عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 27 Jun 2019, 02:55 PM
أبو معاذ محمد مرابط أبو معاذ محمد مرابط غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: May 2007
المشاركات: 350
افتراضي



مداواة النفوس
بما في فتنة المُفرّقِين من العِظات والدروس
«الحلقة: 3»


الحمد لله رب العالمين، وصلّ اللهم وبارك على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ثمّ أما بعد:
فإنّ الفتن تمسح الحقّ من القلوب مسحا، حتّى يصير الرجل منكرا ما كان يعرفه وعارفا ما كان ينكره، وفيها تختلط مراتب الرجال في النفوس، وتعمّ فوضى التقويم، فيزاحم الجاهل العلماء في بساط التوجيه والإرشاد، ويعتلي المتعالم المتصدّر منصّة الفتوى والتعليم، ويؤخَّر السابقون في مضمار الدعوة، ويقدَّم الدخلاء وتُرسم أسماؤهم في سبورة التنظير، والسعيد من الناس من يبقى ثابتا على تلال الوفاء، مستظلاّ بظلال الصدق والإخلاص، بعيدا عن عواصف التغيير، غريبا عن فيافي التبديل، الصادق عنده لا يصير كاذبا إن هجمت عليه الأمّة بالكذب والتعيير، والعالم عنده لا ينزل عن مرتبته إن جهلت الخلائق رُتبته على حين بغي، والمجاهد يبقى مجاهدًا في قلبه ولو جرّدته الجماهير من مشاهده ووقائعه التي رسمها جهاده، أمّا أنصاف العقلاء وصغار النفوس فحكمهم على النّاس يخضع لقول الناس، فالقول وقتها قول الناعقين، والحكم حكم الظالمين، فدولتُهم تقوم إذا أقيمت دولة الظلم، ووظيفتهم في أيامها لا تخرج عن وظيفة الأسرى الذين تحققت مصلحتهم في الانصياع لأوامر الجلاّد.
وقد رأينا في معترك هذا الزمان الذي حلّ فيه الانفلات محلّ الانضباط، وثُبِّت فيه التنكّر مكان الوفاء، كيف ركب أقوام موجة التفريق العاتية وهم لا يشعرون وتقعّدت قواعدهم في قلوبهم وهم لا يعلمون، وفي خضم هذه الضوضاء الأخلاقية تسللت جراثيم البغي من ساحات التفريق إلى ثغور الجهاد والرباط، فاستوطنت قلوب بعض الغافلين، ونجّست نقاوتها، ومنها جرثومة ليست كباقي الجراثيم لأنّها سلطانة فيها وأميرة عليها، إنّها جرثومة: احتقار مشايخ الإصلاح وإعطاب مكانتهم، وإنّني أقول مُنبّها -مع أنّ كلامي في غاية الوضوح-: إنّني لا أتكلم عن المفرقين فالمقام مقام نصح لمن هو معنا ويسير على طريقتنا، لكنّه فقد شيئا من توازنه في هذه الفتنة، فانفلتت منه مقاليد التواضع وهضم النفس ومعرفة قدرها، حتى صرنا نراه في مناسبات ينتقد أشياخ السنة في العلن، أو يعتب عليهم في السرّ مستدركا معقّبا موجّها! فإلى هؤلاء الإخوة أقول:
