عرض مشاركة واحدة
  #12  
قديم 17 Apr 2020, 02:38 PM
أم وحيد أم وحيد غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Dec 2018
المشاركات: 365
افتراضي







هذه، سورة الكهف، بما فيها من عِبرٍ وعِظات، يعلّمنا الله سبحانه، من خلالها، ماهي الغاية من خلقنا، وما هي الوسائل التي تعيننا على تحقيق هذه الغاية، بـالطّريق الذي يرضيه عنّا. والغاية من الخلق أن نعبد الله ولانشرك به شيئا.

وما أصحاب الكهف إلاّ قرينة قويّة ودليل ساطع على ما يريده الله من عباده، في توحيدٍ له يقطع على الإنسان، كلّ طمعٍ في غيره، يتعلّق به للحصول على مبتغاه وسعادته في الدّنيا والآخرة.

يقول الله عزّوجلّ، في سورة الكهف، قولاً، يذكّر به نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، على أن يتّخذ كتاب الله دستوره في الحياة، يتلوه آناء اللّيل وأطراف النّهار، بتدبّرٍ يحصل به على المقصود، من إتقان العمل به والدّعوة إليه بما يقرّبه إلى رضاه والجنّة، ويبعده عن سخطه والنّار.

يقول الله تعالى: "وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)"



وقد فسّر الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله هذه الآية بأبسط المعاني وأوجز الألفاظ التي توصل القارىء إلى المعنى الحقيقي للآية، والغاية من قوله سبحانه، حيث قال الشيخ رحمه الله:

{ التّلاوة: هي الاتّباع، أي: اتّبع ما أوحى الله إليك بمعرفة معانيه وفهمها، وتصديق أخباره، وامتثال أوامره ونواهيه، فإنّه الكتاب الجليل، الذي لا مبدّل لكلماته، أي: لا تُغَيّر ولا تُبّدل لصدقها وعدلها، وبلوغها من الحسن فوق كلّ غاية (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا)، فَلِتَمَامِها، استحال عليها التّغيير والتّبديل، فلو كانت ناقصة، لعرض لها ذلك أو شيء منه، وفي هذا: تعظيم للقرآن، في ضمنه: التّرغيب على الإقبال عليه.

(وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) أي: لن تجد من دون ربّك، ملجأ تلجأ إليه، ولا معاذا تعوذ به، فإذا تعيّن أنّه وحده الملجأ في كلّ الأمور، تعيّن أن يكون هو المألوه المرغوب إليه، في السرّاء والضرّاء، المفتقر إليه في جميع الأحوال، المسئول في جميع المطالب.} انتهـ.

ولهذا شرع لنا عند النّوم، لاستحضار عظمة الله سبحانه وتوحيده وإظهار الافتقار إليه سبحانه، دعاء عظيم أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نردّده كلّ يوم ، والحديث هكذا:

عنِ البرَاءِ بنِ عازِبٍ، رَضِيَ اللَّه عنْهمَا، قَالَ: قَالَ لي رسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا أَتَيتَ مَضْجَعَكَ فَتَوضَّأْ وضُوءَكَ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلى شِقِّكَ الأَيمَنِ، وقلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نفِسي إِلَيكَ، وَفَوَّضتُ أَمري إِلَيْكَ، وَأَلَجَأْتُ ظَهرِي إِلَيْكَ، رغبةً ورهْبَةً إِلَيْكَ، لامَلجأَ ولا مَنجي مِنْكَ إِلاَّ إِليكَ، آمنتُ بِـكِتَابِكَ الذِي أَنزَلْت، وَبِـنَبِيِّكَ الذِي أَرسَلتَ، فإِنْ مِتَّ. مِتَّ عَلَى الفِطرةِ، واجْعَلهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ" مُتَّفقٌ عليهِ.

إذا كانت الغاية من خلق الإنسان هو عبادة الله وتوحيده، فما هي الوسائل المؤدّية إلى تحقيق هذه الغاية، في أحكامٍ، شرعها الله لنا في كتابه الحكيم، ووضّحها لنا نبيّ الرّحمة محمد صلى الله عليه وسلم في سُنّته، التي هي الوحي الثاني، الذي يعتمد عليه المسلمون في عباداتهم وكلّ ما ينفعهم في حياتهم؟!!



