عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 27 Jun 2011, 04:19 PM
خلفة أسامة الميلي خلفة أسامة الميلي غير متواجد حالياً
عضو
 
تاريخ التسجيل: Jan 2011
الدولة: فرجيوة_حرسها الله_ شرق الجزائر
المشاركات: 167
إرسال رسالة عبر Yahoo إلى خلفة أسامة الميلي إرسال رسالة عبر Skype إلى خلفة أسامة الميلي
افتراضي تبرئة الشيخ ابن باديس وأسلاف الجمعية من الانتساب إلى الأشاعرة والصوفية

[size="4"] تبرئة الشيخ ابن باديس وأسلاف الجمعية

من الانتساب إلى الأشاعرة والصوفية للشيخ الفاضل أبي عبد المعز فركوس -حفظه الله


مقدمــة:

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].

أمَّا بعد: فإنَّ أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

فقد كنَّا في السنوات الأخيرة نسمع كلامًا يثير العجب من بعض المتطاولين، يتجنَّوْنَ به على الشيخ المرَبِّي الإمام عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- بالطعن والتبديع والإقصاء قصْدَ إخراجه من دائرة أهل السنَّة والجماعة والعقيدة السلفية، فها نحن اليوم نسمع ما هو أعجب من ذلك حيث يزعم بعضهم في مقالٍ نُشر في بعض المنتديات أنَّ الشيخ -رحمه الله- وإخوانَه أعضاء الجمعية كانوا على عقيدةٍ أشعريةٍ وأصولٍ صوفيةٍ.

ومن وراء هذه الدعوة العريضة، يحصل لمدَّعيها ومَن على مذهبه الانتسابُ إلى علماء الجمعية، وما هذا إلاَّ ليتمسَّحوا بهم لتسويغ ما يسلكونه من طرائقهم البِدْعِية، وتزكية ما ينتمون إليه من مناهجهم الخَلَفِيَّة، فتكون بذلك حجَّةً لهم على أهل السنَّة، وبالتالي تُسَوَّق بضائِعُهم الزائفة بين العامَّة من غير نكيرٍ، مستغلِّين ما كان لعلماء الجمعية من أثرٍ حسنٍ في الدعوة والإصلاح، وشهرةٍ دعويةٍ تجديديةٍ في شمال إفريقيا، جعلتْها تحظى بعد الاستقلال بالقبول بين العامَّة والخاصَّة، وايمن اللهِ من يقرأ كلام علماء الجمعية أو شيئًا منه فقط مما يتعلَّق بمنهجهم وعقيدتهم من كتبهم ومقالاتهم -رحمهم الله- مباشرةً أو بواسطة ما كتبه بعض الباحثين ليعلمنَّ عِلْمَ اليقين زيف دعوى صاحب المقال وصدْقَ شعر أبي نوَّاسٍ عليه إذ قال:

قُلْ لِمَنْ يَدَّعِي سُلَيْمى سَفَاهًا * لَسْتَ مِنْهَا وَلاَ قُلاَمَةَ ظُفْرِ

إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ سُلَيْمَى كَوَاوٍ * أُلْحِقَتْ فِي الهِجَاءِ ظُلْمًا بِعَمْرِو

وقال:

الحَمْدُ للهِ هَذَا أَعْجَبُ العَجَبِ * الهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ صَارَ فِي العَرَبِ

إِذَا نَسَبْتَ عَدِيًّا فِي بَنِي ثُعَلٍ * فَقَدِّمِ الدَّالَ قَبْلَ العَيْنِ فِي النَّسَبِ

فالقصد ظاهرٌ من نسبة صاحب المقال الجمعيةَ إلى ما سبق ذكرُه، وإلاَّ فما الذي جعله يتناسى الحرب التي كانت بين علماء الجمعية وبين أسلافه من شيوخ الصوفية، وما حمله على أن يكتم محكم ما خطَّته أناملُهم من صريح كلامهم في بيان صحيح اعتقادهم، مع كثرته في خطبهم ومقالاتهم التي منها: الانتساب إلى السلفية والدعوة إلى الكتاب والسنَّة على فهم السلف الصالح، وردُّ التصوُّف ومناهج المتكلِّمين(١- وسيأتي نقل شيءٍ منه موثَّقًا بالمرجع والصفحة.)، فقد ترك صاحب المقال كلَّ ما عليه من النصوص الصريحة والعبارات الفصيحة المفصَّلة والمحكمة، ثم جنح إلى شُبَهٍ مِنْ: قولٍ لهم مجملٍ، أو فعلٍ محتملٍ، أو خطإٍ صاحبُه فيه متأوِّلٌ، فجعله هو العمدةَ ليبنيَ عليه عقائدهم ويؤصِّلَ به مناهجهم على ما يحب هو ويرضى، دون أن يذكر في مقاله ولا كلمةً واحدةً -ولو عن واحدٍ من أعضائها الأصليِّين- فيها التبنِّي والانتسابُ الصريح إلى ما ألصقه بهم، وهذا وربِّ الكعبة لَمِنَ الظلم لعلماء الجمعية بإلزامهم ما لم يلتزموه -بل بما حاربوه طيلة حياتهم الدعوية-، والغشِّ والتدليس على العامَّة لينفروا من دعوة الحقِّ ويرجعوا إلى التصوُّف، ثم ليت صاحب المقال كان آخذًا بأسلوب الحوار العلميِّ في إثبات دعواه، بل على العكس من ذلك تمامًا فإنَّنا نجده يشحن مقاله هذا بعباراتٍ تهكُّميةٍ فيها لمزٌ ونبزٌ وانتقاصٌ لأصحاب العقيدة السلفية حيث قال: «وغيرها من الأصليَّات عند سلفيَّة اليوم ؟!»، «ومعلومٌ أنَّ الأشاعرة ليسوا من أهل السنَّة والجماعة عند السلفية المعاصرة»، «فهل جمعية العلماء المسلمين كانت تدرِّس الأجيال حملة دين الله إلينا «التصوُّفي الخرافي!» و«عقيدة التعطيل!»، و«كما تصفهما السلفية المعاصرة فتأمَّلْ!»، «ومعلومٌ أنَّ التأويل والتفويض؛ عند السلفية المُعاصرة: «ضلالٌ!!!» و«تعطيل!»، «ومعلومٌ -أيضًا- أنَّ الأشاعرة من الفرق الضالَّة عند السلفية المُعاصرة فتأمَّلْ!»، «ومعلومٌ أنَّ هذا المذهب الذي نقضه ابن العربي هو مذهب السلفية المعاصرة» و«تأويلات محضة وفق أصول الأشاعرة. وهي عند السلفية المعاصرة من مذاهب أهل البدع والمُعطِّلة»، فبكلامه هذا يجلو لنا غرضه المشار إليه آنفًا ويتَّضحُ، كما قال الشاعر أبو الفتح كشاجم:

وَيَأْبَى الَّذِي فِي القَلْبِ إِلاَّ تَبَيُّنًا * وَكُلُّ إِنَاءٍ بِالَّذِي فِيهِ يَنْضَحُ

وقبل الشروع في الردِّ عليه والجواب عن شبهه، يحسن بنا أن ننقل مقاله بعُجَره وبُجَره، ونعرضه كلَّه بشعره ونثره، حتى يتسنَّى للقارئ النبيل الاطِّلاعُ على كلِّ كلامه، والوقوفُ على جميع محتواه، فيسهل عليه حينئذٍ متابعة نقده وردِّه، إذ سنكتفي أثناء الردِّ بنقل مَقَاطِعَ منه فقط، فدونكم المقال المذكور:

«بسم الله والصلاة والسلام على سيِّد خلق الله.

كثُر الحديث مؤخَّرًا حول منهج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في العقيدة على وجه الخصوص، ومثله معه موقف رموز الجمعية من بعض القضايا التي كثُر فيها الجدال بين المؤيِّدين والمُثبتين لها من تراث الجمعية من ناحيةٍ، وبين المُعارضين لها والمستبعدين لأنْ تكون هذه الأمور مذهبًا للجمعية من جهةٍ أخرى!

فهل كان ابن باديس: ضدَّ الأشاعرة!؛ حارب التصوُّف حلوه ومرَّه!؛ يُبدِّع المتوسِّلين بالنبي ويرميهم بالشرك!؛ يُبدِّع إحياء المولد النبوي الشريف!...وغيرها من الأصليات عند سلفية اليوم ؟!

ماذا نجدُ في تراث الجمعية:

أوَّلاً: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تقرِّر تدريس التوحيد وفق أصول الأشاعرة ومعلومٌ أنَّ الأشاعرة ليسوا من أهل السنَّة والجماعة عند السلفية المعاصرة!

وقد كان العلاَّمة ابن باديس أدرج ضمن قائمة العلوم التي كان يدرِّسها لطلبة العلم، المتون التي تحكي أصول الأشاعرة في العقائد وأصول التصوُّف الصحيح في السلوك؛ كمتن ابن عاشر المعروف ﺑ: "المرشد المعين على الضروريِّ من علوم الدين" للعلاَّمة عبد الواحد ابن عاشر الفاسي، الذي استفتح متنه بقوله:

فِي عَقْدِ الاشْعَرِي وَفِقْهِ مَالِكْ **** وَفِي طَرِيقَةِ الجُنَيْدِ السَّالِكْ

فهل جمعية العلماء المسلمين كانت تدرِّس الأجيال حملة دين الله إلينا (التصوُّفي الخرافي!!!) و(عقيدة التعطيل!) كما تصفهما السلفية المعاصرة! فتأمَّل!

