عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 21 Dec 2014, 10:00 AM
أبو حذافة صدام زميت الجزائري
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خالد حمودة مشاهدة المشاركة
أحسن الله أخانا مرادًا، وبلَّغك مرادَك في خير وعافية.
هذه القضيَّة التي ثوَّرتها تتلجلج في صدري منذ مدَّة، لكن لا من جهة تسليمها، بل من جهة استشكال ما أبداه شيخ الإسلام رحمه الله، وأحبُّ أن أكتب هنا وجه الاستشكال الَّذي عرض لي في كلامه لينظَر فيه من له آلة النَّظر من إخواننا عسى ذلك أن يكون فتح باب علم وفهم علينا جميعًا.
ففي النَّصوص ما يفيد صحَّة هذا الإطلاق، وهو قوله تعالى: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»، فهو وإن كان نفيا كما قال الشيخ، إلا أنه نفيٌ في معنى الإثبات، ولذلك ذكر العلماء ـ ومنهم الشيخ تقي الدين في الفتوى الحموية ـ في أدلة إثبات صفة الحياء لله تعالى قوله تعالى: «إن الله لا يستحيي من الحق»، فمعناه أنه يستحيي مما ليس بحق، فكذلك قوله: «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» معناه أنَّه كلَّف الأنفس ما في وسعها، فهو نص على صحة تسمية هذه الأمور بالتَّكاليف.
ووجه آخر، هو كون الأحكام الشَّرعية لذَّة وسروًرا لا تكليفًا ومشقَّة لا يكون في حقِّ جميع النَّاس بل في حقِّ الخاصَّة ممَّن جاهد نفسَه وروَّضها حتَّى انقادت ولانت وصارت أهواؤُها ورغباتها وفق الشَّريعة فصارت تتنعَّم بما يشقُّ على غيرها، وتلتذُّ بما يتأذَّى منه سواها، أمَّا الجمهور الأعظم من المكلَّفين فهي شاقَّةٌ عليهم ويحتاجون إلى صبر ومصابرة ومجاهدة، ولهذا جاء الأمر بهذه الأمور في الشَّرع، وشرع لنا النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أن نسأل الله الإعانة على القيام بالشَّرع والدِّين.
ومن الأدلَّة الدالَّة على هذا ما اتَّفق عليه المتكلِّمون على مقصِد الشَّرع من التَّكليف وهو إخراج الإنسان من داعي الهوى، ولا شكَّ أنَّ في خروج الإنسان من داعي هواه وميله عنه مشقَّة عليه، بل شبَّهه ابن الجوزي رحمه الله في بعض كلامه بسير الماء في جهة العلوِّ، عكسَ مساره الطَّبيعي المعهود.
هذا من جهة واقع الحال، فإن قيل إنَّ المراد أنَّه الحال الَّذي ينبغي أن يكون عليه المسلم فيقال: إذن لا مانع من إطلاقه باعتبار المكلفين، وإن امتنع ذلك باعتبار ما ينبغي أن يكونوا عليه.
ثمَّ إنَّ هذه العبارة ليست من إحداث المتكلمين كما يُفهم من ربطكم ـ أخي مراد ـ بينها وبين مسألة الحكمة والتَّعليل، بل وقعت في كلام أكابر الأئمَّة كالشَّافعي ومحمَّد بن جرير الطبري ومحمَّد بن نصر المروزي ومن بعدهم كابن حبَّان وابن أبي زيد القيرواني والبغوي وغيرهم.
ومع هذا كلِّه فإنَّ ما أبداه الشيخ تقيُّ الدين من القوَّة على ما هو ظاهر، ولو قيل إنَّه يستفادُ من كلامه استحسان تجنُّب هذا الإطلاق لا عدُّه غلطًا أو من إحداث المتكلِّمين لكان قريبًا جيِّدًا، والله أعلم.
في قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) إطلاق التكليف في موضع النفي، وهو وإن كان نفيا إلا أنه في موضع الإثبات، ومعناه أن الله كلَّف الأنفس ما في وسعها، لكن ليس فيه صحة إطلاق لفظ (التكليف) على جميع الشريعة، بل غاية ما فيه أن بعض الأمور الشرعية فيها تكليف ومشقة وهذا التكليف داخل تحت نطاق الوسع.
والتكليف في اللغة إلزام ما فيه مشقة، وبه ورد اصطلاح الشريعة ولا فرق ولا دليل مُفَرِّق؛ وليست كل الشريعة تكليفا بل فيها التكليف -وهذا مقيد بالوسع والطاقة-، وفيها ما ليس تكليفا وإلزامَ مشقةٍ كالإيمان والذكر والمباح والمندوب والمكروه وبعض الواجبات.. وهذا الذي أنكره شيخ الإسلام ابن تيمية، = أنْ يسمَّى جميعُ الشريعة تكليفًا وإلزام مشقة، ولم ينكر -رحمه الله- أن في الشريعة بعض التكليف، لأن في بعضها تكليف ومشقة (نعم)، لكنَّ غالبها راحة لا تعب فيها، ولذة ونعيم لا مشقة فيهما.
أما ما ذكرتَ أخي خالدُ بالنسبة لتلك الأعمال أعلاه فهي ذات مشقة داخلة تحت الوسع (نعم)، وهذا مما لا ينكره شيخ الإسلام.. وإنما هل كل الشريعة مشقةٌ!؟ فالإيمان والشهادتان والتسبيح والمباح دون النظر لنوازع الهوى ليست بتكليف ولا مشقة أصلا، ويستوي في ذلك الخاص والعام.