إنّ هؤلاء السادة الكرام هم أنفسهم الذين كانوا قبل الفتنة مشايخ الجزائر وكبارها، وهم أنفسهم من ناصرهم وانتصر لهم علماء الأمة ووصفوهم: بعلماء الجزائر، هؤلاء يا قومنا هم الذين كنتم لا تقوون على مجرد سؤالهم والوقوف بجنبهم، نعم أيها الأفاضل كنتم تتطلعون لمجرد الكلام معهم في الهاتف، وكنتم تتشرفون بدعوتهم وزيارتهم، هل نسيتم؟! أجيب في مكانكم: ليس النسيان من أوقعكم في هذه الهوّة الخطيرة! بل هم المفرقون الذين تهجّموا على هؤلاء الشرفاء طيلة سنة ونصف من الزمن، حتى ألِفت الأسماع الطعن فيهم، وترسّخ في القلوب النيل منهم، فاحتقرتهم الجماهير فأشربت قلوبنا هذا الاحتقار ونحن لا ندري، فيا قومنا إنّ ما وقع في هذه الفتنة يزيد المخلص العاقل احتراما لهؤلاء الأبطال الكرام الذين نصر الله بهم دينه، ولو أنهّم ضعفوا وخضعوا واضطربوا لكان الوضع غير الوضع، فاعرفوا لهم قدرهم وتأملوا في سيرتهم وقارنوا بينها وبين ما ظهر لكم من شيوخ الفتنة لتدركوا نعمة الله عليكم.
إخواني الكرام، حقّكم سؤال هؤلاء عن كل إشكال ورد على قلوبكم، وليس من الأدب ولا من المروءة أن يأتي شاب صغير وينتقد من شابت لحيته في هذه الدعوة وهذا ما لم يكن قبل الفتنة، فوالله لولا الفتنة لكنتَ فرحا ناقلا لنفس الكلمة التي انتقدتَها اليوم على أحد هؤلاء الكرام، لكن ما الحيلة وقد كتب الله على بني آدم النسيان! فقد تسارع الزمان وعشنا أخيرا أيام الاستقلال، بعدما كنّا في المرحلة المكيّة نعيش قهرا لا نظير له، ويومها لم تكن قضية الأدب والحكمة واردة! وأصوات اليوم لم نجد لها حسيسا في تلك الفترة العصيبة، وكانت كلمة العقلاء مجمعة على ضرورة كلام مشايخ الإصلاح! أما اليوم فقد أنعش نسيم الاستقلال الصدور ورفعت رايات النصر الرؤوس، وأعطى أكثرنا ظهره لحقبة التاريخ الغابرة التي كادت الدعوة السلفية فيها أن تُخطف من بلادنا، لولا أنّ الله سلّم وأقام في هذا الوطن رجالا صنعوا ملاحم ستذكرها الأجيال، ومهما تنكّر لها البشر فصفحات التاريخ لن تتنكّر لها.
أخي العزيز: هؤلاء الأشياخ الكبار هم أعلم النّاس بمنهج المفرقين، وأعرف الخلق بمقاصدهم وخباياهم، وهي نقطّة مهمّة اجعلها نصب عينيك، فمعيب بك أن تلج مولجا هم أسياده، أو تتكلم في فنّ هم المقدّمون فيه، ولا شكّ أنّ كل هذا لا يمنعك من سؤالهم واستفتائهم بكل أدب وإخلاص وصدق، فهذا واجبك، أمّا أن تعتقد بأنّ أيامك التي قضيتها في الرد على المفرقين ستمنحك الرخصة الأبدية في تقويم الناس والحكم على أقوالهم، أو تتخيّل بأنّك صرت من العارفين الخبراء بمنهج المفرقين! أو نصبت نفسك قرينا لمن سبقك إلى فضحهم ومعرفة مخازيهم، فهو عين الغرور الذي أهلك من قبلك فالحذرَ الحذرَ الحذرَ!
وختاما: إنّ جزاء هؤلاء الكرام هو احترامهم وتحبيبهم إلى قلوب الناس أكثر من وقت مضى، والتوجه إليهم بالسؤال عن مسائل الدين، وتحريك الأقدام إلى مجالسهم ودروسهم، وتبجيلهم في الخطاب، وهي وظيفة تتحتّم علينا في هذا الوقت بالذات، لعلنا نُسهم بالشيء القليل في محو أثر المفرقين السيئ على هؤلاء الفضلاء، أسأل الله أن يعلي مقام مشايخنا مشايخ الإصلاح وأن يكفر عنهم سيئاتهم، وأن يرزقهم الإخلاص في القول والعمل وأن يثبتهم وينصرهم.

كتبه:
أبو معاذ محمد مرابط
الخميس 24 شوال 1440
الموافق لـ 27 /06 /2019 نصراني
الجزائر العاصمة