ثانيًا: قال الشيخ حمَّاني تلميذ العلاَّمة ابن باديس -رحمهما الله- ومرآة جمعية علماء(٢- كذا قال صاحب المقال، والصواب: «العلماء».) المسلمين: «وقد قَبِل أسلافُنا تأويل الأشاعرة كما قبلوا تفويض السلف»(٣- «فتاوى الشيخ أحمد حمّاني» (2/597)، منشوارت وزارة الشؤون الدينية - الجزائر.)، اﻫ.

وقال أيضًا رحمه الله: «ومن تمعَّن في نصوص الشريعة جيِّدًا، ودرس حُجَجَ الفرق المتنازعة بإنصافٍ، حكم بأنَّ الحقَّ بجانب أهل السنَّة والجماعة، الذين منهم الأشاعرة»(٤- انظر: «فتاوى الشيخ أحمد حمّاني» (1/261)، منشوارت وزارة الشؤون الدينية - الجزائر.)، اﻫ.

وها هو تلميذ الجمعية البارُّ الشيخ حمَّاني يُقرِّر أنَّ:

أ- سلفنا قَبِلَ التأويل.

ب- سلفنا قَبِلَ التفويض،

ﺟ- الأشاعرة من أهل السنَّة والجماعة.

وكلٌّ من التأويل والتفويض رضي بهما كبار علماء الأمَّة؛ قال الإمام النووي في «المنهاج شرح صحيح مسلم بن حجَّاج»:

«قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ» ‏ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، سَبَقَ إِيضَاحُهمَا فِي كِتَابِ الإِيمَانِ وَمُخْتَصَرُهمَا أَنَّ أَحَدَهمَا وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ: أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِأَنَّهَا حَقٌّ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ ظَاهِرَهَا الْمُتَعَارَفَ فِي حَقِّنَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ فِي تَأْوِيلِهَا مَعَ اِعْتِقَادِ تَنْزِيهِ اللهِ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ، وَعَنِ الانْتِقَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَسَائِرِ سِمَاتِ الْخَلْقِ. وَالثَّانِي مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَمَاعَاتٍ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ هُنَا عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّهَا تُتَأَوَّلُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا بِحَسَبِ مَوَاطِنِهَا. فَعَلَى هَذَا تَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدهمَا: تَأْوِيلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ مَعْنَاهُ: تَنْزِلُ رَحْمَتُهُ وَأَمْرُهُ وَمَلاَئِكَتُهُ كَمَا يُقَالُ: فَعَلَ السُّلْطَانُ كَذَا إِذَا فَعَلَهُ أَتْبَاعُهُ بِأَمْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الاسْتِعَارَةِ، وَمَعْنَاهُ: الإِقْبَالُ عَلَى الدَّاعِينَ بِالإِجَابَةِ وَاللُّطْفِ. وَاللهُ أَعْلَمُ»، اﻫ.

ومعلومٌ أنَّ التأويل والتفويض؛ عند السلفية المُعاصرة: (ضلال!) و(تعطيل!)

ومعلومٌ أيضًا أنَّ الأشاعرة من الفرق الضالَّة عند السلفية المُعاصرة! فتأمَّل!

ثالثًا: تلامذة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى يومنا هذا يُدرِّسون لطلبتهم العقيدة الأشعرية التي تلقَّوْها من شيوخهم؛ كما يفعل الفاضل الطاهر آيت علجت وغيره من إخوانه؛ وهم أعلم بمنهج الجمعية في العقيدة من غيرهم، مصداقه قوله تعالى [سورة فاطر: 14]: ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ وقوله أيضًا [سورة الفرقان: 59]: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ فكيف نعدل عن قول ابن الدار في الدار! فتأمَّل!

رابعًا: الشيخ ابن باديس -رحمه الله- أوَّل من طبع وقام بتحقيق كتاب «العواصم من القواصم» لقاضي قضاة المالكية الإمام ابن العربي الأشعري؛ فأثنى -ابن باديس- على الكتاب في مقالٍ حافلٍ وخصَّ بالذكر دَحْضَ صاحب الكتاب لعقائد الظاهرية والباطنية.

فإذا علمت أنَّ العلاَّمة ابن العربي أصَّل في كتابه هذا للعقيدة وفْق أصول الأشاعرة ونقض وفْق هذه الأصول مذاهب الظاهرية في العقيدة كالذين يحملون حديث النزول على ظاهره كما ذكر رحمه الله؛ ظهر جليًّا مذهب العلاَّمة ابن باديس رحمه الله.

قال الشيخ ابن باديس -رحمه الله- في التعريف بكتاب «العواصم من القواصم» للإمام ابن العربي [ابن باديس حياته وآثاره ؛ جمع و دراسة عمَّار طالبي الجزء 4 ص 129 طبعة دار الغرب الإسلامي]:

قد كتب هذا الإمام في علوم الإسلام الكتب الممتعة الواسعة وسار فيها كلِّها على خطَّة البحث والتحقيق والنظر والاستدلال، بعلمٍ صحيحٍ وفكرٍ ثاقبٍ وعارضةٍ واسعةٍ، وعبارةٍ راقيةٍ في البلاغة، وأسلوبٍ حلوٍ جذَّابٍ في التعبير.

وهذا كتاب (العواصم من القواصم) من آخر ما ألَّف قد سار فيه على تلك الخطَّة، وجمع فيه على صغر حجمه بين سائر كتبه العلمية فوائد جمَّة وعلومًا كثيرةً، فتعرَّض فيه لآراءٍ في العلم باطلةٍ، وعقائدَ في الدين ضالَّةٍ، وسمَّاها قواصم، وأعقبها بالآراء الصحيحة والعقائد الحقَّة المؤيَّدة بأدلَّتها النقلية، وبراهينها العقلية المزيِّفة لتلك الآراء والمبطلة لتلك العقائد وسمَّاها عواصم، فانتظم ذلك مناظرة السفسطائيين(٥- سقط من المقال قوله: «الفلاسفة» قبل «السفسطائيين».) والطبائعيين والإلاهيين، ومناظرة الباطنية والحلولية، وأرباب الإشارات من غلاة الصوفية وظاهرية العقائد، وظاهرية الأحكام، وغلاة الشيعة والفرقة المتعصِّبة للأشخاص باسم الاسلام، اﻫ.

ثم قال موضِّحًا طريقة الإمام ابن العربي -رحمه الله- في كتابه ذاك: [نفس المصدر 4 ص 129-130]:

سالكًا -ابن العربي- في سبيل الاحتجاج لعقائد الإسلام، وإبطال العقائد المحدثة عليه من المنتمين إليه السبيل الأقوم الأرشد، سبيل الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي هي أدلَّةٌ نقليةٌ في نصوصها عقليةٌ برهانيةٌ في مدلولها، وهذه الطريقة التي أرادها بقوله في هذا الكتاب: (وهكذا هي حقيقة الملَّة، من أراد أن يُدخل فيها داخلةً رُدَّ عنها إليها بأدلَّتها) وهي طريقة القرآن الذي اتَّضح به كمال الشريعة في عقائدها وأدلَّتها.

وإذ لم يكن بدٌّ من الخطإ لغير المعصوم فليس تفاضُل الناس في السلامة منه، وإنما تفاضُلهم في قلَّته وكثرة الصواب التي تغمره. وللإمام ابن العربي في كتابه هذا مما ذكرْناه في وصفه من كمالٍ ما يذهب بما قد يكون فيه من بعض خطإٍ يسيرٍ لا يسلم منه بشرٌ، وحسْبُ كتابه هذا أن يكون موردًا معينًا لطلاَّب العقائد الإسلامية الحقَّة بأدلَّتها القاطعة، وأصول الإسلام الخالية مما أحدثه المحدثون من خرابٍ وتدجيلٍ، وأن يكون أنموذجًا راقيًا في التحقيق في البحث، والتعمُّق في النظر، والاستقلال في الفكر، والرجوع إلى الدليل، والاعتضاد بأنظار الأئمَّة الكبار. وأن يكون صفحة تاريخٍ صادقٍ لِما كانت عليه الحالة الفكرية للمسلمين بالشرق والغرب في عصر المؤلِّف وهو القرن الخامس الهجري، وكفى بهذا كلِّه باعثًا لنا على طبعه ونشره وتعميم فائدته، اﻫ.

ومن رجع إلى الكتاب المذكور «العواصم من القواصم» يجدُ أنَّ العلاَّمة ابن العربي المالكي يقصد بظاهرية العقائد الذين يحملون المتشابه على ظاهره كحديث النزول وآيات الاستواء و... وغيرها، ومعلومٌ أنَّ هذا المذهب الذي نقضه ابن العربي هو مذهب السلفية المعاصرة، ومنه يُعلم منهج العلاَّمة ابن باديس في العقيدة الموافق لِما عليه جمهور علماء المسلمين، إذ لا يصحُّ شرعًا ولا عقلاً أن يُثنيَ الشيخ ابن باديس على عقائد (أهل البدع والضلال!) فتأمَّل!

خامسًا: الشيخ ابن باديس يتأوَّل في الأخبار الإضافية

عَنْ ‏أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ ‏أَنَّ رَسُولَ اللهِ ‏صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ ثَلاَثَةٌ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ‏صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللهِ ‏صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏سَلَّمَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ ‏صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ».

قال الشيخ ابن باديس عند شرح الحديث [ابن باديس حياته وآثاره جمع ودراسة عمَّار الطالبي الجزء الثاني صفحة 293 طبعة دار الغرب الإسلامي]: فاستحيا الله منه: ترك عقابه ولم يحرمه من ثواب. أعرض: التفت إلى جهةٍ أخرى فذهب إليها. فأعرض الله عنه: حرمه من الثواب، اﻫ.