والخلاصة: أن أعمال الشريعة ومطالب الشارع بالنظر إلى ذاتها على نوعين باعتبار المشقة فيها:
1. أعمال ذات مشقة وتكليف: وهذه أوجب الله فيها أن تكون تحت وسع العبد وطاقته، ومنها الحج والصيام.. وغير ذلك. (والتكليف معناه إلزام عمل ذي مشقة على العبد، وليس معناه الأمرُ والطلب والتشريعُ عمومًا، وأظن أن هذا سبب الخلاف).
2. أعمال لا مشقة فيها ولا تكليف: وهذا غالب الشريعة، كالإيمان والشهادتين والزواج والمباح.. وغيرها.
ويمكن أن يقال: هناك قسم ثالث تتجاذبه الحالتان، باختلاف المرض والصحة والصغر والكبر وغير ذلك من العوارض، كالصلاة وقراءة القرآن.. وغير ذلك.

# وعليه فإن إطلاق التكليف والمشقة على جميع أمور الشريعة (كما أحدثه المتكلمون، ولم يقله أحد من السلف البتة!) غلطٌ يجب عدمُ السير عليه، وإنما هو جزء من أعمال الشريعة، وقسمٌ مما شرعه الله لعباده.
ويمكن أن يستعاض بلفظ (التشريع) عن لفظ (التكليف) في الأمور التي لا مشقة ولا كلفة فيها، ويصح إطلاق التكليف والتشريع معا -فهو لفظ عام- في الأمور التي فيها مشقة وكلفة. والله أعلم!
ومما تقدم يستفاد أن لا مطعن في كلام شيخ الإسلام وإنكاره، وإنما الملام على المتكلمين في إطلاقهم لفظ (التكليف) بمعنى (التشريع) مطلقًا؛ فخالفوا بذلك اللغة من جهة، وفي إطلاقهم إياه على جميع أمور الشريعة؛ فخالفوا الواقع والشرع من جهة أخرى.. حتى احتاجوا لتأويل إدخال المباح والمستحب في (التكليف).

وختاما؛ قد يقال: إن المسألة من باب الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه، وقد اصطلح الأصوليون على إطلاق (التكليف) على (التشريع) عمومًا من باب التغليب.
فالجواب: أنه قليلٌ وليس بغالبٍ، وموهمٌ معنًى لغويًّا آخرَ في التكليف.. وينبغي على طلاب العلم أن لا يقضوا حياتهم أَسْرَى العناوينِ وعَبِيدَ الألقاب!


التعديل الأخير تم بواسطة أبو حذافة صدام زميت الجزائري ; 22 Dec 2014 الساعة 05:42 AM
رد مع اقتباس