عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 11 May 2008, 01:42 PM
أبو البراء إلياس الباتني أبو البراء إلياس الباتني غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Nov 2007
المشاركات: 106
افتراضي

5- هذا النَّفَس الذي قعّد له المشبوه هنا هو نفَس خارجي قديم، قد حفظ لنا التاريخ ما يدل على أنهم من أشد الناس بغضا لأهل العلم؛ الذين كانوا لا يجارونهم على أهوائهم، و أول ما حصل لهم عند استفزاز الشيطان لهم نحو بدعتهم أن زين لهم مفارقة أصحاب رسول الله – صلى الله عليه و سلم –، و هم علماؤهم في ذلك الزمان بلا ريب، فانحازوا عنهم إلى قرية، و لولا أنهم رأوا لأنفسهم فضلا عليهم ما فعلوه، كما فعلوا مع ترجمان القرآن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما –، فقد ذهب لينصح لهم، فلم يمنعهم علمه و لا صحبته و لا كونه من أهل البيت النبوي من أن يبهتوه بوقاحة لأول لقاء به، فقد روى أحمد (1 / 86-87) و الحاكم ( 2 / 152-154) و البيهقي (8 / 179-180) بسند صححه الألباني في 'الإرواء' (2459) عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: (فبعث إليهم علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – عبد الله بن عباس، فخرجت معه حتى إذا توسطنا عسكرهم، قام ابن الكوّاء فخطب الناس فقال: يا حملة القرآن! إن هذا عبد الله بن عباس، فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرّفه من كتاب الله، هذا من نزل فيه و في قومه {بل هم قوم خصمون} (الزخرف 58)، فرُدّوه إلى صاحبه و لا تُواضِعوه كتاب الله – عز و جل –...!!).

هذا تأصيل خارجي خطير؛ بحيث رأوا أن الاقتداء بعلماء زمانهم ـ الذين هم الصحابة ـ قد انقرض؛ بزعم انحرافهم بعد وفاة الرسول ـ صلى الله عليه و سلم ـ، و لذلك لم يكن فيهم صحابي واحد حين اعتزلوا، فقد روى الحاكم (2 / 150) و الطبراني (10 / 312-313) بسند حسن عن عبد الله بن عباس أنه كان مما قاله للخوارج لما ناظرهم أن قال: (أتيتكم من عند صحابة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ من المهاجرين و الأنصار؛ لأبلغكم ما يقولون، المخبرون بما يقولون، فعليهم نزل القرآن، و هم أعلم بالوحي منكم، و فيهم أُنزل، و ليس فيكم منهم أحد...)، و في هذا التصرف تشابه واضح بينهم و بين المشبوه، و كل ما في الأمر أن هؤلاء رأوا أن القدوة بعلماء زمانهم قد انقرضت، و أما المشبوه فقد مد القدوة إلى زمن الجيل الثالث كما مضى، ثم قطعها؛ لأنه مثلهم يرى أيضا أن علماء زمانه لا يصلحون للقدوة!!

و قد ذكروا في ترجمة سمرة بن جندب ـ رضي الله عنه ـ أنه كان مُبغَضا من قبل الخوارج؛ و سببه ما ذكره الذهبي ـ رحمه الله ـ في 'السير' (3 / 186)، قال:[و كان شديدا على الخوارج، قتل منهم جماعة]، و من هؤلاء العلماء الحسن البصري ـ رحمه الله ـ، فقد كان الخوارج في زمانه يريدونه على الموافقة على الخروج فما أفلحوا، لا مع ابن المهلّب و لا مع ابن الأشعث و لا مع غيرهما من الخارجين، حتى اضطروا في خروجهم مع ابن الأشعث على أن يكرهوه على ذلك، و لذلك روى ابن سعد في 'الطبقات' (7 / 174) بسند حسن عن قتادة أنه قال: (و الله! لا يبغض الحسن إلا حروري!).

و روى وكيع في 'أخبار القضاة' (2 / 12) بإسناده إلى خالد بن صفوان قال: (لقيت مسلمة بن عبد الملك بالخيرة بعد هلاك ابن المهلّب، فقال: يا خالد! أخبرني عن حسن أهل البصرة، فذكر له من سيرته الحسنة الشيء العظيم، حتى قال له: حسبك! حسبك! كيف ضل قوم هذا فيهم؟! يعني باتباعهم ابن المهلب).