قال ربُّنا [الذاريات: 47]: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾، قال الشيخ ابن باديس [ابن باديس حياته وآثاره جمع ودراسة عمّار طالبي الجزء الثاني صفحة 90 طبعة دار الغرب الإسلامي]: بِأَيْدٍ: بقوَّةٍ، اﻫ.

تأويلاتٌ محضةٌ وفق أصول الأشاعرة. وهي عند السلفية المعاصرة من مذاهب (أهل البدع و المُعطِّلة!).

فتأمَّل!»، اﻫ.


هذا هو نصُّ المقال كاملاً، وقد حاول فيه صاحبه توضيح المنهج العقدي لعلماء الجمعية من تراثها -بزعمه- والناظر فيه يجد بعد تحليله وتمحيصه أنه يدور على مسألتين اثنتين:

الأولى: تتعلَّق بالأشعرية وأنَّ عقيدة الشيخ ابن باديس -رحمه الله- كانت موافِقةً لعقيدة الأشاعرة، ولم يكن الشيخ ضدَّها، وهكذا الجمعية، بل كانت تدرِّس التوحيد على أصول هذه العقيدة.

الثانية: تتعلَّق بالتصوُّف وأنَّ الشيخ ابن باديس -رحمه الله- لم يحاربْه، بل كان يدرِّسه للأجيال.

وقد أشار صاحبنا في أوَّل مقاله إلى هاتين المسألتين في إشكاليةٍ طرحها وهو يريد حلَّها، حيث قال: «كثُر الحديث مؤخَّرًا حول منهج جمعية العلماء المسلمين الجزائريِّين في العقيدة على وجه الخصوص، ومثله معه موقف رموز الجمعية من بعض القضايا التي كثُر فيها الجدال بين المؤيِّدين والمُثبتين لها من تراث الجمعية -من ناحيةٍ-، وبين المُعارضين لها والمستبعدين لأنْ تكون هذه الأمور مذهبًا للجمعية -من جهةٍ أخرى-، فهل كان ابن باديس: ضدَّ الأشاعرة!؛ حارب التصوُّف حلوه ومرَّه!].

ثم قام وحشد لتعزيز دعواه جملةً من الشبه تتلخَّص فيما يلي:

الأولى: أنَّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تقرِّر تدريس التوحيد وفق أصول الأشاعرة.

الثانية: أنَّ الشيخ حمَّاني الذي هو من تلاميذ ابن باديس -رحمه الله- ومرآة جمعية علماء المسلمين يُقرِّر في كلامٍ له أنَّ : أ- السلف قبلوا التأويل، ب- وقبلوا التفويض، ﺟ- الأشاعرة من أهل السنَّة والجماعة.

الثالثة: تلامذة الجمعية إلى اليوم يُدرِّسون طلبتهم العقيدة الأشعرية التي تلقَّوْها من شيوخهم كالفاضل آيت علجت.

الرابعة: ابن باديس أوَّل من طبع وحقَّق كتاب «العواصم والقواصم» لابن العربي المالكي الأشعري، وقد أثنى على الكتاب وعلى دحض صاحبه لعقائد الباطنية والعقائد الظاهرية، كالذين يحملون حديث النزول على ظاهره.

الخامسة: أنَّ الشيخ ابن باديس يتأوَّل في الأخبار الإضافية، ثم مثَّل بحديث أبي واقدٍ الليثي رضي الله عنه.

هذا مجمل ما جاء في المقال، ولقد سلكنا في الردِّ عليه مسلكين:

الأوَّل إجمالي: وتناولْنا فيه المسألتين اللَّتين عليهما بُني المقال، وهما: نسبة علماء الجمعية إلى الأشعرية والصوفية، وذلك بنقل ما هو صريح في نقضه من كلام علماء الجمعية مبتدئين بما يتعلَّق بالأشعرية، ومثنِّين بما يتعلَّق بالصوفية.

الثاني تفصيلي: وتناولْنا فيه الجواب عن الشبه التي أوردها واحدةً واحدةً.

وختمْنا البحث ببيان منهج أهل الأهواء في إرادة النيل من أهل السنَّة بتعييرهم ونبزهم بألقابٍ مشينةٍ.



أوَّلاً الرد الإجمالي:

للجواب عن المسألتين المذكورتين آنفًا نترك القارئ مع علماء الجمعية ورئيسها -رحمهم الله أجمعين- ليُفصحوا بأنفسهم عن أصل عقيدتهم وتوجُّههم، وحقيقة انتسابهم وانتمائهم، ويجيبوا عن هذه الإشكالية التي طرحها صاحب المقال.

(أ) المسألة الأولى: ما يتعلَّق بالأشعرية:

أمَّا ما يتعلَّق بالأشعرية، فدونك هذه النقول الصريحة في توضيح العقيدة السلفية: عقيدةِ أهل السنَّة ودعوتِهم، وانتسابِهم إليها وتبرُّئِهم من الأشعرية والطُّرُق الكلامية:

- جاء في أصول جمعية العلماء: «الأصل الخامس: سلوك السلف الصالح: "الصحابة والتابعين وأتباع التّابعين" تطبيقٌ صحيحٌ لهدي الإسلام، والأصل السادس: فهومُ السلف الصالح أصدقُ الفهوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسنَّة...»(٦- «من وثائق جمعيّة العلماء المسلمين» (17)).

ومنها أيضًا: «الأصل السابعَ عشرَ: ندعو إلى ما دعا إليه الإسلام وما بيَّنَّاه من الأحكام بالكتاب والسنَّة وهدي السلف الصالح من الأئمَّة، مع الرحمة والإحسان دون عداوةٍ أو عدوانٍ... »(٧- «من وثائق جمعيّة العلماء المسلمين» (19)).

- وجاء في تقرير الجمعية لرسالة الشيخ مبارك الميلي المسمَّاة «الشرك ومظاهره» بقلم الكاتب العامِّ للجمعية الشيخ العربي التبسي -رحمه الله-: «فإنَّ الدعوة الإصلاحية التي يقوم بها دعاة الإصلاح في العالم الإسلامي، وتقوم بها جمعية العلماء في القطر الجزائري خاصَّةً تتلخَّص في دعوة المسلمين إلى العلم والعمل بكتاب ربِّهم وسنَّة نبيِّهم، والسير على منهاج سلفهم الصالح في أخلاقهم وعباداتهم القولية والاعتقادية والعملية»(٨- «رسالة الشرك ومظاهره» (27)).

- وقال الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- في بيان طريقة أهل السنَّة والجماعة في أسماء الله وصفاته، وأنها قائمةٌ على ركنين هما الإثبات والتنزيه: «عقيدة الإثبات والتنزيه: نُثبت له تعالى ما أثبته لنفسه على لسان رسوله من ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، وننتهي عند ذلك ولا نزيد عليه، وننزِّهه في ذلك عن مماثلةِ أو مشابهةِ شيءٍ من مخلوقاته، ونُثبت الاستواء والنزول ونحوهما، ونؤمن بحقيقتهما على ما يليق به تعالى بلا كيفٍ، وبأنَّ ظاهرها المتعارف في حقِّنا غير مرادٍ»، اﻫ(٩- «العقائد الإسلاميّة» (71)).

ونقل تلميذه الأستاذ محمَّد صالح رمضان -رحمه الله- في حاشية تحقيقه للعقائد الإسلامية كلامًا للشيخ -رحمه الله- قاله في الدرس حول هذه الفقرة، فقال الأستاذ -رحمه الله- حاكيًا: «روينا البيتين التاليين عن أستاذنا الإمام وقت الدرس، ولا ندريهما لمن؟ وهما:

فَنَحْنُ مَعْشَرَ فَرِيقِ السُّنَّهْ * السَّالِكِينَ فِي طَرِيقِ الجَنَّهْ

نَقُولُ بِالإِثْبَاتِ وَالتَّنْزِيهْ * مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلاَ تَشْبِيهْ

وزاد عليهما معلِّقًا فقال: «المعطِّلون»: هم الذين ينفون الصفات الإلهية، و«المشبِّهون»: هم الذين يشبِّهونها بصفات المخلوقين، وكلاهما على ضلال، أمَّا «السنِّيُّون»: فهم الذين يُثبتونها له تعالى، وينزِّهونها عن التشبيه بالمخلوقات. و«التعطيل»: تعطيل اللفظ عن دلالة معناه الحقيقي أو الخروج به إلى معنى آخر، و«التشبيه»: تشبيه الله بمخلوقاته، فنحن نُثبت لله ما أثبته الله لنفسه من أقوالٍ أو أفعالٍ أو صفاتٍ، ولا نشبِّهه في شيءٍ من ذلك بالمخلوقات، ولا غرابةَ في إثبات شيءٍ مع عدم تكييفه، فالإنسان يُثبت أنَّ بين جَنْبَيْهِ نفسًا، لكن لا يستطيع تكييفها، كذلك نُثبت صفاتِ الله بلا كيفٍ».

وقال الشيخ -رحمه الله تعالى- مُشيدًا بكتاب الله وأنه المعتمَد في إثبات المعتقد، ومحذِّرًا من الإعراض عنه وهجره والذهاب مع أدلَّة المتكلِّمين: «أدلَّة العقائد مبسوطةٌ كلُّها في القرآن العظيم بغاية البيان ونهاية التيسير، ... فحقٌّ على أهل العلم أن يقوموا بتعليم العامَّة لعقائدها الدينية، وأدلَّة تلك العقائد من القرآن العظيم، إذ يجب على كلِّ مكلَّفٍ أن يكون في كلِّ عقيدةٍ من عقائده الدينية على علمٍ، ولن يجد العامِّيُّ الأدلَّة لعقائده سهلةً قريبةً إلاَّ في كتاب الله، فهو الذي يجب على أهل العلم أن يرجعوا في تعليم العقائد للمسلمين إليه، أمَّا الإعراض عن أدلَّة القرآن والذهاب مع أدلَّة المتكلِّمين الصعبة ذات العبارة الاصطلاحيَّة؛ فإنه من الهجر لكتاب الله، وتصعيب طريق العلم إلى عباده وهم في أشدِّ الحاجة إليه، وقد كان من نتيجة هذا ما نراه اليوم في عامَّة المسلمين من الجهل بعقائد الإسلام وحقائقه»(١٠- «آثار ابن باديس» (1/272)، جمع وترتيب: عمّار طالبي).

