عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 17 Apr 2017, 07:19 PM
أبو عاصم مصطفى السُّلمي أبو عاصم مصطفى السُّلمي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2016
المشاركات: 607
افتراضي بثُّ فاقد العالم والكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربّ العالمين ، و الصّلاة و السّلام على خاتم الأنبياء و المرسلين ، و على آله و صحبه أجمعين ، و التّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين . و بعد :

فإن الأمر إذا حزّ في الخاطر ، و ألمّ بصاحبه في الظاهر ، كان لا بُدّ له من البثّ و التّنفيس ، دون مواربة و لا تدليس ، إذا لم يكن لبثّه بسوء الأدب تعلّقٌ و مسيس .
و المرءُ إذا عُدِم ما به حياتُه ، و فَقَدَ ما به نجاتُه ، و أَعوزَتْهُ مُوجِباتُ بهجتِه و سروره ، لحقه من الهمّ و الأسى أمثال الجبال ، و بثّ الشّكوى ـ من غير اعتراض ـ إنشاطٌ من عقال .
فمن المتشكّين : العقيم تنتظر الولد ، و الثّكلى تفتقده . و العانس تنتظر البعل . و اليتيم يفتقد الوالد . و الدّنِف ينتظر العافية . و الفقير يفتقد الدّرهم .و كلّ هؤلاء يجمع بينهم العُدم و الافتقاد و يجوس خلالهم أمل الحيازة و الإيجاد .
لكنّني لا أتكلّم عن هؤلاء ، و الآبهين بهم كُثُر و الرّاثين لهم غُزُر . و مقصودي أناس فقدوا أجلّ من هذا و أعظم ، و عُدموا أجزل من هذا و أفخم . أَسَاهُم مكنونُ صدُورِهم ، و حزنهم حبيس أفئدتهم . لا يُؤبه لهم و لا يُرثى لحالهم ، بل يكاد المُطّلع على أحوالهم اليوم ، يرميهم بالسّفه و الجنون .
فإن كانت المفقوداتُ الأُوَلُ بها بهجة الدنيا و حلاوة الحياة ، فإنّ فَقْدَ هذا المقصود ، به لذّة العبادة و سعادة الآخرة .
طالب علم يفتقدُ شيخًا مُوفَّقا و كتابا مُحقّقًا . و هو أحقّ بالأسى من كلّ الأوّلين ، و أجدر بالشّكوى من كل المذكورين . كيف لا ! . و هم الجسر إلى السّبيل ، و إلى المُبتَغى نِعم الدّليل ، و فاقدُهم و عادمُهم هو الذّليل .
و إنّما أشكو بثِّي و حزني إلى الله . فَقدُ المُربّي أعظم من فَقدِ الوالد ، فإن الوالد يفقدُه أهله و أولاده ، و المُربّي يفقده العَالم أجمع ، و هو للخلق خيرٌ و أنفع ، و للباطل أقتل و أدفع ، و إن ارتبتَ فيما أقول فاسمع : كان بعض السّلف يقول : بيننا و بينكم ـ يعني أهل الأهواء و البدع ـ يومُ الجنائز .
فقد جاء في البداية و النّهاية في وفاة الإمام أحمد : [ وحضر غسله نحو من مائة من بيت الخلافة من بني هاشم فجعلوا يقبلون بين عينيه ويدعون له ويترحمون عليه رحمه الله.
وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله، ونائب البلد محمد بن عبد الله بن طاهر واقف في جملة الناس، ثم تقدم فعزَّى أولاد الإمام أحمد فيه، وكان هو الذي أمَّ الناس في الصلاة عليه، وقد أعاد جماعة الصلاة عليه عند القبر، وعلى القبر بعد أن دفن من أجل ذلك، ولم يستقر في قبره رحمه الله إلا بعد صلاة العصر وذلك لكثرة الخلق.