لقد ذكر فضيلة الشيخ العلاّمة ربيع بن هادي عمير المدخلي حفظه الله وأعلى مقامه، عشر وصايا من سورة الأنعام، يشرحها للقرّاء المنتفعين بها، الّذين ساقهم الله إلى سعادة الدنيا ورخاء الآخرة، في مقال عنوانه: شرح الوصايا العشرة من سورة الأنعام، وسوف أذكرها باختصار كلامه كالآتي، قال حفظه الله:

{ فسوف أفسِّر لكم بعض الآيات من سورة الأنعام ألا وهي قول الله تبارك وتعالى :

{ قُلْتَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( الأنعام :151 - 153 ) .

كان العرب في الجاهلية يُحلِّلون ويٌحرّمون بأهوائهم وبجهلهم وبضلالهم، كانوا يعبدون الأوثان،ويتقرّبون إليها بالقرابين من الأنعام والحرث والأولاد، فأنكر الله تبارك وتعالى عليهم هذا الشرك، وأنكر عليهم هذه التّشريعات، يُحلّلون ويحرِّمون كما شاءوا بجهلهم وضلالهم! قال الله تبارك وتعالى: (مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) (المائدة : 103) .

البحيرة: الناقة يُمنَع درّها فلا تُحلَب إلا للطواغيت وسدنتها .

والسائبة: هي التي يسيبونها فلا يحمل عليها أحد شيئا؛ يسيبونها من أجل الأصنام والأوثان.

والوصيلة: هي الناقة البكر تلد أنثى ثم تلد أنثى وليس بينهما ذكر، فيسيبونها لطواغيتهم.
والحام: الفحل من الإبل يضرب الضراب المعيّن، ثم بعد ذلك يُطلق سراحه فلا يُحمل عليه ولا يُركَب من أجل الأوثان، فأنكر الله ذلك وقال: ما شرع الله ذلك بل حرّمه، وهذا كذب وافتراء على الله عز وجل، (وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) ( الأنعام : 139 )

يحِلُّون لأنفسهم ما يشاءون ويحرِّمون على نسائهم ما يشاءون، من أمهاتهم وبناتهم وزوجاتهم -والعياذ بالله- .

وتشريعات أخرى أنكرها الله تبارك وتعالى عليهم، ومنها قول الله تبارك وتعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ) ( الأنعام : 145 ) .

هذا الذي ورد في الكتاب، ثم أضاف الله بعد ذلك على لسان رسوله تحريم أكل الحمر الأهلية، وأكل كلّ ذي ناب من السباع، وأكل كلّ ذي مخلب من الطير.

وفي الحديث عن ابن عباس: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلّ ذي ناب من السباع وعن كلّ ذي مخلب من الطير(1) ) وكلّ ذلك من تشريع الله سبحانه وتعالى .

ثم قال الله تبارك وتعالى في هذه الآيات: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) لا آباؤكم ولا أجدادكم، وإنّما الله هو الذي يمتلك حقّ التحليل والتحريم والتّشريع، وحده سبحانه وتعالى، إذ هو الربّ الخالق، البارئ، المصوِّر، الذي خلق هذا الكون ودبّره، وخلق الجنّ والإنس لعبادته، فـالحقّ التّشريعي له سبحانه وتعالى، فحرّم الشِّرْك به، أوّل المحرّمات وأعظمها وأخطرها: الشِّرْك بالله تبارك وتعالى، ذلكم الذّنب العظيم الذي تهتزّ له السماوات والأرض، بل تكاد تتفطّر وتكاد تنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً منه، ذلكم الذّنب الذي لا يغفره: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) (النساء : 116) (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) ( الحج : 31 )، فهذا ذنب لا يُغفَر، فيجب على البشرية جميعا أن يخلصوا الدّين لله وأن يعبدوه وحده وأن يحقّقوا الغاية التي خلقهم من أجلها .

(أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً) :

شيئا من الأشياء، يعني (شيئا) مفعولا، فلا تشركوا بالله شيئا من الأشياء، لا من الملائكة ، ولا من الأنبياء، ولا من الأوثان، ولا من الأشجار، ولا الشمس ولا القمر، ولا شيئا من المعبودات التي يعبدها الناس على اختلاف مللهم ونحلهم .

أو : لا تشركوا به شيئا من الشِّرْك، و (شيئا) على هذا مصدر، لا تشركوا به شيئا من الأشياء، من كل ألوان الشِّرْك صغيره وكبيره .