وقال -رحمه الله-: «ونحن -معشر المسلمين- قد كان منَّا للقرآن العظيم هجرٌ كثيرٌ في الزمان الطويل، وإن كنَّا به مؤمنين. بسط القرآن عقائد الإيمان كلَّها بأدلَّتها العقلية القريبة القاطعة، فهجرناها وقلنا تلك أدلَّةٌ سمعيةٌ لا تحصِّل اليقينَ، وأخذْنا في الطرائق الكلامية المعقَّدة وإشكالاتها المتعدِّدة واصطلاحاتها المُحدَثة، ممَّا يصعِّب أمره على الطلبة فضلاً عن العامَّة»(١١- «آثار ابن باديس» (1/407)، جمع وترتيب: عمّار طالبي).

وقال -رحمه الله-: «قلوبنا معرَّضةٌ لخطرات الوساوس بل للأوهام والشكوك، فالذي يُثبِّتها ويدفع عنها الاضطراب ويربطها باليقين هو القرآن العظيم، ولقد ذهب قومٌ مع تشكيكات الفلاسفة وفروضهم ومماحكات المتكلِّمين ومناقضاتهم، فما ازدادوا إلا شكًّا وما ازدادت قلوبهم إلا مرضًا، حتَّى رجع كثيرٌ منهم في أواخر أيَّامهم إلى عقائد القرآن وأدلَّة القرآن، فشُفُوا بعد ما كادوا كإمام الحرمين والفخر الرازي»(١٢- «آثار ابن باديس» (1/416 - 417)، جمع وترتيب: عمّار طالبي).

وقال -رحمه الله تعالى-: «اعلموا جعلكم الله من وعاة العلم، ورزقكم حلاوة الإدراك والفهم، وجمَّلكم بعزَّة الاتِّباع، وجنَّبكم ذلَّة الابتداع، أنَّ الواجب على كلِّ مسلمٍ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ أن يعتقدَ عقدًا يتشرَّبه قلبُه وتسكن له نفسُه وينشرح له صدرُه، ويلهج به لسانُه، وتنبني عليه أعمالُه، أنَّ دينَ الله تعالى من عقائد الإيمان وقواعد الإسلام وطرائق الإحسان إنما هو في القرآن والسنَّة الثابتة الصحيحة وعمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وأنَّ كلَّ ما خرج عن هذه الأصول ولم يَحْظَ لديها بالقبول -قولاً كان أو عملاً أو عقدًا أو احتمالاً- فإنه باطلٌ من أصله مردودٌ على صاحبه، كائنًا مَن كان في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فاحفظوها واعملوا بها تهتدوا وترشدوا إن شاء الله تعالى»(١٣- «آثار ابن باديس» (3/222)، جمع وترتيب: عمّار طالبي).

وقال -رحمه الله-: «القرآن هو كتاب الإسلام، السنَّة القولية والفعلية -الصحيحة- تفسيرٌ وبيانٌ للقرآن، سلوك السلف الصالح -الصحابة والتابعين وأتباع التابعين- تطبيقٌ صحيحٌ لهدي الإسلام، فُهُومُ أئمَّة السلف الصالح أصدق الفهوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسنَّة»، اﻫ(١٤- «العقائد الإسلاميّة» (17)، و«آثار ابن باديس» (3/132)).

ويقول -رحمه الله- في مقام الثناء على الشيخ الطيِّب العقبي -رحمه الله-: «حيَّاك الله وأيَّدك يا سيف السنَّة وعَلَم الموحِّدين، وجزاك الله أحسن الجزاء عن نفسك وعن دينك وعن إخوانك السلفيِّين المصلحين»(١٥- «آثار ابن باديس» (5/435)، جمع وترتيب: عمّار طالبي).

وقال الشيخ -رحمه الله-: «هذا هو التعليم الديني السنِّي السلفي، فأين منه تعليمنا نحن اليوم وقبل اليوم؟ بل منذ قرونٍ وقرونٍ؟ فقد حصلْنا على شهادة العالمية من جامع الزيتونة ونحن لم ندرس آيةً واحدةً من كتاب الله ولم يكن عندنا أيُّ شوقٍ أو أدنى رغبةٍ في ذلك، ومِن أين يكون لنا هذا ونحن لم نسمع من شيوخنا يومًا منزلةَ القرآن من تعلُّم الدين والتفقُّه فيه، ولا منزلة السنَّة النبوية من ذلك. هذا في جامع الزيتونة، فدَعْ عنك الحديثَ عن غيره ممَّا هو دونه بعديدِ مراحلَ. فالعلماء إلاَّ قليلٌ منهم أجانبُ أو كالأجانب من الكتاب والسنَّة من العلم فهمًا والتفقُّه فيهما...»(١٦- «الشهاب» (ج11 م 10/478-481)، و«آثار ابن باديس» (3/219)).

وقال -رحمه الله-: «لقد شعر المسلمون عمومًا بالبلايا والمحن التي لحقتْهم، وفي أوَّلها سيف الجَوْر المنصبّ على رؤوسهم، وأدرك المصلحون منهم أنَّ سبب ذلك هو مخالفتُهم عن أمر نبيِّهم -صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم- فأخذتْ صيحاتُ الإصلاح ترتفع في جوانب العالَم الإسلامي في جميع جهات المعمورة تدعو الناس إلى معالجة أدوائهم بقطع سببها واجتثاث أصلها، وما ذلك إلاَّ بالرجوع إلى ما كان عليه محمَّدٌ عليه الصلاة والسلام وما مضت عليه القرون الثلاثة المشهود لها منه بالخير في الإسلام، قد حفظ الله علينا ذلك بما إن تمسَّكْنا به لن نضِلَّ أبدًا -كما في الحديث الصحيح- الكتاب والسنَّة، وذلك هو الإسلام الصحيح الذي أنقذ الله به العالَم أوَّلاً، ولا نجاةَ للعالَم ممَّا هو فيه اليوم إلاَّ إذا أنقذه الله به ثانيًا»(١٧- «آثار ابن باديس» جمع وترتيب: عمّار طالبي (1/225)).

- وقال الشيخ البشير الإبراهيمي -رحمه الله- في تقديمه لكتاب «العقائد الإسلامية» للشيخ ابن باديس متحدِّثًا عن العقيدة التي نشأ وشبَّ عليها صاحبه ورفيقه: «والإمام رضي الله عنه كان منذ طلبه للعلم بتونس قبل ذلك -وهو في مقتبل الشباب- ينكر بذوقه ما كان يبني عليه مشائخه من تربية تلامذتهم على طريقة المتكلِّمين في العقائد الإسلامية، ويتمنَّى يوم يُخرجهم على الطريقة القرآنيَّة السلفيَّة في العقائد يوم يصبح معلِّمًا، وقد بلَّغه الله أمنيَّته، فأخرج للأمَّة الجزائريَّة أجيالاً على هذه الطريقة السلفية، قاموا بحمل الأمانة من بعده، ووراءهم أجيالٌ أخرى من العوامِّ الذين سعدوا بحضور دروسه ومجالسه العلمية»(١٨- «العقائد الإسلاميّة» (20)).

وقال -رحمه الله-: «وهذه دروسٌ من دروسه، ينشرها اليوم في أصل العقيدة الإسلامية بدلائلها من الكتاب والسنَّة الأستاذ محمَّد الصالح رمضان أحد طلاَّبه، فجاءت عقيدةً مُثلى يتعلَّمها الطالب، فيأتي منه مسلمٌ سلفيٌّ موحِّدٌ لربِّه بدلائل القرآن، كأحسنِ ما يكون المسلم السلفي، ويستدلُّ على ما يعتقد في ربِّه بآيةٍ من كلام ربِّه»(١٩- «العقائد الإسلاميّة» (19)).

وقال -رحمه الله- أيضا: «وهذا درسٌ من دروسه ينشرها اليوم في أصل العقيدة الإسلامية بدلائلها من الكتاب والسنَّة تلميذُه الصالح كاسمه: محمَّد الصالح رمضان، فجاءت عقيدةً مُثلى يتعلَّمها الطالب، فيأتي منه مسلمٌ سلفيٌّ موحِّدٌ لربِّه بدلائل القرآن كأحسن ما يكون المسلم السلفي، ويستدلُّ على ما يعتقد في ربِّه بآيةٍ من كلام ربِّه، لا بقول السنوسي في عقيدته الصغرى: أمَّا برهان وجوده تعالى فحدوث العالَم!»(٢٠- «العقائد الإسلاميّة» (22)).