قلت: يعني كيف خرج قوم مع ابن المهلب الذي خلع يزيد، و فيهم هذا الرجل الذي هو احد رؤوس العلماء،الذي ينبغي أن يتخذهم الناس مرجعا لهم في مسائلهم؟! و لاسيما ما كان في الفتن و ما إليها، قال يونس بن عبيد ـ رحمه الله ـ: (كان الحسن ـ و الله! ـ من رؤوس العلماء في الفتن و الدماء)، رواه ابن سعد في 'الطبقات' (163) بسند صحيح، و عند بعضهم زيادة (و الفروج)، أي كان ممن يُفزع إليه في الفتن التي تتعلق بالفتن و الدماء و الفروج، و نحن نقول: كيف ضل قوم في الجزائر و غيرها و قد خرجوا في حياة أمثال المشايخ الكبار: ابن باز و ابن عثيمين و الألباني ـ رحمهم الله؟!

6- تظهر ثمرة هذا البحث عند ظهور البدع؛ فإن ما أظهر مبتدع بدعة قط إلا صيح في وجهه: من إمامك في هذا؟ بل قيل له: من أنت و من شيوخك؟

و لو لا هذا لقال من شاء في دين الله ما شاء، و لخرج على الأمة يهودي في سمت المسلم، يدعو الناس إلى ما يريد باسم أن الحق معه، و أنه ليس بحاجة إلى أن يبرز هويته العلمية، و لو لا أن العلم سلسلة موصولة حلقاتها بعضها ببعض لوقعت الكارثة، كما هو الشأن هنا، و لذلك روى عبد الله بن أحمد في 'السنة' (509) و ابن بطة في 'الإبانة / تتمة الرد على الجهمية) (156) عن عباد بن العوّام قال: [قدم علينا شريك بن عبد الله منذ نحو خمسين سنة، قال: فقلت له: يا أبا عبد الله! إن عندنا قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث؟ قال: فحدّثَني بنحو من عشرة أحاديث في هذا، و قال: أما نحن فقد أخدذنا ديننا هذا عن التابعين، و أخذ التابعون عن أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ فهم عمن أخذوا؟!]و سنده صحيح؛ و سلْم بن قادم الذي في إسناده ثقة، ترجم له الخطيب البغدادي في 'تاريخ بغداد' (9 / 145)، و حرِّف في نسخة 'السنة' التي حققها الدكتور محمد بن سعيد القحطاني إلى اسم: أسلم، فقال محققه: [لم أجد له ترجمة فيما اطلعت عليه من مصادر!]

7- الاعتراض على العلماء في مسائل القتال و اتهامهم بالجمود و التقصير سنة خارجية معروفة، فقد أخرج البخاري (4513)عن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: (إن الناس ضُيِّعوا، و أنت ابن عمر و صاحب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فما يمنعك أن تخرج؟) الحديث.

و أخرج ابن ماجه (3930) بسند حسنه الألباني عن عمران بن الحصين ـ رضي الله عنه ـ قال: (أتى نافع بن الأزرق و أصحابه، فقالوا: هلَكت يا عمران! قال:ما هلكت! قالوا: بلى! قال: ما الذي أهلكني؟ قالوا: قال الله: {و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله} (الأنفال 39)! قال: قد قاتلناهم حتى نفيناهم فكان الدين كله لله...).

تطبيق هذا التقعيد:

لقد زارني في هذه السنة (1422 هـ) رجل عرّف نفسه بأنه كان (ضابطا شرعيا!) في ’الجيش الإسلامي للإنقاذ’ بالجزائر، و أخذ يشرح لي بأنه و من معه اضطروا إلى حمل السلاح على كراهية منهم لذلك؛ و زعم أنهم لجؤوا إلى ذلك بسبب مضايقات الدولة لهم، فكنت أريد أن أنقض اعتذاره هذا بأمرين:
أحدهما: أن عذر الإكراه على القتل غير مقبول بإجماع العلماء.
و الثاني: أن ذكره لمضايقات الدولة لهم هو المنتصف الأخير لقصتهم مع الدولة، و كان عليه أن يقص عليّ المنتصف الأول الذي تأسس ما بعده؛ و إلا فإن الجميع يعرف التهديدات الدموية التي كان رؤوس ’الجبهة’ يخاطبون بها الدولة و الناس آمنون، فكيف يصدقكم سلطان إذا ادعيتم له أنكم دعاة أمن و هو يسمعكم في كل جمعة تنازعونه الأمر، بل تكفرونه، لاسيما خطابات الإضرابات عن العمل التي دعت إليها ’الجبهة’ في ساحة أول ماي بعاصمة الجزائر، و التي اشتهرت بـ ’إضراب سنة 1991م’، و ما كان فيه من تكفير صريح للسلطان، بل و استحلال لدمه، و جند الدولة الدولة ينصتون بلا أدنى كلفة، و الأشرطة مسجلة محفوظة لدى خاصة الناس و عامتهم!!