(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) :

الوالدان لهما حقّ عظيم، لذا يقرن الله حقّهما بحقّه في آيات كثيرة، واعتبر العقوق من أكبر الكبائر، لأنّه نكران للمعروف ونكران للجميل، كما قال الله تبارك وتعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) ( الإسراء : 23 - 24 ) .

يعني منّة عظيمة للوالدين عليك، وأيادٍ بيضاء، لا تستطيع أن تكافئهما مهما أطعتهما ومهما بالغت في البرّ والإحسان إليهما، إلاّ أن تجد أحدهما مملوكا فتشتريه فتعتقه، كما جاء في الحديث، أمّا لو بذلت ما بذلت من البرّ والإحسان إلى أبويك والطاعة لهما، والإكرام لهما، والتّواضع لهما، فلن تبلغ شكرهما .

فيجب أن يعرف المسلم حقّ أبويه، قال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) ( لقمان : 14 )، قرن شكرهما بشكره سبحانه وتعالى .

كثير من الناس يتهاون في حقّ أبويه -مع الأسف الشديد- وينسى ذلك المعروف العظيم، يعني من الحمل إلى الولادة...المتاعب والمشقّات، إلى كدّ الأب عليه وبرِّه به ورأفته به والإنفاق عليه، إلى أن يكبر ، ثم في الأخير ينسى أبويه! هذا بلاء والعياذ بالله، ونكران للجميل والمعروف، ومن أحطّ أنواع نكران الجميل والمعروف .

فلابدّ من الإحسان إليهما، (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) : أحسنوا بالوالدين إحسانا، (إحسانا) مفعول لفعل محذوف، تأكيدٌ لهذا الفعل .

الإحسان ما هو؟ كلّ ما يطلق عليه إحسان لابدّ أن تبذله لأبويك استخدم كل ما تستطيع من إحسان وإكرام لأبويك.

(وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ) :
كان هناك في الجاهلية عادة خبيثة، يقتل ولده خشية الإملاق سواء كان ذكرا أو أنثى، أو يقتل البنت خشية العار! (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ) (النحل :58 ) والعياذ بالله، كانوا يأنفون من البنات ويقتلونهنّ خشية العار، يئدوهنّ وهنّ أطفال لا ذنب لهنّ : (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) (التكوير : 8 - 9)، يُسأل القاتل الذي وأد فلذة كبده، يسأل الموؤودة تنكيلاً به وتشهيرا به في ارتكابه لهذا الذنب.
والله تبارك وتعالى أكرم المرأة في الإسلام إكراما عظيما، وقد كانت من سقط المتاع، وكانت تمتهن، تورث ولا ترث ويعضلها الرجل ويتحكّم فيها فيتزوّجها ويطلق ويرجِّع، ويطلق ويرجِّع، وكم أهينت المرأة في الجاهلية وفي الجاهليات كلّها، فأكرمها الإسلام وجعلها ترث وتورث، وأمًّا تُبرّ، وابنة تُحتَرم، وأختا توصل، وهكذا رفع من شأنها، ولكن أعداء الإسلام لا يرون هذا الإحسان إلى المرأة في الإسلام، فيشيرون من قريب أو من بعيد إلى أنّ الإسلام قد هضم المرأة - قاتلهم الله - !
أمّا المساواة التي يريدونها -والعياذ بالله- فهي ليست من العدل: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَــدْراً) ( الطلاق : 3 )، والله تبارك وتعالى أعطى للرجال على النساء درجة، وكلّف الرجل بالإنفاق عليها وإسكانها ورعايتها وحمايتها وإلى آخره، فهي في راحة وهناء .
وإذا قارنت بين وضعها حتى الآن في بلدان غير بلاد المسلمين، المرأة لا تزال ممتهنة، بينما المرأة في الإسلام محجبة، محترمة، يعولها زوجها أو أبوها أو أخوها، يكفلها الرجل حماية لها وصيانة لها .

(وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ)، يعني من الفقر، يعني: لا تقتل ولدك ولو كنت فقيرا وتعيش في غاية من الفقر لتتخلّص منه، يعني تخاف يشاركك في رزقك -والعياذ بالله- ! .

وقال في آية الإسراء: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) فلا تقتله، لا خشية إملاق -إذا كنت غنيا وفي حال السعة ترقبا للفقر-، ولا تقتله وأنت فقير، حماية وصيانة من هذه الوحشية التي كانت تمارس في تلك الجاهلية الجهلاء والعياذ بالله .
فيحمي الإسلام المرء صغيرا وكبيرا ويصونه، وهذا من فضل الله ورحمته سبحانه وتعالى بعباده، بالأطفال والنساء والأيتام وإلى آخره، كلّ ذلك تحدث عنه القرآن والسُنَّة، حتى بالحيوانات كما قال صلى الله عليه وسلم: (عذبت امرأة في هرّة سجنتها حتّى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (2) ) فكيف بالبشر؟! كيف ببني الإنسان؟! الذي كرّمه الله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء :70 ) .