وفي المقدِّمة ذاتها بعد أن تكلَّم الشيخ -رحمه الله- عن حال علماء السلف في رجوعهم إلى القرآن وتحاكُمهم إليه في كلِّ شؤونهم، تحدَّث عن السبب الذي جعل الخلف يقلُّ فيهم ما كان في أسلافهم، فقال -رحمه الله-: «فلمَّا تفرَّقتِ المذاهب الفقهيَّة ونشأ علم الكلام، وتفرَّقت مَنازِعُه بين الأشاعرة والمعتزلة، وطما علمُ الجدل، وتفرَّق المسلمون شِيَعًا حتَّى أصبح كلُّ رأيٍ في علم الكلام أو الفقه يتحزَّب له جماعةٌ، فيُصبح مذهبًا فقهيًّا أو كلاميًّا يلتفُّ حوله جماعةٌ ويجادلون، فضَعُفَ سلطانُ القرآن على النفوس، وأصبح العلماءُ لا يلتزمون في الاستدلال بآياته، ولا يتنازعون الأحكام منها إلاَّ قليلاً، فعلماءُ الكلام صاروا يستدلُّون بالعقل، والفقهاء أصبحوا يستدلُّون بكلام أئمَّتهم أو قدماء أتباعهم! ومن هنا نشأ علم الكلام وعلم الفقه، وعلى هذه الطريقة أُلِّفَتِ المؤلَّفات التي لا تُحصى في العلمين، وانتشرت في الأمَّة وطارت كلَّ مَطارٍ»(٢١- «العقائد الإسلاميّة» (23)).

وقال -رحمه الله- وهو يصوِّر لنا كيف كان التدريس في العقيدة، وأنَّ الناس لا يزالون في المغرب مقلِّدين لطريقة الأشعري إلى أنْ جاء الشيخ ابن باديس -رحمه الله- فأحيا طريقة السلف: «وأمَّا مغربنا هذا مع الأندلس، فلم يتَّسع فيه علم الكلام إلى هذا الحدِّ، وإن كانوا يدرسونه على هذه الطريقة ويقلِّدونه، ويدينون باتِّباع رأي الأشعري، ولم يؤلِّفوا فيه كتابًا ذا بالٍ إلاَّ الإمام محمَّد بن يوسف السنوسي التلمساني، فإنه ألَّف فيه على طريقة المشارقة عدَّة كتبٍ شاعتْ وانتشرتْ في الشرق والغرب، وقُرِّرَتْ في أكبر المعاهد الإسلامية كالأزهر، حتَّى جاءتْ دروس الإمام ابن باديس، فأحيا بها طريق السلف في دروسه، ومنها هذه الدروس، وأكملتْها جمعية العلماء، فمن مبادئها التي عملتْ لها بالفعل لزومُ الرجوع إلى القرآن في كلِّ شيءٍ، لا سيَّما ما يتعلَّق بتوحيد الله، فإنَّ الطريقة المثلى هي الاستدلال على وجود الله وصفاته وما يرجع إلى الغيبيَّات لا يكون إلاَّ بالقرآن، لأنَّ المؤمن إذا استند في توحيد الله وإثبات ما ثبت له، ونفي ما انتفى عنه، لا يكون إلاَّ بآيةٍ قرآنيّةٍ مُحكمةٍ، فالمؤمن إذا سوَّلتْ له نفسُه المخالفة في شأنٍ من أمور الآخرة، أو من صفات الله، فإنها لا تُسوِّل له مخالفة القرآن»(٢٢- «العقائد الإسلاميّة (24)).

وقال -رحمه الله- في حفل ختمِ الشيخ عبد الحميد بن باديس لتفسير القرآن الكريم: «هذا هو اليوم الذي يختم فيه إمامٌ سلفيٌّ تفسيرَ كتاب الله تفسيرًا سلفيًّا ليرجع المسلمون إلى فهمه فهمًا سلفيًّا»(٢٣- «الآثار» (1/362)، و«مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير» (453)).

وقال -رحمه الله- في مقالٍ آخرَ: «وأراد الله فحقَّق للأستاذ أمنيَّته مِن ختمِ التفسير، وللأمَّة رجاءَها في تسجيل هذه المفخرة للجزائر، ولأنصار السلفية غرضَهم من تثبيت أركانهم بمدارسة كتاب الله كاملاً»(٢٤- «مجالس التّذكير من كلام الحكيم الخبير» (453)).

وقال -رحمه الله- عن الشيخ محمَّد نصيف -رحمه الله-: «أيُّها الإخوان إذا لم يُنصفِ الحجازُ شيخَه ومخلِّدَ مجده ورافعَ رايته أستاذَنا الشيخَ نصيفًا؛ فإنَّ العالَمَ الإسلاميَّ كلَّه يُنصفه، فكلُّنا ألسنةٌ شاهدةٌ بأنه مجموعةُ فضائلَ نَعدُّ منها ولا نعدِّدها، وأنه مجمعٌ يلتقي عنده علماءُ الإسلام وقادتُه وزعماؤُه فيَرِدُون ظِماءً ويصدرون رِواءً، وإنَّني أقولها بصيحةٍ صريحةٍ، وأؤدِّيها شهادةً للحقِّ والتاريخ بأنه محيي السنَّة في الحجاز من يوم كان علماؤه -ومنهم أشياخنا- متهوِّرين في الضلالة، وأنه صنع للسلفيَّة وإحياء آثارها ما تعجز عنه الجمعيَّات بل والحكومات، وأنه أنفق عمره وماله في نصرها ونشرها، في هدوء المخلصين وسكون الحكماء، وسيسجِّل التاريخ العادل آثاره في عقول المسلمين، وسيشكر له اللهُ غزوَه للبدع بجيوش السنن المتمثِّلة في كتبها وعلوم أئمَّتها، وجمعيةُ العلماء نفسُها مَدينةٌ له، فإنَّ الكتب السلفية لم تصلْنا إلاَّ عن يده»(٢٥- «آثاره» (4/125)).

- وقال الشيخ مبارك الميلي -رحمه الله- مبيِّنًا أنَّ العقيدة السلفية هي الأصل في أهل المغرب، وإنما دخلتْهم الأشعرية بسبب ابن تومرت: «وكان أهل المغرب سلفيِّين حتَّى رحل ابن تومرت إلى الشرق وعزم على إحداث انقلابٍ بالمغرب سياسيٍّ علميٍّ دينيٍّ، فأخذ بطريقة الأشعري ونصرها، وسمَّى المرابطين السلفيِّين مجسِّمين، ثمَّ انقلابه على يد عبد المؤمن، فتمَّ انتصار الأشاعرة بالمغرب، واحتجبت السلفية بسقوط دولة صنهاجة، فلم ينصرْها بعدهم إلاَّ أفرادٌ قليلون من أهل العلم في أزمنةٍ مختلفةٍ، ولشيخ قسنطينة في القرن الثاني عشر عبد القادر الراشدي أبياتٌ في الانتصار للسلفيّين طَالِعها:

خَبِّرَا عَنِّيَ المُؤَوِّلَ أَنِّي * كَافِرٌ بِالَّذِي قَضَتْهُ العُقُولُ»(٢٦- «تاريخ الجزائر في القديم والحديث» (711 )).

وقال -رحمه الله-: «فنحن بالعقيدة السلفيَّة قائلون، ولِما مات عليه الأشعري موافقون»(٢٧- «الشرك ومظاهره» (26). تنبيه: في الجملة الأخيرة من كلام الشيخ مبارك الميلي -رحمه الله- إشارةٌ إلى ما كان من الإمام أبي الحسن الأشعري في آخر حياته من الرجوع إلى عقيدة السلف، وقد قرّر هذا في كتابه: «الإبانة عن أصول الديانة»، وهو آخر كتبه، ومما قال فيه (ص20): «قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها التمسّك بكتاب ربّنا عزّ وجلّ وبسنّة نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمّة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل -نضّر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به المبتدعين وزيغ الزائغين وشكّ الشاكِّين، فرحمة الله عليه من إمامٍ مقدَّمٍ وجليلٍ معظَّمٍ وكبيرٍ مفخَّمٍ». وقد كان الإمام أبو الحسن الأشعري في أوّل أمره على مذهب المعتزلة، وبقي على ذلك إلى سنّ الأربعين يقرأ على أبي علي الجبائي، ثم انتقل إلى المذهب الكُلاَّبي وهي مرحلةٌ ثانية مرّ بها -وإليها ينتسب كل من يزعم أنه أشعري-، قبل أن يضع رَحْلَه على متن سفينة السلف مع أهل السنّة والجماعة فيسير على منهج أهل الحديث ويتخلّى عن طريقة ابن كُلاَّب.).

- ويُخبر الشيخ أبو يعلى الزواوي -رحمه الله- بكلامٍ واضحٍ جليٍّ لا غبارَ عليه يفهمه العامُّ والخاصُّ، أنه وإخوانَه على العقيدة السلفية، وأنهم متبرِّئون من الأشعرية وغيرها من المذاهب الكلامية فيقول: «أمَّا أنا ومن على شاكلتي من إخواني الكثيرين فلا شريعةَ لنا ولا دينَ ولا ديوانَ إلا الكتاب والسنَّة وما عليه محمَّدٌ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابُه وعقيدةُ السلف الصالح، فلا اعتزالَ ولا ماتريديَّ ولا أشعريَّ، وذلك أنَّ الأشاعرة تفرَّقوا واختلفوا، أيِ المتقدِّمون منهم والمتأخِّرون، ووقعوا في ارتباكٍ من التأويل والحيرة في مسائلَ يطول شرحها»(٢٨- «الإسلام الصحيح» (94)).

وقال -رحمه الله تعالى- منتسبًا إلى السلفية ومتبرِّئا من سواها: «فالجواب عنه أنِّي أعلنتُ عن نفسي أنِّي سلفيٌّ، وأعلنتُ أنِّي تبرَّأتُ ممَّا يخالف الكتاب والسنَّة، ورجعتُ عن كلِّ قولةٍ قلتُها لم يقُلْها السلف الصالح»(٢٩- العدد 90 من «الشهاب» (2/951)).

وقال -رحمه الله- عن الشيخ ابن باديس: «لمَّا كنتُ كثير الكتابة في جريدة «الشهاب الثاقب»، وعرفتُ بظهر الغيب الأستاذَ الشيخ عبد الحميد بن باديس المشرف على «الشهاب» أنه قطب دائرتنا السلفية»(٣٠- العدد 81 من «الشّهاب» (2/768)).