وقد روى البيهقي وغير واحد: أن الأمير محمد بن طاهر أمر بحزر الناس فوجدوا ألف ألف وثلثمائة ألف. وفي رواية: وسبعمائة ألف سوى من كان في السفن.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه حيث صلوا على الإمام أحمد بن حنبل فبلغ مقاسه ألفي ألف وخمسمائة ألف.
قال البيهقي، عن الحاكم، سمعت أبا بكر أحمد بن كامل القاضي، يقول: سمعت محمد بن يحيى الزنجاني، سمعت عبد الوهاب الوراق، يقول: ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل.
فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي، يقول: حدثني محمد بن العباس المكي، سمعت الوركاني - جار أحمد بن حنبل - قال: أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس . وفي بعض النسخ: أسلم عشرة آلاف بدل عشرين ألفا، فالله أعلم.
وقال الدارقطني: سمعت أبا سهل بن زياد، سمعت عبد الله بن أحمد، يقول: سمعت أبي، يقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمر.
وقد صدق الله قول أحمد في هذا فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يلتفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان.
وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته، لم يصل عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس.
وكذلك بشر بن غياث المريسي لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جدا فلله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد روى البيهقي، عن حجاج بن محمد الشاعر، أنه قال: ما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على الإمام أحمد.]
(6 / 330 . 331)
و ما ذلك إلا لأن حياة العالِم حياةُ العالَم ، بل إنّ علمه حياة للناس حتى بعد وفاته ، فهو من ورثة الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين
و ذكر ابن كثير رحمه الله أيضا في وفاة بشر الحافي رحمه الله تعالى : [ وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بكرة أبيهم، فأخرج بعد صلاة الفجر فلم يستقر في قبره إلا بعد العتمة.
وكان علي المدائني وغيره من أئمة الحديث يصيح بأعلا صوته في الجنازة: هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة . وقد روي أن الجن كانت تنوح عليه في بيته الذي كان يسكنه.]
(6 / 281)
و لولا خشية الإطالة لنقلتُ ما ذكر في جنازة شيخ الإسلام رحمه الله و هي مثل سابقتيها ، و ممّا عاصرناه و شاهدناه ـ مصوّرا لا واقعا ـ و هو جنازتي الإمامين ابن باز و ابن عثيمين و ما سمعناه في وصف جنازة الإمام الألباني ، لأمر يُنبيك بصدق المقولة السّالفة . و ما صنيع النّاس و اجتماعهم بهذا الشّكل ، إلا لمعرفتهم الرّزية بقبض العلماء ، و تصرُّم أيّامهم من الدّنيا ، كيف لا ! و هم النّجوم يهتدى بها في ظلمات البرّ و البحر ، و هم الأدلّاء يقتدى بهم في دياجير الأهواء و المُضِلّات .
و يكفي للدلالة على عظم البلاء بفقد العالم ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا » [صحيح البخاري 100]
و إن كانت الرّزية بفقد العالِم بادية جليّة ، فإن المِحنة بفقد الكتب ، لا يستشعرها إلا الخاصّة ـ حتّى من بعض طلاب العلم ـ فما بالك بمن دونهم ، فإن صاحب المكتبة و ناضد الأضابير ، لم يفقد من العلماء إلاّ أشخاصهم ، و حصّل من ميراثِهم ألبابَهم و أنفاسَهم ، بل إنه يجالس الأكابر و العظماء .فقد ذكر الذهبي في السير (8/ 382) : [عن نُعيم بن حماد قال: كان ابن المبارك يُكثر الجلوسَ في بيته، فقيل له: ألا تستوحِش؟ فقال: كيف أستوحِشُ وأنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؟ ‍!]. وفي ((تاريخ بغداد)) (3/ 419) : [أن يحيى بن (محمد بن يحيى) الذُّهْلي قال: دخلتُ على أبي في الصيف الصائف وقتَ القائلة، وهو في بيت كتبه، وبين يديه السِّراج، وهو يُصنِّف، فقلتُ: يا أبةِ! هذا وقتُ الصلاة، ودُخانُ هذا السِّراج بالنهار، فلو نفَّسْت عن نفسك. قال: يا بُنيَّ تقولُ لي هذا وأنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين ؟!] . وقال الإمام المعافَى بن زكريا النهرواني في كتابه: الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي (1/ 164) : [ وقد كان بعض من كان له في الدنيا صِيْتٌ ومكانة عاتبني على ملازمة المنزل، وإغبابي زيارتَه، وإقلالي ما عوَّدته من الإلمام به وغِشيان حضرته، فقال لي: أما تستوحش الوِحْدَة؟ ونحو هذا من المقالة.