قال تعالى: (نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) قدّم رزق الآباء هنا، لأنّهم في حال الفقر، فقدّم ذكرهم وذكر رزقهم على رزق الأبناء، وفي سورة الإسراء قال: (نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) يقدّم الأهم فالأهم.

وقوله: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) :
حماية للمجتمعات من الفواحش والرذائل والعياذ بالله، لأنّ الله خلق الناس لعبادته وطاعته، وشرّع لهم التّشريعات لتكون المجتمعات في غاية النّظافة والنّزاهة والحياة الكريمة، ليست الحياة الجاهلية، سواء الجاهلية المتوحشة أو هذه الجاهلية المتحللة والعياذ بالله، يريد للبشر -الذين كرمهم الله- أن يحيوا حياة طيبة كريمة، لا فحش فيها ولا فواحش، لا فحش اللسان ولا فحش الجوارح والقلوب، والعياذ بالله .

(وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ)، فضلا عن ممارستها، نهاك عن قربانها، والنهي عن ممارستها والوقوع فيها أولى وأولى، فإذا نهاك عن قربانها، يعني الدندنة حول الشيء، فكيف بالوقوع فيها والعياذ بالله؟!

(مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)، ما يخفى منها وما يُعلَن، لا تقربوا الفواحش، منها الزنا والعياذ بالله ومقدماته، لا تقربوها، والنظر مقدمة للوقوع في هذه الفاحشة، فأمر الله تبارك وتعالى بغضّ الأبصار من الجانبين، من الرجال والنساء: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (النور : 30)، يعني هذا سدّ لذرائع الزنا والفواحش، (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ( النور : 31 )، كل هذا لسدّ الذرائع إلى الوقوع في الفواحش لتبقى المجتمعات التي تؤمن بالله نظيفة طاهرة من الفواحش الظاهرة والخفية : (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) .

(وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ)
حماية للدماء التي يستبيحها البشر إذا تمرّدوا على شرائع الله عزّ وجل واستباحوا لأنفسهم سفك الدماء وارتكاب الفواحش، وهذه توجد في المجتمعات الجاهلية .

أمّا الإسلام فإنّه يصون الأعراض ويحفظ الدّماء ويحميها، (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ)، (مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) ( المائدة : 32 )، (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء : 93) : حماية، وعيد شديد، يعني بيان فظاعة القتل، الذي يقتل نفسا واحدة فكأنّما قضى على الإنسانية كلها: (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً)، وشرع القصاص من أجل ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى) الآية . (البقرة : 187)، فأيّ حماية للدماء مثل هذه الحماية؟!.

وقوله : (إِلاَّ بِالْحَقِّ)، يعني لا تقتلوها بحال من الأحوال إلا بالحقّ، وهو أن يَقتُل فيُقتَل، يُقاد منه، أو يرتكب وينتهك حرمة الإنسان، فيزني وهو مُحصَن فيُقتَل، أو يرتدّ عن دين الإسلام، يفتح بابا للشرّ على الإسلام فيرتدّ، فيُقتَل كما في الحديث: (لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزّاني والنّفس بالنّفس والتّارك لدينه المفارق للجماعة (3))، فهذا هو الحقّ الذي يستحقّ أن يُقتَل، أن تقتل هذه النفس التي حرّم الله قتلها، لأنّها هي انتهكت حرمات الله تبارك وتعالى، فيعدو على نفس مسلمة فيقتلها، أو نفس حماها الإسلام بالعهد فيقتلها، لأنّ نفس المسلم ونفس الذمّي محرّمة، لأنّه في ذمّة الله وذمّة رسوله فلا نخفر ذمّة الله عز وجل فنقتل الذمّي: ( مَن قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنّة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما(4))، هذا احترام لنفس المسلم ولنفس مَن يأوي ويعيش في ظلّ الإسلام وفي ذمّة المسلمين، هل يوجد دين كهذا؟! الله أكبر، ما أعظم الإسلام!!.

(ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
الإشارة ترجع إلى هذه الأمور التي سلفت، من تجنّب الشِّرْك بالله تبارك وتعالى، ومن تجنّب عقوق الوالدين، والقيام ببرّهما، ومن قتل الأبناء، ومن قتل النفس، الإشارة تعود إلى هذه الخمس (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ) والوصية هي الأمر المؤكد اللازم الذي يجب القيام به، (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تعقلون الأمور وتدركون الأخطار التي تترتب على ارتكاب هذه الجرائم، وتدركون الفوائد العظيمة من التزام تشريع الله تبارك وتعالى تجاه هذه الأمور .

(وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
انظر كيف يعتني الإسلام باليتيم!!
لا تقربوا مال اليتيم في حال من الأحوال، إلاّ بالخصلة التي هي أحسن، وهي رعاية ماله وحفظه وتنميته، وبعضهم يفسّر (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بالتّجارة فيه، لينمو، ويحرِّم عليك أن تأكل من مال اليتيم شيئا، والوصي عليه إن كان غنياً فليستعفف، وإن كان فقيراً فليأكل بالمعروف: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء :10)، وأوصى الله باليتيم في آيات كثيرة، انظروا هذه الرحمة في الإسلام والعناية بالكبير والصغير، والعناية بكلّ مخلوقات الله عز وجل ولا سيما اليتيم: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) ( الضحى : 9- 10 )

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) ( الماعون : 1- 2 ) أي لا يحترمه، يهينه ويدفعه بعنف، فيدخل في الويل وهذا الوعيد الشديد -والعياذ بالله- فلابد من الرحمة والرأفة باليتيم والعناية به، والذي يعول يتيما يُبعث مع رسول الله، يقيم معه في الجنة: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا) . وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا (5) ) عليه الصلاة والسلام، كافل اليتيم، تكفل يتيما لك أو لغيرك تنال منزلة عظيمة وجزاء عظيماً عند الله عز وجلّ، والوعيد الشديد على مَن لا يحترمه ويأكل ماله أو يهينه، ويل له إن أهانه والنار له إن أكل ماله .

ثم يقول تعالى: (وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)، (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) ( الأعراف : 85 )،
لابد من العدل، سواء أخذت أو أعطيت، لابد من العدل .

(لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) يعني إذا اجتهدت غاية الاجتهاد على أن لا تخسر الميزان أو الكيل، اجتهدت فحصل خلل، نقص من حيث لا تدري، فلا يؤاخذك الله به لأنّ التكاليف كلّها مقيّدة بالقدرة والطاقة. فالّذي يخرج عن طاقة الإنسان لا يكلِّفه الله به: (لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)، في هذه الآية وفي غيرها: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) ( البقرة : 286 )، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ( الحج : 78 )، فالتكاليف في حدود القدرة والطاقة، فيجتهد الإنسان ويبذل أقصى وسعه في أن لا يظلم هذا الإنسان الذي يتعامل معه، سواء أخذ منه، كال له أو اكتال منه، يحرص أن يكون مقسطا في ذلك، عادلا في ذلك، فإن غُلِب على أمره من حيث لا يدري فلا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها، أمّا أن يتعمّد، فالله أكبر: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) ( المطففين : 1-3 ) حتّى لو كان كافرا أوف له الكيل، لو كان كافرا فضلا عن المسلم، فلابد أن تتعامل بالعدل مع كل الناس في الأقوال والأفعال، فقوله: (لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)، يعني إذا اجتهد الإنسان وبلغ أقصى طاقته في التّحرز من الوقوع في الإثم، ونقص من يتعامل معه بكيل أو وزن أو نحو ذلك، ثم حصل زيادة حبة أو حبتين من حيث لا يدرك الإنسان أنه نقص أو زاد لنفسه فإنه لا يؤاخذ به، لأنّ الله لا يؤاخذك إلاّ بما تعمدت فيه، أمّا الخطأ والنسيان فمرفوع عن هذه الأمّة .

.....يتبع..إن شاء الله...

الصور المرفقة
نوع الملف: png هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.png‏ (835.3 كيلوبايت, المشاهدات 1956)
نوع الملف: png واتلو ما أوحي إليك.png‏ (62.1 كيلوبايت, المشاهدات 2374)
نوع الملف: png معنى التلاوة عند العثيمين.png‏ (411.5 كيلوبايت, المشاهدات 3392)
نوع الملف: png لاملجأ ولامنجى منك إلاّ إليك.png‏ (1.08 ميجابايت, المشاهدات 2391)
رد مع اقتباس