- قال الشيخ العربي التبسي -رحمه الله-: «أمَّا السلفيُّون الذين نجَّاهم الله مما كِدْتُم لهم فهُم قومٌ ما أَتَوْا بجديدٍ وأحدثوا تحريفًا، ولا زعموا لأنفسهم شيئًا ممَّا زعمه شيخكم، وإنما هم قومٌ أمروا بالمعروف ونَهَوْا عن المنكر في حدود الكتاب والسنَّة، وما نقمتم منهم إلاَّ أن آمنوا بالله وكفروا بكم»(٣١- «المقالات» (1/115)).

وقال -رحمه الله-: «وبعون الله سأجعل كلَّ لُحْمَةٍ من لُحَمِ الطرائق التي اشتهرتْ وذاعت بيننا، منفردةً ببحثٍ وأقيسها بعصر السلف، فإن وُجد لها أصلٌ بينهم قبلْناها وعملْنا بها، وعزَّزْناها، وما لم نجدْ له أصلاً في أيَّامهم ولاعُرفًا فيما بينهم، اعتقدْنا أنه بدعةٌ محدثةٌ مشمولةٌ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» فلتُرَدَّ، ومن نصرها كان له من الوزر مثل أوزار من أحدثها، وكان في أمره متَّبعًا غير سبيل المؤمنين، وآخذًا بغير هدي محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وليس بعد هدي محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم إلاَّ الضلال»(٣٢- «بدعة الطرائق في الإسلام» (25)).

وقال -رحمه الله-: «ونحن نعرض عملهم هذا ونقيسه بالهدي النبوي وعمل السلف، فذلك الدين، وما لم يُعرف في تلك الأيَّام بعمومٍ أو خصوصٍ فليس من الدين، فإنكاره قربةٌ، والاعتراف به بدعةٌ»، اﻫ(٣٣- «بدعة الطرائق في الإسلام» (28)).

وقال -رحمه الله-: «بهذا الأصل صار الدين لا يمكن أن يُؤْخَذَ بحكم العوائدِ والمحاكاة، ولا تعلُّمه من الجاهلين، وإنما يُؤخذ حقًّا تعلُّمًا عن أهل العلم الحقيقيِّين، الذين يستمدُّون فهومهم من عناصر الدين الأوليَّة التي هي الكتاب والسنَّة على مقتضى فهوم الأوَّلين من علماء الإسلام الذين إذا تكلَّموا على العقائد بيَّنوها وبيَّنوا مآخذها وأدلَّتها، وشرحوا ما أُذن لهم شرحُه، وتوقَّفوا فيما لا مجالَ للعمل فيه أو ردُّوه إلى ما وضح معناه وظهر مغزاه»(٣٤- «المقالات» (2/27)).

- قال الشيخ الطيِّب العقبي -رحمه الله- في قصيدته «إلى الدين الخالص»:

«أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ مُعْتَقَدِي **** يَبْتَغِي مِنِّيَ مَا يَحْوِي الفُؤَادْ

إِنَّنِي لَسْتُ بِبِدْعِيٍّ وَلاَ **** خَارِجِيٍّ دَأْبُهُ طُولُ العِنَادْ

يُحْدِثُ البِدْعَةَ فِي أَقْوَامِهِ **** فَتَعُمُّ الأَرْضَ نَجْدًا وَوِهَادْ

لَيْسَ يَرْضَى اللهُ مِنْ ذِي بِدْعَةٍ **** عَمَلاً إِلاَّ إِذَا تَابَ وَهَادْ

لَسْتُ مِمَّنْ يَرْتَضِي فِي دِينِهِ **** مَا يَقُولُ النَّاسُ: زَيْدٌ وَزِيَادْ

بَلْ أَنَا مُتَّبِعٌ نَهْجَ الأُلَى **** صَدَعُوا بِالحَقِّ فِي طُرْقِ الرَّشَادْ

حُجَّتِي القُرْآنُ فِيمَا قُلْتُهُ **** لَيْسَ لِي إِلاَّ عَلَى ذَاكَ اسْتِنَادْ

وَكَذَا مَا سَنَّهُ خَيْرُ الوَرَى **** عُدَّتِي وَهْوَ سِلاَحِي وَالعَتَادْ

وَبِذَا أَدْعُو إِلَى اللهِ وَلِي **** أَجْرُ مَشْكُورٍ عَلَى ذَاكَ الجِهَادْ

مِنْكُمُ لاَ أَسْأَلُ الأَجْرَ وَلاَ **** أَبْتَغِي شُكْرَكُمُ بَلْهَ الوِدَادْ

مَذْهَبِي شَرْعُ النَّبِيِّ المُصْطَفَى**** وَاعْتِقَادِي سَلَفِيٌّ ذُو سَدَادْ

خُطَّتِي عِلْمٌ وَفِكْرٌ نَظَرٌ **** فِي شُؤُونِ الكَوْنِ بَحْثٌ وَاجْتِهَادْ

وَطَرِيقُ الحَقِّ عِنْدِي وَاحِدٌ * مَشْرَبِي مَشْرَبُ قُرْبٍ لاَ ابْتِعَادْ»



(ب) المسألة الثانية :ما يتعلَّق بالتصوُّف:

أمَّا ما يتعلَّق بالتصوُّف فحسْبُ القارئِ في الجواب عنه هذه النقولات من كلام علماء الجمعية -رحمهم الله- الصريح في إنكار دعوتهم على الصوفية وطرائقهم:

- نبتدئ أوَّلاً بإلقاء نظرةٍ في الأصول التي قد قامتْ عليها الجمعية وبنتْ عليه دعوتها، والتي قد ذُكِرَت تحت عنوان: «دعوة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأصولها»(٣٥- «من وثائق جمعيّة العلماء المسلمين» (15))، وحينئذٍ نجد أنَّ منها تبديع الطرق الصوفية، وذلك في ما يلي: «الأصل السادسَ عشرَ: الأوضاع الطُّرقية بدعةٌ لم يعرفْها السلف، ومبناها كلِّها على الغلوِّ في الشيخ والتحيُّز لأتباع الشيخ، وخدمة دار الشيخ وأولاد الشيخ، إلى ما هنالك من الإذلال والاستغلال ومن تجميد العقول وإماتةٍ للهمم وقتلٍ للشعور وغير ذلك من الشرور»(٣٦- «من وثائق جمعيّة العلماء المسلمين» (19)).

وهذا الأصل -كغيره من الأصول- يلتزم بمضمونه كلُّ أعضاء الجمعية من غير استثناءٍ، ولو لم يكن من الأدلَّة إلاَّ هذا على تضليل علماء الجمعية للصوفية لكفى به دليلاً حيث جُعل تبديعُهم من أصول دعوتهم.

- وهذه مجلَّة «الشهاب» تشنُّ الغارة على مراكز الطرقية بقذائف الحقِّ بلا هوادةٍ حتى ارتفعت راية السلفية عاليةً في البلاد يستبشر بها العِبَادُ سواء العاكف منهم والبادِ،كالشيخ العلاَّمة تقيِّ الدين الهلالي -رحمه الله- لمَّا بعث برسالةٍ إلى المجلَّة يشجِّع إخوانه القائمين عليها ويعبِّر فيها عن سروره بجهودهم التي أنارتِ الظلماتِ وأزالت الخرافاتِ، وقد نُشرتْ هذه الرسالة في العدد (117) من المجلَّة، وممَّا ذُكر فيها ما يلي: «جاءنا من الأخ الفاضل العالم السلفي الأستاذ صاحب الإمضاء ما يلي: مكَّة المشرَّفة 11 صفر 1346 إلى حضرة الفاضل ... أمَّا بعد: فقد أطلعني على جريدتكم الغرَّاء المسمَّاة ﺑ«الشهاب»، ولنعم الشهاب هي على رؤوس أعداء الله القبوريِّين والطرقيِّين أعداء الحقِّ وغنم الشيطان الرجيم، أطلعني عليها الأخ الصالح الشيخ فكدتُ أطير فرحًا؛ لأنِّي تركتُ البلادَ مُظلمةً مدلهمَّةً بالخرافات والشرك، وكنت أظنُّها لا تزال تتخبَّط في ظلماتها، فإذا بأشعَّة النور أشرقتْ عليها بسبب أمثالكم وأمثال أستاذكم الشيخ عبد الحميد بن باديس، فنحن نُشهد اللهَ على محبَّتكم وموالاتكم، فإلى الأمام أيُّها الإخوان»(٣٧- العدد 117 من «الشهاب» (15- 16)).

- وقال البشير الإبراهيمي -رحمه الله- في معرض الردِّ على أصحاب الطرق: «لعمرك إنَّ الطُّرقية في صميم حقيقتها احتكارٌ لاستغلال المواهب والقوى، واستعمارٌ بمعناه العصريِّ الواسع، واستعبادٌ بأفظع صوره ومظاهره، يجري كلُّ هذا والأشياخ أشياخٌ يُقدَّس ميِّتُهم، وتُشاد عليه القباب، وتُساق إليه النذور، ويُتمرَّغ بأعتابه، ويُكتحل بترابه، وتُلتمس منه الحاجات، وتفيض عند قبره التوسُّلات والتضرُّعات، ويكون قبره فتنةً بعد الممات كما كان شخصُه فتنةً في الحياة، ثمَّ تتولَّد الفتن فيكون اسمُه فتنةً، وأولاده فتنةً ودارُه فتنةً، فإذا هو مجموع فتونٍ، تربو عدًّا على ما في مجموع المتون»(٣٨- «الآثار» (1/172)).