يُضاف إليه تأييد رؤوسهم لبعض من حمل السلاحقبل ذلك بسنوات، أعني خروج مصطفى بويعلى...

كل هذا حصل قبل المضايقات، و على كل حال، فإنني لم أذكر شيئا من هذا لذلك ’الضابط الشرعي!’، و لكن اختصرت الطريق لي و له، فقلت له: لما رأيتم الدولة تطاردكم، لماذا لم تتصلوا بأهل العلم ليقروكم على الخروج أو يردوكم؛ فتبنوا عملكم على قاعدة متينة، و تكفوا أمتكم شرور العمل الارتجالي، و تكفوا أنفسكم شرور الاستقلالية في إصدار الأحكام التي يمليها عليكم سوء ظنكم بأهل العلم؟! أو كلمة نحوها.

و قد قلت له هذا؛ لأن الرجل زعم ـ بعد تلك الدماء التي أراقوها ـ أنه جاء ليجمع أقوال العلماء!!!

ففوجئت بانزعاجه بهذا السؤال انزعاجا شديدا، إلى حد أنه رفض الجواب!

فلما رأى إصراري على السؤال نفسه، قال: ما كل الناس يتمكن من سؤال أهل العلم!!

فقلت: إن كان الأمر أمر نقص في الأموال فلقد حلبتم من أموال هذه الأمة ما لا يوصف، أفما يسعكم أن تقتطعوا منها شيئا لدينكم، فتعرفوا ما يُطلب منكم شرعا في تلك الظروف العصيبة؟!

فقال: لا تحرجني بهذا السؤال!

ثم ذكّره الشيطان جوابا آخر، فقال: لا يشترط سؤال الأحياء!!

فأدركت حينئذ مكمن الداء منه و من جماعته، و تأكدت من إساءتهم الظن بالعلماء، و قلت: هذا معناه أن العلم في الأحياء قد انقرض، و هذا يجر إلى تكذيب رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ في قوله في العلماء خصوصا: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله و هم ظاهرون" متفق عليه من حديث المغيرة ـ رضي الله عنه ـ، و في رواية عند الحاكم من حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ : "حتى تقوم الساعة"، انظر 'السلسلة الصحيحة' للألباني (270) و (1956).

ثم لماذا اللياذ بالأموات، وهم عاجزون عن إجابتنا عما لدينا من تساؤلات، و الأحياء من العلماء أفهم منا لمراد الأموات؟! فأيقنت أن الرجل أدركته عنجهية الخوارج، و تذكرت إنكارهم على علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ رجوعه إلى حكم العلماء في زمانه، حين حكم أبا موسى الأشعري و عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ، فقالوا: “حكمت الرجال في دين الله!“، يريدون الاكتفاء بالكتاب الكريم، نظيره قول هؤلاء اليوم: ”يكفينا الرجوع على كتب الأموات!“ فأتى كتاب بعلي ـ رضي الله عنه ـ بكتاب الله و كلمه ليكلم القوم بلا واسطة؛ تهكما بهم؛ لعلهم ينزعون عن بَلادتهم، فقد روى أحمد (1 / 86) و أبو يعلى (474) و الحاكم (1 / 152) و البيهقي (8 / 179) بسند صححه الحاكم و الذهبي، و كذا ابن كثير في 'البداية و النهاية' (10 / 568 – هجر) و الألباني في 'إرواء الغليل' (2459) عن عبيد الله بن عياض قال: (جاء عبد الله بن شداد، فدخل على عائشة و نحن عندها جلوس، مرجِعَه من العراق ليالي قُتل علي، فقالت له: يا عبد الله بن شداد! هل أنت صادقي عما أسألك عنه: تحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي؟ قال: و ما لي لا أصدقك؟ قالت فحدثني عن قصتهم، قال: فإن علياّ لما كاتب معاوية و حكّم الحكمين، خرج عليه ثمانية آلاف من قرّاء الناس، فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، و إنهم عتبوا عليه، انسلخت من قميص ألبسكه الله تعالى، و اسم سماك الله به، ثم انطلقت فحكمت في دين الله، فلا حكم إلا لله تعالى!
فلما أن بلغ عليّا ما عتبوا عليه و فارقوه عليه، فأمر مؤذنا فأذن: أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن، فلما أن امتلأت الدار من قرّاء الناس، دعا بمصحف إمام عظيم، فوضعه بين يديه، فجعل يصكه بيده، و يقول: أيها المصحف! حدث الناس! فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين! ما تسأل عنه؛ إنما هو مداد في ورق، و نحن نتكلم روينا منه، فماذا تريد؟ قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا، بيني و بينهم كتاب الله ـ عز و جل ـ...).

