فقهاء الإسلام و أئمة الدين ، و لا يجوز لهم التجرؤ على الفتيا قبل اكتمال علمهم ، فقد روى البخاري و غيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الصدور و لكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالما ، اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا و أضلوا " .

و ليعلم هؤلاء الطيبون أن أهل الفتوى قليلون حتى في جيل الصحابة رضي الله عنهم ، روى الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع ( رقم 188 ) بسنده عن مسروق أنه قال : " كان العلماء بعد نبيهم صلى الله عليه و سلم ستة نفر ، الذين يفتون فيؤخذ بفتواهم ، و يفرضون فيؤخذ بفرائضهم ، و يسنون فيؤخذ بسنتهم ، عمر بن الخطاب ، و علي بن أبي طالب ، و عبد الله بن مسعود و أبي بن كعب ، و زيد بن ثابت ، و أبو موسى الأشعري " .

فلينظر المخلص الحريص على إرضاء ربه كيف أن الصحابة رضي الله عنهم و هم أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه و سلم و أعرفهم بسنته ما كانوا كلهم يفتون الناس ، بل كان الذين يفتون و يؤخذ بفتواهم عددا قليلا جدا لا يتجاوز عدد الأصابع على ما ذكره الخطيب رحمه الله ، و كذا كان الأمر في عهد التابعين و أتباعهم حتى قيل و اشتهر : " لا يفتى و مالك في المدينة " ، و كان العلماء في زمنه رحمه الله متوفرين ، و مع ذلك كان لا يفتي إلا مالك رحمه الله ، و ذلك تقديرا منهم لأهل الفتوى و ضبطا للاحكام الشرعية من الفوضى و كثرة الفتاوى .

فكما يجب أن يحجر على الطبيب المتعالم لصالح الأبدان ، فمن باب أولى الحجر على المتعالم من الفتيا لصالح الأديان ، لأن الأبدان إنما خلقت لأجل الديانة ، قال صلى الله عليه و سلم : " من تطبب و لم يعلم من طب فهو ضامن " [ الصحيحة : 645 ] .

- و أما القسم الثاني فأمرهم أدهى و ضررهم أكثر ، و هؤلاء نفر لا صلة لهم بالعلوم الشرعية و لا بأهل العلم الشرعي ، و إنما هم أدعياء متطفلون على موائد العلم الشرعي ، فتراهم يصدرون الأحكام و الفتاوى و كأنهم أئمة الدين ، و يحشرون أنفسهم في كل مسألة شرعية بدعوى أنه مفكر إسلامي ، أو داعية إسلامي ، و هو لم يدرس من الإسلام شيئا و لا عرف عنه إلا الاسم ، و تراه قد أخذ بعض العمومات من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و بنى على ذلك فهوما من عنده من غير نظر في أقوال الأئمة و آثار عن سلف الأمة ، و لهذا وجب على ولاة أمور المسلمين أن يحجروا على هؤلاء كما يحجر على الطبيب غير العارف بمهنته ، فإن كان حال هؤلاء كذلك ، فمن باب أولى الحذر من صنف آخر و هم قوم زعموا أنه لا ينبغي الأخذ إلا بما ورد في الكتاب العزيز مخالفين بذلك الكتاب و السنة المرجوع إليه الذي قال الله فيه : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم } [ النساء : 59 ] ، و قال سبحانه : { و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ] ، و قال سبحانه : { و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] .

بل إن الرسول صلى الله عليه و سلم أعلمه ربه أن قوما سيكونون يأخذون بالقرآن و يردون السنة ، فقال صلى الله عليه و سلم فيما صح عنه : " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول : بيننا و بينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال أحللناه و ما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا و إني أوتيت القرآن و مثله معه " .

و لا شك أن هذا الطريق مبتدع مبتكر ، لأن أصحابه علموا أنهم لن يفلتوا بالسنة لأنها المبينة لمجمل القرآن و المخصصة لعامه ، و الشارحة لغامضه و المقيدة لمطلقه ، فهجروها و تمسكوا بالقرآن – زعما كاذبا – فضلوا و أضلوا .

- و أضل من هؤلاء جميعا قوم هجروا الوحي ، و هرعوا إلى تحكيم العقول المجردة و الأعراف و القوانين ، زاعمين بذلك أن الزمان غير الزمان ، فإلى المسلمين أقول : خذوا حذركم من هذا الصنف و من الأصناف قبله ، و لا تأخذوا دينكم إلا عمن عرف بالعلم و اشتهر به ، قال مالك رحمه الله : " ما أفتيت حتى شهد لي سبعون من أهل العلم أني أهل لذلك " .

إن عمل كثير من المتفقهة اليوم غير مقبول ، لا سيما في هذا العصر ، عصر التخصص ، فكل يعمل في مجاله ، و فيما يجيده من تخصصه ، فلا يقبل من متخصص في الشريعة أن يفتي في مسائل الطب ، فيصير نفسه طبيبا و يعطي الوصفات للمرضى ، كما لا يقبل من فيلسوف أو سياسي أن يفتي في علوم الشريعة .

و الذي ينبغي فعله في هذا الأمر
– أعني تحقيق الأمان لديانة الناس – أن يتصدى العلماء لكل متهوك متعالم طفيلي بالتحذير منه و صد الناس من حوله حتى تحفظ ديانتهم و لا يقع الضلال في عبادة الله ، لأن " الأمن الديني " لا يقل أهمية عن " الأمن العسكري " أو " الأمن الغذائي " أو ....
و الله ولي التوفيق ، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا .


- انتهى -



انظر مجلة " منابر الهدى " السنة الثانية - العدد الخامس - جمادى الأولى / جمادى الثاني 1422ه.

رد مع اقتباس