فقلتُ له: أنا في منزلي إذا خلوتُ من جليسٍ يقصد مجالستي، ويؤثر مساجلتي، في أحسن أُنسٍ وأجملِه، وأعلاه وأنبلِه، لأنني أنظر في آثار الملائكة والأنبياء، والأئمة والعلماء، وخواصّ الأعلام الحكماء، وإلى غيرهم من الخلفاء والوزراء، والملوك والعظماء، والفلاسفة والأدباء، والكُتَّاب والبلغاء، والرُّجَّاز والشعراء، وكأنني مُجَالِسٌ لهم، ومستأنسٌ بهم، وغير ناءٍ عن محاضرتهم، لوقوفي على أنبائهم، ونظري فيما انتهى إليَّ من حِكَمهم وآرائهم ]
هذه النّقول من كتاب المشوّق للعمران
و لهذا اشتدّت الوصيّة على تحصيل الكتب و جمعها و النّظر فيها من المتقدّمين و المتأخرين . جاء في كتاب المشوق إلى القراءة وطلب العلم :
[ قال الجاحظ في ((الحيوان)) : ((من لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب ألذّ عنده من إنفاق عُشَّاق القِيان، والمُسْتهترين بالبنيان، لم يبلغ في العلم مبلغًا رضيًّا، وليس ينتفع بانفاقه حتى يُؤْثر اتخاذ الكتب إيثار الأعرابيِّ فرسَه باللبن على عِياله، وحتى يُؤمِّل في العلم ما يؤمِّل الأعرابيُّ في فرسِه ))
وذكر الإمام أبو محمد بن حزم في ((رسالة مراتب العلوم)) دَعَائِمَ العلم، فعدَّ منها ((الاستكثارُ من الكتب، فلن يخلوَ كتابٌ من فائدة وزيادة علمٍ يجدَها فيه إذا احتاجَ إليه، ولا سبيل إلى حفظ المرء لجميع علمِه الذي يختصّ به، فإذ لا سبيل إلى ذلك، فالكتب نِعْم الخِزانة له إذا طُلِب. و لولا الكتب لضاعت العلوم ولم توجَد، وهذا خطأٌ ممن ذمَّ الاكثار منها، ولو أُخِذَ برأيه، لتَلِفَت العلوم، ولجاذبهم الجهَّال فيها، وادَّعوا ما شاءوا!! فلولا شهادة الكتب لاستوت دعوى العالم والجاهل)) اهـ.
وعُذِلَ بعضُ العلماء في كثرة شراء الكتب، فقال:
وقائلةٍ أنفقتَ في الكُتْبِ ما حَوَت ... يمينُك من مالٍ فقلتُ: دعيني
لعلِّي أرى فيها كتابًا يَدُلُّني ... لأخْذِ كتابي آمِنًا بيميني
]
(المشوّق ص 35)
و إذا أردتَ أن تعرف عظيمَ قدر الكتب عند العلماء ، و أنّ الواحد منّا لو فعل ذلك اليوم أو همّ به لحُجر على أمواله ، و رُمي بالسّفه و الجنون ، فاقرأ ما نقله العمران في المشوّق : [ ذكر ابنُ رجب في ((ذيل الطبقات)) عن ابنِ الجوزي أنه قال عن الإمام أبي العلاء الهَمَذَاني الحافظ ت (569) : ((بلغني أنه رُئيَ في المنام في مدينةٍ جميع جدرانها من الكتب، وحوله كتب لا تُحَدّ وهو مُشْتَغل بمطالعتها. فقيل له: ما هذه الكتب؟! قال: سألتُ الله أن يُشغلني بما كنتُ أشتغل به في الدنيا، فأعطاني)) .