قلت: هذه البلادة التي دعا إليها الخوارج عليا شبيهة بالبلادة التي يدعو إليها هؤلاء السياسيون اليوم و التكفيريون، و بدافع نفرتهم الذين يفتونهم بما لا يهوون، فقد أعرضوا عن فتاوى الأحياء، و ادعوا أنهم يرجعون إلى الأموات منهم، و هم يعلمون أننا إذا اختلفنا معهم في كتابات الأموات، فإن أهلها لا يقدرون على أن يخرجوا من قبورهم ليشرحوا لنا مرادهم!! و الحقيقة أن وجه الشبه واحد بين القوم و بين سلفهم؛ فإن خوارج حروراء ما رفضوا الرجوع إلى حكم الحكمين إلا لأنهم لم يرتضوا حكمهما، فطلبوا الرجوع إلى الكتاب مباشرة، كما أن هؤلاء طلبوا الرجوع إلى كتب الأموات مباشرة دون الرجوع إلى الأحياء للعلة نفسها، فحقيق بمن ابتلي بهم أن يفعل بهم كما فعل علي ـ رضي الله عنه ـ، فإذا قالوا يكفينا الرجوع إلى كتب الأموات، فليجعلهم بين أمرين: إما أن يقبلوا عرض الكتاب على عالم، وإما أن يأتي إلى كتابهم الذي اختاروه، ثم يستنطق ورقاته لتفصح لهم عما قصده صاحب الكتاب، أعني الميت!!

هذا ذكرته لبيان أن هذا الصنف من الناس من المتصدين للدعوة لا يرغبون إلا فيما يوافَقون عليه، و لو وافقهم الأحياء على ما هم فيه لأتوا عليهم مذعنين، و طاروا إليهم بجناحين!!

هذا هو الهوى الذي يكون من الأمارات الدالة على أن ادعاء من يدعي التحاكم إلى نصوص الشريعة إنما هو مجرد دعوى؛ لأن اتباعه لهواه يكذبه و لذلك قال الله ـ عز و جل ـ {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله و اتبعوا أهواءهم} (محمد 14).

تنبيه:

ما ذكره هذا الضابط هنا من أن الجيش الإسلامي للإنقاذ حمل السلاح مضطرا، و أن (من فضلهم!!) على الناس أنهم لا يقاتلون إلا من يقاتلهم من الدولة أو غيرها، قولهم هذا هو مذهب الخوارج؛ فقد ذكر ذلك أحد الخوارج الإباضية في كتابه ’الخوارج و الحقيقة الغائبة’ (ص 130) نقلا عن بعضهم قوله: “إنا لم نخرج لنفسد في الأرض و لا لنروّع أحدا، و لكن هربا من الظلم، و لسنا نقاتل إلا من يقاتلنا!!“، و انظر 'الأنساب' للبلاذري (5 / 190).

و أم أهل السنة فإنهم لا يتقدمون بين يدي الله و رسوله؛ و قد قرؤوا في صحيح مسلم (1848) عن حذيفة بن اليمان قال: قلت: يا رسول الله! إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: "نعم!"، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: "نعم!" فقلت: هل وراء ذلك الخير شر؟ قال: "نعم!" قلت: كيف؟ قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، و لا يستنون بسنتي، و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس"، قال: قلت: كيف أصنع ـ يا رسول الله! ـ إن أدركت ذلك؟ قال: "تسمع و تطيع للأمير، و إن ضُرب ظهرك و أُخذ مالك فاسمع و أطع!".

رد مع اقتباس