وقال -رحمه الله- في معرض الموازنة بين علم الكلام والتصوُّف أيُّهما أشرُّ وأضرُّ: «أمَّا المذاهب الكلامية فلم يكن أثرها بالقليل في تفرُّق المسلمين وتمزُّق شملهم، ولكن لمَّا كان موضوعها البحث في وجود الله وإثبات الصفات، وما يجب له من كمالٍ وما يستحيل عليه من نقصٍ -كلُّ ذلك من طريق العقل- كانت دائرتها محدودةً، وكان التعمُّق فيها مِن شأن الخواصِّ، وقعد بالعامَّة عن الدخول في معتركها إحساسُها بالتقصير في أدواته من جدلٍ وعقليَّاتٍ يُحتاج إليها في مقامات المناظرة والحجاج، فليس علمُ الكلام كعلم التصوُّف مطيَّةً ذلولاً يندفع لركوبها العاجز والحازم، فالتصوُّف شيءٌ غامضٌ يُسعى إليه بوسائلَ غامضةٍ، ويسهل على كلِّ واحدٍ ادِّعاؤه والتلبُّس به، فإن خاف مدَّعيه الفضيحةَ لم يُعدمْ سلاحًا من الجَمْجَمَة والرَّمز وتسمية الأشياء بغير أسمائها، ثمَّ الفزع إلى لزوم السمت والتدرُّع بالصمت والإعراض عن الخلق، والانقطاع والهروب منهم ما دام هذا كلُّه معدودًا في التصوُّف وداخلاً في حدوده»(٣٩- «الآثار» (1/166)).

وقال -رحمه الله- أيضًا في السياق نفسه: «وأمَّا المذاهب الصوفية فهي أبْعَدُ أثرًا في تشويه حقائق الدين، وأشدُّ منافاةً لروحه، وأقوى تأثيرًا في تفريق كلمة المسلمين ...»(٤٠- «الآثار» (1/168)).

وقال -رحمه الله- في بيان سبب تفرُّق المسلمين: «... نعلم عِلْمَ اليقين ونتحقَّق حَقَّ اليقين أنَّ الذي فرَّق الأمَّةَ ومزَّق وحدتها حتَّى أصبحت متنافرةً إلى آخر ما وصفْتُها به هي الطرق ... لا بالآثار البعيدة غير المباشرة بل بأصولها التي بُنِيَتْ عليها، وبشروطها الموثَّقة من شيوخها، وبعهودها المأخوذة على أتباعها ...»(٤١- «الآثار» (1/304)).

وقال -رحمه الله-: «إنَّ الخلاف بيننا وبين هؤلاء ليس في مسائلَ علميةٍ محصورةٍ يعدُّونها في كلِّ بلدٍ بعددٍ ويُكثرون حولها اللغط ليوهموا الناس أنَّ الخلاف علميٌّ ... وإنما الخلاف بيننا وبينهم في طُرقهم وزواياهم، وما يرتكبونه باسمها من المنكرات التي فرَّقتْ كلمة المسلمين، وجعلت الدين الواحد أديانًا، فقلنا لهم ولا نزال نقول: «لا طرقيَّةَ في الإسلام»، وأقمْنا على ذلك الأدلَّة من الدين وتاريخه الأوَّل والعقل ومقتضَياته»(٤٢- «الآثار» (1/303)).

وقال -رحمه الله-: «...لأنه يعلم من الدراسة اليسيرة لهذا الحاضر المشهود أنَّ كلَّ ما يراه في المسلمين من جمودٍ وغفلةٍ وتناكرٍ، وقعودٍ عن الصالحات، ومسارعةٍ في المهلكات، فمردُّه إلى الطُّرق ومأتاه مباشرةً أو بواسطةٍ منها، فلا كانت هذه الطرق ولا كان مَن طرَّقها للناس»(٤٣- «الآثار» (1/168)).

وقال -رحمه الله-: «ومن مكرها الكُبَّار أنْ تعمد إلى العلماء -وهم ألسنة الإسلام المنافِحة عنه- فترمِيَها بالشلل والخرس، وتصرفها في غير ما خُلقتْ له، فقد ابْتَلَتْ هذه الطرقُ علماءَ الأمَّة في القديم بوساوسها وأوهامها حتَّى سكتوا لها عن باطلها، ثمَّ لم تكتفِ منهم بالسكوت بل تقاضَتْهم الإقرارَ لها والتنويه والتمجيد، وابْتَلَتْهم في الحديث بدُرَيْهِماتها ولُقَمِها حتَّى زادوا على السكوت والإقرارِ الاتِّباعَ والانتسابَ والوقوفَ بالأعتاب، حتَّى أصبحنا نرى العالِم المؤلِّف يعرِّف نفسه للناس في صدر تأليفه بمثل قوله: فلان المالكي مذهبًا الأشعري عقيدةً التيجاني طريقةً»(٤٤- «الآثار» (1/170)).

وقال -رحمه الله-: «...ومع أنَّنا نعلم أنَّ الطرق منتشرةٌ في العالَم الإسلاميِّ وأنَّ آثارها فيه متشابهةٌ، وأنها هي السبب الأقوى في كثيرٍ ممَّا حلَّ به من الأرزاء والنكبات، وكثيرًا ما كانت مفتاحًا لاستعمارِ ممتلكاته، فإنَّ حربنا موجَّهةٌ أوَّلاً وبالذَّات إلى طرقية الشمال الإفريقي، وبينها من الوشائج ما يجعلها كالشيء الواحد، فعلى مقدار هؤلاء الذين نعرف جنسهم وفصلهم، وفرعهم وأصلهم نفصِّل القول، وإلى هذا الهدف نسدِّد السهام، والأمرُ بيننا وبينهم من يوم شُنَّتِ الغارة دائرٌ على أحوالٍ، وسائرٌ على مراحِلَ، ينتقلون بنا من إحداها إلى الأخرى، ولا نزال نُطاردهم وهم يلتجئون من ضيِّقٍ إلى أضْيَقَ إلى الآن، وذلك لمَّا أنكرْنا عليهم باطلهم الذي يرتكبونه باسم الدين -زعموا أنَّ الطريق هي الدين-، ولمَّا نقضْنا لهم هذه الدعوة تنزَّلوا فزعموا أنَّ لها حبلاً وَاصِلاً بالدين وسندًا متَّصلاً بالسلف، ولمَّا بيَّنَّا لهم بأنَّ الحبل مقطوعٌ وأنَّ السند منقطعٌ؛ قالوا: إنَّ هذه الطرقية مرَّتْ عليها قرونٌ ولم يُنكرْها العلماء، فبيَّنَّا لهم أنَّ عدمَ إنكارِ العلماءِ الباطلَ لا يصيِّره حقًّا، ومرورُ الزمن عليه لا يصيِّره حقًّا، وقلنا لهم: إذا كان سلفُكم في الطرقية يعملون مثل أعمالكم فهُم مُبطلون مثلكم، وإذا كانوا على المنهاج الشرعي فليسوا بطُرقيِّين، ونحن نعلم من طريق التاريخ لا من طريق الشهرة العامَّة أنَّ بعض أصحاب هذه الأسماء الدائرة في عالم التصوُّف والطرق كانوا على استقامةٍ شرعيةٍ وعملٍ بالسنَّة ووقوفٍ عند حدود الله، فهُم صالحون بالمعنى الشرعي، ولكنَّ الصلاح لم يأتِهم من التصوُّف أو الطرق، وإنما هو نتيجة التديُّن، وفي مثل هؤلاء الصالحين الشرعيِّين إنما نختلف في الأسماء، فنحن نسمِّيهم صالحي المؤمنين، وهم يسمُّونهم صوفيةً وأصحاب طرقٍ، فيا ويلهم! إنَّ طريقة الإسلام واحدةٌ، فما حاجة المسلمين إلى طرقٍ كثيرةٍ؟ ثم ما هذا التصوُّف الذي لا عَهْدَ للإسلام الفطريِّ النقيِّ به؟ إنَّنا لا نُقرُّه مظهرًا من مظاهر الدين أو مرتبةً عليا مِن مراتبه. ولا نعترف من أسماء هذه المراتب إلاَّ بما في القاموس الديني: النبوَّة والصديقيَّة والصحبة والاتِّباع، ثمَّ التقوى التي يتفاضل بها المؤمنون، ثمَّ الوَلاية التي هي أثر التقوى، وإنْ كنَّا نُقرُّه فلسفةً روحانيَّةً جاءتْنا من غير طريق الدين ونرغمها على الخضوع للتحليل الديني، وهل ضاقتْ بنا الألفاظ الدينية ذات المفهوم الواضح والدقَّة العجيبة في تحديد المعاني حتَّى نستعير من جرامقة اليونان أو جرامقة الفرس هذه اللفظة المبهمة الغامضة التي يتَّسع معناها لكلِّ خيرٍ ولكلِّ شرٍّ؟ ويمينًا، لو كان للمسلمين يومَ اتَّسعت الفتوحات وتكوَّنت «المعامل» الفكرية ببغداد ديوانُ تفتيشٍ في العواصم ودروب الروم ومنافذ العراق العجمي؛ لكانت هذه الكلمة من الموادِّ الأوَّلية المحرَّمة الدخول.. فقد أصبحت هذه الكلمة التي غفلوا عنها أُمًّا ولودًا تلد البرَّ والفاجر، ثمَّ تمادى بها الزمن فأصبحت قلعةً محصَّنة تُؤوي كلَّ فاسقٍ، وكلَّ زنديقٍ، وكلَّ ممخرقٍ، وكلَّ داعرٍ، وكلَّ ساحرٍ، وكلَّ لصٍّ، وكلَّ أفَّاكٍ أثيمٍ. وانظر «طبقات الشعراني الكبرى» وما طُبع على غرارها من الكتب تجدْ أصناف المحتمين بهذه القلعة -وهم ببركة حمايتها- طلقاءُ من قيود الشريعة، وإنَّ هذه القلعة لَهِيَ المعقل الأسمى والملاذ الأحمى لأصحابنا اليوم، فكلُّ راقصٍ صوفيٌّ، وكلُّ ضاربٍ بالطبلِ صوفيٌّ، وكلُّ عابثٍ بأحكام الله صوفيٌّ، وكلُّ ماجنٍ خليعٍ صوفيٌّ، وكلُّ مسلوب العقل صوفيُّ، وكلُّ آكلٍ للدنيا بالدين صوفيٌّ، وكلُّ مُلحدٍ في آيات الله صوفيٌّ، وهلمَّ سحبًا، أَفيَجْمُلُ بجنودِ الإصلاح أن يَدَعُوا هذه القلعة تحمي الضَّلال وتُؤْويه، أم يجب عليهم أن يحملوا عليها حملةً صادقةً شعارُهم: «لا صوفيَّةَ في الإسلام» حتَّى يدكُّوها دكًّا، وينسفوها نسفًا، ويَذَرُوها خاويةً على عروشها؟... والحقيقة أنَّ الطرقيِّين أرادوا أن يصبغوا طرقهم بالقدسيَّة الدينيَّة، فانتحلوا لها هذه الأباطيل، وأعطَوْها خصائص الدين كلَّها»(٤٥- «الآثار» (1/176-175)).

