عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 02 Sep 2015, 10:56 AM
أبو سلمة يوسف عسكري
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

؛
ومما يُذكر في هذا الباب ما اشتَهر على ألسِنَتِنا أنَّ المقصودَ من قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ -وهي بعض آية من آخر آية «المُدَايَنَة» من سورة البقرة-
أنَّ العلم ثمرةُ التَّقوى، لأن الآية كثيرا ما يُستدل بها عند الكلام على فضائل طلب العلم وثمراته، وتجدني واحدا ممن فهم هذا المعنى، حتى نبَّهني أحد إخواننا -جزاه الله خيرا-
بل هذا المعنى ممَّا اشتهر أيضا على ألسنة المتصوِّفة الاستدلال بها على ما سبق، يغطُّون بها تقاعسهم وإعراضهم عن الاشتغال بعلوم الشَّريعة من الفقه وغيره،
زاعمين أنَّ ما يأتونه في طريقتهم من الرِّياضة وتلاوة الأوراد والأحزاب تُثمر لهم العلومَ الإلهيَّة وغيرها بدون تعلُّم ([1]).

يقول ابن القيم : «وأمَّا قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ فليس من هذا الباب، بل هما جملتان مستقلَّتان: طلبيَّة وهي الأمر بالتَّقوى،
وخبريَّة وهي قوله تعالى
: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ، أي: والله يعلِّمكم ما تتَّقون، وليست جوابًا للأمر بالتَّقوى، ولو أُريد بها الجزاء لأتى بها مجزومةً مجرَّدةً عن الواو،
فكان يقول: «
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمْكُمُ» أو «إن تتَّقوه يعلِّمكم» كما قال: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال: 29]، فتدبَّره»([2]).

قال محمَّد بن جرير في «تفسيره» (5/121): «القول في تأويل قوله جلَّ ثناؤه: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ (282) يعني -جلَّ ثناؤه- بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ: وخافوا الله أيُّها المتداينون في الكُتَّاب والشُّهود أنْ تضارُّوهم، وفي غير ذلك من حدوده أن تضيِّعوها.
ويعني بقوله: وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ: ويبيِّن اللهُ لكم الواجبَ لكم وعليكم فاعملوا به.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني من أعمالكم وغيرها يحصيها عليكم فيجازيكم بها».

وقال أبو حيَّان : «وليست في معنى واحد؛ فالأولى حثٌّ على التَّقوى، والثَّانية تُذكِّر بالنِّعم، والثَّالثة تتضمَّن الوعد والوعيد» ([3]).

إلا أن معنى عبارة:
العلمُ ثمرةُ التَّقوَى صحيح؛ لكن يُستفاد من أدلة أخرى غير هذه الآية، منها قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال: 29]،
فالفرقان في هذه الآية العلم الَّذي يفرَّق به بين الحقِّ والباطل
([4])،
و
كذلك قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) [سورة الحديد]،
فقوله:
وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ، يعني عِلْمًا وهدًى تفرِّقون به بين الحقِّ والباطل([5]).

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :([6]):
وقد شاع في لسان العامَّة أنَّ قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ من الباب الأوَّل، حيث يستدلُّون بذلك على أنَّ التَّقوى سبب تعليم الله؛ وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدَّلالة؛
لأنَّه لم يربط الفعل الثَّاني بالأوَّل ربطَ الجزاء بالشَّرط، فلم يقل: «واتَّقوا الله ويعلِّمكم»
، ولا قال: «فيعلِّمكم»، وإنَّما أتى بواو العطف، وليس من العطف ما يقتضي أنَّ الأوَّل سبب الثَّاني، وقد يُقال: العطف قد يتضمَّن معنى الاقتران والتَّلازم، كما يُقال: «زرني وأزورك»، و«سلِّم علينا ونسلِّم عليك»، ونحو ذلك ممَّا يقتضي اقتران الفعلين والتَّعاوض من الطَّرفين،
كما لو قال لسيِّده: «أعتقني ولك عليَّ ألف» أو قالت المرأة لزوجها: «طلِّقني ولك ألف» أو «اخلعني ولك ألف»، فإنَّ ذلك بمنزلة قولها: «بألف» أو «عليَّ ألف».

وكذلك أيضًا لو قال: «أنت حرٌّ وعليك ألف» أو «أنت طالق وعليك ألف»؛ فإنَّه كقوله: «عليَّ ألف» أو «بألف» عند جمهور الفقهاء، والفرق بينهما قول شاذٌّ،
ويقول أحد المتعاوضين للآخر: «أعطيك هذا وآخذ هذا»، ونحو ذلك من العبارات، فيقول الآخر: «نعم»؛ وإن لم يكن أحدهما هو السَّبب للآخر دون العكس،
فقوله:
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ قد يكون من هذا الباب، فكلٌّ مِنْ تعليم الرَّبِّ وتقوى العبد يقارب الآخر ويلازمه ويقتضيه، فمتى علَّمه الله العلم النَّافع اقترن به التَّقوى بحسب ذلك، ومتى اتَّقاه زاده من العلم وهلمَّ جرًّا اهـ.

والعلم عند الله تعالى.



([1]) «تفسير المنار» (3/128)، بتصرف
([2]) «مفتاح دار السَّعادة» (1/178).
([3]) «البحر المحيط» (1/371)
([4]) «أضواء البيان» (2/260).
([5]) «أضواء البيان» (1/261).
([6]) «مجموع الفتاوى» (18/177 ـ 178).


التعديل الأخير تم بواسطة أبو سلمة يوسف عسكري ; 02 Sep 2015 الساعة 10:59 AM
رد مع اقتباس