ومما يدلك على عظيم شَغَفه بالكتب، وبذله في تحصيلها كلَّ نفيس حتى داره التي يسكنها!! ما في كتاب ابن رجب عن الإمام طلحة العَلْثي قال: ((بِيْعت كتبُ ابنِ الجواليقي في بغداد، فحضرها الحافظُ أبو العلاْ الهَمَذَاني، فنادَوا على قطعةٍ منها: ستين دينارًا، فاشتراها الحافظ أبو العلاء بستين دينارًا، والإنظار من يوم الخميس إلى يوم الخميس.
فخرج الحافظ، واستقبل طريقَ هَمَذَان، فوصل، فنادى على دارٍ له، فبلغت ستين دينارًا. فقال: بيعوا. قالوا: تبلغ أكثر من ذلك. قال: بيعوا. فباعوا الدار بستين دينارًا فقَبَضَها، ثم رجع إلى بغداد. فدخلها يوم الخميس، فوفَّى ثمنَ الكتب، ولم يشعر أحدٌ بحالِهِ إلا بعد مُدَّة)) اهـ.
ومما يُؤثر -أيضًا- في بيع العلماء بيوتهم من أجل شراء الكتب، ما ذكره ابن رجبٍ -أيضًا- في ((ذيل الطبقات)) في ترجمة العلامة النحوي عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشَّاب ت (567) عن ابنِ النجار قال: إنه لم يَمُت أحدٌ من أهل العلم وأصحاب الحديث، إلا وكان يشتري كتبه كلَّها، فحصلت أُصول المشايخ عنده.
وذَكَرَ عنه: أنه اشترى يومًا كتبًا بخمس مئة دينارٍ ولم يكن عنده شيءٌ، فاستمهلهم ثلاثة أيامٍ، ثم مضى ونادى على داره، فبلغت خمس مئة دينار، فَنَقَد صاحبَها وباعه بخمس مئة دينار، ووفَّى ثمن الكتب، وبقيت له (لصاحب الكتب) الدار ]
(المشوّق 57/58)

و إنّما أشكو بثّي و حزني إلى الله . الدّار نائية و المزار بعيد ، و بيننا و بين الكتاب سدٌّ أصلُه زُبَر الحديد .و إنّه عند تطلُّبنا فائدة ، أو مراجعتنا مسألة ، لا بدّ من توفُّر شرطين ، الكهرباء و النّت ، و إلا فأرجِ الفائدة و أختها و ابعث في المدائن سائلين ، يأتون لكلّ عالم و أمين ، ثمّ انتظر بم يرجع المرسلون . و الحمد لله رب العالمين .
فأرجو أن يستشعر إخواننا الذين هم بين يدي العلماء ، و بين أيديهم الكتب و الأضاميم ، النّعمة التي هم فيها يتقلّبون ، و أن يجتهدوا في شكرها ، فإن عدم الشّكر سبيل إلى الفقد ، كما أن الشكر موجب للزيادة

حفظ الله علماءنا و مشايخنا و حفظ الله لنا تراثهم و علومهم
إنه ولي ذلك و القادر عليه

أبو عاصم مصطفى بن محمد
السُّـــلمي
تبلـــبالة عصر الاثنين 20 رجب 1438 هـ


التعديل الأخير تم بواسطة أبو عاصم مصطفى السُّلمي ; 19 Apr 2017 الساعة 07:02 PM
رد مع اقتباس