ويقول -رحمه الله-: «أَمَا والله ما بلغ الوضَّاعون للحديث، ولا بلغت الجمعيات السرِّية ولا العلنية الكائدة للإسلام مِن هذا الدين عُشْرَ معشار ما بلغتْهُ من هذه الطرق المشؤومة»(٤٦- «الآثار» (1/171)).

- قال الشيخ العربي التبسي -رحمه الله-: «إنَّ الإرشاد هو الذي يُحيي القلوب الميِّتة، ويزرع الفضائل في الأمَّة، ويكثِّر العاملين بالدين الحقِّ، فإذا تُرك أو أُهمل، أو استُعمل بغير لغته، أو استمدَّ من غير أصوله وعناصره، أو تولاَّه من لا يعرفه؛ فإنَّ الدين الإسلاميَّ الذي نزل به جبريلُ وتلقَّاه محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم من ربِّه تنطوي محاسنُه، وتتبدَّل أخلاق أهله، ويترك الناسُ العملَ بالدين، وهذا ما جرى لهذه الأمَّة إلاَّ من رحم ربِّي من زمنٍ لستُ أعرف ابتداءه تاريخيًّا، ولكنِّي أستطيع أن أحدِّده بظهور آثار التغيير في هذه الأمَّة، وأزعم أنه يبتدئ من يومِ أضاع الناس السنَّة المحمَّدية، وركنوا إلى بدع الرجال التي صرفتْهم عن التربية المحمَّدية والأخلاق الإسلامية، وظهر في الشعب رؤساءُ يُنسبون إلى الدين، فكان وجودهم سببًا في انقسام الوحدة واختلاف الكلمة وذيوع الأهواء، وتحيُّز جماعاتِ الأمَّة إلى نزاعاتٍ تَفُتُّ عَضُدَ الوحدة المقصودة للدين، حتَّى أصبح الحبُّ والبغض ليسا في الله كما هي القاعدة، واتَّخذ الناس رؤساءَ جهَّالاً بدعيِّين يعدُّونهم من أولياء الله وخواصِّ عباده المقرَّبين عنده، ففُتنتْ بهم جَهَلَةُ الأمَّة وأشباه الجهلة، فنصروهم على عامِّيَّةٍ، واتَّبعوهم على غوايةٍ، وصار الدين ألعوبةً في يد هؤلاء الرؤساء وأتباعهم»(٤٧- «المقالات» (2/34)).



تتمِيمٌ: [انتصار علماء الجمعية للشيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب ودفاعهم عن دعوته]

إليك أيُّها القارئ المنصف هذه النقولات من كلام علماء الجمعية الصريح -أيضًا- في الدفاع عن دعوة الشيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب السلفيَّة والانتصار لها، وأنها ودعوةَ الجمعية شيءٌ واحدٌ، وأنهما متَّفقتان تمامًا، وما ذلك إلاَّ لاشتراكهما في المبدإ والغاية من الدعوة للتوحيد والاتِّباع، ونبذِ كلِّ ما يناقض ذلك من الشرك والابتداع، وإنما تعمَّدْنا النقل من كلامهم فيما يتعلَّق بدعوة الشيخ محمَّد بن عبد الوهّاب -وإن لم يتعرَّضْ لها صاحب المقال-، إذْ لا شكَّ أنه إلى الآن بارٌّ بأسلافه في معاداته لمن لقَّبوهم بالوهَّابيَّة، فأردْنا أن نُبيِّن أنَّ الوهابيَّة التي حذَّر منها أسلافُه قديمًا هي الوهَّابيَّة التي انتصر لها علماء الجمعية، وهي الوهَّابية حديثًا التي نبزها ﺑ«سلفية اليوم» و«السلفية المعاصرة»، فلماذا فرَّق بينها وهي شيءٌ واحدٌ؟ ولِمَ ينكر على من أثنى عليه الشيخ ابن باديس -رحمه الله- وإخوانه، بل دافعوا عنه وعن دعوته وانتصروا لها؟ فهل هذا لجهله بحقيقة الأمر؟ أم لأنَّ الوهَّابية -المَقيتة عند أسلافه- لا تزال قائمةً بدورها إلى الآن باسم «سلفية اليوم أو المعاصرة» -كما لقَّبها هو- مما يستوجب العداوة استصحابًا للأصل، أمَّا «جمعية العلماء» فلم تَبْقَ قائمةً بدورها الإصلاحيِّ الآنَ على النحو الذي كان في زمن مؤسِّسيها أو إلى زمنٍ قريبٍ -ردَّها الله ردًّا جميلاً- حتَّى رضيتْ بمخالِفي مؤسِّسيها ورَضُوا هم عنها، مِثْلَ صنيع صاحب هذا المقال المنتصر للصوفيَّة والأشعريَّة، فالحكم عنده يدور مع علَّته وجودًا وعدمًا؟

ودعوة أهل السنَّة والجماعة واحدةٌ وإن تعدَّد مجدِّدوها، وتغاير ما لقَّبها به نابِزوها، وتباعدتْ أقطارُها وأمصارها، واختلفتْ أزمانُها وأعصارها، وليس ذلك إلاَّ لأهل السنَّة، أمَّا أهل البدعة فهُمْ مختلفون ولو كانوا في قطرٍ واحدٍ وزمانٍ واحدٍ.

ودونك ما قاله الشيخ ابن باديس -رحمه الله- في تقرير هذا المعنى في مقدِّمةٍٍ كتبها لرسالة الشيخ العلاَّمة عبد الله بن الشيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب إلى الشيخ العلاَّمة عبد الله الصنعاني لمَّا نشرها في «الشهاب» نقلاً عن مجلَّة «المنار»: «لم يَزَلْ في هذه الأمَّة في جميع أعصارها وأمصارها من يجاهد في سبيل إحياء السنَّة وإماتة البدعة بكلِّ ما أُوتِيَ من قدرةٍ، ولمَّا كانت كلُّ بدعةٍ ضلالةً محدثةً لا أصْلَ لها في الكتاب ولا في السنَّة؛ كان هؤلاء المجاهدون كلُّهم (يدْعون الناس إلى الرجوع في دينهم إلى الكتاب والسنَّة وإلى ما كان عليه أهل القرون الثلاثة: خيرِ هذه الأمَّة الذين هم أفقه الناس فيها، وأشدُّهم تمسُّكًا بهما)، هذه الكلمات القليلة المحصورة بين هلالين هي ما تدعو إليه هذه الصحيفة منذ نشأتها، ويجاهد فيه المصلحون من أنصارها... وهي ما كان يدعو إليه الشيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب -رحمه الله-، وهي ما كان يدعو إليه جميعُ المصلحين في العالَم الإسلامي... الكتاب واحدٌ، والسنَّة واحدةٌ، والغاية -وهي الرجوع إليهما- واحدةٌ، فبالضرورة تكون الدعوة واحدةً، بلا حاجةٍ إلى تعارفٍ ولا ارتباطٍ، وإن تباعدت الأعصار والأمصار، هذه الحقيقة يتعامى عليها المبتدعون ذوو الأغراض عنها، فيصوِّرون من خيالاتهم أشباحًا وهميَّةً للدعوة الإصلاحية الدينيَّة المحضة التي نقوم بها، فيقولون عنها (عبدوية)، ويقولون عنها (وهَّابية) ويقولون ويقولون ... وهم في الجميع متقوِّلون، يتقوَّل المتقوِّلون على هذه الدعوة على ظهور حقيقتها ووضوح طريقتها ويخصِّصون أتباع الشيخ ابن عبد الوهَّاب بالقسط الكبير، وقد وقفْنا في رصيفتنا مجلَّة «المنار» الغرَّاء على كتابٍ للشيخ ابن عبد الوهَّاب، فيه بيانُ ما كان يدعو إليه من توحيدٍ واتِّباعٍ، وهو قاطعٌ بكلِّ خصمٍ يقول عنه بجهلٍ أو افتراءٍ، نقلْناه عنها ونشرْناه فيما يلي»(٤٨- العدد 164 من جريدة «الشهاب» (2-3)).

يتبع


التعديل الأخير تم بواسطة خلفة أسامة الميلي ; 28 Jun 2011 الساعة 10:41 AM
رد مع اقتباس